أخلاق عالية، روح منفتحة، حنان أبوي غامر.... يفسِّر استقطابه وجاذبيَّته للنفوس منذ أوِّل وهلة من رؤيته.
علمٌ غزيرٌ، بصيرةٌ نافذةٌ، كراماتٌ باهرةٌ.... تُفصح عن قربه من الله وعرفانه.
هدوءٌ وطمأنينةٌ وابتسامةٌ، تسخيرٌ للنَّفس في سبيل قضاء حوائج المؤمنين وحلِّ مشاكلهم، إحسانٌ ورأفةٌ بالفقراء.... تكشف عن مواساته للنَّاس وإحساسه بهمومهم.
تلك هي بعض ملامح شخصيِّة الفقيد العزيز، فقيد العلم والتقوى سماحة آية الله العظمى المرجع الديني والأب الروحي السيد محمد مفتي الشيعة الموسوي الأردبيلي (قدس الله نفسه الزكية)(1)، والذي وقع نبأُ رحيله كالصَّاعقة على قلوب محبِّيه في ذلك اليوم من ظهر الأربعاء الأليم...
حين عرجت روحه النَّورانيِّة إلى عالم الملكوت الأعلى تاركة عالم الظلام الماديّ، لينام قرير العين -بعد عطائه الجمّ- في روضة كريمة أهل البيت (عليهم السلام) مع عمَّته سيَّدة سادات قم ومنبع الفيوضات والبركات... وكفى بذلك شرفاً.
حقَّاً إنَّ فقده ليعدُّ خسارةً كبيرةً لحاضرة العلم... وثلمةً كبرى في صرح المجتمع الإيمانيّ. فقد فقدنا برحيله علماً بارزاً من أعلام التشيّع ومفخرةً لرجاله وقدوةً بارزةً في التقوى والأخلاق... فيصعب سدُّ الفراغ الذي تركه (قدّس سرّه).
وإنَّي إذ أكتب هذه الكلمات أودّ أن أذكر النزر اليسير من ملامح هذه الشخصية والتي جهلها الكثير من الناس وقصَّر البعض في الاستفادة منها في حين أنَّها كانت متاحةً للجميع.
وقد نشأت في قلبي للسيد (قدّس سرّه) علاقة ومحبةً خاصةٍ حيث توقَّفتني شخصيته وبهرتني أخلاقه وسماته الخاصة التي يحملها وهي تعدُّ نبراساً حريُّ أن نقتدى بها.
ولا تزال هذه الصورة مرتسمةً في ذهني وذلك في لقائي الأخير به عندما قام على قدميه لاستقبال شخص مثلي! وهو يرحب مبتسما، جلست بجانبه سائلاً إياه عن مسألة أخلاقيِّة فأنصت لها ثم قال وهو يهمس في أذني: تعال غداً عصراً وسأجيب على مسألتكم. ولكنِّي لم أعلم سبب عدم إجابته فاعتقدتُ أنَّه يُريد أنْ يبسط في الجواب لذا قد أجَّلها للغد، فأردفت بسؤال آخر أسهل لأغتنم الفرصة، فأنصت للسؤال ثم قال لي بكل عطف وحنان: هذا أيضاً أجيب عليه غداً، وبعد ذلك تبيَّن لي سبب تأجيل الإجابة أنَّ شقيقته قد انتقلت لجوار ربها وقتذاك، حيث أنَّ المؤمنين الذين كانوا فی المجلس جاءوا لمواساته وتعزيته... فتملَّكتني حينها دهشة من خلقه الكريم حيث لم يشعرني بما هو فيه من مصاب وإلا لصرت في حرجٍ شديدٍ.
وكم تأسفت أنَّي لم أفِ بوعدي لأني لم أتمكن من الحضور في اليوم التالي ولم أعلم أنَّ ذلك اللقاء هو آخر لقاء يجمعني به في دار الدنيا وأنّ عالم الملكوت كان في انتظاره وبعد أيام سيستبشر بلقائه...
فسلام عليك أيَّها الأب الحنون المربي العطوف يوم ولدت مباركاً، وعشت عاملاً ومجاهداً، ويوم عرجتْ روحك لبارئها سعيدةً مطمئنةً، ويوم تُبعث في زمرة أجدادك الطاهرين مسروراً.
فلا تُنسى أبداً أخلاقك السامية وعطاءاتك الكثيرة التي لا تزال حيَّةً في قلوب من عرفوك...
وإليك بعض مميِّزات شخصيته المعطاءة حصرتها في ثلاثة أبعاد:-
1- قضاء الحوائج:
كان سماحته يفتح مكتبه بشكل يوميٍّ في أوقات متعدِّدة لاستقبال وفود المؤمنين بكل رحابة صدرٍ وعلوِّ همَّةٍ لقضاء حوائجهم. والأعجب من ذلك أنَّه يصرف الكثير من وقته الثمين في ذلك!!!
ولعلَّ هذا من أبرز ما يُميِّز شخصية مرجعنا الراحل (قدّس سرّه) ولهذا كان قِبلة الكثير من المؤمنين من الإيرانيين والعرب بمختلف أجناسهم فيستقبل الكلَّ بشوقٍ واهتمامٍ، ويبذل كل ما يملك من أجل مساعدتهم.
وتتميِّز شخصيته (قدّس سرّه) بأنَّ الكلَّ يستطيع الجلوس معه فلم يجعل حاجزاً ولا حاجباً بينه وبين النَّاس بمختلف مستوياتهم.
فهو يجيب على كلِّ مسائل قاصديه، الفقهيِّة منها والعقائديِّة والأخلاقيِّة وغيرها من دون استثناءٍ، مع بساطة بعض الأسئلة التي يُمكن أن يجيب عليها صغار الطلبة، وهو كذلك موضع استشارةٍ وإرشادٍ وتوجيهٍ في مختلف المجالات والعلوم، وبعبارةٍ مختصرةٍ: إنَّ فقيدنا "موسوعةٌ شاملةٌ".
كلُّ ذلك لم يشغله ولم يمنعه من إلقاء دروسه في البحث الخارج فقهاً وأصولاً، مضافاً إلى دروسه في الفلسفة والعرفان -التي استمر فيها حتى آخر عمره- والإجابة على الاستفتاءات في جلسته الخاصة لذلك.
2- الأخلاق العالية:
وفي هذا الجانب يتبوَّأ سيِّدنا المقدَّس الدرجة العالية من الأخلاق برزت جَليَّةً في شخصيَّته فتسامى بها، وهذا ما زاده على مرجعيته عظمةً ورفعةً، هي تلك الأخلاق التي لم يُبعث جده (صلّى الله عليه وآله) إلا ليتمِّمها في عالم الوجود... نعم هي نفحاتٌ من أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله)... حتَّى إنَّ المرء ليخجل عندما يأتي لزيارته وتراه يقوم على قدميه بشيبته البهيِّة وجسمه المتعب؛ إجلالاً واحتراماً لكلِّ أحد بدون استثناء، والابتسامة مشرقةٌ على أسارير وجهه... ويبتدئ بالسؤال عن أحواله وأموره وهو يضع نفسه موضع الخدمة... وعند الخروج يتحرك نحوك باهتمام متمنِّياً عليك زيارته مستقبلاً وهو يشيّعك بنظراته حتى تصير إلى الباب.
هكذا كان يرحب (قدّس سرّه) بضيوفه، وهكذا يدأب جاهداً في أن يريهم اهتمامه وترحيبه، حتى أنَّه نقل عنه قبل بضعة أعوام عندما أصيب بكسر في رجله فمنعه من كثرة الحركة، لم يأبه لذلك ولمّا قصده بعض الزائرين قام على قدميه لاستقبالهم كعادته، فآلمه جرحه الذي لم يلتئم بعد، فوضعت له جبيرةٌ أخرى لذلك!!!
ما أروعه خلقاً يذوب له المحبّ حياءً، ويلين له قلب العدوِّ خضوعاً واستسلاماً.
ولا يفوتنا عند الحديث عن خلقه (قدّس سرّه) أن ننوِّه بصفة التواضع التي قد استأثر فيها بالمحلّ الأعلى، ويلمس ذلك في مواقف عدة، فتراه يقرِّب الزائر من مجلسه لا يأبه بالفواصل التي تفصل بين مرجع كبير وبين عامِّة النَّاس... كما تراه حيناً آخر قائماً من مجلسه ليخلو بأحدهم نزولاً عند رغبته في سماع السيِّد لمشكلته في غرفة خاصة معدّةٍ لذلك، فيستمع لمشكلته بكل اهتمامٍ ليعطيه الحلَّ الناجع إلى ما ألمَّ به من مشكلٍ.
إنَّ إيمان سيِّدنا المفتي بضرورة مواساة الإخوان ومالها من الأجر عند الله حقيقةٌ حاضرةٌ في وجدانه ومتمثلةٌ في سلوكه فهو المواسي لأهل المصائب المعين للفقراء محسناً إليهم بقدر الوسع، بل كان جوده وكرمه يمتدُّ إلى أكثر من ذلك ليشمل عموم النَّاس من غير الفقراء بعنوان وآخر كبذله المال إلى زوار الإمام الرضا (عليه السلام) لكلِّ من علم منه أنَّه قاصداً لتك الديار المقدَّسة.
3- الانقطاع إلى الله:
يعيش السيد مقام العبودية لله بمدوامة الذكر وحقيقة الإخلاص... مما يجعله قريباً من ساحة القدس وعالم المعنى فهو من تلامذة المرجع العارف السيد عبد الأعلى السبزواري (قدّس سرّه) في الأذكار، كما تتلمذ على يدي غيره من الأولياء.
ويكفيك في ذلك ما ظهر في حياته من كرامات باهرة نقلها مرتادوه، والتي تدلُّ على اتِّصاله وقربه منه جلَّ شأنه وهو -سبحانه وتعالى- القائل في الحديث القدسي: «يا بن آدم، أنا أقول للشئ كن فيكون، أطعني فيما أمرتك، أجعلك تقول للشئ كن فيكون»(2).
ولا عجب من شخصيةٍ بذلت كلَّ الجهد في ترويض النفس ومعارضة الهوى والوقوف عند الشبهات أن تظهر لها بعض الكرامات التي هي غير بعيدةٍ عن أولياء الله.
وهذه رشحات من بعض ما يذكر عن سيدنا المرحوم:
أ- أراد أحد الطلبة الرجوع إلى بلده من أجل أن يكون قريباً من والديه الكبيرين في السنِّ، فذهب ليستشير السيد، فلما دخل عليه بادره السيد بالقول: أُجلس لطلب العلم ولا تغتمَّ لأمر والديك. هذا مع العلم بأنَّ القاصد لم يُخبر السيد عن أمره مسبقاً.
ب- ويذكر بعضهم أنَّ أحد الزوَّار البحرانيين قصده بشأن استشارته في طريقٍِ لطلب الذرية التي حُرم منها، فأرشده السيد (قدّس سرّه) بأن يتوَّجه إلى مشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، ويزوره بهذه الكيفية: أزور سيدي ومولاي الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لقضاء الحاجة المكنونة في قلبي، المخفية في ضميري لندبها قربة إلى الله تعالى. وبعد ذلك يقرأ الزيارة المأثورة ثم يصلي ركعتين، وبعد تسبيح الزهراء (عليها السلام) يهدي ثواب الزيارة والركعتين إلى الإمام الحجَّة# ويطلب من الله قضاء الحاجة التي نواها.
فذهب الرجل وفعل ذلك... وبعدها بمدة رزقه الله بمولود أسماه "عبد الرضا" جاء به إلى قم المقدسة في السنة التالية وزار السيِّد وأخبره بما حصل... ثم التقط صورةً مع السيِّد والابن المولود ليكون تذكاراً وعرفاناً بفضل السيد عليه، فقال له السيد (قدّس سرّه): هذا بفضل الإمام الرضا (عليه السلام) لا بفضلي أنا.
ج- ويروي أحدهم حادثة عن بعض الزوار الحجازيين أنَّه قصده مع زوجته في مكتبه القديم (خلف منتدى جبل عامل اللبناني) رجاء أن يكتب له ذكراً أو حرزاً لتنجب زوجته أولاداً، فأخبره السيد بأن كتابة الأحراز لا تتناسب مع حال المرجعية -فالسيِّد قبل أن يطرح مرجعيته كان يكتب الأحراز للكثيرين- فاقترح عليهم ابن السيد بأنَّه توجد شجرة تين في البيت، فاقتطفوا شيئاً من ثمرها وأتوا به للسيد ليقرأ عليها أذكاراً، ثم يأكله صاحب الحاجة بقصد الشفاء، ففعلوا ما أوصاهم به نجل السيد وتناولت المرأة من ذلك التين فصار فيه الشفاء وحصلت الغاية المرجوة.
د- أخبرني بعض طلبة العلم أنَّه استشاره في نزوله لعيادة أمه التي كانت مريضة مخافة أن يمنعه غيابه عنها من رؤيتها قبل وفاتها، فقال له السيد (قدّس سرّه): كنت أيام شبابي في غربتي لطلب العلم بعيداً عن الأهل فتوفِّيت والدتي ولم أتمكن من الوصول إليها إلا في أيام العزاء في أردبيل... فعلم الطالب من خلال معاشرته للسيِّد أنَّه كان يلمِّح إلى أنَّه لن يدرك أمه. وفعلاً بعد يومين من إخبار السيد توفيت والدته ولم يتمكن من السفر سريعاً بسبب تأخر الإجراءات فوصل بعد انتهاء العزاء.
هـ- كما يذكر بعض الطلبة أنَّه (قدّس سرّه) كان يقول للطلبة: إذا أردتم الرجوع لبلادكم فزوروني قبل يوم أو يومين، فإذا جاءوه أعطاهم بعض النصائح، فيرون ثمراتها متحققة على أرض الواقع، ومن ضمنها قوله لأحدهم: ربما تتعرض للمساءلة والامتحان من أحد الأطراف في عودتك، وفي ليلة عودته لبلده رآه أحد أقربائه فسأله عن بعض ما درس في الحوزة، وأطال في الأخذ والرد، وعند إتمام الإجابات تذكر وصية السيد وشعر بأنه مشمول باللطف الخفيّ.
و- وأخيراً نذكر هذه الحادثة عندما زاره بعضهم في آخر حياته يريد منه أن يقرأ بعض الأذكار على إحدى مكعبات السكر للشفاء كما هو المعتاد عند السيد، ففعل ذلك وكان هذا الشخص يتمنَّى في نفسه لو يبلُّ السيد قطعة السكر بريقه المبارك -على خلاف عادته- فنظر السيد (قدّس سرّه) حينئذٍ إليه ورمقه بعينه وبلَّها بريقه مع أنَّه لا يفعل ذلك عادةً ولم يخبر صاحب الحاجة السيد بأمنيته... وبعد فترةً تماثل للشفاء.
* الهوامش:
(1) هو السيد محمد بن السيد محمد تقي بن السيد مرتضى وينتهي نسبه إلى السيد إبراهيم الأصغر الملقب بالمرتضى ابن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، ولد سماحة المرجع الراحل في أردبيل في العاشر من شهر رجب عام 1347هـ، وكان والده السيد محمد تقي الأردبيلي من المراجع العظام(م1361هـ)، وكذلك كان جده السيد مرتضى الأردبيلي (رحمهما الله).
كان سماحة المرجع الراحل معروفا في بلده وأسرته منذ أيام الشباب بالورع والتقوى والعفة والتقوى، بدأ دراسته في أردبيل ثم هاجر إلى مدينة قم المقدسة عام 1367هـ، ومن ثَمَّ إلى النجف الأشرف عام 1374هـ وحضر عند السيد محسن الحكيم، والسيد محمود الشاهرودي والسيد الخوئي والشيخ حسين الحلي (رحمهم الله)، ثم رجع إلى أردبيل بطلب مجموعة من أهاليها وموافقة السيد الحكيم، وبعد سنة ونصف تقريبا، رجع إلى النجف الأشرف، ثم في عام 1396هـ أصدر النظام البعثي قرارا بطرد العلماء والطلبة الأجانب من العراق، وأُخذ المرجع الراحل وسجن أياما ثم أخرج من العراق، فذهب إلى قم المقدسة واستقر بها إلى حين رحيله (رحمه الله) في يوم الأربعاء الخامس من شهر جمادى الثانية 1431هـ، الموافق (192010/5/م)، ودفن بجوار عمته السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فرحمة الله عليه، وحشره الله مع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
(2) مستدرك الوسائل، ج11، ص259.
0 التعليق
ارسال التعليق