بداية أود القول: ان المرأة شاركت في الحركة الحسينية، وأترك هذا الأمر إلی معلومات قارئي الكريم التاريخية، فهي شاركت سواءً في صنع الثورة كما شاركت في صيانة الثورة. إن المرأة المؤمنة والأخوات المجاهدات هن بنات لفاطمة الزهراء (عليها السلام) ولزينب الحوراء (عليها السلام) شريكة الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته العظيمة ضد الظلم والطغيان.
قال الله تعالی: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}. أي: أما المؤمنون والمؤمنات فبعضهم يتولی بعضًا في النصرة والموالاة وسائر مظاهر الحياة. وبتعبير آخر: إنهم يتفاعلون مع بعضهم في القيم السامية، فهم يتماسكون بآصرة الولاء الواحد، والثقافة المشتركة، حيث {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(1).
من هنا، فإن القرآن الكريم يُهيب بالمرأة المؤمنة أن تكون شريكة الرجل المؤمن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن مسؤولية المرأة المسلمة في تغيير الواقع السيء بإبطال الباطل وإحقاق الحق مسؤولية إسلامية خطيرة وتكليف شرعي مقدس.
ولا يخفی علی قارئي النبيه ما للأخوات المؤمنات من أدوار بالغة الأهمية والخطورة في مكافحة الظلم والظالمين، وهنا يمكن الإشارة لامرأة زهير بن القين(2) وهو رجل جليل الشأن، عظيم القدر، حينما امتنع من الاستجابة للحسين (عليه السلام) حينما دعاه، أقبلت إليه زوجته وقالت: "يا زهير إن ابن بنت رسول الله يدعوك ثمّ لا تأتيه؟! ما ضرك أن تذهب وتسمع ما يقول ثم ترجع"، هذه الكلمة كانت نقطة تحول عظيم عند زهير بن القين، فبدلاً من أن يكون من المتخلفين عن نصرة الحسين (عليه السلام) وإذا به يصبح من أنصار الحسين (عليه السلام) ومن الدرجة الأولی، وهذا تحول عظيم صنعته المرأة الحسينية.
نعم، ففي اللحظات التاريخية الحساسة وعندما طلب الإمام الحسين (عليه السلام) النصرة من أصحابه وأنصاره، قام زهير من بين الأصحاب وخاطب الحسين (عليه السلام) قائلا: "وَاللهِ لَودِدتُ أنّي قُتِلتُ حتِی يفعلَ بِي هَكذا أَلفَ مَرّةٍ وأنّ اللهَ تَعالی يَدفع بِذَلكَ القَتلَ عَنْ نَفسِكَ، وَعَنْ أنفُسِ هَؤلاء الفِتيانِ مِنْ أهلَ بَيتِكَ"(3).
عاش زهير في هذه الأيام القلائل انقلابًا روحيًا عميقًا إلی درجة أنه أضحی معتمد أصحاب الحسين وأنصاره، بحيث انتخبه الإمام (عليه السلام) في يوم عاشوراء ليكون قائدًا علی ميمنة جيشه، وهذا تحول عظيم.
المرأة شريك مهم للرجل في صيانة الثورة:
أنتم تعرفون أن أهل الشام استقبلوا السبايا بالطبول والدفوف، ولكن دور الإمام زين العابدين (عليه السلام) وزينب الكبری (عليها السلام) بعد خطبتيهما أحدث تغييرًا وانقلابًا في الشام، حيث خلق أجواءً مناهضةً للجهاز الأموي الحاكم، حتی اضطر يزيد بن معاوية ـ في ظل هذه الظروف ـ إلی أن يعقد مأتمًا حسينيًا تقام فيه مراسم العزاء في قصره لمدة أسبوع حتی اشتركت فيها نساء بني أمية وهذا من الغرائب في التاريخ، لكن هو حقيقة حيث إنه في قصر يزيد الذي لم يمض علی قتله للحسين إلا عشرون يومًا عقد مجلسًا حسينيًا لمدة سبعة أيام في داخل القصر، وبعد أن كان رأس الحسين (عليه السلام) معلَّقًا قبل أيام علی باب القصر الآن أصبح قصر يزيد بن معاوية موشّحًا بالسواد ويزيد يقول: "لعن الله ابن مرجانة فقد عجَّل بقتل الحسين (عليه السلام)(4).
هذا هو دور العقيلة زينب (عليها السلام) في صيانة الثورة حتی لا تصادر وتُشوَّه ولا يقال هؤلاء خوارج اُقتلوهم لأنهم خرجوا علی إمام زمانهم.
مأتم زوجة الإمام الحسين (عليه السلام):
جاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ زوجة الإمام الحسين (عليه السلام) وهي الرباب بنت أمرء القيس الكلبي أم سكينة (عليها السلام)(5) أقامت مراسم العزاء وشاركتها النسوة وخادماتهن، "لما قتل الحسين أقامت امرأته الكلبية عليه مأتمًا و..." (6).
المرأة شريك للرجل في إرتداء الزي الأسود:
إعتاد الناس علی ارتداء الثياب السوداء علی وفاة أحبتهم حيث عدوا هذا اللون علامة علی المآتم والعزاء، وعليه فأحد أساليب العزاء علی خامس آل العباء ارتداء السواد أيام محرم ذكری شهادة الحسين (عليه السلام)، فقد جاء في الخبر: «لَمّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ لَبِسَ نِساءُ بَنِي هاشِمَ السَّوادَ وَالْمُسُوحَ»(7).
كما تقدم في بعض الروايات أن يزيد أذن لآل هاشم بإقامة العزاء في دمشق إثر خطبتي الإمام السجاد والعقيلة زينب (عليهما السلام): «فَلَمْ تَبْقَ هاشِمَيَّةٌ وَلا قُرَشِيَّةٌ إِلاَّ وَلَبِسَتِ السَّوادَ عَلَى الحُسَيْنِ (عليه السلام) وَنَدبُوهُ عَلى ما نُقِلَ سَبْعَة أَيّام»(8).
والجدير ذكره أنّ الفقهاء مع أنهم أفتوا بناءً علی بعض الروايات بكراهة لبس السواد خاصة في الصلاة، غير أنّ هذه الكراهة ترتفع في لبس السواد علی الإمام الحسين (عليه السلام)، ولعل لبس السواد حزنا على الحسين (عليه السلام) -كما عند أستاذنا الفقيه آيه الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظله- راجح حيث يغلب عليه جانب تعظيم الشعائر، عندما استفتيته في هذه المسألة.
المرأة وسقطات يزيد:
"لما سمعت زوجة يزيد بن معاوية، وهي هند بنت عبد الله بن عامر أنّ رأس الحسين (عليه السلام) معلّق علی باب دارها شقت الستر ودخلت مجلس يزيد وهي حاسرة وقالت: أرأس ابن فاطمة بنت رسولالله مصلوب علی فناء داري؟ فغطاها يزيد وقال: نعم، فاعولي يا هند وابكي علی ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، فقد عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله"(9).
ومن أجل التخفيف من وطأة الرأي العام، كان يزيد لا يتغذي ولا يتعشی حتی يحضر معه علي بن الحسين (عليه السلام)(10) وأذن لزينب ونساء بني هاشم بإقامة العزاء علی الحسين (عليه السلام)، فأقامت زينب الكبري (عليها السلام) مأتماً لأخيها الحسين (عليه السلام) وأهل بيته لمدة سبعة أيام، وحضر في ذلك المأتم نسوة الشام حتی بلغ الأمر بأن أوشك الناس علی الهجوم علی قصر يزيد وقتله، فأمر يزيد بتعطيل مجلس العزاء(11) وقد سعی بإلقاء اللائمة علی عبيد الله بن زياد واتهمه بأنه المحور الأصلي لهذه الفاجعة الكبری.
يقول السيوطي وهو العالم السني المعروف: "فَسُرَّ -يزيد- بِقَتْلِهِمْ أوَّلاً، ثُمَّ نَدِمَ لَمّا مَقَتَهُ المُسْلِمُونَ عَلی ذلك، وَأبْغَضَهُ النّاسُ وَحَقٌّ لَهُم أنْ يُبْغِضُوُه"(12).
وينقل الطبري: أنّ يزيد لعن ابن مرجانة، وقال: "فَبَغَّضَنِي الْبَرُّ وَالْفاجِرُ بِمَا اسْتَعْظَمَ النَّاسُ مِنْ قَتلي حُسَيْنًا"(13).
ومن المعلوم أنّ هذا التراجع المصلحي ليزيد وتغيير موقفه السياسي، كان نتيجة الخطبتين للحوراء زينب (عليها السلام) والإمام زينالعابدين (عليه السلام) في الشام ويقظة أهالي الشام، وإلا فإنّ يزيد مع سابقته السيئة وكلماته وأشعاره الذي يظهر فيها الفرح والشماتة لم يكن نادمًا علی هذا العمل، ولذلك لم يعاقب عبيد الله بن زياد والمتورّطين في الفاجعة الألمية بل أبقاهم في مناصبهم(14).
زينبنا (عليها السلام) وحرق الخيام بعد شهادة الامام الحسين (عليه السلام)
ومن الحوادث المفعجة التي وقعت في غروب عاشوراء حرق الخيام، وهذه الحادثة المؤلمة وقعت عندما كانت أجساد الشهداء للإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه متناثرةً في الصحراء، وقبل ذلك أغار الجيش علی الخيام وسلب ما فيها من ثياب وزينة للنساء من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد شهدت الشمس في ذلك اليوم حوادث عجيبة فأسرعت إلی المغيب وأسدل الليل بظلاله علی تلك المنطقة، وبقي آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الحالة المؤلمة وهجم الأعداء علی المخيم لغرض حرق الخيام في حين وقف أحد أفراد جيش ابن سعد يقول: "أَحْرِقُوا بُيُوتَ الظالِمينَ".
وأسرعت النار في الخيام وسرعان ما تحولت الخيام إلی حطام ورماد وخرجت بنات رسولالله (صلّى الله عليه وآله) من الخيام هربًا من النيران ولاذ بعض صغار الأيتام بعمّتهم الحوراء زينب (عليها السلام) والبعض الآخر فروا إلی الصحراء واختفوا عن الأنظار.
إنّ استعراض هذه الذكری المؤلمة كانت تثير الحزن والغم عند آل البيت (عليهم السلام) وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما يتذكر حوادث عاشوراء يبكي ويقول: «وَاللهِ ما نَظَرْتُ إلى عَمّاتِي وأخَوَاتي إلا وَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ وَتَذَكَّرْت فِرارَهُنَّ مِنْ خَيْمَةٍ إلى خَيْمَةٍ، وَالمُنادي يُنادي: احْرِقُوا بُيوتَ الظّالِمِينَ»(15). وكذلك سائر الائمة المعصومين (عليهم السلام) كانوا عندما يتذكرون حادثة إحراق خيام الإمام الحسين (عليه السلام) فإنهم يشعرون بالحزن والألم.
ونقرأ في رواية أنّ المنصور الدوانيقي عندما أمر بإحراق بيت الإمام الصادق (عليه السلام) جاء بعض الشيعة إلی الإمام فرآه باكيًا حزينًا فسألوه عن ذلك فقال: «لَمّا أَخَذَتِ النّارُ ما في الدِّهْليزِ نَظَرْتُ إلَى نِسائِي وبَنَاتي يَتَراكَضْنَ في صَحْنِ الدارِ فَتَذَكَّرتُ فِرارَ عِيالِ جَدِّيَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يَوْمَ عاشُوراء مِنْ خَيْمَةٍ إلى خَيْمَةٍ وَمِنْ خِباءٍ إلى خِباءٍ»(16).
إنّ حرق خيام النساء والأطفال الصغار يحكي عن أنّ غرض العدو القضاء علی ذرية رسولالله (صلّى الله عليه وآله) وطمس معالم الرسالة، وهذه الحوادث تشير إلی قساوة قلوب هؤلاء الأعداء وشدة مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، والحمدلله علی أنّ هذه الأعمال الوحشية والسلوكيات المجرمة قد كشفت القناع عن نياتهم المشؤومة وفضحتهم أمام الملأ والتاريخ.
زينبنا (عليها السلام) والأسر، مع النساء من بني هاشم ومن غير بني هاشم
بعد أن انتهى عمر بن سعد من دفن أجساد قتلی جيشه، أمر عند الظهر من يوم الحادي عشر الجيش بالحركة إلی الكوفة، فحملوا نساء وبنات رسولالله (صلّى الله عليه وآله) والحرم الحسيني علی الإبل بدون أقتاب وأخذوهم إلی الكوفة يقادون كأسری الكفار.
يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد: وأسر اثنا عشر غلامًا من بني هاشم، وفيهم محمد بن الحسين، وعلي بن الحسين(17).
ومن جملة النساء اللواتي أُخذن أسری في كربلا من بنيهاشم:
1 ـ زينب الكبری (عليها السلام) بنت أميرالمؤمنين (عليه السلام).
2 ـ أُم كلثوم أو زينب الصغری بنت أميرالمؤمنين (عليه السلام).
3 ـ فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)(18).
4 ـ سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)(19).
6 ـ رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام) التي تبلغ من العمر أربع سنوات(20).
7 ـ الرباب بنت امرئ القيس زوجة الإمام الحسين (عليه السلام)(21).
8 ـ رملة أُم القاسم وزوجة الإمام الحسن المجتبی (عليه السلام)(22).
9 ـ رقية زوجة مسلم بن عقيل(23).
10 ـ شهر بانو أُم الطفل الرضيع الذي رماه هاني بن ثبيت بسهم فقتله، وهي غير شهر بانو أُم السجاد (عليه السلام)(24).
11 ـ ليلی بنت مسعود بن خالد التميمي، أُم عبدالله الأصغر، وهي من زوجات أميرالمؤمنين، وهي غير ليلی أُم علي الأكبر(25).
12 ـ فاطمة بنت الامام الحسن المجتبی (عليه السلام) وأُم محمد الباقر (عليه السلام) جاءت مع زوجها زينالعابدين (عليه السلام)(26).
هذه بعض سبايا وأسری من بني هاشم.
وأما السبايا من النساء من غير بني هاشم:
1 ـ حسنية خادمة زين العابدين (عليه السلام) جاءت مع ابنها منجح الی كربلاء الذي نال شرف الشهادة في كربلاء(27).
2 ـ زوجة عبدالله بن عمير الكلبي التي جاءت مع زوجها إلی كربلاء وكانت تحثُّ زوجها علی القتال بين يدي أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)(28).
3 ـ فكيهة أُم قارب بن عبدالله بن اريقط، حيث جاء قارب مع أُمّه فكيهة ـ خادمة رباب زوجة الامام الحسين (عليه السلام) ـ من مكة إلی كربلاء واستشهد في الحملة الأُولی(29).
4 ـ بحريّة بنت مسعود الخزرجي والتي جاءت مع زوجها جنادة بن كعب وابنها عمرو بن جنادة إلی كربلاء، وقد استشهد زوجها وابنها في المعركة(30).
5 ـ جارية مسلم بن عوسجة الأسدي والتي صرخت بعد شهادة مسلم بن عوسجة:"يابن عوسجتاه، يا سيداه"(31).
وذكر البعض أنها أُم خلف زوجة مسلم بن عوسجة(32).
6 ـ فضّة خادمةالزهراء (عليها السلام) حيث ذكر البعض حضورها في كربلاء(33).
إنّ الأسر في تاريخ الإسلام لم يقع بين المسلمين، والأسری الذين كانوا يتواجدون في المجتمع الإسلامي هم من نتاج الحروب بين المسلمين وغيرالمسلمين، وهذا العمل الذي قام به بنو أُمية يعتبر أكبر إهانة توجه للمقام الشامخ لذرية رسولالله (صلّى الله عليه وآله) ولهذا عندما كانوا يمرّون بالأسری من ذرية الرسول في المدن المختلفة، فإن أهالي تلك المدن كانوا يتصورون أن هؤلاء الأسری من الكفار، ولكن عندما علموا بحقيقة هؤلاء الأسری وأنهم من نساء الحسين (عليه السلام) وبناته وأهل بيته وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب، وكنّ عشرين امرأة، وسيّرهن سبايا علی أقتاب الجمال بغير رحل ولا وطاء، ومعهنّ الامام زين العابدين (عليه السلام) وعمره ـ يومئذٍ ـ ثلاث وعشرون سنة، وهو علی بعير ظالع بغير وطاء، وقد أنهكته العلة وأنضاه المرض ومعه ولده الامام الباقر (عليه السلام) وله من العمر سنتان وأشهر.
هؤلاء هم الأسری من عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الأطهار الذين لم يحفظ عمر بن سعد وجيشه حرمة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في حقهم، وأخذهم مع جيشه يقادون كأسری الحرب وهم موثوقين بالحبال يقودهم الأجانب إلی الكوفة.
أدّت هذه المأساة بأهالي المدن التي يمر بها الأسری إلى أن يرتفع صراخهم واعتراضهم ويتساءلون: هل يعقل أن تؤخذ نساء وبنات الرسالة أسری يطاف بهنّ من بلد إلی بلد وبهذه الحالة التي يرثی لها، وبعد ما عايشوا المصائب المتتالية.
زينبنا (عليها السلام) والأسری ووداعهم لأجساد الشهداء المقطعة
إنّ من أشد لحظات تاريخ كربلاء صعوبة ومأساوية بحيث ثقلت علی جميع السماوات والأرض تتمثل في حالات وداع الأسری أجساد الشهداء المتناثرة هنا وهناك الملقاة علی رمضاء كربلاء، فقد مرّ الأعداد بالأسری من ذرية الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) علی أجساد الشهداء المقطعة والغارقة في الدماء، وهنا تتلخص مظلومية أبطال هذه الواقعة وتتجلی عزّتهم.
وقد ورد في الروايات أنّ الأسری هم الذين طلبوا من الأعداء أن يمرّوا بهم علی أجساد أعزائهم الشهداء ليودعوهم الوداع الأخير.
حيث قالت النسوة للموكلين بهم: بالله عليكم إلا ما مررتُم بنا علی مصرع الحسين والقتلی من أهل بيته وأصحابه؟ فمرّوا بهنّ علی مصارع القتلی.
فلما نظرن إليهم مقطّعي الأوصال، قد طعمتهم سمرُ الرماح، ونهلت من دمائهم بيضُ الصفاح وطحنتهم الخيلُ بسنابكها صحن وولولن ولطمن الخدود(34).
وغني عن البيان أن ترك أرض كربلاء في تلك الحالة المؤلمة والموحشة كانت صعبة جدًا علی هذه القلوب المحترقة للنساء والأطفال، وخاصة أنّ الأعداء دفنوا أجساد موتاهم وتركوا أجساد الشهداء من ذرية الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأصحاب الحسين (عليه السلام) ولا سيما الجسد الطاهر لسيد شباب أهل الجنّة بدون غسل ولا كفن في صحراء كربلاء، الأعداء الحاقدون لم يقدموا علی دفنهم ولا سمحوا لأحد أن يدفنهم. إن مشاهدة هذه الأجساد المقطعة والتي وطأتها أقدام الخيول بحيث لا يمكن تشخيصها، من شأنها أن تثير في قلب كل ناظر عاصفة من التحرق والألم، ولكن السكينة التي تمتعت بها الحوراء زينب بنت علي (عليهما السلام) أعادت إلی الأذهان صبر واستقامة الإمام علي (عليه السلام) وصلابته في مواجهة التحديات الصعبة التي يفرضها الواقع المتأزم، وقد برز صبر الحوراء زينب (عليها السلام) وعظمتها في كلماتها المعبّرة حيث كسرت ذلك الفضاء الثقيل الذي كان يخيّم علی قلوب آل الرسول (صلّى الله عليه وآله).
فلما كانت الحوراء زينب (عليها السلام) تدرك أنّ العدو يراقب حركات الأسری وهو مستعد لإظهار الشماتة لدی رؤية أدنی ضعف واهتزار وندم في سلوكيات أهل بيت النبوة، فإنها عندما نظرت إلی جسد أخيها الحسين (عليه السلام) المضرّج بالدماء وقفت عنده بخشوع وتأمل، وأخذت تُزيح عنه قطع السيوف وحُطام الرماح وفُلول السهام، رفعت يديها بعد ان بسطتها تحت الجثمان ورفعته إلی السماء وقالت: «أَللّهُمَّ تَقَبَّلْ هذا الْقُرْبانَ»(35).
وهذه العبارة وقعت كالصاعقة علی رؤوس الأعداء وفضحتهم وأبانت وجههم القبيح.
يقول الراوي: لا أنسی أبدًا كلمات بنت فاطمة الزهراء (عليها السلام) فأبكَتْ واللهِ كلّ عدوٍ وصديق(36).
قالت الحوراء زينب (عليها السلام) بقلب مجروح وصوت حزين:
«وامُحَمَّداه صَلّى عَلَيْكَ مَليكُ السَّماء، هذا حُسَينٌ مُرَمَّلٌ بِالدِّماءِ، مُقَطَّعُ الأَعضاءِ، يا مُحَمَّداه بَناتُكَ سَبايا وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَة، تَسْفي عَلَيْها ريحُ الصَّبا، هذا حُسَيْنٌ بِالْعَراءِ، مَحْزُوزُ الرَّأسِ مِنَ الْقَفا، مَسْلُوبُ الْعِمامَةِ وَالرِّداءِ»(37). فأبكت بذلك كلّ عدوٍ وصديق(38).
لقد كان الجميع يعيش حالة الاضطراب والتوتر، وعلی حد تعبير دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت (عليهم السلام):
كَيْفَ الْقَرارُ؟ وَفي السَّبايا زَيْنَبٌ لنا
تَدْعُو بفَرْطِ حَرارةٍ يا أحْمَدُ
هذا حُسَيْنٌ بالسُّيُوفِ مُبَضَّعٌ
لنا
مُتَخَضِّبٌ بِدِمائِهِ مُسْتَشْهدُ
واستمرت الحوراء زينب (عليها السلام) في نطقها في تلك الحالة العجيبة وقالت:
«بِأَبِي مَنْ أَضْحى عَسْكَرُهُ في يَوْمِ الإثْنَيْنِ نَهْبًا،(39) بِأَبي مَنْ فُسْطاطُهُ مُقَطَّعُ الْعُری، بِأَبِي مَنْ لا هُوَ غائِبٌ فَيُرْتَجى وَلا جَريحٌ فَيُداوی، بِأَبِي مَنْ نَفْسي لَهُ الْفِداءُ، بِأبِي الْمُهْمُومَ حَتّى قَضى، بِأبي الْعَطْشانَ حَتى مَضى، بِأَبِي مَنْ شَيْبَتُهُ تَقْطُرُ بِالدِّماءِ»(40).
وكادت القلوب أن تنخلع من الصدور والدموع المنهمرة لم تدع لأحد مجالاً للاستقرار، وخاصة عندما سمعوا زينب تخاطب جدها رسولالله (صلّى الله عليه وآله) وتقول: «يا حُزْناهُ، يا كَرْباهُ، الْيَوْمَ ماتَ جَدِّي رَسُولُ اللهِ يا أَصْحابَ مُحَمَّْداه، هؤُلاءِ ذُرِّيَّةُ الْمُصْطَفى، يُساقُونَ سَوْقَ السَّبايا»(41).
سكينة تلقي بنفسها علی جسد الحسين (عليه السلام):
وهنا تقدمت سكينة إلی جسد أبيها الطاهر، وألْقَتْ بنفسها عليه واعتنقته وهي تندبه وتبكيه وتودعه، ولم يستطع أحد أن يرفعها أو أن يفصلها عنه، حتی اجتمع عليها عدةٌ من الأعراب كما تقول الرواية فجرّوها عن الجسد الشريف: «ثُمَّ إِنَّ سُكَيْنَةَ اعْتَنَقَتْ جَسَدَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) فَاجْتَمَعَ عِدَّةٌ مِنَ الأَعْرابِ حَتّی جَرُّوها عَنْهُ»(42).
طبعًا كما يعلم قارئي الكريم أن المراد من «الأَعْرابِ»هم أهل البادية الذين يعتبرون نوعًا خاصًا من المنافقين وهم الذين ينافقون بسبب جهلهم وعدم رسوخ أو دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لتراكم الرواسب الجاهلية علی قلوبهم، لهذا عبّر الله تعالی عنهم بأنهم: {أَشَدُّ كُفْرًا ونفَاقًا}(43) فبيّن فيهم صفتين: الشدة في الكفر والنفاق، وربما لأن طبيعة البادية شديدة، لهذا يعتبر ساكنوها أشد كفرًا ونفاقًا من أهل المدن لغلظ طباعهم وبعدهم عن سماع القرآن ومخالطة العلماء، فهم ـ وذلك لطبيعة وجودهم في الصحراء ـ بعيدون عن مراكز العلم، وعن فهم حقائق الدين، والالتزام بشرائعه، فهم أولی وأجدر وأحری بالجهل بالأحكام الشرعية وبما يتعلّق بها ممّا أنزل الله علی رسوله من المعارف الأصلية من فرائض وسنن وحلال وحرام التي يسمّيها القرآن الكريم بالحدود في أكثر من مناسبة.
وهنا أود إلفات نظر قارئي الكريم إلی هذه الملاحظة: أنه بالرغم من نظرة الإسلام السلبية الی البقاء في البادية فإنه لا يحكم علی أهلها جميعًا حكمًا مطلقًا بل حسب إيمانهم وعملهم، لهذا فهناك طائفة من الأعراب تؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا حقيقيًا، أي: من غير شرك، بل تؤمن بالله وتوحده، وتؤمن باليوم الآخر وتصدّق بالحساب والجزاء، لهذا قال الله تعالی: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ}(44).
واحد (الأَعرْاب)أعرابي، وهذا غير العربي الذي معناه: المنتسب إلی بلاد العرب.
اتضح لنا مما سبق أن الذين سحبوا سكينة عن جسد أبيها الطاهر بقوة وبلا رحمة يعتبرون من العناصر الضعيفة والمنهزمة، حيث كشفتهم هذه الأفعال المشينة تجاه ذرية النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ويوجد امتداد لهذه العناصر ـ المقترفة للأخطاء ـ في عصرنا الحاضر، ولا شك أن الله تعالی أعلم بعواقب الأمور، وواقع هؤلاء الناكثين(45)، وأنهم سوف يظهرون للنبي (صلّى الله عليه وآله) من الأعذار والتبريرات غير الذي يضمرون، ولكن الله تعالی أكَّدَّ لنبيه (صلّى الله عليه وآله) أنه سيكون بالمرصاد لكلّ من تسوّل له نفسه الخيانة. {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: قوّته وقدرته أعلی من كلّ أحد. {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَی نَفْسِه}(46) (نَّكَثَ) أي: نقض العهد، والبيعة. فمن نقض العهد فإنه سوف يضع نفسه في موضع المحارب لله ذي القوّة والطول، وسيكون موردًا لعودة الضرر ـ ضرر نقض العهد ـ عليه، فلن تقتصر خسارته علی الآخرة وحسب، بل سوف يخسر في الدارين.
وهل ما فعلته تلك الشرذمة الأعرابية بفتاة الحسين الشهيد (عليه السلام) يعتبر عذرًا مقبولاً في مثل تلك الفترة الحاسمة وامتداداتها من حياة الأمة الاسلامية؟ إنّ هؤلاء يقترفون الأخطاء، ثم يحاولون خداع القيادة واسترضاءها بمجموعة من الأعذار الواهية لتستر خلفياتهم، وهم بذلك يرتكبون خطّأً آخر بالإضافة إلی نكثهم وهو نفاقهم عبر تبريراتهم الكاذبة، ولكن الله يفضحهم، ويبين لرسوله واقعهم، وأنهم ليسوا صادقين في توبتهم، بل ولا في أعذارهم.
وعوداً إلى قصة سكينة حين اعتناقها لجسد أبيها، وهي تودعه وتبكيه، إنها قالت: بينما كنت في تلك الحال سمعت صوت أبي يقول:
شيعَتي ماإنْشَرِبْتُمْ عَذْبَ ماءِ فَاذْكُرُوني أَوْ سَمِعْتُمْ بِغَرِيبٍ أَوْ شَهيدٍ فَانْدُبُوني
زينبنا (عليها السلام) والإمام زين العابدين (عليه السلام)
لما نظر الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلی أبيه مقطعًا علی رمضاء كربلاء ومن حوله القتلی من آل بيته، مجزّرين علی وجه الأرض، مرملين بدمائهم.
قالوا: فعظم عليه ذلك المنظر المؤلم، واشتد قلقه، وعظم عليه الحزن والمصاب، وقد تغير لونه وهو يجود بنفسه تكاد روحه أن تخرج من بدنه، فهنا التفتت إليه الحوراء زينب (عليها السلام) الصابرة وتقدمت إليه وقالت: «مالي أَراكَ تَجُودُ بِنَفسِكَ يا بَقِيَّةَ جَدِّي وَأَبي وَإخْوَتي»؟ فأجابها الإمام زين العابدين (عليه السلام): «لمّا اصابنا بالطف ما أصابنا، وقُتل أبي الحسين، وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحُملت حرمُه ونساؤه على الأقتاب، يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يُواروا، فعظم ذلك في نفسي، واشتدّ لما أری منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج. وَكَيفَ لا أجزَعُ وأهلَعُ وَقد أری سَيِّدي وإخوَتي وعُمومَتي وَوُلدُ عَمِّي وأهلِي مُضَرَّجِينَ بِدِمَائِهِم، مُرَمِّلِينَ بِالعَراءِ مُسَلّبِينَ لا يُكَفّنون ولا يُوارَوْنَ، ولا يَعُرجُ عَليهم أحَدٌ ولا يَقرَبُهُم بَشَرٌ كأنّهم أهلُ بَيتٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالخَزَر».
فأجابت الحوراء زينب (عليها السلام) بجواب عجيب: «لا يُجْزِعَنَّكَ مَا تَری فَواللهِ إنَّ ذَلِكَ لَعَهْدٌ مِن رَسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى جَدِّك وأبيكَ وَعَمِّكَ وَلقد أخذَ اللهُ ميثاقَ أُناسٍ مِن هذه الأُمَّةِ لا تَعْرِفُهُمْ فَراعُنةُ هذِه الأرْضِ، وهُم مَعروفُونَ في أهْلِ السَّماواتِ، إنَّهُمْ يَجمَعون هذِه الأعضاءِ الْمُتَفَرِّقَة فَيوارونها، وهذِهِ الجُسومَ المُضَرَّجَةَ وَيَنْصِبُونَ بِهذا الطَّفِّ عَلَمًا لِقَبْرِ أبيكَ سَيِّدِ الشُّهداءِ لا يُدْرَسُ أثَرُهُ ولا يُعْفى رَسْمُهُ على مُرورِ الليالي والأيّامِ وليَجْتَهِدَنَّ أئِمَّةُ الكُفرِ وأشْياعُهُمْ الضّلالةِ في مَحْوِه وتَطْميسِهِ فَلا يَزدادُ أثَرُهُ إلا ظَهورًا وأمْرُهُ إلا عُلُوًّا»(47).
نعم هكذا نری أنّ زينب بنت أميرالمؤمنين (عليه السلام) بهذه الصلابة والشجاعة أخذت تسلّي ابنَ أخيها وتزيل غبار الهمّ والحزن عن قلبه بإخبارها عن مستقبل كربلاء وعاشوراء وهو ما نراه اليوم متجسدًا أمام أنظار العالمين بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، أجل، إنّ قلب الحوراء زينب (عليها السلام) المفعم بالعواطف، والزاخر بالإيمان كان يعلم منذ بداية هذه النهضة بمستقبلها المشرق بالرغم من أن الأعداء من بني أُمية والمنافقين كانوا يحسبون أنّ هذه الواقعة هي نهاية حركة الرسالة والدعوة الإلهية.
ولكن هيهات فإن الشهور والسنين تمضی علی هذه الحادثة المفجعة والدامية، الحادثة التي تبلورت فيها من جهة جميع القيم الأخلاقية والمُثل الإنسانية، ومن جهة أخری تجسدت فيها جميع معالم الوحشية والبربرية في الطرف المقابل، ولكن علی العكس ممّا تصوّره الأعداء، فكلما مرّ الزمان علی هذه الواقعة الأليمة تبيّنت آثار هزيمة الطرف المنتصر عسكريًا وتجلت ملامح الانتصار الحقيقي للحسين وأصحابه المخلصين.
وهذه الحادثة، وخلافًا للحوادث الطبيعية الواقعة في التاريخ البشري التي يصير فيها الجديد قديمًا ويطوی سجلّ الحوادث القديمة في زاوية النسيان، فإن هذه الحادثة تزداد إشراقًا في كل يوم وتتجدد علی مرّ الزمان والدهور، إلی أن أضحت نموذجًا يقتدی به ونبراسًا خالدًا يعكس معالم العزة والشرف لحياة الأُمة، ويفرض علی الوعي العام حقيقة أنّ الموت مع العزة أشرف وأفضل من الحياة مع الذلة، وهكذا كسبت هذه القضية صبغة الخلود طيلة المسار التاريخي للبشرية.
وكيف لا تكون كذلك؟ مع أنّ حياة وشهادة هؤلاء العظماء اقترنت مع المفاهيم الإنسانية الخالدة، أي مفاهيم العزة، والكرامة، والعدالة، والتصدي للظالمين، والاستقامة في طريق التضحية من أجل الأهداف المقدسة والسير في خط الرسالة والإيمان والانفتاح علی الله.
إنّ آلاف الكتب والمقالات والقصائد الشعرية التي أُلّفت وأُنشِدت علی امتداد تاريخ الإسلام تعكس هذه الحقيقة الحاسمة، وهي أنّ واقعة كربلاء تجسّد في طياتها معالم الإيثار والإنسانية لجميع الأجيال البشرية.
وفي عالمنا المعاصر الذي تهيمن عليه قوی الظلم والاستكبار والانحراف التي تسير في خط يزيد وحكومته وترتكب من الجرائم بحق البشرية أكبر بكثير مما ترتكبه قوی الظلام في الماضي، فإنّ طريق النجاة من سيطرة هذه القوی الجائرة والاستكبارية هو طريق الإمام الحسين وأنصاره، فصلوات الله وبركاته في كلّ صباح ومساء علی روّاد تلك النهضة الإلهية(48).
زينبنا (عليها السلام) وخطبتها الملتهبة في الكوفة:
يقول حُذَيْم بن شريك الأسَدي(49): نظرت إلی زينب بنت علي (عليه السلام) يومئذ ولم أر والله أنطق منها كأنّما تنطق عن لسان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد أشارت إلی الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكتت الأصوات، ثم قالت فيما قالت: «أَتَدْرُونَ وَيْلَكُمْ أيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله) فَرَثْتُمْ؟ وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ؟ وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ؟ وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ؟ وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا....... ألا بِئسَ ما قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسكُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْكُمْ وفي الْعَذابِ أَنْتُمْ خالِدُونً.. فَتَعْسًا تَعْسًا، وَنُكْسًا نُكْسًا، لَقَدْ خابَ السَّعْيُ، وَتَبَّتِ الأَيدِي، وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ، وبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِنَ الله، وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ». ثم قرأت زينب الكبری (عليها السلام) هذه الأشعار:
ماذا تَقُولُونَ إِذَا قالَ النَّبيُّ لَكُمْ
ماذا صَنَعْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ
بِأَهْل ِبَيْتي وَأَوْلادي بَعْد مُفْتَقَدِي
مُنْهُم أُساری وَمِنْهُمْ ضُرِّجُوا بُدَمِ
ما كان ذاكَ جَزائي إِذ نَصَحْتُ لَكُمْ
أَنْ تُخْلِفُوني بِسُوءِ في ذَوي رَحِمِي
وبعد هذه الخطبة أعرضت زينب الكبری (عليها السلام) بوجهها عن القوم.
قال الراوي: فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حياري يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخًا من قدماء أهل الكوفة واقفاً إلی جنبي يبكی حتی اخضلّت لحيته بدموعه وهو يقول صدقت المرأة: "بِأبي وَأُمّي كُهُولُكُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ، وَنِساؤُكُمْ خَيْرُ النِّساءِ، وَشَبابُكُم خَيْرُ الشَّبابِ، وَنَسْلُكُمْ نَسْلٌ كَريمٌ، وَفَضْلُكُمْ فَضْلٌ عَظمٌ".
ثم أنشد يقول:
كُهُولُكُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ وَنَسْلُكُم
إِذا عُدَّ نَسْلٌ لا يَبُورُ وَلا يَخْزَی
والتفت الإمام زينالعابدين (عليه السلام) إلی عمته زينب الكبري (عليها السلام): «يا عَمّة اُسكُتي فَفي الباقي مِنَ الماضِي اعتبار، وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللهِ عالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٍ».
ولما سمعت زينب الكبری (عليها السلام) كلام الإمام زينالعابدين (عليه السلام) هدأت وسكتت(50).
وهذه الخطبة المثيرة الغرّاء لزينب الكبری (عليها السلام) تعتبر من المسائل المحيّرة في قصّة كربلاء، لإنها من امرأة فقدت الكثير من الضحايا وهي الآن تساق أسيرة إلی الشام، والمفروض أنها بهذا الحال من الضعف والمصيبة لا تقدر علی الكلام العادي لشدة ما بها من ألم المصاب، ولكننا نری أنها تحدثت للناس كالأسد المقدام وكالعاصفة المدوية وأخذت تلوم القوم الذين خانوا أخاها الحسين (عليه السلام) واستطاعت تسخير قلوبهم وعواطفهم وغرست بذرة الثورة ضد حكومة بني أمية الجائرة، فالعجب كلّ العجب من هذه الشهامة الفائقة والروحية العالية ونعلم أنها بنت علي أسد الله (عليه السلام) وبنت فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين.
وإحدی الحماقات العجيبة لبني أُمية أنهم بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه أخذوا أهل بيته وحرمه أسری مع رؤوس الشهداء وطافوا بهم في المدن وفي الشوارع والأزقة ليوصلوا بذلك رسالة عاشوراء العظيمة معهم إلی كافة المناطق حتی أوصلوها إلی قلب عاصمة العدو، واستطاعت قافلة الأسری استنهاض الهمم وإيقاظ الضمائر النائمة ونشر رسالة كربلاء في كلّ مكان، وبذلك أشرقت أكبر حماسة في التاريخ علی ربوع المجتمعات البشرية.
فاطمة الصغری (عليها السلام) وخطبتها المدوية:
ينقل أحد أبناء الإمام موسی بن جعفر الكاظم (عليه السلام) أنه سمع من أبيه يروي عن آبائه الكرام أنّ فاطمة الصغری(51) بعد خروجها من كربلاء أوردت خطبة أمام الناس في الكوفة، أذكر مقطوفات صغيرة منها:
«وَأَنَّ أَوْلادَهُ ـ أي: وَأَن أولاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد ـ ذُبِحُوا بِشَطِّ الْفُراتِ مِنْ غَيْرٍ ذَحْلٍ وَلا تِرابٍ»(52).
«أَللّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَريَ عَلَيْكَ الْكَذِبَ، وأَنْ أَقُولَ خِلافَ ما أَنْزَلْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْعُهُودِ لِوَصِيِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ (عليه السلام) الْمَسْلُوبِ حَقُّهُ، المَقْتُولِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ ـ كما قُتِلَ وَلَدُهُ بِالأَمس ـ (53)في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله».
ثم خاطبت أهل الكوفة قائلة بكل شجاعة:
«وَيْلَكُمْ! أتَدْرُونَ أَيَّةَ يَدٍ طاعَنَتْنا مِنْكُمْ، أَوْ أَيَّةَ نَفْسٍ نَزَعَتْ إلى قِتالِنا، أَمْ بأَيَّةِ رِجْلٍ مشيْتُمْ إِلَيْنا؟ تَبْغُونَ مُحارَبَتَنا؟ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، وغَلُظَتْ أَكْبادُكُمْ، وَطُبِعَ عَلى أَفئِدَتِكُمْ، وَخُتِمَ عَلی سَمْعِكُمْ وَبَصَرِكُمْ، وَسَوَّلَ لَكُمُ الشَّيطانُ، وأَمْلى لَكُمْ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِكُمْ غِشاوَةً فَأَنْتُمْ لا تَهْتَدُونَ... تَبًّا لَكُمْ يا أهْلَ الكُوفَةِ، كَمْ تِراتٍ لِرَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلَكُمْ، وَذُحُولِهِ لَدَيْكُمْ، ثُمَّ غَدَرْتُمْ بِأخِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ (عليه السلام) جَدِّي، وَبَنِيهِ عِتْرَةِ النَّبِيِّ الطّيِّبينَ الأخْيارِ، وَافْتَخَرَ بِذلِكَ مُفْتَخِرٌ فَقالَ:
نَحْنُ قَتَلْنا عَلِيًّا وَبَني عَلِيٍّ
بِسُيُوفٍ هِنْدِّيَةٍ وَرِماحِ
وَسَبَيْنا نِساءَهُمْ سَبْيَ تُرْكٍ
وَنَطَحْناهُمُ فَأَيُّ نِطاحِ
فقالت (عليها السلام): بِفيكَ أَيُهَا القائِلُ الكَثْكَثُ، وَفَمُكَ الأَثْلَبُ، افْتَخَرْتَ بِقَتْلِ قَوْمٍ زكَّاهُمُ الله وَطَهَّرَهُمْ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، فَاكْظِمْ وَاقْعِ كما أقْعى أَبُوك، وَإِنَّما لكُلِّ امْرِيءٍ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، حَسَدْتُمُونا وَيْلاً لَكُم عَلى ما فَضَّلنَا اللهُ»(54).
إن هذه الخطبة التي خطبتها بنت الإمام الحسين (عليه السلام) والتي ارتفع أثنائها أصوات المستمعين بالبكاء والعويل، تعتبر كخطبة عمتها زينب الكبري (عليها السلام) تذكّر بخطب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) المليئة بالحماسة والشهامة أمام الطغاة والمتكبرين الظلمة.
بحق إنّ هذه الخطبة ذات المضامين العالية والمثيرة للمشاعر والتعابير المفعمة بالحيوية والبطولية لا يتوقع أن تصدر من بنت أسيرة مفجوعة وكلها ألم وحرقة.
إنّ هذه الخطب العظيمة تتضمن سلسلة من الحقائق التاريخية تكشف الغطاء عن أكاذيب ومزاعم أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وتعريهم عن ادعاءاتهم الواهية وتفضح خيانتهم وسوء حقيقتهم. إن هذه الخطب تكشف الستار عن خواء الإعلام المضاد لبني أُمية وتجهض تآمرهم لسنوات مديدة علی الدين. وفي الجملة، فهذه الخطب زرعت نبتة الوعي وسقت شجرة الشهادة الحمراء لشهداء كربلاء، ولولا هذه الخطب الرائعة لم ينتج عمل الشهداء هذا الأثر العظيم والخالد(55).
أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبتها:
ومن جملة الأشخاص الذين خطبوا في الناس في أهل الكوفة أُمّ كلثوم(56) بنت أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ويذكر المؤرخون أنّ أُم كلثوم رفعت صوتها بالبكاء وأوردت هذه الخطبة، وقالت:
«يا أَهْلَ الْكُوفَةِ، سَوءًا لَكُمْ، ما لَكُمْ خَذَلْتُمْ حُسَيْنًا وَقَتَلْتُمُوهُ، وَانْتَهَبْتُمْ أَمْوالَهُ وَوَرِثُتُمُوه، وَسَبَيْتُمْ نِساءَهُ وَنَكَبْتُمُوهُ؟ فَتَبًّا لَكُمْ وَسُحْقًا. وَيْلَكُمْ، أَتَدْرُونَ أَيَّ دَواهٍ دَهَتْكُمْ؟ وَأَيَّ وِزْرٍ عَلى ظُهُورِكُمْ حَمَلْتُم؟ وَأَيَّ دِماءٍ سَفَكْتُمُوها؟ وَأَيَّ كَريمَةٍ أَهْتَضَمْتُموها؟ وَأيَّ صِبْيَةٍ سَلَبْتُمُوها؟ وَأَيَّ أَمْوالٍ نَهَبْتُمُوها؟ قَتَلْتُمْ خَيْرَ رِجالاتٍ بَعْدَ النَّبِيَّ، وَنُزعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبِكُمْ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ، وَحِزْبِ الشَّيطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ.
ثم أنشدت تقول:
قَتَلْتُمْ أَخي صَبْرًا فَوَيْلٌ لأمِّكُمْ
سَتُجْزَوْنَ نارًا حَرُّها يَتَوَقَّدُ
سَفَكْتُمْ دِماءً حَرَّمَ اللهُ سَفْكُها
وَحَرَّمَهَا القُرآنُ ثُمَّ مُحَمَّدُ
أَلا فابْشِرُوا بِالنّارِ إِنَّكُمُ غَدًا
لَفي قَعْرِ نارٍ حَرُّها يَتَصَعَّدُ
وَإنّي لأَبْكي في حَياتي عَلى أخي
عَلَى مَنْ بَعْد النَّبِيَّ سَيُولَدُ
بدَمْعٍ غَزيرٍ مُسْتَهَلٍّ مُكَفْكَفٍ
عَلَى الْخَدِّمِنِّي دائِبٌ لَيْسَ يَجْمَدُ(57)
وهذه الخطبة التي جاءت علی لسان إحدی بنات الإمام علي (عليه السلام) حالها حال الخطبتين السابقتين من حيث كونها زاخرة بالبلاغة والروعة وتنطلق من روحية إيمانية شجاعة، وتعتبر بمثابة رصاصة النهاية علی جسد حكومة بني أُمية وغرست في القلوب بذور الثورة علی الظلم والظالمين في المستقبل.
إنّ هذه الخطبة وبهذه البلاغة والمتانة خلّفت أثرًا كبيرًا في نفوس أهل الكوفة من الرجال والنساء بحيث إنّها خلقت هياجًا واضطرابًا في صفوفهم وكأنهم قد فقدوا أعزّ أعزتهم، فارتفع صوت الناس بالبكاء، والعويل والصراخ والنوح حتی قال الراوي، فلم يُر باكيًا ولا باكية أكثر من ذلك اليوم(58)، ودعوا بالويل والثبور، واضطربت أمواج الحقد والغضب علی بني أُمية في قلوب الناس، وبدأت صفحة جديدة من تاريخ الإسلام(59).
زينبنا (عليها السلام) وقولها: ما رأيت إلا جميلا
جلس عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة وهو ممتلئ غرورًا بالنصر الذي حققه ضد أهل البيت (عليهم السلام) وأذن للجميع إذنًا عامًا بالدخول إلی قصره، فاجتمع الناس، ثم أمر بإدخال رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وأدخلوا بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلی مجلس ابن زياد، وأوقفوهم في جانب من القصر.
واحتشد المجلس بعلوج بني امية ومن الساقطين من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وقد وُضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه ـ وهو ينكث ثناياه بعود كان في يده ـ ويهزّ أعطافه شماتةً وفرحًا بقتل سيد شباب أهل الجنة.
قالوا: فانحازت زينب الكبری (عليها السلام) عن النساء وهي متنكرة، وجلست في زاوية من القصر، فالتفت ابن زياد إليها، وسئل من هذه المرأة؟ فقيل له: هذه زينب ابنة علي وابنة فاطمة. فأقبل عليها ابن زياد، وقال: الحمدلله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم. فقالت العقيلة زينب (عليها السلام) ـ برباطة جأش ـ: «الحَمدُ لله الذي أكرمنا بنبيه محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وطهّرنا تطهيرًا، إِنَّما يَفْتَضِحُ الفاسِقُ، وَيَكْذِبُ الْفاجِرُ وَهُوَ غَيرُنا. فقال ابن زياد: "كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللهِ بِأَخيكَ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟"، فأجابته زينب الكبری (عليها السلام) بصلابة وقدرة: «ما رَأَيْتُ إِلا جَميلاً، هؤُلاء قَوْمٌ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إلى مَضاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحاجُّ وَتُخاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يومئذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجانَةَ». فغضب عبيدالله ابن زياد من كلامها، وكأنّه همَّ بها ـ أي أراد أن يقتلها ـ فقال له عمر بن حريت: إنّما هي امرأة، ولا تُؤاخذ المرأة بشيء من منطقها.
ثم التفت إليها ابن زياد وقد أحس بالعجز عن مواجهتها: لقد شفی الله نفسي من طاغيتك الحسين، والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت زينب الكبری (عليها السلام): «لَعَمْري لقد قَتَلْتَ كَهْلي، وَقَطَعْتَ فَرْعي، وَاجْتَثَثْتَ أَصْلي، فَإنْ كانَ هذا شِفاؤكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ».
فقال ابن زياد ـ لما لم يجد جوابًا: هذه سجّاعة، ولعمري لقد كان أبوها شاعرًا سجّاعًا.
فقالت زينب الكبری (عليها السلام): «إنّ لي عَنِ السجاعةِ لَشُغْلاً، وإني لأعْجَبُ مِمَّن يَشتفِي بِقتلِ أَئمَّتِهِ، وَيَعلَمْ أنُّهم مُنتقِمونَ مِنهُ في آخرتِهِ»(60).
الحقيقة لو أراد الانسان مهما بلغ كيانه وعلمه أن يعلق أو يقول تعبيرًا تجاه كل هذه الشجاعة والقدرة الروحيه العالية، فإنه سيری نفسه قاصرًا، بل ولا يستطيع ولا يدري ماذا يقول أمامها، سوی الإذعان والتصاغر أمام عظمة هذه المرأة الجليلة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وخاصة في تلك الظروف الحسّاسة، وفي مقابل رجل سفاك ومجرم عتيد كابن زياد، سوی أن يقول عنها: إِنّكَ واقعًا ابنة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وأُخت الإمام الحسن والحسين (عليها السلام)(61).
زينبنا (عليها السلام) ودفاعها عن زين العابدين (عليه السلام) في مجلس ابن زياد
التفت عبيدالله بن زياد إلی الامام زين العابدين (عليه السلام) وقال: مَن أنتَ؟ فقال (عليه السلام): «أنا علي بن الحسين (عليه السلام)». قال ابن زياد: ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ ـ في كربلاء ـ. فسكت (عليه السلام)، حتی غضب ابن زياد وقال للإمام (عليه السلام): مالك لا تتكلم؟ فقال الامام (عليه السلام): كان لي أخٌ يسمى عليًا، قتله الناس. قال ابن زياد الملعون: بل الله قتله. فقرأ الإمام (عليه السلام) قوله تعالی: {اللهُ يَتَوَفَّی الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(62) يعني أن الله وإن كان يتوفی الأنفس عند موتها، ولكن أخي قتله بعض الظالمين. فغضب ابن زياد لهذا الجواب القاطع، فقال: أنت والله منهم، ولك جُرأةٌ علیجوابي؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه.
فعندما رأت زينب الكبری (عليها السلام) ذلك، احتضنت الإمام زينالعابدين (عليها السلام) وتوجهت بالخطاب لابن زياد وقالت: »يا ابنَ زِيادٍ، حَسْبُكَ مِن دِمائنا»، ثم أضافت: «وَاللهِ لا أُفارِقُهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَاقْتُلني مَعَهُ«. فنظر ابن زياد إلی زينب (عليها السلام) والإمام السجاد (عليه السلام)، وقال: "عجباً للرّحم" ثم أضاف: "والله، لأضنها ودت أن أقتلها معه، دعوه فإني أراه لما به"(63).
وينقل السيد ابن طاووس في كتابه بعد أن يذكر هذه الحالة ـ بقليل من الاختلاف ـ أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) التفت إلی عمته الحوراء زينب (عليها السلام)، فقال: «اُسْكُتي عَمَّة حتى أُكَلِّمَهُ» ثم أقبلَ علی ابن زياد، فقال: «أَبِالْقَتْلِ تُهَدِّدني يَا ابْنَ زيادٍ، أَما عَلِمْتَ أَنَّ الْقَتْلَ لنا عادَةٌ وكَرامَتَنَا الشَّهادَةُ».
وبعد هذا الحوار المثير أدرك ابن زياد أنه لا يستطيع المواجهة مع آل بيت النبوة، وأيقن بالهزيمة، فأمر بعلي بن الحسين (عليه السلام) وأهله فحملوا إلی دار جنب المسجد الأعظم وأُسكنوا فيها(64).
هل يمكن لأي قلم أو بيان أن يرسم عظمة هذا الكلام الصادر من الحوراء زينب (عليها السلام) ومن ابن أخيها (عليه السلام) في ذلك المجلس الذي اجتمع فيه عدد كبير من الناس، وأمام رموز السلطة الظالمة، ومعلوم أنّ هذا الكلام انتقل علی الألسن وشاع في جميع أرجاء الكوفة وانتقل إلی خارجها وخلف آثارًا كبيرة علی عقول الناس وعواطفهم وغيّر من رؤيتهم تجاه أبناء الإمام علي (عليه السلام) وكشف عن خبث وزيغ الأعداء مرة أخری، وقد زرعت هذه الكلمات بذور الثورة ضدّ آل أُمية وحكومتهم الجائرة(65).
هذا وقد عرفنا الدور الدفاعي الذي قامت به زينب (عليها السلام) لمّا منعت القتل عن زينالعابدين (عليه السلام) فقد دافعت عنه (عليه السلام) في مجلس يزيد وابن زياد وفي عرصات كربلاء دافعت عنه أن لا يقتل كما ذكر المؤرخون.
زينبنا (عليها السلام) ودور المرأة في الحركة التصحيحية
قارئي الكريم: لنأخذ من عاشوراء وعي حركية الإنسان بأكمله، فلقد عشنا ونحن نفكر أنّ المرأة لا دور لها في حركة الإصلاح، وحركة الصراع والثورة وأصبح ما عشناه شيئًا مقدسًا وأصبحت فكرتنا التقليدية أن للمرأة البيت وليس لها الساحة العامّة، ولكن عاشوراء قالت لنا إنَّ للمرأة دورًا قياديًا مع قيادة الرجل وبعد قيادة الرجل.
إنّ زينب (عليها السلام) كانت تمثل رمز المرأة التي تملك عقلاً قياديًا وروحًا قيادية وصبرًا قياديًا وتحديًا قياديًا. فهي تحتوی الواقع كلّه لتعرف كيف تخطط له، فلم تتحدث مع ابن زياد حديثًا انفعالياً بل كان مدروسًا حتی في قولها: «ثكلتك أمك يا ابن مرجانة»فلقد أرادت أن تسقط عنفوانه في مجتمعه، وكذلك عندما وقفت تخاطب يزيد «كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولاتميت وحينا ولاتدرك أمدنا»(66) فلقد كانت تفكر بكل كلمة من كلماتها، كانت إنسانة تعيش التخطيط لكلماتها كما كانت تعيش التخطيط لحركيتها، تمامًا كأمها الزهراء (عليها السلام) في حركتها من أجل الدفاع عن حق علي (عليه السلام) فلقد كانت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها في المسجد النبوي الشريف وفي حديثها مع النساء قد تناولت المواضع الحساسة التي تثير الرجال عندما تنقل لهم نساؤهم ذلك، كانت تمثل التحدي بتخطيط، وكانت تنطلق برساليتها من خلال فهمها للواقع وللذين يتحركون في الواقع، وهكذا كانت أمها خديجة (عليها السلام) في أسلوبها العملي في دعم واقع الدعوة الإسلامية الأول، إنها تنطلق من عمق المسؤولية الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قضايا الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله الذي يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(67) سواء كان المعروف سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو امنيًا، كما أنها مسؤولة عن النهي عن المنكر في ذلك كله تمامًا كما هي مسؤولية الرجل، وعلی المرأة أن تتكامل مع الرجل في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علی خطّ التغيير للواقع.
كل ما لدينا من عاشوراء:
أما الرجل الذي استطاع أكثر من غيره أن يستوحي من خلال ما يصنعه من عاشوراء تغيير الواقع، فهو الإمام الخميني (قدّس سرّه)، هذا الإنسان الذي كان يبكي الحسين كأشد ما يكون البكاء، وكان يعيش المأساة كأقوی ما يعيشها الإنسان، لكنه كان يدرس الواقع ويعرف أن قضية عاشوراء تلهم الإنسان أكثر من عاشوراء، وكان يعرف أن عاشوراء تبحث عن جمهورها لتصنع في كل جيل جمهورًا للحسين وجمهورًا للقضية يتحدّی ويخطط ويجاهد ويرفض ويواجه الموقف بكل صلابة، كما واجهه الحسين (عليه السلام) «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّلكم إقرار العبيد»(68) «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة»(69).
كان الإمام الخميني (قدّس سرّه) يواجه عاشوراء ويريدها أن تكون حركة تنتج جمهورًا جديدًا لا يضعف أمام التحديات ولا ينهزم في المواجهة ولا يبتعد عن خط الإسلام أمام المشاكل والبلاء، كان إنسانًا يرصد الواقع ويفهمه ويخطط له، وعاشوراء أمامه تمثل الصورة الحركية المشرقة للإسلام في جهاد النبي (صلّى الله عليه وآله) ولذلك قال: "كل ما عندنا من عاشوراء" لأن عاشوراء كانت في كل خطة من خططه وكل موقف من مواقفه، وكانت صلابة الحسين (عليه السلام) توحي له بالصلابة فاستطاع أن ينتج من حركته العاشورائية التي استوحاها من عاشوراء التاريخ حركة تغييرية وواقعًا تغييرًا. والحمدلله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة التوبة، الآية 71.
(2) انظر القصة في مقتل الحسين، للمقرم.
(3) بحارالأنوار، ج 44، ص 393، أعيان الشيعة، ج 1، ص 601.
(4) انظر نفس المهموم، للقمي، وانظر تاريخ الطبري، ج 4، ص 353، كما ورد هذا الحادث بصورة مفصلة في بحارالأنوار، ج 45، ص 142، مع بعض الاختلافات.
(5) انظر الإرشاد للشيخ المفيد، في تاريخ حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، الباب 5، ص 491.
(6) الكافي، ج 1، ص 466.
(7) بحارالأنوار، 45، ص 188.
(8) مستدرك الوسائل، ج 3، ص 327.
(9) بحارالأنوار، ج 45، ص 143.
(10) نفس المصدر.
(11) نفس المهموم، ص 262.
(12) تاريخ الخلفاء، ص 232.
(13) تاريخ الطبري، ج 4، ص 389.
(14) يقول ابن كثير العالم السني المتعصب والذي يستخدم غالبًا عنصر التبرير لأفعال معاوية ويزيد، في هذا الصدد "وَقَدْ لَعَنَ يَزيدُ ابْنَ زيادٍ عَلی فِعْلِهِ ذلِكَ، وَشَتَمَهُ فيما يَظْهَرُ وَيَبْدُو، وَلكِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَلی ذلِكَ وَلا عاقَبَةُ، وَلا أَرْسَلَ يَعِيبُ عَلَيْهِ ذلِكَ" ـ البداية والنهاية، ج 8، ص 204.
(15) حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، ج 3، ص 298 ـ 299.
(16) مأساة الحسين (عليه السلام)، للشيخ الكاشي، ص 117.
(17) العقد الفريد، ج 4، ص 385، وانظر مقاتل الطالبيين، ص 79.
(18) نفس المصدر.
(19) مقاتل الطالبيين، ص 79.
(20) نفس المهموم، ص 259.
(21) الكامل لابن الأثير، ج 4، ص 88.
(22) إبصار العين، ص 130.
(23) رياحين الشريعة، ج 4، ص 255.
(24) رياحين الشريعة، ج 3، ص 308.
(25) نفس المصدر، ج 3، ص 308.
(26) هذا وقد ذكر الآخرون أسماء أخريات من النساء التي وقعت بالأسر في كربلاء، يرجی من قارئي المشتاق للمعرفة أكثر، مراجعة الموسوعات المختلفة حول عاشوراء الحسين (عليه السلام).
(27) رياحين الشريعة، ج 3، ص 318، وفي تنقيح المقال، ج 3، ص 247.
(28) تنقيح المقال، ج 2، ص 201.
(29) نفس المصدر، ج 2، ص 18.
(30) نفس المصدر، ج 2، ص 327.
(31) نفس المهموم، ص 265.
(32) رياحين الشريعة، ج 3، ص 305.
(33) الكافي، ج 1، ص 465.
(34) مثير الأحزان، ص 41، بتصرف.
(35) مقتل الحسين، للمقرم، ص 307.
(36) انظر: بحارالأنوار، ج 45، ص 58، وانظر: مقتل الحسين للمقرم، ص 307.
(37) الكامل لابن الاثير، ج 4، ص 81، وانظر: مقتل الحسين للمقرم، ص 307، بتصرف.
(38) بحارالأنوار، ج 45، ص 243.
(39) نظرًا للقول المشهور من أنّ حادثة عاشوراء وقعت يوم الاثنين لعله إشارة إلی حادثة السقيفة التي وقعت يوم الاثنين، والمراد أنّ حادثة كربلاء هي نتيجة لما وقع قبل خمسين سنة من التآمر علی الإسلام والمسلمين في السقيفة.
(40) بحارالأنوار، ج 45، ص 58، وفي أعيان الشيعة، ج 7، ص 138.
(41) بحارالأنوار، ج 45، ص 59.
(42) نفس المصدر.
(43) سورة التوبة، الآية 97.
(44) نفس المصدر، الآية 99.
(45) ونجد دعوة هؤلاء منذ زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) للاعتصام بحبل الله كما في قول الله تعالی: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا}ـ سورة آل عمران، الآية 103، وحبل الله هو الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
(46) سورة الفتح، الآية 10.
(47) مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم، ص 308.
(48) بتصرف، كتاب عاشوراء، للشيخ ناصر مكارم، ص 387.
(49) ذكر اسمه في الملهوف أو اللهوف، بشير بن خزيم الأسدي، وفي مستدركات علم الرجال، ج 2، ص 37، جزيم.
(50) بحارالأنوار، ج 45، ص 162 ـ 164 بتصرف.
(51) الظاهر ـ كما عند بعض المحققين ـ أنّ فاطمة هذه، هي فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) وزوجة الحسن المثنى ابن الإمام الحسن (عليه السلام) وقولها: «كما قتلتم جدنا بالأمس» في خطبتها يراد منه أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وهو شاهد علی هذا الكلام، أما التعبير بـ (فاطمة الصغری) فلعلّه يشير إلی أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) بنت أخری تدعی فاطمة وهي أكبر منها ولكن لا دليل من التاريخ علی هذا الاحتمال، وعلی هذا الأساس لا يبعد أنّ هذا الاسم بسبب التماثل الموجود بين فاطمة بنت الحسين وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، كما ذكر ذلك الشيخ المفيد في الإرشاد، ص 366، حيث ذكر أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قال لابن أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) الذي جاء يطلب يد إحدی بنات الإمام الحسين (عليه السلام) سكينة أو فاطمة، فقال الإمام (عليه السلام): «لقد اخترت لك فاطمة، لأنها تشبه أُمي فاطمة»، وعلی هذا الأساس سمّيت فاطمة الصغری بالقياس إلی فاطمة الزهراء (عليها السلام)، راجع: فاطمة بنت الحسين لمحمد هادي الأميني للاطلاع علی سيرة حياتها.
(52) الذحل: الحقد والعداوة، يقال: طلب بذحله، أي: بثأره. الصحاح ـ ذحل ـ.
(53) لا بدّ من الالتفات أنّ جمله «كما قُتِلَ وَلَدُهُ بالأَمْس» جملة معترضة وتشير إلی استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وجملة «في بَيْتٍ من بُيُوتِ الله» وبعدها، إشارة إلی أميرالمؤمنين (عليه السلام).
(54) الاحتجاج للطبرسي، ص 104 ـ 108، بتصرف.
(55) بتصرف، في كتاب عاشوراء، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ص 397.
(56) أم كلثوم هي بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخت زينب والحسين (عليه السلام) ولدت في السنوات الأخيرة من عمر النبي (صلّى الله عليه وآله) كانت امرأة فاضلة وفصيحة ومتكلمة وعالمة، ذكروا أنها تسمی أيضًا بزينب الصغری، ولم تتوان عن كشف الحقائق وإزاحة الستار عن جرائم الأمويين، وبعد الرجوع إلی المدينة كانت أُمّ كلثوم ممن يصف للناس وقائع ذلك السفر المروع، والشعر المعروف.
مدينـــة جدنـــا لا تقبــــلينا
فبالحســــرات والأحــــزان جــينا
والذي قرئ عند دخول المدينة هو لأم كلثوم، هناك من يعتقد انّ أُم كلثوم بنت فاطمة (عليها السلام) قد توفيت في زمن الإمام الحسن المجتبی (عليه السلام)، أما هذه السيدة التي ورد ذكرها في واقعة كربلاء فهي من زوجة أخری لأمير المؤمنين (عليه السلام). انظر: مروج الذهب، ج 3، ص 63.
(57) اللهوف، 198 ـ 199.
(58) نفس المصدر، ص 65.
(59) بتصرف في كتاب عاشوراء للشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه الله تعالی، ص 403.
(60) اللهوف، ص 200 ـ 202، وفي إرشاد المفيد، ص 472 ـ 473، مع اختلاف يسير.
(61) انظر تاريخ الطبري، ج 4، ص 349 ـ 350.
(62) سورة الزمر، الآية 42.
(63) إرشاد المفيد، ص 473، وكذلك انظر اللهوف، ص 202، مع اختلاف يسير، وانظر أيضًا: تاريخ الطبري، ج 4، ص 350.
(64) اللهوف، ص 202.
(65) من تعليقات الشيخ ناصر مكارم دام ظله في كتاب عاشوراء، ص 405، بتصرف.
(66) بحار الأنوار، ج 45، ص 135.
(67) سورة التوبة، الآية 71.
(68) بحار الانوار، ج 45، ص 7.
(69) نفس المصدر، ص 9.
0 التعليق
ارسال التعليق