سوء الظن.. يمحو الدين ويثير الفتن

سوء الظن.. يمحو الدين ويثير الفتن

في الصحيح عن أبي عبد الله (ع) قال: (إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء)(1)، وعنه (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.(2)

لا ريب أن سوء الظن بالمؤمنين مما شدد الشارع المقدس في النهي عنه، قال الله عز وجل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(3)، وعن رسول الله (ص): (من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه إن الله تعالى يقول: {اجتنبوا كثيرا من الظن}(4)، وعنه (ص): (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الكذب)(5).

وليس النهي عن هذا الخلق المذموم إلا لما له من آثار سلبية خطيرة على المجتمع الإسلامي، تهدده بالتمزق والتشرذم مما يؤدي بدوره إلى ضعف المجتمع عن مواجهة الأخطار المحدقة به من الخارج، فإساءة الظن بالأخ المؤمن تبعث على عدم الثقة به وترك الاعتماد عليه والتواصل معه، ومما لا شك فيه أن تعدد هذه الحالة في ما بين خلايا المجتمع مرض يبعث على الشلل في أداء أجهزة المجتمع لوظائفها المنوطة بها، فتتوقف بالتالي حركة المجتمع نحو الكمال المنشود. 

وهنا نقاط يثيرها الموضوع:

1ـ سوء الظن منشأ لأمراض أخرى خطيرة:

القارئ للآية السابقة الذكر يلتفت إضافة للأمر باجتناب الظن إلى النهي عن التجسس والغيبة، وهذه الأمور تكررت في بعض الأحاديث كذلك(6)، وهي أمور واضح ضررها على المجتمع الإسلامي وعادة ما تلازم سوء الظن، فمن يسئ الظن بأخيه قد تراه يتتبع عثراته ويبثها من خلف ظهره كنتيجة طبيعية لما يحمله في نفسه على أخيه.

2. لا حقيقة وراء الظن:

في أغلب الأحيان وبعد مدة يتكشف للمرء أن ما كان يظن بأخيه ويتهمه به ليس بواقع وأنه كان محض توهم واشتباه، مما يؤدي إلى الافتراء والبهتان والعياذ بالله، ولعل هذا المعنى هو ما يقصده 

الرسول (ص) بقوله: أكذب الكذب. ومن غرر حكم أمير المؤمنين (ع): (من ساءت ظنونه اعتقد الخيانة بمن لا يخونه)(7).

3. موجبات سوء الظن:

ويوجب سوءَ الظن أمورٌ إذا وفق الإنسان لمراقبتها والحذر منها جنَّب نفسه هذه الآفة: ومنها:

1) إتباع هوى النفس وترك اليقين، قال أمير المؤمنين (ع): (إياك أن تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن، فإن ذلك من أعظم الشر)(8).

2) سماع الأقاويل والشائعات، فمن كلام لأمير المؤمنين (ع): (أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع وشهيد. أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع ـ فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ـ ثم قال: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت)(9).

3) سوء السريرة والطبع، فعن أمير المؤمنين (ع): (الرجل السوء لا يظن بأحد خيرا، لأنه لا يراه إلا بوصف نفسه)(10).

4) سوء الزمان، فعن الكاظم (ع): (إذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يعرف ذلك منه)(11). ولنا هنا وقفة يأتي الكلام عنها في النقطة الخامسة.

ومع ذلك فقد حذر الشارع الأقدس من أن يضع المرء نفسه في موارد التهمة، فعن أمير المؤمنين (ع): (مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار)(12). 

وقال(ع): (من دخل مداخل السوء اتهم)(13). 

وعنه (ع): (من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن)(14).

4. آثار سوء الظن:

مما لا شك فيه أن لسوء الظن الكثير من الآثار السلبية، ونحن هنا نشير إلى بعض الروايات المختصرة في المقام، فعن أمير

المؤمنين (ع): (آفة الدين سوء الظن)(15). وعنه (ع): (لا دين لمسيء الظن. لا إيمان مع سوء الظن. سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور. سوء الظن بمن لا يخون من اللؤم. سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم. إياك أن تسئ الظن، فإن سوء الظن يفسد العبادة. شر الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله. ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن. من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحا. من لم يحسن ظنه استوحش من كل أحد)(16).

وحسبك بفساد العبادة والدين أثرا لسوء الظن عن باقي ما ذكرته الروايات وكل أثر أعظم من سابقه.

5. سوء الزمان وسوء الظن:

يبرر الكثير سوء ظنه بإخوانه بأن هذا الزمان زمان سوء وفي مثله فسوء الظن له ما يبرره، ويستشهد لكلامه بما جاء عن أهل بيت العصمة والطهارة (ع)، كقول أمير المؤمنين (ع): (إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم. وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر)(17). وظاهر الحديث أن عدم سوء الظن في زمان مثل زماننا هذا ــ الذي يصفه الكثير بأنه زمان سوء ــ غرر حذر منه الإمام.

ولكن ربما يغيب عنا قول الإمام الهادي (ع): (إذا كان زمانٌ، العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءا حتى يعلم ذلك منه وإذا كان زمان، الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيرا ما لم يعلم ذلك منه)(18).

فالميزان هو العلم لا الظن، فما دمتَ في زمن سوء وتعلم من فلان الخير والصلاح فلا يحق لك أن تظن به السوء والعكس صحيح ففي زمان العدل والحق لا يحق لك أن تظن خيرا بمن علمت منه السوء، ومن المهم جدا أن ننتبه لمقدمات العلم بان لا يشوبها الظن والوهم، وإلا فالمشكلة ما زالت على حالها.

 

6. أفعال الغير قد تكون ظاهرة الفساد:

من المهم بمكان أن يشار إلى هذه الظاهرة، وهي أن البعض يتصور بمجرد رؤيته لتصرف معين من شخص ما أو سماعه لمقولة منه أنه توفر على العلم الكافي لوصمه بالخلل السلوكي أو النقص العلمي والمعرفي، ويغيب عنه أن هذا هو بعينه سوء الظن، فواضح جدا أن ما تنهى عنه الأحاديث هو هذا، فلذلك يقول أمير المؤمنين (ع): (المؤمن لا يغش أخاه ولا يخونه ولا يخذله ولا يتهمه، ولا يقول له: أنا منك برئ. أطلب لأخيك عذرا، فان لم تجد له عذرا فالتمس له عذرا)(19). وعنه (ع): (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا)(20) فلا مسوغ لطلب العذر إلا إذا كان الظاهر باطلا فمن ظاهره الصلاح خارج تخصصا ولا يحتاج لأن يعذر فلا يعذر إلا المخطئ، والحديث الثاني عندما يقول (وأنت تجد لها في الخير محملا) يشير إلى وجود محمل السوء وأنه أظهر وهو بالتالي أسهل وأيسر ويحتاج خلافه إلى الالتفات إليه.

7. مُسيء الظن غير ملام!!

يتعذر الكثير بأنه غير ملام على سوء ظنه وذلك لأن الآخرين قد وضعوا أنفسهم موضع التهمة وقد مر الحديث (من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن)، نقول لهم أن هذه الأحاديث تريد النهي عن تعريض النفس للتهمة، ولا تريد أن تبيح للناس سوء الظن ببعضهم، والفرق بين الأمرين واضح لا غبار عليه، وبالتالي فلا عذر لمسيء الظن.

8. حسنات لحسن الظن:

ولا شك أن لحسن الظن حسنات نذكر بعض ما ذكرته الروايات منها: 

عن أمير المؤمنين (ع): (حسن الظن من أحسن الشيم وأفضل القسم. حسن الظن من أفضل السجايا وأجزل العطايا. حسن الظن راحة القلب وسلامة الدين. حسن الظن يخفف الهم، وينجي من تقلد الإثم. من حسن ظنه بالناس حاز منهم المحبة. أفضل الورع حسن الظن)(21).

9. ختام:

من الواضح أن هذه العادة السيئة قد انتشرت في خفاء كالوباء في الجسد الإسلامي، ولا يُدَّعى أن التخلص منها أمر هين، ولكن ــ مع غض النظر عن نهي الشارع الأقدس عنها ــ فإن ترك هذه العادة يترتب عليه آثار إيجابية واسعة في رقي المجتمع وتطوره، فكيف وهذا الشارع المبارك ينهى عنها ويشدد في ذلك، فنسأل الله عز وجل بحق محمد وآله الكرام أن يعيننا على أنفسنا فنتخلص مما في كوامن أنفسنا من أمراض تعيق مسير التكامل فنلتحق بالركب المحمدي لنصل إلى الهدف النهائي الذي يريده لنا. والحمد لله رب العالمين.

***

 

الهوامش:

1 ــ الكافي، الكليني، كتاب الإيمان والكفر،  باب التهمة وسوء الظن 2: 361.

2 ــ المصدر السابق 2: 362.

3 ــ الحجرات: 12.

4 ــ ميزان الحكمة 2: 1786.

5 ــ ميزان الحكمة 2: 1785.

6 ــ ميزان الحكمة، ج2، باب الظن.

7 ــ ميزان الحكمة 2: 1787.

8 ــ ميزان الحكمة 2: 1785.

9 ــ نهج لبلاغة، ج2 ــ خطب الإمام علي (ع): 24.

10 ــ ميزان الحكمة 2: 1786.

11 ــ الكافي، الشيخ الكليني 5: 298.

12 ــ عيون أخبار الرضا 1: 58، الأمالي، الصدوق: 531.

13 ــ نهج البلاغة 4: 81.

14 ــ المصدر السابق 4: 41.

15 ــ ميزان الحكمة 1: 84.

16 ــ ميزان الحكمة 2: 1786.

17 ــ نهج البلاغة 4: 27.

18 ــ ميزان الحكمة 2: 1787، وأحاديث أخرى بنفس المعنى.

19 ــ الخصال، الصدوق: 622.

20 ــ الكافي، الكليني، كتاب الإيمان والكفر، باب التهمة وسوء الظن 2: 362.

21 ــ ميزان الحكمة 2: 1784ــ 1785.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا