بسمه تعالى شأنه، هناك تساؤلٌ كثيراً ما يرد على بعض الألسن وهو عن مدى الفائدة المرجوّة والمبرّر الكافي من طرح شعار الوحدة بقوّة في الأوساط الإسلاميّة، خاصّةً من قبل طائفةٍ هي الأكثر عرضةً للظلم والاضطهاد، حيث تُمنى يوميّاً بألوان البلايا وصنوف العذاب، وتتطاير منها الأشلاء البريئة بدون ذنب، وتلاحقها الشتائم وفتاوى التكفير على الملأ، وكل ذلك على مرأىً ومسمعٍ من الآخرين من غير أن يحرّك غيرتهم ويقضّ مضجعهم بالمستوى المطلوب، أو لا أقل يحفّزهم لكلمة الإنصاف إن لم تكن ردّة فعلهم عكسيةً في العديد من الأحايين؟
ويواصل الإشكال: ألا يعدّ بثّ مسائل الوحدة في هذه الأجواء عبثاً لا طائلة فيه؟ وهدر الجهد والوقت مع أطراف لا أباليّة خسرانٌ مبينٌ؟ ونتيجة ذلك أن الواقع إن لم يزدد سوءاً ورداءةً لن يتغيّر عمّا هو عليه؟
ثمّ إنَّ تنازل طائفةٍ بشكلٍ كبير عن خصوصيّاتها ـ في سبيل الوحدة ـ في قبال إصرار الأطراف الأخرى على طرح عقائدها ومبادئها بصورةٍ صريحةٍ بدون اكتراثٍ ألا يقود إلى انصهارٍ وتذويبٍ تدريجيٍّ لهذه الطائفة في غيرها من الطوائف والفرق، فتحكم على نفسها بالإعدام؟
والذي يفهم من أصحاب هذا التساؤل والإشكال ليس رفض أصل وأساس الوحدة من رأس ـ إذ قد يؤمنون بأهميتها نظرياً ـ ولكن عندما ينزلون إلى الواقع المعاش ويعاينون عمق الشرخ والصدع في جسد الأمّة الإسلاميّة وما آلت إليه من شتات ردحاً مديداً من الزمن يشعرون بنوع من الخيبة اتجاه جدوى وفعّاليّة طرح مشاريع باسم الوحدة، بل يرى بعضهم أن نسبة ضررها أكبر من نفعها.
وفي مقام مناقشة هذا الإشكال وتوضيح بعض ملابساته سيقت مجموعة من النقاط، منها:
أولاً: إن قضيّة الوحدة الإسلاميّة ليست أمراً عابراً يستفيد منها المسلمون بشكل طارئ حيناً ويطرحونها بإرادتهم حيناً آخر، بل هي تكليفٌ ربّانيٌّ ضروريٌّ وثابتٌ أنزله الله(جلّ جلاله) على كافّة المسلمين حاله كغيره من الأحكام الإلزاميّة الثابتة، غاية الأمر أن الأحكام تارةً تشرّع ليؤدّيها الناس بصورة فرديّة وتارةً تشرّع لتؤدّى بصورة جماعيّة، والوحدة الإسلامية هي من قبيل التكاليف الجماعية، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).
يقول العلامة الطباطبائي(ره): «وهذه الآية تتعرّض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله: {جَمِيعاً}، وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، فالآيات تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب والسُنّة كما تأمر الفرد بذلك».(2)
وممّا يؤكّد ضرورة هذا التكليف تكرار لفظ النعمة في الآية والتي هي نعمة التأليف، وقد نسبها لنفسه(جلّ جلاله)، وكذلك الدعوة إلى المقارنة بين الوضع المقيت التي كان عليه الناس قبل توحّدهم تحت راية الإسلام والوضع بعده، حيث كانت الحروب كالنار تقضي على الأخضر واليابس فجاءت نعمة التأليف والوحدة لتنقذهم من هشيمها.
ومجرّد تخلي جماعة أو طائفة عن هذا التكليف لا يبرّر للآخرين تركه، وتغافل الغالبيّة عنه لا يسقطه من ربقة المسائلة يوم القيامة.
ثانياً: ليس المقصود من الوحدة الإسلامية التخلّي عن خصوصيّات المذهب وعقائده وتغيير مبادئه واجتهاده حتى تثار مسألة انصهار مذهب في آخر، وهذا التفسير للوحدة بعيدٌ كلّ البعد عن المعنى الذي ينادي به ويناضل من أجله كبار علمائنا، فمعناه الصحيح كما يشير إليه سماحة ولي أمر المسلمين(حفظه الله):
«إن الاتحاد بين الشعوب الإسلامية لا يلغي الاختلاف الموجود ولا الفروق الموجودة في الآداب والتقاليد المتبعة في المجتمعات الإسلاميّة، كما أنه لا يلغي الاختلافات الموجودة في الاجتهادات الفقهيّة. ومعنى أن تتحد الشعوب المسلمة هو أن تتخذ موقفاً موحّداً فيما يخص مجريات ومسائل العالم الإسلامي، وأن تتعاون فيما بينها، ولا تهدر ثرواتها في فتن وصراعات داخلية»(3).
«...فالبعض يرى أن طريق الوحدة يتلخّص في رفض المذاهب، إلا أن رفض المذاهب لا يحلّ المشكلة، بل يحلّها إقرار المذاهب القائمة حالياً. على كل واحد أداء مهامّه العاديّة في نطاق عمله وموقعه، ولكن عليهم الاحتفاظ بعلاقات حسنة مع بعضهم»(4).
وعلى ذلك فلا ينبغي الخوف على مذهب بأنه عرضة للذوبان بمجرّد انخراطه بمسائل الوحدة، وإن وجد ذلك فيرجع إلى التطبيق الخاطئ لمفهوم الوحدة أو نتيجةً لأسباب أخرى.
ثالثاً: في التخلّي عن الوحدة ضررٌ كبيرٌ على مصلحة الإسلام العليا الشاملة لكلّ المسلمين، وفيها ذهابٌ لعزّتهم وهيبتهم، وكلّما اقتضت هذه المصلحة العامّة أمراً تكون هي المقدّمة على سائر العناوين والمصالح الأخرى، وتوضيح ذلك: إن البلدان والمجتمعات الإسلامية مهدّدة في سائر الأزمنة والأوقات من قبل الأعداء بالهجوم والحرب، وهدفهم الشاغل هو اكتشاف ثغرة أو فجوة يغفل عنها المسلمون ليتمكّنوا منهم ويغيروا عليهم، وهجومهم هذا لا يفرّق بين سنّي ولا شيعي ولا بين طائفة من فرق السنّة على حساب أختها أو بين فرقة شيعيّة وأخرى من نفس المذهب، بل جميع المسلمين في نظرهم العدائي سواءٌ، نعم قد يتفاوت عداؤهم بالنسبة لطائفة مقارنةً بأخرى أو لبلد إسلامي بالنظر لآخر ولكن لا من باب خصوصيّة هذه الطائفة أو البلد بل من جهة مقدار ما تعطيه من التسليم والطاعة لأوامرهم ومخطّطاتهم الاستكباريّة، فيصبح بذلك أن الدين والإسلام كلّه عرضة للخطر الواحد لا طائفة أو فرقة بحد ذاتها، ولا علاج ومفر من التخلّص من هذا الخطر إلا التوحّد في قبال العدو المشترك، حيث تشكّل الجماعة المجتمعة طوداً منيعاً يصعب اختراقه، وقليل من التوحّد ولو في الخطوط العامّة يهيب العدو أكثر ممّا تكسبه كلّ دولة أو فرقة لوحدها مهما كانت قويّة، ولذلك أكثر ما يخشاه الغرب والأعداء منا هو التوحّد.
ونجد إشارةً إلى هذا في مضمون هذه الآية المباركة: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.(5)
تذهب ريحكم: أي تذهب صولتكم وقوّتكم ونصرتكم ودولتكم.(6)
رابعاً: تنامي موجة عارمة يخطّط لها العدو لغرس الطائفيّة كأساس يدخل في صلب الدين، حتى يشيع بين الناس أن الأكثر فضيلة هو من لا يرى في أطراف المجتمع إلا طائفته لاغياً بذلك الاعتراف بالآخرين، وأن قتل المسلم للمسلم المنتمي لطائفة أخرى وسيلة لرقي الجنّة، أو أن تمكينه والسماح له لاعتلاء وظيفة أو منصب حرامٌ شرعاً وخيانةٌ للدين، وغيرها من الافتراءات التي تؤصّل الفرقة بين المسلمين، وهذه الموجة لا يمكن بحال من الأحوال أن تجابه بالتشجيع على ترك مسائل الوحدة؛ لأن ترك التوحّد هو تعميق وتنفيذ لهذا التأصيل الخطير الذي بات يتغلغل في الكثير من مشاريع العمل الإسلامي لدى الشعوب المسلمة فضلاً عن حكوماتها، وفي هذا السياق يقول أحد العلماء والمفكرين الكبار:
«إن أمام هذا التأصيل لحال الفرقة والشتات والاحتراب لابدّ من تأصيل للوحدة بين أبناء أمّة الإسلام».(7)
خامساً: أصبح العالم الإسلامي ـ بل العالم ككلّ ـ يعيش بحالة من التداخل بحيث لا يمكن أن يحصل سلام وأمان وتطور علمي وحضاري... (إلخ) بدون إيجاد حالةٍ من التعاون والتساجم بين الأطراف، يتم فيه التبادل المشترك في كافة المجالات، وخاصة في مجال التوحّد ضد العدو المشترك، وهذا لوحده كاف عملياً للتوحّد بين المسلمين.
سادساً: لا يظن أحد أن القيام بأعباء الدين وأداء التكاليف والمسؤوليات الكبرى الإسلامية ـ ومنها مسؤولية الوحدة بين المسلمين ـ أمرٌ مقرونٌ دائماً بالراحة والاسترخاء حتى نحلم في سعادة بدون عناء ونصب، الأمر على الخلاف تماماً، فالحفاظ على الدين ومصالحه وطلب رفعته يحتاج من البداية حتى النهاية إلى بذل الطاقات وشدّ الهمم واستفراغ الصبر وإن اضطر الأمر لتقديم الأرواح طوعاً وقرباناً.
وبالتالي يكون تجرّع الغصص والويلات في سبيل تقديم مصلحة عليا لا يصرفنا عن ترك هذه المصلحة وإن كان على حساب زهق أرواحنا، وهذا يعني أن الشتم والتكفير والظلم والإبادة لا يثني طلاّب الحقيقة عن أداء تكليف الوحدة الكبير، وصبرهم على هذه المحن يكون بعين الله(جلّ جلاله) ويدخل في رصيد إيمانهم يوم القيامة، ولو نظرنا إلى ذيل الآية السابقة الذكر للمحنا الإشارة إلى هذه النكتة: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(8).
حيث جاء الأمر بالصبر مقارناً مع النهي عن التنازع والفرقة، وربما التأكيد مرّةً ثانيةً على الصبر {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فيه تنبيهٌ على أن هذا الأمر يتطلّب نوعاً ثقيلاً من التحمّل والعناء، إلا أنه بالمقابل فيه تأييد ومدد من الله(جلّ جلاله).
ومن الشواهد التأريخيّة في تحمّل الأذى في سبيل حفظ وحدة المسلمين ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) في القضية المعروفة: «...وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتى يلقى ربّه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذىً، وفي الحلق شجاً...».(9)
الخلاصة والنتيجة المتوخّاة من هذه النقاط هي الوصول إلى قناعةٍ أن طرح شعار الوحدة والمشاريع المنضوية تحته هي من الأطروحات الضروريّة التي لا غنى عنها وتنبع من معين الدين، وأن القول بعبثيّته لا يستند إلى حجّة وبرهان قويم.
* الهوامش:
(1) سورة آل عمران، الآية: 103.
(2) الميزان ج3، ص 422.
(3) الإمام الخامنئي، الإسلام المحمدي، ص 552.
(4) نفس المصدر، ص 553.
(5) سورة الأنفال، الآية: 46.
(6) الطريحي، مجمع البحرين، ج2، ص 353.
(7) الشيخ عيسى قاسم، خطبة الجمعة رقم (270)، 13 محرم 1428هـ.
(8) سورة الأنفال، الآية: 46.
(9) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية، ص 51.
0 التعليق
ارسال التعليق