ظاهرة الأطروحات الجديدة وضرورة التّمحيص

ظاهرة الأطروحات الجديدة  وضرورة التّمحيص

المقدّمة

ورد عن سيّدنا ومولانا أمير المؤمنينg أنّه قال: «إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا»[1].

مع انفتاح الأبحاث العلميّة على عوام النّاس عبر الفضاء الإلكترونيّ، وإتاحة الفرصة إلى الجميع -من دون رقابة، أو ضوابط- للاطّلاع على كلّ ما يدور في الوسط العلميّ، بل والتمكّن من التّعليق وإبداء النّظر بالموافقة أو المعارضة معه أو ضدّه من الجميع، نشأت عدّة ظواهر سلبيّة، صارت تضرب في أخطر جانبٍ إنسانيٍ، وذلك بالتّأثير السّلبيّ على عقائد النّاس، وبالتّالي على أخلاقياتهم، وسلوكيّاتِهم العامّة، ولعلّ من أخطرِ تلك الظّواهر: ظاهرة أطروحات التّجديد، والتي يُروّج إليها على نحوٍ الهوس المتسارع، ومن قِبل شخصيات متعدّدة، تجمعها قواسم مشتركة، تقرّب القولَ بأنّ مشاريعهم التّجديديّة هذه ما هي إلّا مشاريع هدمٍ شخصيّة، تتلبّس بلباسٍ لمّاعٍ برّاق جذّاب، بحجّة الإشراك في التّفكير والتّنوير، وهذا ما نريدُ أن نقف عليه عبر ثلاث نقاط:

النّقطة الأولى: في تحليل هذه الظّاهرة.

والثّانية: في بعض سمات المناهج التّجديديّة المنفلتة.

والثّالثة: في كيفية التّعامل مع هذه الظّاهرة، ونستعرض فيها أهمّ ما ينبغي التّعامل به مع هذه الظّاهرة من أجل المحافظة على العقول والنّفوس من التّأثّر السّلبيّ بها، وذلك على هدي النّصوص الواردة عن أهل بيت العصمةi.

النّقطة الأولى: تحليل ظاهرة أطروحات التّجديد

ويمكن تحليل هذه الظّاهرة عبر مقدّمات:

أوّلاً: إنّ الحركة العلميّة المعتمِدة على النّقض والإبرام، وأبحاث التّحقيق المستنِدة إلى الأخذ والرّد، والنّقاش العلمي المتواصل في كلّ الأفكار، هي حركةٌ وأبحاثٌ ونقاشٌ مستمر غير متوقّف، وهو ما يسمّى عندنا بحركة الاجتهاد، ومن المعروف المسلّم عندنا أنّ باب الاجتهاد مفتوح غير مغلق -كما أغلقه غيرنا-؛ ذلك أنّه لا وجه لإغلاقه، فكلّ رأيٍ علميٍ يتوصّل إليه أحدُ العلماء -بتفعيل موازين الاجتهاد المعتمدة- فإنّه مبنيّ على الدّليل، وهذا الدّليل إمّا أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، ومع افتراض عدم العصمة فلا وجه صحيح يدعو للتعبّد بالآراء دون النّظر في أدّلتِها، ومع النّظر في هذه الأدّلة تبدأ حركة النّقاش والاجتهاد، فإنْ كانَ ثمّة حقٍّ وصلاحيةٍ للأوّلِين للمناقشة العلميّة، والنّظر في الأدلّة، فغيرهم يمتلك هذا الحقّ بلا شكّ.

ثانياً: نطاق هذه الحركة واسعٌ يشمل كلّ شيء، ابتداءً من تمييز أدوات المعرفة، وتحديد الرّؤية الكونيّة، والوقوف على المستندات الفلسفيّة لفهم الوجود، مروراً بأصول المعتقدات وفروعها، وانتهاءً بأدقّ التّفاصيل النّاتجة عن تلك الرّؤى، من فقهٍ عباديّ، ومعامليّ، وآداب، وسنن، وسلوكيّات نفسيّة ومجتمعيّة، فالتّنظيرات التي تتحرّك في ساحة النّقاش العلميّ تطال كلّ شيءٍ من دون استثناء، حتى في الخطوط الحمراء التي تتعلّق بالاعتقاد، وهو المنهج الذي أسّس إليه القرآن الكريم، من أجل أن تكون المعتقدات التي يبني على أساسها الإنسان حياته الدّنيويّة والأخرويّة مرتكزة على قناعات علمية يقينيّة، لا ظنيّة مأخوذة عن التّقليد والاتّباع الأعمى، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(سورة الزخرف 23-24).

ثالثاً: طبيعة الأبحاث التي تدور في السّاحة العلميّة يمكن أن تصنّف إلى ثلاث مراحل عامّة بحسب العمق:

المرحلة الأولى: المرحلة البدائيّة: وهي التي يُتكلّم فيها عن أسسِ المطالب في هذا المجال أو ذاك، وتُبَيّن فيها المصطلحات الأوليّة للعلم.

المرحلة الثّانية: المرحلة الوسطى: والمقصود منها هو ما يعبّر عن الخطوات اللّاحقة للاطّلاع على أساسيّات العلوم، فيتمّ الاطّلاع على التوسّعات الأولى لمطالب العلم أو الفنّ، وشيء ممّا يليها، بحيث تكون الخارطة العامّة للعلم -بأهمّ مطالبه ومسائله، وما أضيف إليها من نقاشات تراكمية مختلفة- محصّلة في ذهن المطّلِع.

المرحلة الثّالثة: المرحلة التّخصصيّة: وهي المرحلة التي يتمّ الوقوف فيها على نهايات الآراء في العلم، والنّقاشات فيها تطال الذّروة، وعادةً ما تكون معتمدة على اشتباكات مسائل عديدة من جملة من العلوم المختلفة، بنحوٍ مليءٍ بالتّعقيدِ والصّعوبات العلميّة.

رابعاً: لكلّ مرحلة من هذه المراحل فئة، فيمكن القول:

المرحلة البدائيّة للعلوم: هي المرحلة مفتوحة نوعاً ما للجميع، خصوصاً فيما يتعلّق بالعقائد، والفقه، والأخلاق، والاجتماع، والسّياسة، وغير ذلك ممّا يمسّ حياة النّاس بنحوٍ مباشرٍ، أمّا العلوم الأخرى التي يكون فيها شيءٌ من التّعقيد التّخصصيّ حتى في بدايتها -كالفلسفة، والعرفان، والرّجال، والطّب- فإنّها مفتوحة للجميع أيضاً، ولكنّ درجة الولوج فيها ستكون بنحوٍ أصعب بطبيعة الحال، بل قد يحتاج بعضها إلى دراسة؛ كونُه معتمداً على جملة من العلوم السّابقة لها في الرّتبة، كعلم العرفان، الذي لا يسوغ لأحدٍ أن يلجَ فيه إلّا بعد دورات متعدّدة من علم المنطق، والأصول، والفلسفة.

المرحلة الثّانية: هي مرحلة المثقّفين، يسوغ لهم مناقشة الرّأي بقدرِ ما يمتلكون من ثقافة في هذه العلوم، وهم أقرب إلى التعلّم منهم إلى تكوين القناعة التّامّة، فلا يحقّ لهم إبداء الرّأي التّام، ويحقّ لهم النّقاش بهدفِ الاطّلاع والتّعلّم.

المرحلة الثّالثة: هي مرحلة المختصّين، وكلّ علم بحسبه، وهي مرحلة إبداء الرّأي، وتكوين القناعة النّهائية، بل وتصديرها للآخرين، والدّفاع عنها، ونقضِ ما يقابلها بالأدلّة العلميّة.

ومن الواضح أنّه لا يسوغ لأصحاب المرتبة الدّنيا أن يقفزوا إلى المرتبة الأعلى ليقتحموا نقاشاتها بالأخذ والرّد؛ ذلك لأنّهم يفتقدون أدواتها، وفاقد الشّيء لا يُعطيه، وهذه المسألة وجدانيّة وعقلائيّة، جرت عليها سيرة العقلاء في كلّ العلوم دون استثناء.

خامساً: التّجديد في الآراء العلمية على نحوين: إمّا أن يكون مفرزاً طبيعيّاً للأذواق العلميّة المختلفة، وإمّا أن يكون مطلوباً لذاتِه، بأن يكونَ هدفاً للمجدِّد، يجعله يتمّرد على كلّ رأيٍ أصيلٍ من أجل إثبات الذّات عبر ذلك، باسم الانفتاح، والاجتهاد، والخروج عن ساحة التّقليد والتّخلّف والتّلقّي، والتّجديد من أجل التّجديد ليس منهجاً عقلائيّاً؛ حيث إنّ ما تتمحور حوله قيمة مسائل العلوم هو: طلب الحقّ، وقيمة الرّأي بقدر ما يمتلك من الأحقية، وإلا فليس بشيء، جديداً كان أم قديماً.

سادساً: وهو ما نصل به إلى أساس المشكلة فيما أسميناه بظاهرة التّجديد، وحاصله: إنّ المشكلة ليست في فتح حركة النّقاش العلميّ، ولا في أنّ هذا النّقاش يطال فعلاً كلّ شيء، وليست المشكلة في أصل انفتاح العوامّ والمثقّفين على العلوم، وليست في أصل إتيان بعض المنظّرين بالآراء الجديدة، بل المشكلة تتمحور حول أمرين:

الأمر الأوّل: حول انفتاح الجميع على كلّ المطالب، في كلّ العلوم بغض النّظر عن تناسب هذه المطالب عمقاً مع المنفتِح عليها، فترى العامّيّ ينفتح ويتدخّل ويناقش في مطالب المرحلة الوسطى، بل والتّخصصية أيضاً، وترى المثقّف كذلك يجعل لنفسه الحقّ في التّدخل التّامّ الواسع في مطالب المرحلة التّخصصيّة، ومع عدم امتلاك هذَين للأدوات العلميّة المؤهِّلة لهما لمناقشة ما يدور في السّاحة العلميّة الأعمق، نرى أنفسنا أمام دوّامة من التّشويش والهرج والمرج، يضيع فيه الحقّ وسط جلبة الباطل، ويلتبس فيه الأمر على المشارك في هذه الفوضى وعلى غير المشارك حتى؛ لأنّ هذه الحركة بمقاطعها المرئية والمسموعة والمكتوبة تقتحم البيوت والهواتف دون استثناء، وغريزة الفضول وحبّ الاستطلاع تدعو الجميع لفتحها والاطّلاع عليها دون مرشد أو موجّه.

الأمر الثّاني: حول تبنّي بعض أصحاب الأطروحات الجديدة منهج التّجديد من أجل التّجديد، ولو كان ذلك بكسر كلّ الثّوابت والمسلّمات العقلائيّة والدِّينية والمعرفيّة، وتصويرها على أنّها تخلّف، وتعبّدٌ بأقوال غير المعصومين، ونتاج ذلك: قراءات شاذّة متتاليّة، وتسفيه بأفهام العلماء التي امتدّت على مدى عصور بأدلّتها المتينة.

هاتان هما المشكلتان الأساسيّتان المحيطتان بظاهرة التّجديد، وهما بالمجموع تنتجان صورة تكامليّة خدّاعة وهدّامة للحركة العلميّة، فأصحابُ منهج التّجديد والنّقض من أجل التّجديد، يتكاثرون ويقتاتون على من يتلقّى أطروحاتهم، ومن يطبّل لها بدون تمحيص من المتقحّمين للشّبهات، والدّاخلين في السّاحات العلميّة دون علم أو هدى أو كتاب منير.

وإذا اتّضح أساس المشكلة بهذا التّحليل، يصلُ البحث إلى بيان بعض أهمّ سمات المناهج التّجديدية المنفلتة.

النّقطة الثّانية: بعض سمات المناهج التّجديديّة المنفلتة

حين نقفُ على دعوات التّجديد، والأطروحات الشّاذة، نلحظُ اختلاف أشخاصها في المنتميات، والأهداف، والطّبائع، إلّا أنّ هناك جملةً من المشتركات التي تجمع بعض هذه الأطروحات من النّاحية المنهجية، أُجمِلها -بحسب التّتبع- في عشر سمات:

السّمة الأولى: الضّرب الدّائم في المسلّمات الفقهيّة، والمشهورات الفكريّة، والثّوابت الاعتقاديّة، والأعراف والشّعائر الدِّينيّة، والتّواضعات الأخلاقيّة، وذلك من خلال التّشكيك المستمر في كلّ ذلك، ومحاولة هدمها بكسر أدوات المعرفة اليقينيّة والظنيّة المتعارفة إنسانيّاً وعقلائيّاً ودينيّاً، كالتّواتر، والإجماع، والتّسالم، والسّيرة، والشّهرة، والظّواهر، واجتماع القرائن، ونقولات الثّقات، بل حتّى في المحسوسات والوجدانيّات، وربما الأمور الفطريّة أيضاً، وغير ذلك.

فعقائدياً: يسوّغ التعبّد بكلّ المذاهب والأديان رغم اختلافها وتضاربها، ويرى إمكانية أن تكون جميعها حقاً مُنجياً، ويشكّك في كثيرٍ من لوازم العصمة للأئمّةi، وينفي عقيدة الرّجعة، ويقدّم تحليلاً جديداً لعالم الموت وعالم البرزخ، ويضرب في المهدويّة، ويُأوّلها على أنّها فكرة لا شخص.

وفقهيّاً: يشكّك في ثبوت الخمس، وحدود الحجاب، وتقسيم الإرث، ويقدّم قيوداً جديدة لصلاة المسافر مثلاً.

وفكريّاً: يرى تعدّد القراءات، ونسبيّة الحقّ، ويضرب في الفهم الدِّينيّ العامّ لدور المرأة، ويؤوِّل -تحكّماً- الكثير ممّا جاء في النّصّ الدّينيّ في المرأة، والرّقّ، وفي الأطروحة الدِّينيّة التي تشكّل منظومة معرفيّة عامّة لفهم الإسلام كحركة حياة، ويتوقّفُ في الكثير من المسلّمات الشّعائريّة، كالبكاء على الإمام الحسينg، وربط العاطفة بقضيتِه الخالدة.

وأخلاقيّاً: يشكّك في قيمة الحجاب، والعِفّة، ويصوّرها على أنّها ذوق مُبتدَع إنسانيّ عرفيّ لا إلهيّ، ويسفّه في قيمة الزّهد، والمواساة.

وتاريخيّاً: يشكّك في مسلّمات الأخلاق المحمديّة، والزّهد العلويّ، وعلم الأئمّة‌i، وكراماتهم، وينفي مسؤوليّة العديد من الطّغاة في قتل المعصومينi، ويستهزئ -تسرّعاً- بكثيرٍ من روايات المواقف الحسينيّة المتعلّقة بقضية كربلاء، وينفيها، ويوحي أنّها من سرد الخيال، وذلك بغرض المتاجرة باسم الدِّين، دون تثبّت، أو رجوع إلى المصادر لتبيّن الحال، والتّفريق بين المناهج، ويشكّك في قدسيّة بعض البقاع المقدّسة، ويحاول إثبات بعض القصص القرآني على أنّه ترميز، وأحداث مخترعة لا واقع لها، وغير ذلك الكثير.

وفي الجملة، فإنّ هذا المنهج شغله التّشكيك والضّرب في المسلّمات، يبدأ بمسلَّمة، ثمّ لا تسلم منه مسلَّمة.

السّمة الثّانية: عدم الاتّزان، وسرعة الانفعال، والغضب، ممّا يشير إلى وجود خلل في اعتدال الميزان النّفسيّ والأخلاقيّ لأصحاب هذا المنهج، فتجدهم يثورون سريعاً، ويغضبون، ويتوتّرون، ويغيّرون من آرائهم أمام الضّغوطات، ثمّ سرعان ما يعودون بنحوٍ أكثر جرأةً، فلا تجد ثباتاً معرفيّاً، بل تجد حزمة من الآراء الانفعاليّة المتسرّعة، والمتبدّلة حسب الظّروف النّفسيّة والخارجيّة.

جاء عن الأميرg: «.. إِنَّ لِلْعَالِمِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ الْعِلْمَ والْحِلْمَ والصَّمْت..»[2]، وعنه‌g: «لن يُثمِر العلمُ حتّى يُقارِنه الحلم»[3].

السّمة الثّالثة: كثيرٌ من أصحاب هذا المنهج لا يلتزمون عادةً بما ينادون به من الفكر الحرّ، والنّقد المنفتح، فأيّ محاولة لنقد ما يأتون به تتحوّل إلى مظلوميّة، وشخصنة، وحرف عن المناقشة العلميّة، فهي سياسة الكيل بمكيالين.

عن أمير المؤمنينg: «كفى بالعالِم جهلاً أن ينافي علمُه عملَه»[4].

السّمة الرّابعة: قلّة احترام الآخر، والتّسفيه به، حتى لم يسلم الأموات من هذا النّفَس البغيض، هذا مع غرور، وتضخّم في الذّات، وحبّ الأنا، والدّعوة إلى النّفْس، والتبجّح بالنّتاج، والتشدّق بالفهم، بحيث يكون ذلك مقروناً دائماً بنسف جهود الآخرين، والتّصغير من فهمهم، ونتاجهم.

جاء عن النّبيّ الأعظمe: «..صِفَةُ الْجَاهِلِ أَنْ يَظْلِمَ مَنْ خَالَطَهُ، ويَتَعَدَّى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، ويَتَطَاوَلَ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، كَلَامُهُ بِغَيْرِ تَدَبُّر..»[5]، وعنهe: «مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِل»[6]، وورد عن الأميرg أنّه قال للأشتر: «.. وَإِيَّاكَ والْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وحُبِّ الْإِطْرَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِين..»[7]، وعنهg: «العجبُ يظهر النَّقيصة»[8]، وعنهg: «عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِه»[9]، وعنهg: «اتّهموا عقولَكم، فإنَّه من الثِّقة بها يكون الخطاء»[10]، وعنهg: «إزراء الرَّجل على نفسه برهان رزانة عقله، وعنوان وفور فضله»[11] ،وعنه g:«إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ بُرْهَانُ نَقْصِهِ وعُنْوَانُ ضَعْفِ عَقْلِه»[12]، وعنهg: «بالرِّضا عن النَّفس تظهر السَّوءات والعيوب»[13]، وعنه‌g: «إِنَّ الْجَاهِلَ مَنْ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَا جَهِلَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ عَالِماً وبِرَأْيِهِ مُكْتَفِياً، فَمَا يَزَالُ لِلْعُلَمَاءِ مُبَاعِداً، وعَلَيْهِمُ زَارِياً، ولِمَنْ خَالَفَهُ مُخَطِّئاً، ولِمَا لَمْ يَعْرِفْ مِنَ الْأُمُورِ مُضَلِّلًا، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَنْكَرَهُ، وكَذَّبَ بِهِ، وقَالَ بِجَهَالَتِهِ مَا أَعْرِفُ هَذَا، ومَا أَرَاهُ كَانَ، ومَا أَظُنُّ أَنْ يَكُونَ، وأَنَّى كَانَ، وذَلِكَ لِثِقَتِهِ بِرَأْيِهِ، وقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِجَهَالَتِهِ، فَمَا يَنْفَكُّ بِمَا يَرَى مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ رَأْيَهُ مِمَّا لَا يَعْرِفُ لِلْجَهْلِ مُسْتَفِيداً، ولِلْحَقِّ مُنْكِراً، وفِي الْجَهَالَةِ مُتَحَيِّراً، وعَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مُسْتَكْبِراً»[14]، وعنهg: «..حَسْبُكَ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ تُعْجَبَ بِعِلْمِك»[15]، وعنه‌g: «شرُّ آفاتِ العقل الكِبر»[16].

وورد عن إمامنا الصّادقg: «..لَا جَهْلَ أَضَرُّ مِنَ الْعُجْب»[17]، وعنهg: «مَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ هَلَكَ، ومَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وإِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَg قَالَ: دَاوَيْتُ الْمَرْضَى فَشَفَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اللهِ، وأَبْرَأْتُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللهِ، وعَالَجْتُ الْمَوْتَى فَأَحْيَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اللهِ، وعَالَجْتُ الْأَحْمَقَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى إِصْلَاحِهِ، فَقِيلَ: يَا رُوحَ اللهِ، ومَا الْأَحْمَقُ؟ قَالَ: الْمُعْجَبُ بِرَأْيِهِ ونَفْسِهِ، الَّذِي يَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ لَهُ لَا عَلَيْهِ، ويُوجِبُ الْحَقَّ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ، ولَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حَقّاً، فَذَاكَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حِيلَةَ فِي مُدَاوَاتِه»[18]، وجاء عنهg: «..مَنْ لَا يَعْرِفْ لِأَحَدٍ الْفَضْلَ فَهُوَ الْمُعْجَبُ بِرَأْيِه‏..»[19]، وعنهg: «آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ، والْعُجْبُ، والْفَخْر»[20]، وعنهg: «نمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ»[21].

السّمة الخامسة: التّركيز على الأشخاص لا على الأفكار، وذلك عبر التّمويه بالتّأسيس إلى مقولة: «انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال»[22]، فرغم كون هذه المقولة الواردة عنهم‌i تدعو إلى محاكمة الأفكار دون التّأثّر بالرّجال -ما داموا غير معصومين-، فقد حوّلها أصحابُ هذا المنهج إلى أداة لاستهداف الأشخاص المؤثّرين، فتجده مع طرح الرّأي البديل الجديد، يُناقش الرّأي الآخر بربطه بفلان وفلان، مع ضربٍ في نهجهم الفكريّ، أو الاجتماعيّ، أو العقائديّ، أو السّياسيّ، دون الحاجة إلى ذلك علميّاً إلّا من أجل إقناع المستمع بهذه الطّريقة المبتذلة غير النّظيفة، ومع طرح الرّأي الجديد، يُربط الإبداع فيه بشخصِ المتكلّم، والإشارة إلى الميزات العقليّة والنّفسيّة له، والتي عادة ما تكون موهومة، أو مبالغاً فيها، والنّتيجة المتوخاة من هذه الطّريقة هي كسر ارتباط النّاس بأيّ عالم، وبأيّ شخصيّة دينيّة مؤثّرة، وتحويله إلى ارتباط واحد فقط بنفس صاحب هذا المنهج، فهي دعوة إلى النّفس، لا إلى الدّين.

السّمة السّادسة: ادّعاء المظلومّية الشّخصيّة أو الفكريّة، وذلك من أجل استعطاف المتلقّي، وإقناعه بأنّ الفكر الحرّ، والتّفكير خارج الصّندوق، والتّمرّد على التّقليد، وتصحيح مسار التّخلّف، هو المحارَب أساساً، وأنّ هناك غرضاً لهؤلاء النّقّاد يستهدف المنهج، والشّخص؛ لأنّ هذا المنهج يفضح نواياهم، ويسحب بساط الوجاهة عنهم، فتُردَّد مظلوميّة فلان، والقرآن، والإنسان، والمرأة، وأهل البيتi، وكلّ شيء، من أجل هذا الغرض.

السّمة السّابعة: جمع الشّاذ والغريب، وكثرة الادّعاءات، ثمّ نسبة هذه الشّواذ إلى جمعٍ من العُلماء تخفيفاً لضغط ردّات الفعل، والحال أنّنا ذكرنا أنّ الآراء الشّاذة موجودة لدى كلّ العلماء، إلّا أنّها في المستوى الطّبيعيّ، وأنّ المشكلة هي في جمع هذا الشّاذ كلّه، والزّيادة عليه، واعتماد الشّذوذ المعرفيّ كمنهج قائم بذاته.

السّمة الثّامنة: عدمُ الأمانة في النّقل، وسرقة جهود الآخرين، وادّعاؤها كذباً.

السّمة التّاسعة: الجدل، والمراء، والنّقاشات العقيمة المليئة بالمشاحنات، والاتّهامات، والاستهزاء، والتّسفيه، والتّعمية، وحرف المسار، والتّلميحات.

عن النّبيّe: «ينبغي للعالم أن يكون قليل الضَّحك، كثير البكاء، لا يمازح، ولا يصاخب، ولا يماري، ولا يجادل، إن تكلَّم تكلَّم بحقٍّ، وإن صمت صمت عن الباطل، وإن دخل دخل برفق، وإن خرج خرج بحلم»[23].

السّمة العاشرة: محاولات الجذب المتتالية عبر الاعتماد على عنصر التّشويق، والصّدمة، والإيحاءات، وطرح جزء الحقيقة.

ومع ملاحظة هذه السّمات العشر، نستطيع أن نميّز حقيقة هذه الدّعوات التّجديديّة المنفلتة، وفصلها عن ظاهرها المعلَن، فما يُعلنه أصحابُ هذه الدّعوات من أهداف يتمثّل في عناوين برّاقة، مثل: التّصحيح، والانفتاح، وإعادة التّقييم، وجذب المثقفين ومن هم خارج الدّائرة، والدّفاع عن الإسلام بتقديم قراءة عصريّة مقبولة، والفصل بين ما هو من الدِّين، وبين ما هو ذوقٌ دينيٌ، أو عرف مجتمعيّ مُختلَق، وغير ذلك، أمّا الأهداف الحقيقيّة -بملاحظة السّمات المتقدّمة في الكثير من هذه الأطروحات- فتتمثّل في: الأنانيّة، والدّعوة إلى النّفس، وشخصنة الدِّين للتوصّل إلى مآرب اجتماعيّة شخصيّة.

ومن هنا ننتقل إلى السٌّؤال المهمّ جداً، والذي يقول: كيف ينبغي التّعامل مع هذا المنهج، ومع مفرزاته الفكريّة المشوّشة؟!

النّقطة الثّالثة: كيفيّة التّعامل مع ظّاهرة أطروحات التّجديد

يمكن هنا تسجيل عدّة وصايا -على ضوء ما ورد عن أهل بيت العصمةi- تحدّ من سعة هذه الظّاهرة، وتقي من حدّة التأثّر بها، ومن ذلك:

أوّلاً: تحسّس المؤشّرات والسّمات السّابقة، وقياسها على هذه الظّواهر؛ للتّعرّف على مدى انطباقها عليها من عدمه، وبالتّالي ابتعدْ عمّن يقدح في نفسك الشّكّ، والظّنّ، والشّبهة، فإنّ التّصحيح أبداً لا يكون عبر التّجديد من أجل التّجديد، وعبر زعزعة ما وُرث عن السّلف الصالح بكلّ تضحياته، والتّدقيق فيه، والأمانة التي حُفظ بها بشقّ الأنفس، والإصلاح الفكريّ لا يكون عبر قلّة الورع، والتّشكيك، نعم، الشّك إذا كان مقدّمة لليقين فهو ممدوح، وذلك من أجل التّثبّت، ومن أجل إيجاد القناعات العلميّة الرّاسخة اليقينيّة المبتنية على الدّليل، أمّا الشّكّ من أجل الشّكّ، ومن أجل التّجديد، ومن أجل تقديم قراءات مقنعة للذهنيّة المعاصرة، المتأثّرة بالشّوائب الفكريّة المستوردة والدّخيلة، فليس شكّاً علميّاً، بل هو شكٌّ تدميريّ، ابحث عن اليقين، ولا تبحث عن الشّكّ، وجِد نفسك باليقين، ولا تربط قيمتها بالشّك، ومخالفة الجماعة.

ورد عن الأميرg: «رَأْسُ الدِّينِ صِدْقُ الْيَقِين‏»[24]، وعنهg: «شيئان هما ملاك الدِّين: الصِّدق، واليقين»[25]، وقالg في الخبر: «ثبات الدِّين بقوَّة اليقين»[26].

وقد وصف إمامنا العسكريّg من يدّعي العلم -وهو لا شغل له إلّا إيقاع عوام الشّيعة في الشّكّ، والحيرة- بوصفٍ خطيرٍ، فقد جاء عنهg في صفة علماء السّوء: «وَهُمْ أَضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّg وأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْلُبُونَهُمُ الْأَرْوَاحَ والْأَمْوَال‏.. وَهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ السَّوْء... َ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ والشُّبْهَةَ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، فَيُضِلُّونَهُم‏..»[27].

ثانياً: عدم التّفاعل مع المقاطع، بعدم التّرويج لها، وعدم نشرها، وعدم المشاهدة، وعدم التّعليق، وعدم الإعجاب.

جاء عن النّبيّe: «من أعرض عن صاحب بدعة بغضاً له ملأ اللهُ قلبه أمناً وإيماناً»[28]، وعنهe: «مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بُغْضاً لَهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ يَقِيناً ورِضًا»[29]، وعنه‌e: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْ‏ءٍ تَرَكْتَهُ لِله‌[30]، وعنه‌e: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ فَمَنْ رَعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيه‏»[31].

وكذا ينبغي عدم دعم هذه المقاطع بنحو غير مباشر بالاستعجال والحديث حولها بلا ضوابط، فلا خير في التّسرّع والعجلة في التلقّي من دون حكمة ورويّة.

عن النّبيّe: «إِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ الْعَجَلَةُ، ولَوْ أَنَّ النَّاسَ تَثَبَّتُوا لَمْ يَهْلِكْ أَحَد»[32]، وعن الأميرg: «الْعَجَلُ يُوجِبُ الْعِثَار»[33]،وعنه g: «الْعَجُولُ مُخْطِئٌ وإِنْ مَلَك‏»[34]، وعنهg: «الْمُتَأَنِّي مُصِيبٌ، وإِنْ هَلَكَ»[35].

ثمّ إنّ التّفاعل بأحد الأنحاء المذكورة ينطبق عليه عنوان التّرويج للباطل، ففيه مسؤوليّة كبيرة أمام الله تعالى، وأمام المجتمع، خصوصاً لو وقع أحد النّاس في براثن هذه الشّبهات، فاستحكمت في ذهنه، وأدّت إلى انحرافه.

ثالثاً: رفع الشّبهة للعالِم الثّقة، ورد عن النّبيّe: «.. فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَدِيثِ آلِ مُحَمَّدٍ ص فَلَانَتْ لَهُ قُلُوبُكُمْ وعَرَفْتُمُوهُ فَاقْبَلُوهُ، ومَا اشْمَأَزَّتْ مِنْهُ قُلُوبُكُمْ وأَنْكَرْتُمُوهُ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وإِلَى الرَّسُولِ وإِلَى الْعَالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّد..»[36]، وعن الأميرg: «الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ؛ أَمْرٌ بَانَ لَكَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعْهُ، وأَمْرٌ بَانَ لَكَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبْهُ، وأَمْرٌ أَشْكَلَ عَلَيْكَ فَرَدَدْتَهُ إِلَى عَالِمِه‏»[37].

رابعاً: عدم القبول السّريع لمادة مفرزات هذا المنهج، والتحلّي بالبصيرة والحذر، وقراءة ما وراء المُعلَن، والتّوقّف دائماً أمام ما يُطرح من غرائب وشبهات.

جاء عن الأميرg: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ، فَاتَّقُوا الْبِدَعَ والْزَمُوا الْمَهْيَعَ، إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا، وإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا»[38]، وعنهg: «أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ»[39].

وعنهg: «أَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ؛ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَال‏»[40]، وورد عنه g: «أُوصِيكَ يَا حَسَنُ -وكَفَى بِكَ وَصِيّاً- بِمَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللهe... َ الصَّمْتِ عِنْدَ الشُّبْهَة»[41].

وورد عن الإمام الصّادقg: «يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا، ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، وإِنَّمَا الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ، وأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ، وأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللهِ وإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِe: حَلَالٌ بَيِّنٌ، وحَرَامٌ بَيِّنٌ، وشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ومَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم‏»[42].

وعن الإمام الباقرg: «الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ، وتَرْكُكَ حَدِيثاً لَمْ تُرْوَهُ خَيْرٌ مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثاً لَمْ تُحْصِه‏»[43].

خامساً: التّسلّح بالعلم من مظانّه الصّحيحة، ومحاولة اكتساب الأخلاق العلميّة والعمليّة، فإنّ الثّقافة التي لا تستند إلى خُلقٍ هي ثقافة هدّامة، وشكلٌ بلا مضمون، والعلم الصّحيح -فضلاً عن الخاطئ- حجاب ما لم ينفعل به القلب، ليتحوّل إلى خُلقٍ حميد، فإنّه سيتحوّل إلى صفات أخلاقيّة مذمومة، تجرّ إلى سلوكيّات قبيحة، بعيدة عن الورع، والحلم، والحكمة.

جاء في الكافي: عن الإمام الصّادقg: «اعْرِفُوا الْعَقْلَ وجُنْدَهُ، والْجَهْلَ وجُنْدَهُ تَهْتَدُوا»، قَالَ سَمَاعَةُ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ لَا نَعْرِفُ إِلّا مَا عَرّفْتَنَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِg: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ الْعَقْلَ، وهُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مِنْ نُورِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: خَلَقْتُكَ خَلْقاً عَظِيماً، وكَرَّمْتُكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي، قَالَ: ثُمَّ خَلَقَ الْجَهْلَ مِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ ظُلْمَانِيّاً، فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَلَمْ يُقْبِلْ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَكْبَرْتَ فَلَعَنَهُ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وسَبْعِينَ جُنْداً، فَلَمَّا رَأَى الْجَهْلُ مَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ الْعَقْلَ ومَا أَعْطَاهُ أَضْمَرَ لَهُ الْعَدَاوَةَ، فَقَالَ الْجَهْلُ: يَا رَبِّ، هَذَا خَلْقٌ مِثْلِي خَلَقْتَهُ وكَرَّمْتَهُ وقَوَّيْتَهُ، وأَنَا ضِدُّهُ ولَا قُوَّةَ لِي بِهِ، فَأَعْطِنِي مِنَ الْجُنْدِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِنْ عَصَيْتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجْتُكَ وجُنْدَكَ مِنْ رَحْمَتِي، قَالَ: قَدْ رَضِيتُ، فَأَعْطَاهُ خَمْسَةً وسَبْعِينَ جُنْداً، فَكَانَ مِمَّا أَعْطَى الْعَقْلَ مِنَ الْخَمْسَةِ والسَّبْعِينَ الْجُنْد:.. ِ والْإِيمَانُ وضِدَّهُ الْكُفْرَ، والتَّصْدِيقُ وضِدَّهُ الْجُحُود..، والْعِلْمُ وضِدَّهُ الْجَهْلَ، والْفَهْمُ وضِدَّهُ الْحُمْقَ، والْعِفَّةُ وضِدَّهَا التَّهَتُّكَ، والزُّهْدُ وضِدَّهُ الرَّغْبَةَ، والرِّفْقُ‏ وضِدَّهُ الْخُرْقَ، والرَّهْبَةُ وضِدَّهُ الْجُرْأَةَ، والتَّوَاضُعُ وضِدَّهُ الْكِبْرَ، والتُّؤَدَةُ وضِدَّهَا التَّسَرُّعَ، والْحِلْمُ وضِدَّهَا السَّفَهَ، وَالصَّمْتُ‏ وضِدَّهُ الْهَذَرَ، والِاسْتِسْلَامُ وضِدَّهُ الِاسْتِكْبَارَ، والتَّسْلِيمُ وضِدَّهُ الشَّك‏..، والْمَوَدَّةُ وضِدَّهَا الْعَدَاوَة..، َ والْخُضُوعُ وضِدَّهُ التَّطَاوُل‏..، َوالصِّدْقُ وضِدَّهُ الْكَذِبَ، والْحَقُّ وضِدَّهُ الْبَاطِلَ، والْأَمَانَةُ وضِدَّهَا الْخِيَانَةَ، والْإِخْلَاصُ وضِدَّهُ الشَّوْب‏..، والْمَعْرِفَةُ وضِدَّهَا الْإِنْكَارَ، والْمُدَارَاةُ وضِدَّهَا الْمُكَاشَفَةَ، وسَلَامَةُ الْغَيْبِ وضِدَّهَا الْمُمَاكَرَةَ، والْكِتْمَانُ وضِدَّهُ الْإِفْشَاء..، والْحَقِيقَةُ وضِدَّهَا الرِّيَاء..»[44].

وعنهg: «مَنْ عَرَفَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ، ومَنْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ بِجْهَلُ خَرَجَ مِنْهُ بِجَهْل‏..»[45].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.


 


[1] نهج البلاغة ص: 202.

 

[2] الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج1 ص37.

 

[3] غرر الحكم ودرر الكلم، الآمديّ، ص 552.

 

[4] غرر الحكم ودرر الكلم، الآمديّ، ص 552.

 

[5] تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 29.

 

[6] منية المريد، الشّهيد الثّاني، ص 137.

 

[7] نهج البلاغة، الشّريف الرّضيّ، ص 444-445.

 

[8] غرر الحكم ودرر الكلم، الآمديّ، ص 53.

 

[9] نهج البلاغة، الشّريف الرّضيّ، ص 507.

 

[10] غرر الحكم ودرر الكلم، الآمديّ، ص 158.

 

[11] المصدر نفسه، ص 112.

 

[12]المصدر نفسه، ص 308.

 

[13] المصدر نفسه، ص 306.

 

[14] تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 73-74.

 

[15] الأمالي، الشّيخ الطّوسيّ، ص 56.

 

[16] غرر الحكم ودرر الكلم ،الآمدي، ص 412.

 

[17] الكافي، الشّيخ الكلينيّ، ج8 ،ص244.

 

[18] الاختصاص، الشّيخ المفيد، ص221.

 

[19] الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج8 ،ص243.

 

[20] المصدر نفسه، ج2، ص307

 

[21] تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 375.

 

[22] رسائل الشّهيد الثّاني، ج1، ص8.

 

[23] كنز العمّال، المتّقيّ الهنديّ، ج10، ص243.

 

[24] عيون الحكم والمواعظ، اللّيثيّ الواسطيّ، ص263.

 

[25] تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 414.

 

[26] المصدر نفسه، ص 334.

 

[27] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّg، ص: 301.

 

[28] كنزالعمّال، المتّقيّ الهنديّ، ج3 ،ص82.

 

[29] مجموعة ورّام، ورّام بن أبي فراس، ج2، ص116.

 

[30] كنز الفوائد،الکراجکيّ، ج1، ص: 351.

 

[31] مجموعة ورّام، ورّام بن أبي فراس، ج1، ص52.

 

[32] المحاسن،أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، ج1، ص: 215.

 

[33] عيون الحكم والمواعظ، اللّيثيّ الواسطيّ،ص39.

 

[34] المصدر نفسه، ص29.

 

[35] المصدر نفسه.

 

[36] الكافي، الشّيخ الكلينيّ،ج1 ص401

 

[37] تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 210

 

[38] نهج البلاغة، الشّريف الرّضيّ، ص202

 

[39] الأمالي، الشّيخ المفيد، ص283

 

[40] نهج البلاغة، الشّريف الرّضيّ، ص392

 

[41] الأمالي، الشّيخ المفيد، ص221

 

[42] الكافي، الشّيخ الكلينيّ، ج١، ص 68

 

[43] الكافي، الشيّخ الكلينيّ، ج1، ص 50.

 

[44] الكافي، الشّيخ الكلينيّ، ج1، ص21-22.

 

[45] بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، الطّبريّ الآمليّ، ص129.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا