استحوذ الأدب على جانب مهم من حياة العرب قبل الإسلام، فصاغوا من خلاله أفكارهم وحكاياتهم، فصارت أشعارهم أشبه بكتاب يحكي تفاصيل حياتهم وفلسفتها، وما كان يعتريها من مغامرات، فجاء الشعر الجاهلي في مواضيعه ومفرداته حاكيا بصدق عن هموم البيئة الصحراوية التي قطنها العرب.
وعندما جاء الإسلام أوجد هزة قوية قلبت حياة العرب رأسا على عقب، فتغيرت أفكارهم وهمومهم وتطورت حياتهم بمجملها، وقد أثر ذلك على أشعارهم، فتغيرت مواضيعها ومفرداتها وتعددت تبعا للظروف فصار الشعر معبرا عن الحالة الجديدة التي طرأت على حياتهم.
وتعتبر المعارضات الشعرية من بين الظواهر التي رافقت الشعر العربي في العصر الجاهلي وفي العصور الإسلامية المتعاقبة، ففي العصر الجاهلي حيث الحروب والنزاعات القبلية كان الشعر من بين الميادين التي انعكست فيها تلك الحالة، فقد كان لكل قبيلة شعرائها الناطقين باسمها، وكانت ألسنتهم تلهج بذكر مفاخر القبيلة وأمجادها وانتصاراتها العسكرية التي حققتها على القبائل الأخرى، ويقومون بالرد على من يسيء بشعره إلى القبيلة أو ينتقص منها.
وعند مجيء الإسلام ـ وقبل أن ينتشر ـ انعكس الصراع بين المسلمين والمشركين في قصائد شعرائهم فكانت هناك معارضات بين شعراء قريش من جهة وشعراء المسلمين من جهة أخرى، وبعد انتشار الإسلام برزت ظاهرة تعدد الفرق والمذاهب سواء العقائدية منها أو الفقهية أو السياسية وأحيانا الفكرية أيضا، ورافقها بروز حالة من الصراع والجدال حول هذه الآراء، ولم يكن الشعر بمنأى عن هذه الحالة فأنشئت القصائد التي تتبنى هذه التيارات وتدافع عنها وتتصدى للتيارات المناوئة.
ولم تكن البحرين نشازا عن هذه الحالة، ولكن الظروف التي مرت بها البحرين خصوصا في القرون الأخيرة أضاعت جل تراثها الأدبي وشوهت البقية المتبقية من هذا التراث، فلا نكاد نعثر إلا على النزر اليسير الذي سلم من يد الحاقدين والعابثين معا، مما يجعل من العسير على الباحث أن يتلمس طريقه وسط هذا الظلام، إلا أن البقية المتبقية مما وصل إلينا من هذا التراث قد تعطينا بعض الملامح غير المتكاملة للوضع الأدبي السائد آنذاك، ولعل الزمن يكشف لنا عن المزيد من هذا التراث ويخرجه إلى النور.
أنقل هنا مقطعا شعريا كتبه أحد شعراء البحرين الماضين، وقام مجموعة من الشعراء بالرد عليه، في مساجلة شعرية جميلة تكشف للباحث جانبا مما كانت عليه الحياة العلمية والأدبية في البحرين آنذاك، أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري.
صاحب الأبيات هو العلامة السيّد عبد الرؤوف (الثاني) ابن السيّد حسين بن السيد أحمد بن السيد عبد الرؤوف (الأول) أبن السيد حسين الموسوي الجدحفصي، وقد توفي هذا الشاعر سنة 1117هـ وكانت ولادته سنة 1066هـ، وكان من تلامذة الشيخ سليمان بن علي الإصبعي الشاخوري المتوفى سنة 1101هـ، وكان السيد عبد الرؤوف من الشعراء المعروفين في البحرين في ذلك الوقت، وله ديوان شعر، وكذا آبائه وأجداده فقد كانوا شعراء وقضاة في البحرين في أوائل القرن الحادي عشر الهجري(1)، فقد قال هذا الشاعر منتقدا أولئك الذين يتخذون من الدين والعبادة طريقا لخداع الناس فيفرغون العبادة من محتواها الحقيقي وهو تقرب العبد لربه، ويسخرونها لنيل مآربهم الخاصة وشبههم بالبعوض الذي يسهر طوال الليل لا لشيء سوى شرب دماء البشر، وقد أفرغ انتقاده في هذين البيتين:
لا يخــدَعنّــك عابـــدٌ في ليلـــه يبكـي وكن من شــرّه مُتحذّرا
لم يسهر الليلَ البعوضُ ولم يصح في جُنحه إلاّ لشُربِ دم الورى
والظاهرة التي أشار إليها الشاعر رغم وجودها في كل زمان ومكان إلا أن الخطأ الذي وقع فيه الشاعر هو تعميم الفكرة على الجميع وعدم تخصيصها، مما يعطي إنطباعا بشمولية هذه الظاهرة، ولذا فقد انبرى جملة من العلماء والأدباء للرد عليه في ما طرحه، ولكن للأسف لم تصلنا سوى مجموعة قليلة من الردود والتي وصلت بعد أن أصابها التحريف من النسّاخ كما هي العادة فوصلت وقد فقدت الكثير من رونقها، ومن باب الأمانة العلمية والأدبية سأحاول أن أنقل الردود هنا من غير أن أتصرف فيها بالتعديل والتغيير، وسأنقل هنا ثمانية ردود هي مجموع ما رأيته من ردود على هذه القصيدة وإن كنت أطمئن إلى وجود عدد آخر من الردود لم تصل إلينا، وقد تفاوتت هذه الردود قوة وضعفا من شاعر لآخر وسأترك التعليق على هذه الردود لقصر باعي في مجال الشعر والأدب، وربما يوفق أحد الإخوة للتعليق عليها ونقدها نقدا أدبيا في المستقبل.
وقد نقلت بعض هذه الردود من كتاب (منتظم الدُرين) للشيخ محمد علي التاجر، وكان ذلك حين طلبت مني (دار المصطفى) في قم أن أقوم بملاحظة الكتاب والتعليق عليه بغية طبعه، وقد أشتغلت بذلك مدة من الزمن إلى أن أنهيته، وقد أنتهزت تلك الفرصة وجمعت هذه الردود من ذلك الكتاب، كما نقلت ردودا أخرى من موسوعة شعراء البحرين، وأما الرد الثامن فقد نقلته من إجازة كتبها الشيخ حسن الدمستاني لإثنين من تلامذته في سنة 1178هـ(2).
1ـ الرد الأول لصديقه الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي المعروف بالمحقق البحراني(3)، حيث قال في رده:
تالله ما أنصفت في ذمّ الأولى بلغوا السهى وتجاوزوا هام
شربوا بكأس الحب واطّلعوا على أسراره سحراً وقد طال السرى
عاطاهم كأس الرضـا فتهافتـوا في حبّـه وتهالكـوا بين الـورى
إنّ البعوض أتى نصيحاً زاجراً لما غلا أهل الجهالـة في الكرى
2ــ الرد الثاني للشيخ سليمان(4) بن علي بن سليمان بن راشد بن أبي ظبية الإصبعي الشاخوري (المتوفى سنة 1101هـ) وقد قال في رده:
لا تعتقـــد ســوءاً بعـابــد ليلــه يبكي فقطرة دمعه تطفي الأرا
سهـر الليـالي في استقـالة ذنبـه وغداة صبح يحمد القوم السرى
شرب البعوض دماء قوم أسرفوا وسروا لجهلهم العبادة بالكرى
3 ـ الرد الثالث للمحدث الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي الإصبعي البحراني(5)، حيث قال في رده:
نأت الخديعة عن مصلي ليله باك لسوئته بأشرف من برى
حتى لقد سهر البعوض تأسيا وليسفكن دماء من صحب الكرى
وصـاح لله تسبيــح كمـــا في الذكر قول شامل لن يُمترى
4 ــ الرد الرابع للشيخ عبد النبي بن لطف الله بن علي البحراني(6) حيث قال في رده:
لولا رجال مؤمنون ونسوة صاموا الهجير وطلقوا غمض
لم يمهل الله العصاة ولم ير عاص له يمشـي على وجـه الثـرى
5 ـ الرد الخامس للشيخ محمد بن يوسف بن صالح المقابي البحراني(7)، حيث قال في رده:
إن العبـادة غايــة في خلقنــا فأتـل الكتـاب وكـن لـه متدبـرا
وكـذا البكـاء لـه فوائـد جمـة مأثورة يدري بها من قد درى
أو ما سمعت وعيد ربك للذي تــرك الـعبــادة عـده مستكبــرا
إن البعوض صياحه تسبيحه والشرب من دمنا للطف قد
6 ــ الرد السادس للعلامة الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن يوسف المقابي البحراني(8)، وهو أبن صاحب الرد السابق، وقد قال في رده:
عجبـا لمن قعـدت بـه أفكـاره عن فهـم سـر مليكـه فيمـا برا
ذم الذين تهجــدوا وهـم هـم قوم لوجه الله قد هجروا الكرى
لم يسهر الليل البعوض لقصده ظلما ولا طلبا لشرب دم الورى
لكنـه حيـث الدمــاء تنجسـت بالنص أرسـل للدمـاء مطهـرا
وقد أشار في البيت الأخير إلى طهارة دم الإنسان بـ(الانتقال) إلى جسم البعوض على ماورد في الروايات وعبائر الفقهاء.
7 ـ الرد السابع للشاعر السيد حسين بن السيد علي الحسيني البحراني(9) حيث قال في رده:
عجبا لمن بالفكر أتعب نفسه في ذم من عبد الإله من الورى
لا يخدعنك فهو أولى بالذي قد قال فأحذر شره فيما اجترى
والله ما خلق البعوضة عابثا بـل موعـظـا ومنبهـا ومذكـرا
سهرت تسبح ربها وتصيح من خوف وتشرب للدماء لتزجرا
8 ـ الشيخ حسن بن محمد بن علي بن خلف الدمستاني(10) وهو متأخر زمانا عن السيد عبد الرؤوف الجدحفصي، ولكنه تعرض لأبيات السيد عبد الرؤوف الجدحفصي في ضمن إجازته لبعض تلامذته وقال معقبا عليها: (وقد انتدب لمعارضتها كثير من العلماء الأعيان) ثم ذكر الأبيات التي أوردناها للشيخ احمد المقابي، وعقب عليها بقوله: (وقلت مرتاحا للجري في جملتهم لعلي أكون سُكَيْتاً(11) لحلبتهم:
يا ضاربا مثل البعوض لعائد لله قد هجر الكرى أطرق كرا
الله يمدحه وأنت تذمه لله أنت لو ارتأيتَ مفكرا
كم حكمة خفيت عليك وجوهها في طي تسليط البعوض على
كم من دم نجس وكم متكبر رجعا لديه مطهرا ومحقرا
هذه الثمانية مقاطع هي كل ما عثرت عليه من ردود على البيتين الذين انشدهما السيد عبد الرؤوف الجدحفصي، وإني على أمل كبير في أن يكشف لنا المزيد من الردود التي لم نطلع عليها.
* الهوامش:
1 ــ ينحدر الشاعر من أسرة عرفت بالعلم والأدب، فقد كان جده السيد عبد الرؤوف الأول المتوفي في سنة 1006هـ، قاضي القضاة في البحرين، وبعد وفاته صار منصب القضاء إلى اولاده كالسيد جعفر والسيد حسين ابني السيد عبد الرؤوف الأول وكان في هذه الأسرة مجموعة من الشعراء، لعل من ابرزهم ابن عمتهم العلامة السيد ماجد الجدحفصي المتوفي سنة 1028هـ، وهو ابن أخت السيد عبد الرؤوف الأول.
2 ــ هذه الإجازة متوسطة وفيها بعض الفوائد والفرائد، وقد كتبها الشيخ حسن الدمستاني لإثنين من تلامذته هما (الذكي الألمعي الشيخ عبد الحسين بن أحمد الإصبعي) و(العالم الإلهي الحاج علي نقي بن آقامحمد الزير آبادي) وتاريخها عصر الجمعة سابع شوال سنة 1178هـ، وقد عثر على هذه الإجازة في ضمن مخطوطات المحدث الأرموي، راجع (ميراث حديث شيعه، دفتر دوازدهم، ص433).
3 ــ هو المحقق الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني، ولد في سنة 1075هـ، انتهت إليه رئاسة القضاء في البحرين، وتتلمذ على يديه جمع كثير من العلماء، له مؤلفات كثيرة وقد طبع عدد منها، توفي في 17 رجب سنة 1121هـ ودفن في قرية الماحوز بالبحرين، كتبت عنه ترجمة مفصلة جدا في مقدمة تحقيقي لكتابه (فهرست علماء البحرين).
4 ــ هو العلامة الشيخ سليمان بن علي بن سليمان بن راشد بن ابي ظبية، أصله من قرية (ابي اصبع) المعروفة حاليا بـ(ابوصيبع)، ولكنه انتقل بعد ذلك الى قرية (الشاخورة) وتوفي ودفن فيها، له العديد من المصنفات، وحينما توفي الشيخ سليمان المشار إليه (في شهر رجب سنة 1101هـ) رثاه السيّد عبدالرؤوف ــ وكانت بينهما صحبة خاصة ــ بقصيدة أرّخ فيها وفاته بقوله:
صاح الغراب بـ(غاق) في رجب على موت الفقـيـه فأيّ دمـع يدخـر
وكلمة «غاق» بحساب الجُمل تساوي سنة 1101هـ.
راجع ترجمته في (فهرست علماء البحرين: 138).
5 ــ المحدث المعروف، ولد في البحرين بقرية (سماهيج) في حدود (سنة 1086هـ) وانتقل منها بمعية والده وهو في الثامنة من عمره حيث سكن قرية (أبي إصبع) وفيها ترعرع ونشأ، وكان من أبرز تلامذة الشيخ سليمان الماحوزي وقد اشتغل بالتدريس والتصنيف مدة من الزمن، وفي آخر عمره هاجر إلى بهبهان وتوفي فيها (سنة 1135هـ).
6 ــ وهو من المعاصرين للشاعر، وكان مقيما في مدينة مشهد في (سنة 1086هـ) هو وأخوه الشيخ عبد المهدي، وقد قاما بمقابلة وتصحيح بعض المخطوطات راجع (تراجم الرجال 2: 126) والظاهر أنهما كانا يقيمان في مشهد بهدف الدراسة، ولا نعرف على وجه الدقة متى عادا إلى البحرين، وللشيخ عبد المهدي أعقاب بعضهم شعراء راجع (الذريعة 9: 944)
7 ــ كان من علماء القرن الحادي عشر، ولكنه أدرك أوائل القرن الثاني عشر وُصف بأنّه متفنّن في العلوم العقلية والرياضية، وكان شاعراً، وقد تتلمذ على يديه عدد من علماء البحرين، مات سنة 1103هـ (سنة 1692م)، ودفن في مقبرة (مقابا) في البحرين، راجع (فهرست علماء البحرين: 145).
8 ــ كان من العلماء الأجلاء، له العديد من المصنفات، وقد قال عنه الشيخ يوسف البحراني في اللؤلؤة ص38: (وعندي أنه أفضل علماء بلادنا البحرين ممن عاصره وتأخر عنه بل وغيرهم)، توفي بمرض الطاعون سنة 1102هـ أثناء زيارته للكاظمين (ع) ودفن هناك، كتبت عنه ترجمة مفصلة في (فهرست علماء البحرين: 147).
9 ــ هكذا ورد اسمه في (موسوعة شعراء البحرين1: 326) والظاهر أنه نفس السيد حسين بن السيد علي بن السيد عبد الله الشاخوري البحراني المذكور في (الذريعة 22: 336)، والذي كان حيا في منتصف القرن الثاني عشر، فيكون متأخرا عن زمان السيد عبد الرؤوف بحوالي أربعين سنة.
10 ــ الشاعر المعروف صاحب القصيدة الشهيرة التي مطلعها (أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور)، وكان عالما جليلا، وله ديوان من الشعر وبعض المصنفات منها، كتاب انتخاب الجيد من تبيهات السيد، وهو من قرية الدمستان في البحرين ولكنه توفي في القطيف سنة 1181هـ، ودفن في مقبرتها المعروفة بمقبرة الحباكة، راجع ترجمته في (أنوار البدرين: 217).
11 ــ السكيت: هو الخيل الذي يجيء في آخر السباق.
0 التعليق
ارسال التعليق