زواج السَّيِّدة المعصومة

زواج السَّيِّدة المعصومة

الملخص

(تعرَّض الكاتب في مقالته إلى مسألة زواج السِّيَّدة المعصومةj، فذكر أربع مقدِّمات؛ لِما لها من مدخليَّة في اختيار رأيه، ثمَّ بيَّن آراءً ستَّةً في مسألة زواجها، وناقشها واحداً واحداً، ثمَّ خلُص إلى رأيه ونتيجته، وهي أنَّها تزوَّجت، وأبقى احتمال عدم زواجها، وردَّ ما يمكن أن يرد على الاحتمالين).

 

المقدِّمة

من الشَّخصيات العظيمة في الإسلام، ومذهب التَّشيُّع على الخصوص شخصيَّة السَّيِّدة المعصومةj، ويكفي لإدراك بعض عظمتها النَّظر فيما جاء في حقِّها من بعض الأحاديث، والتَّأمل في زيارتِها، والتَّي تكشف عن مكانتها لدى أهل بيت العصمة والطَّهارةi. وهي وإن لم تكن معدودة من المعصومين الأربعة عشر إلَّا أنَّها ذات مكانة وشأن عظيمين، إن لم نقل بعصمتها؛ إذ لا دليل واضح على حصر المعصومين بالأربعة عشر؛ كيف؟ والأنبياء كلُّهم معصومون. 

وعادة ما تكون الشَّخصيات العظيمة مورداً لتسليط الضَّوء عليها من قبل المؤالِف والمخالف، فالمؤالِف والمحبِّ لها؛ ليتَّخذها قدوةً له في حياته، والمخالف لها قد يتصيَّد في الماء العكر. ولكن قد يحكي التَّاريخ عن صفة أو فعل لشخصيَّة عظيمة، هذه الصِّفة قد تكون مثار استغراب عند بعض النَّاس؛ بحكم ما يبنيه من رؤى وأفكار وصفات لا بدَّ أن تكون في تلك الشّخصيّة القدوة له.

وقد أثيرت بعض الأسئلة حول شخصيَّة السَّيِّدة المعصومة، والتي وقع جوابها محلَّا للخلاف والأخذ والرَّدِّ، والإشكاليَّة تحديداً هي: بما أنَّ الإسلام من جانب يحثُّ على الزَّواج، وأنَّه نقل عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِe: >مَنْ تَزَوَّجَ أَحْرَزَ نِصْفَ‏ دِينِهِ<،‏ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: >فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ أَوِ الْبَاقِي<([1])، وغيرها من الرِّوايات التي تحثُّ على الزَّواج، فهنا ينشأ عند بعض النَّاس سؤالٌ، وحاصله: أنَّه ما دام الإسلام يحثُّ على الزَّواج، فحريٌّ بعظماء هذا الدِّين التِّحلِّي والالتزام بأوامر الدِّين ونواهيه قبل غيرهم؛ إذ عدم الالتزام بذلك خلاف العظمة والمكانة التي هم فيها، والحال أنَّ عظماءَ الدِّين كالسَّيِّدة المعصومة لا تلتزم بذلك في مسألة الزَّواج؟! وهذا يرجع لأحد أمرين؛ إمَّا أنَّ روايات الحثِّ على الزَّواج قاصرة؛ ولذا لم تلتزم بها السِّيَّدة، وإمَّا أنَّ السِّيَّدة خالفت تلك الرِّوايات -والعياذ بالله-!

أربع مقدِّمات لا بدَّ منها

هكذا قد يقال من فهم هذه المسألة، وهذا البحث معقود لبيان أمورٍ قد تخفى على البعض، ولكي توضع النُّقاط على الحروف، ورفع الغموض وبيان حقيقة الأمر، وهذا ما يحتاج إلى بيان مقدِّمات قبل الوصول إلى الآراء في المسألة والنَّظر فيها، ثمَّ ذكر النِّتيجة النِّهائيِّة إن شاء الله تعالى.

المقدِّمة الأولى: بيان الحكم الشَّرعيّ في الزَّواج

الزَّواج مستحبٌّ في حدِّ نفسِه -وإلّا فتجري فيه الأحكام الأربعة-، بالإجماع بقسميه عند الخاصَّة والعامَّة، والكتاب والسُّنَّة المستفيضة أو المتواترة([2]). 

فأمَّا من القرآن فقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ واللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(النور:32).

بتقريبِ أنَّ الأمرَ بإنكاح العُزَّاب الأحرار الصَّالحين منهم وغيرهم، والعبيد الصَّالحين منهم، والحثِّ والتّرغيب فيه ليس واجباً بعنوان أوّليّ، فهذا يكشف عن فضيلة نفس النِّكاح ورجحانه ومطلوبيَّته بنحو من الأنحاء، ويحمل الأمر على الاستحباب.

وأمَّا من السُّنَّة الشِّريفة فقد نُقل عن الصَّادقg أنَّه قال: قال الأميرg أنَّه قال: >تزوّجوا؛ فإنَّ رسول اللهe قال: من أحبَّ أن يتَّبع سنَّتي فإنَّ من سنَّتي التّزويج<([3]). وغيرها من الرّوايات.

والنِّكاح عنوانٌ تعرضه العناوين الخمسة؛ فهو مستحبٌّ في نفسه وبالعنوان الأوّليّ، ولكن قد يعرض عنوان ثانويّ عليه فيكون واجباً بالنَّذر أو العهد أو اليمين أو عند كونه مقدِّمة لواجب على رأي أو عندما يكون تركه موجباً للوقوع في الحرام أو الضَّرر.

وقد يكون محرَّماً كما لو أدَّى إلى الإخلال بواجب أو ترك حقٍّ من الحقوق أو الزِّيادة على الأربع نساء بزواجٍ دائمٍ. 

وقد يكون مكروهاً، ذاتاً: كالتَّزوج بمن نشأت في منبت السّوء. وعرضاً قابلاً للزّوال: كنكاح المجنونة أو الّتي لا تطيع زوجها. وعرضاً ليس قابلاً للزّوال: كنكاح العقيم.

وقد يتساوى ملاك الفعل وملاك التّرك فيكون مباحاً.

والنَّتيجة المهمَّة من هذه المقدِّمة هي أنَّ الزَّواج عنوانٌ وموضوعٌ قد تعرضه الأحكام الخمسة، ككثيرٍ من المواضيع، فالمكلَّف في المواضيع التي تخصُّ شأنه في كثير من الأحيان -إن لم نقل دائماً- هو من يشخِّص التّكليف المتوجِّه إليه، فقد يتحقّق موضوع الوجوب فيجب عليه، وقد يتحقّق موضوع الحرمة فيكون الحكم الحرمة في حقِّه، وقد يتحقَّق موضوع الاستحباب فيكون الحكم مستحبّاً في حقّه، وهكذا الكراهة والإباحة.

المقدِّمة الثَّانية: معنى الكمال

وهنا لا بدَّ من بيان أمور:

1- الكمال على قسمين: حقيقيٌّ وغير حقيقيٍّ. 

الكمال الحقيقيّ هو الّذي يرفع الإنسان ومقامه في الحقيقة والواقع وعند خالقه، وذلك بأن يسلك ما يتقرَّب إلى الخالق عن طريق الطَّاعات الواجب منها والمستحبّ، والابتعاد عن معصية الخالق؛ شكراً لله على ما أعطاه وأغدق عليه من النِّعم التي لا تعدُّ ولا تحصى.

فكلُّ خطوةٍ يخطوها الإنسان وكلُّ فعل يفعله، وكلُّ إقدامٍ في شيء أو إحجام وإعراض عن شيء إذا لم يكن لله فهو لا يسير في طريق تكامله الحقيقيّ؛ فإنَّ ذلك يرجع إلى كمال موهوم كما سيتَّضح.

والكمال غير الحقيقيّ هو الّذي لا يرتقي بالإنسان ولا يقرِّبه بل قد يبعِّده، وذلك بأن يعتقد إنسان أنَّ الثروة والمال الكثير هو الكمال، أو أنَّ الجاه والمنصب هو الكمال، أو أن يكون الشَّخص مشهوراً ومعروفاً، وغيرها من العناوين الشّيطانيّة، الّتي تجعل أعمال الإنسان تذهب هباء منثوراً.

نعم يمكن أن يجعل الإنسان الدُّنيا وما فيها قنطرةً وطريقاً ومزرعة للآخرة، إلّا أنّه في الحقيقة قد شخَّص الكمال الحقيقيّ حينئذٍ.

2- الكمال في الاختيار.

من الجدير بالذِّكر أنَّ وصف الكمال عندما يتَّصف به الشَّخص، إنَّما يكون الشّخص المتّصف به ذا فضيلةٍ ومنقبةٍ إذا كان مختاراً، وكان قد وصل إلى ذلك المقام من الكمال باختياره ومجاهدته لنفسه.

 فالصَّفات الحسنة، هي الّتي جعلها الله في اختيار الإنسان وتحت يده وتصرّفه، وله أن يفعلها وله ألّا يفعلها، وهي اّلتي يرتقي بها الإنسان إلى الكمال الحقيقيّ، ففضيلة الكرم أو الخلق الحسن أو الصدق أو غيرها إنما تبرز كمالاً لو كانت باختيار الإنسان، لا ما إذا لم تكن باختياره.

وأمَّا اتَّصاف الإنسان بصفات هي خارج اختياره، فليس الحائز عليها تدلّ بالضّرورة على كماله، فلَونُ بشرة الإنسان ليس بيده أو طوله وقصره وفصيلة دمه أو محلّ مولده، هذه ليست في اختيار الإنسان، ولذا من الخطأ المباهاة بها؛ إذ إنَّها ليست فضيلة له وليست من فعله، بل فعل الله تعالى وتصرّفه، فجعلُها معياراً للمفاضلة ليس صحيحاً.

كما أنَّه لا يلام الإنسان أو يعاتب أو يحاسب على أمر ليس باختياره، نعم قد يعاتب على بعض المقدِّمات الّتي فرَّط فيها متعمِّداً.

وهناك صفات قد تدخل تحت تصرّف الإنسان تارة وأخرى لا تدخل، مثل وصف الزّوجيّة. فالتّصرّف والاختيار بالنّسبة للرّجل قد يكون واضحاً في مجتمعاتنا الإسلاميّة؛ إذ إنّ الرّجل هو الّذي يتقدّم ويطلب يد المرأة، فله أن يعقد عليها وله ألّا يعقد عليها.

وأمَّا المرأة يمكن أن تكون مختارة في قبولها للمتقدِّم لها أو عدم قبوله، ولكن عند عدم تقدّم أحد لها أو عدم تقدم الكفؤ لها فبقاؤها دون زواج يكون بغير اختيارها.

فالزَّواج مشروع حياة وطريق إلى طاعة الله، ولا يمكن أن تقبل المرأة بغير الكفؤ الّذي يبعّدها عن طاعة الله؛ إذ هو خلاف تشريع الزّواج الّذي هو للتّقرّب إلى الله.  فالزّواج بما هو زواج من غير لحاظ القرب الإلهيّ لا قيمة له، فما لم يكن الزّواج لأجل القرب من الله وطاعته وعبادته، لا فائدة ولا ثمرة أخرويّة فيه.

والمرأة مثلاً إذا فاتها قطار الزَّواج -كما يعبِّرون- ولم يكن باختيارها، فلا تلام وتحاسب أو يقال فاتها كمال من الكمالات أو أنَّها لم تسعَ للكمال.

المقدِّمة الثَّالثة: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

وهذه قاعدة منطقيّة مفادها أنَّه إذا لم تجد شيئاً فلا يدلُّ ذلك على عدم وجوده؛ لأنَّ الإنسان محدود، وعقلُه بحسب الخلقة قاصر عن إدراك ما وراء إدراكاته، فما أكثر ما تخفى عليه من أمور كثيرة، فليس من الصَّحيح عند عدم حصولي على أمر أن أحكم بنحو الجزم بعدم وجوده، وخصوصاً الأمور الّتي يصعب الجزم بعدم حصولها، كالأمور التَّاريخيّة الّتي تدخَّلت فيها حيثيِّات كثيرة، تجعلها غير واصلة أو غير نقيَّة الوصول، من طغاةٍ ظلمة، ورواةٍ كذبة، وأقلامٍ مأجورة.

ومن هنا قد يقال بأنَّه ليس من الصّحيح الجزم بعدم وقوع بعض الأحداث المنقولة في كتب التّأريخ مثل بعض أحداث واقعة كربلاء وما جرى فيها من المآسي، بحجّة عدم الوجود.

على أنَّه في كثيرٍ من الأحيان يخفي الإنسان بعضَ أمورِه الشَّخصيَّة عن الآخرين، كالصَّدقة في السِّرّ أو إعانة المحتاجين وغيرها، فيعتقد الآخرون أنَّه لا يفعل الخير وغيره، وما ذلك إلّا لعدم اطّلاعهم وعلمهم وعدم وجدانهم، ولا يدلُّ ذلك على عدم تصدِّقه وفعله للخير أبداً.

المقدِّمة الرَّابعة: التَّأدُّب في محضر العظماء

من مواطن ظهور الأخلاق وبروز الآداب الحسنة، هي عند ذكر العظماء أو عندما تكون في محضرهم، وأعظم عظماء البشر على الإطلاق هم محمّد وآل محمّدq، وبعدهم الأنبياء والعلماء والصُّلحاء.

ففي محضر هؤلاء العظماء على الإنسان أن يحسن أدبه معهم، وأن يحترمهم بما لهم منزلة عند الله وشأن عظيم، فلا يناسب في محضرهم أن تتكلَّم بكلام غير لائقٍ بمقامهم ومنزلتهم، سواء ذلك في محضرهم أو غيابهم.

يحدثنا التَّأريخ عن حسن التَّعامل معهم من قبل بعض الأصحاب، وكذلك يحدّثنا في المقابل بالتّعامل غير الحسن من قبل بعضهم، الكاشف عن عدم احترام وتأدّب، فمن النّماذج السّيّئة ذاك الشّقيّ الّذي يخاطب الأمير(ع): كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟!([4])، أو ذاك الأحمق الّذي سأل الإمام الباقر(ع): فيسرّك أنّ نساءك فعلْنَ ذلك -المتعة-؟([5]).

ونحن كلامنا في مسألة زواج السّيّدة المعصومة روحي فداها، فينبغي أن نقف وقفة إجلال وإعظام لها والتّأدّب في محضرها، واختيار الكلمات المنتقاة، ونلحظ كل ذلك عند الجواب عن سؤال البحث.

سؤال البحث: مع حثِّ الرِّوايات على الزَّواج وراجحيَّته واستحبابه، وما للمتزوِّج من ثوابٍ عظيمٍ ويضاعف الثَّواب له في صلاته، إلّا أنَّه نجد أنَّ مثل السِّيَّدة المعصومةr لم نسمع أنّها تزوّجت، فهل أنّها مستثناة من الرّوايات؟ أم أنَّ الرّواياتِ  ليست مطلقةً؟ أم ماذا؟

توجد عدّة إجابات وآراء حول هذه المسألة، منها:

الرَّأي الأوّل: 

أنَّها لم تتزوَّج بسبب الظّروف المادّيّة الصّعبة والضّائقة الماليّة، الّتي كانت تعيشها مع أبيها الإمام الكاظمg؛ اعتماداً على بعض النُّصوص، من قبيل ما دار بين الإمام الكاظم عليه السّلام وهارون الرّشيد عليه لعائن الله في المدينة من حديث، فقال هارون للإمام: ".. يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟ فقال: >يزيدون على الخمسمائَة< قال: أولاد كلّهم؟ قال: >لا، أكثرهم موالي وحشم: أمّا الولد فلي نيف وثلاثون: والذّكران منهم كذا والنُّسوان منهم كذا<، قال: فلمَ لا تُزوِّج النُّسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟ قال: >اليد تقصر عن ذلك< قال: فما حال الضّيعة؟ قال: >تُعطى في وقت وتمنع في آخر<، قال: فهل عليك دَين؟ قال: >نعم<، قال: كم؟ قال: >نحو عشرة آلاف دينار<، فقال الرّشيد: يا بن العم أنا أعطيك من المال، ما تُزوِّج الذُّكران والنّسوان، وتقضي الدَين وتعمر الضّياع.."([6]).

فيُفهم من هذه الرّواية ما كان يمرّ به الإمام من ضائقة، ولذا لم تتزوّج السّيّدة المعصومة.

وفيه:

أوّلاً: لو سلّمنا أنَّ المعصوم يمرّ بما ذكر من ضائقة ماليّة، إلّا أنّه في أمر كالزّواج لا نحتمل أن يرى المعصوم بعض المؤمنين يريد الزّواج ولا يعينه، فضلاً عمّا إذا كان من أهل بيته، كيف وقد حثونا كما في بعض الرّوايات على الإنفاق على العيال ومساعدتهم، فهل يعقل منهم مساعدة النّاس وعدم مساعدتهم لأهل بيتهم؟!

ثانياً: هناك شواهد تاريخية على أنَّ الإمام لم يكن في ضائقة مالية محتاجاً إلى المال؛ لكيلا يستطيع تزويج بناته.

منها: رَوَى أَبُو الْفَرَجِ فِي مُقَاتِلِ الطَّالِبِينَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ قَالَ:‏ "كَانَ‏ مُوسَى‏ بْنُ‏ جَعْفَرٍg إِذَا بَلَغَهُ‏ عَنِ الرَّجُلِ‏ مَا يَكْرَهُ‏ بَعَثَ إِلَيْهِ بِصُرَّةِ دَنَانِيرَ، وَكَانَتْ صراره [صُرَرُهُ‏] مَا بَيْنَ الثَّلَاثِمِائَةِ إِلَى المائتين [الْمِائَتَيْ‏] دِينَارٍ فَكَانَتْ صرار [صُرَرُ] مُوسَى مَثَلاً". ([7])

ومنها: ما روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: "جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ‏ وقَدِ اعْتَمَرْنَا عُمْرَةَ رَجَبٍ ونَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنِّي أُرِيدُ بَغْدَادَ، وقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُوَدِّعَ عَمِّي أَبَا الْحَسَنِ - يَعْنِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍg-، وأَحْبَبْتُ أَنْ تَذْهَبَ مَعِي إِلَيْهِ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ نَحْوَ أَخِي وهُوَ فِي دَارِهِ الَّتِي بِالْحَوْبَةِ، وذَلِكَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِقَلِيلٍ، فَضَرَبْتُ الْبَابَ، فَأَجَابَنِي أَخِي فَقَالَ: >مَنْ هَذَا<، فَقُلْتُ: عَلِيٌّ، فَقَالَ: >هُوَ ذَا أَخْرُجُ<، وكَانَ بَطِي‏ءَ الْوُضُوءِ، فَقُلْتُ: الْعَجَلَ، قَالَ: >وأَعْجَلُ؛، فَخَرَجَ وعَلَيْهِ إِزَارٌ مُمَشَّقٌ‏ قَدْ عَقَدَهُ فِي عُنُقِهِ، حَتَّى قَعَدَ تَحْتَ عَتَبَةِ الْبَابِ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ: فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ، وقُلْتُ: قَدْ جِئْتُكَ فِي أَمْرٍ إِنْ تَرَهُ صَوَاباً فَاللَّهُ وَفَّقَ لَهُ، وإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَا أَكْثَرَ مَا نُخْطِئُ، قَالَ: >ومَا هُوَ؟<، قُلْتُ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ يُرِيدُ أَنْ يُوَدِّعَكَ ويَخْرُجَ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَالَ لِيَ: >ادْعُهُ<، فَدَعَوْتُهُ، وكَانَ مُتَنَحِّياً، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَوْصِنِي، فَقَالَ: >أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي<، فَقَالَ مُجِيباً لَهُ: مَنْ أَرَادَكَ بِسُوءٍ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وجَعَلَ يَدْعُو عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ، ثُمَّ عَادَ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ أَوْصِنِي، فَقَالَ: >أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي<، فَقَالَ: مَنْ أَرَادَكَ بِسُوءٍ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وفَعَلَ، ثُمَّ عَادَ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ، أَوْصِنِي، فَقَالَ: >أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي<، فَدَعَا عَلَى مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ ثُمَّ تَنَحَّى عَنْهُ ومَضَيْتُ مَعَهُ، فَقَالَ لِي أَخِي: >يَا عَلِيُّ، مَكَانَكَ<، فَقُمْتُ مَكَانِي فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، ثُمَّ دَعَانِي فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَأَعْطَانِيهَا، وقَالَ: >قُلْ لِابْنِ أَخِيكَ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى سَفَرِهِ<، قَالَ عَلِيٌّ: فَأَخَذْتُهَا فَأَدْرَجْتُهَا فِي حَاشِيَةِ رِدَائِي، ثُمَّ نَاوَلَنِي مِائَةً أُخْرَى وقَالَ: >أَعْطِهِ أَيْضاً<، ثُمَّ نَاوَلَنِي صُرَّةً أُخْرَى، وقَالَ: >أَعْطِهِ أَيْضاً، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِذَا كُنْتَ تَخَافُ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي ذَكَرْتَ فَلِمَ تُعِينُهُ عَلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ: >إِذَا وَصَلْتُهُ وقَطَعَنِي قَطَعَ اللَّهُ أَجَلَهُ<، ثُمَّ تَنَاوَلَ مِخَدَّةَ أَدَمٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَضَحٍ‏  وقَالَ: >أَعْطِهِ هَذِهِ أَيْضاً<، قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَأَعْطَيْتُهُ الْمِائَةَ الْأُولَى فَفَرِحَ بِهَا فَرَحاً شَدِيداً ودَعَا لِعَمِّهِ، ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ فَفَرِحَ بِهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرْجِعُ ولَا يَخْرُجُ، ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ الثَّلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى هَارُونَ-فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ فِي‏ الْأَرْضِ‏ خَلِيفَتَيْنِ‏ حَتَّى رَأَيْتُ عَمِّي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَأَرْسَلَ هَارُونُ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَرَمَاهُ اللَّهُ بِالذُّبَحَةِ  فَمَا نَظَرَ مِنْهَا إِلَى دِرْهَمٍ ولَا مَسَّهُ".  ([8])

ومنها: ما في كشف الغمّة في ذكر مناقب الإمام الكاظم (ع): ".. وكَانَ أَوْصَلَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ ورَحِمِهِ وكَانَ يَتَفَقَّدُ فُقَرَاءَ الْمَدِينَةِ فِي اللَّيْلِ فَيَحْمِلُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنَ‏ والْوَرِقَ والدَّقِيقَ والتَّمْرَ فَيُوصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ ولَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ هُوَ"([9]). 

يتبين من هذه الشّواهد عدم تماميّة هذا الرّأي، وأنَّه لم يكن الإمام الكاظم(ع) في ضائقة ماليّة بحيث جعلته لا يستطيع تزويج السّيّدة المعصومة -كما ذكر صاحب هذا الرّأي -، بل الشّواهد على خلاف ذلك وأنّ الإمام هو الّذي يعطي ويُعين الآخرين.

الرَّأي الثَّاني: 

أنَّ الإمام الكاظمg هو الّذي أوصى بعدم زواج بناته؛ استناداً لما نُقل: "وأوصى موسى بن جعفر(ع) ألّا تتزوّج بناته، فلم تتزوّج واحدة منهن إلّا أم سلمة، فإنّها تزوّجت بمصر، تزوّجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد، حتَّى حلف أنّه ما كشف لها كنفاً، وأنّه ما أراد إلّا أن يحجّ بها([10]).

فإذا كان كذلك فقد عملت السّيّدة المعصومة بوصيّة أبيها ولم تتزوّج.

وفيه:

أوّلاً: مناقشة سنديّة؛ فما ينقله اليعقوبي ليس بحجّة؛ إذ إنَّ في تاريخه الغثّ والسّمين؛ لأنَّه يروي عن المتّهمين بالكذب مثل: وهب بن وهب أكذب البرية، وهو قاضي المدينة المولى من قبل الرّشيد، بل قد روى عمّن لم يدركهم، ولا يبالي عمّن روى وكيف روى، فلا يُطمأن بما ينقله، خصوصاً إذا انفرد به وكان ما انفرد به أمراً عقديّاً.

ثانياً: لا نسلّم أنَّه أوصى بناته بعدم الزّواج وهو الإمام المفترض الطّاعة، ومحط أنظار الشّيعة وقدوتهم، وبالتّالي قد يتصوَّر كثير من النّاس أنَّ ما فعله دليل على عدم راجحيّة النّكاح، والقول -بأنَّ فعله أعمّ من كونه دالّاً على عدم المرجوحيّة فهو دقّة عقليّة وفهم غير عرفيّ- لا يصغى إليه.

ثالثاً: هو معارض بما رواه الکلينيّ في الکافي الشّريف عن الإمام الكاظم(ع) في وصيّته: >... وإِنِّي قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَلِيّ... وإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ مِنْهُمْ –أولاد الإمام الكاظم(ع)- أَنْ يُزَوِّجَ أُخْتَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ-الإمام الرّضا(ع) وأَمْرِهِ فَإِنَّهُ أَعْرَفُ بِمَنَاكِحِ‏ قَوْمِه‏...<. ([11])

وبما في عيون أخبار الرّضا من وصية الإمام الكاظم(ع)؛ فقد جاء ما مضمونه: أنّه من تتزوّج من بناته فليس لها حظّ من صدقة كان قد جعلها للمساكين من ولده، فإن عادت بغير زوج فإنّها تأخذ من تلك الصّدقة أيضاً. ([12])

رابعاً: يمكن أن يقال -بعد التّسليم بما ذكره اليعقوبيّ-: إنّ الوصيّة بعدم الزّواج مطلقة، ورواية الكافي خصّصتها بالإمام الرّضا(ع) فيمكن الجمع بينهما.

أو يقال – كما ذكره بعض العلماء-: بأنّ السّبب في وصيّة الإمام هو أن يتأكّد من تزويجهنّ بالأكفأ؛ فتزويجهنّ بغير الأكفأ قد يترتّب عليه مفاسد خطيرة. 

الرّأي الثّالث: 

لم تتزوّج بسبب الظّروف والأوضاع السياسيّة، الّتي كان يعيشها أهل البيتi آنذاك، خصوصاً زمان الإمام الكاظمg، وما كان يعيشه من اضطهاد ومضايقة، "حيث إنَّ الخوف والحصار الّذي أثارته سلطة هارون كان نوعاً من التّضييق؛ فلم يكن لأيِّ شخص الاتّصال بتلك الأسرة أو الدّخول إلّا متستّراً ومتنكّراً، كيف والحال هذه أن تكون لديهم الجرأة على خُطبة بنات الكاظم عليه السّلام ومصاهرته؟!؛ لأنَّ من يقدم على ذلك سيعرّض نفسه للمضايقات وغضب السّلطة في ظلِّ حكم الطّاغوت"([13]).

وفيه:

أوّلاً: يلزم منه أنَّ كثيراً من أبناء المعصومين والصّلحاء لا يتزوّجون؛ إذ إنَّ هذا الاحتمال موجود في أغلب مراحل حياتهم كما نشاهده بالوجدان.

ثانياً: لو سلّم، فإنَّه يتمُّ في فترة حياة الإمام الكاظمg، وأمَّا بعد استشهاد الكاظمg فإنَّ التَّاريخ يحدِّثنا بأنَّ العباسيِّين كانوا في صراع على الحكم، ولذا أظهر الإمام الرِّضاg إمامته علانية، وهو ما كان يخفيه الإمام الكاظم(ع)، كما في الرّواية الّتي ينقلها الشّيخ المفيد في إرشاده: أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ  عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: "لَمَّا مَضَى أَبُو إِبْرَاهِيمَ (ع)، وتَكَلَّمَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (ع)، خِفْنَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أَظْهَرْتَ أَمْراً عَظِيماً، وإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ هَذَا الطَّاغِيَةَ، فَقَالَ: >لِيَجْهَدْ جَهْدَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيَ<([14]). 

الرَّأي الرَّابع: 

لم تتزوَّج لعدم الكفؤ؛ فالمكانة السَّامية الرَّفيعة الّتي تتمتَّع بها السّيّدة الجليلة فرضت عدم وجود زوج يكون كفواً لها، (إنَّ بنات الكاظم عليه السّلام، وخاصّة السّيّدة المعصومة عليها السّلام في مستوى الكمال؛ حيث لا يتوفَّر من هو كفؤ؛ ليكون زوجاً لها، وقد أوصى الإمام الكاظم عليه السّلام، بأنَّ الزَّواج بيد الإمام الرّضا عليه السّلام وقبوله في حال أردن الزّواج، كما وتدلُّ الوصية دلالة أخرى، بأنَّه يجب توفُّر الزَّوج المناسب والكفؤ لهنَّ، حيث قال الإمام الصّادق عليه السّلام فيما يخصُّ الزَّهراء عليها السّلام: >لولا أنَّ الله تعالى خلق أمير المؤمنين، لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه<([15])،([16]).

وفيه: أنَّ السّيّدة الجليلة وإن كان لا كفو لها بمستواها من الكمال في ذلك الزّمان بلا شكٍّ ولا ريب، إلّا أنَّه لا يلزم أنّها لا تتزوّج، وإلّا فالإشكال جارٍ في معظم المعصومين، فلا يتزوجون بسبب عدم الكفؤ، فلا دليل على أنَّها لم تتزوَّج بسبب عدم الكفؤ، بل الدليل قائم على حصول الزواج من غير الكفؤ؛ فنحن نرى بعض المعصومين قد تزوّجوا بمن هو ليس بكفؤ لهم، مع قطع النَّظر عن مسألة ملاك المصالح والمفاسد في زواجهم، فأربع من نساء الأنبياء واثنتان من أزواج الأئمَّة -كما يحدّثنا التّاريخ- خير شاهد على ذلك.

الرَّأي الخامس: 

لم تتزوَّج لقصر مدَّة حياتها، ولأنَّها عالمة بذلك فلم تتزوّج، "إنّها وأباها وأخاها يعلمون أنّ عمرها قصير، وهذا الأمر لم يرغّبها في الزّواج"([17]).

وفيه:

أوّلاً: علمها وعلم أبيها وأخيها عليهم السّلام لا يمنعها من الزّواج، ولا يلازم خلق حالة عدم الرّغبة عندها، وإلّا كان على المعصومين الّذين يعلمون بقصر حياتهم ألّا يرغبوا في الطّاعات؛ وذلك لأنَّ الزّواج من المستحبّات الأكيدة، ومصداق واضح من مصاديق الطّاعات، فإذا قلنا بأنَّ السّيّدة الجليلة لأجل علمها بقصر عمرها لم ترغب في هذا المستحبّ الأكيد والطّاعة، يلزم منه أن يكون المعصومون كذلك، واللازم باطل؛ وذلك لأنَّ بعض المعصومين رغم علمهم بقصر حياتهم، إلّا أنَّ ذلك لم يثنهم عن فعل الطّاعات والتّقرّب من الله تعالى.

فالملزوم -وهو أنًّ السّيّدة لم ترغب في الزّواج لعلمها بقصر عمرها- مثل اللازم في البطلان.

ثانياً: لا يوجد دليل ونصٌّ على أنَّها لم تتزوَّج بسبب علمها بقرب أجلها، بل توجد بعض الشّواهد في حياة بعض المعصومين تدلُّ على خلاف ذلك؛ فإنَّ السّيّدة الزّهراء عليها السّلام تزوّجت مبكراً، مع علمها بوقت استشهادها، ومع ذلك لم يمنعها من الزّواج، ومقامنا أولى؛ حيث إنَّ السّيّدة الجليلة -على بعض النّقولات- توفيت في عمر الثّامنة والعشرين، والسّيّدة الزهراء عليها السّلام -على القول المعروف- كان عمرها ثمانية عشر عاماً يوم استشهادها.

ثالثاً: أهل بيت العصمة والطّهارة لا يحرّكهم إلا رضا الله وغضبه، لا الأهواء النّفسيّة والرّغبات، فما يرون لله فيه رضا وخالف رغبتهم أقدموا عليه ولا تأخذهم في الله لومة لائم، وما رأوا فيه غضب الله وكانت النّفس الإنسانيّة ترغب فيه اجتنبوه وابتعدوا عنه.

الرَّأي السَّادس: 

الظّروف السّيّئة التي عاشها العلويّون آنذاك، ألقت بظلالها على حياة السّيّدة الجليلة، فعانت ما عانت من الويلات والمصائب مع أهلها، من تقتيل وتشريد وسجن وإقصاء وتنكيل، فكانوا يتخفّون عن أنظار النّاس ويخفون نسبهم؛ حذراً من استهدافهم من قبل أجهزة السّلطة العباسيّة آنذاك، فكانوا في تقيّة شديدة بحيث لا يظهرون عقيدتهم، وهذا ما دعاها لأن تعزف عن الزّواج. هذا القول لأحد الباحثين قال: "... لما شاهدته ورأته من أهوال وكروب جرت على أبيها وبني عمومتها من قتل وتشريد وسجن، كلّ هذا جعلها تعزف عن التّفكير في الزّواج"([18]).

وفيه:

أوّلاً: الظّروف السّيّئة والمحاربة والتّضييق والتّشريد أصبح أشبه بالأصل، والغالب في سيرة المعصومين والمصلحين والشّيعة، فهل قلَّ الأمر على العلويين والشّيعة في زمن الخلفاء؟ أم في دولة بني أميّة؟ أم بني مروان؟ أم بني العبّاس؟ أم الدولة الثّمانية؟ أم الدّول الظّالمة الآن؟

فما ذكر من مانع لا يعتبر مانعاً عن زواج السّيّدة الجليلة.

ثانياً: لا يوجد دليل على هذا التّحليل المذكور، بل يوجد ما هو مخالف لما ذكر، فما جرى في كربلاء من مأساة هل هناك فاجعة أعظم منها؟ فهل منعت نساء بني هاشم من الزّواج؟ كلّا، لم يمنعهم ذلك.

الرأي المختار: 

بعد اتّضاح المقدِّمات السِّابقة وعدم تماميّة الآراء السّتّة في الاستدلال على عدم زواجهاr، يمكن القول بأنّها تزوَّجت، ولكن لم ينقل التّاريخ ذلك، فليس كلُّ شيءٍ نقله لنا التّاريخ، ولعلَّ ما تعرّض له العلويّون من التّضييق وغيره -الّذي جعله بعضهم مانعاً من زواجها-، يمكن أن يكون المانع من إظهار زواجها، لا أنَّه منعها من الزّواج، وقاعدة لو كان لبان لا تأتي هنا لأنَّه من الواضح عدم وصول كلّ الأحداث التّاريخية بل الواصل منها ربّما -بل محتمل جدّاً- دخلت فيه أيادي الجور والعدوان من أعداء أهل البيت عليهم السّلام، فمسألة زواجها وعدم وصول ذلك إلينا ليس ببعيد.

فلا داعي أن نتكلّف ونختلق أعذاراً لعدم زواجها، وأن ننسب إليها ما لا يناسب شأنها، من اتّباعها لرغبتها أو غير ذلك -والعياذ بالله-.

نعم، يمكن أن يقال: بأنَّه يحتمل عدم زواجها، فإنَّ ما ورد في أنَّ الزَّواج نصف الدّين وغيره..، قد يقال بأنه في غير أهل البيت؛ فإنَّ الكامل في دينه لا يحتاج أن يكمل دينه، وأمَّا أنّها خالفت المستحب بذلك فليس معلوماً؛ إذ يمكن القول بأنَّ ملاك عدم الزّواج في ظرفها أعلى من ملاك الزّواج، ولو باحتمال حفظ الدّين والمذهب والشّيعة، لا أنَّه لعدم رغبتها الشّخصيّة -والعياذ بالله-؛ وذلك أنَّها من أهل بيتٍ رضا الله رضاهم وغضب الله غضبهم.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآلِه الطَّاهرين واللعن الدّائم على أعدائهم أجمعين.


 


([1]) الكافي (ط- الإسلاميّة)، ج‏5، ص329 ، باب كراهة العزبة.

([2]) موسوعة السّيّد الخوئي، ج32، ص3.

([3]) الكافي (ط - الإسلاميّة) / ج‏5 / 329 / باب كراهة العزبة ..... ص : 328.

([4]) بحار الأنوار، للمجلسيّ، ج44، ص258.

([5]) المصدر نفسه، ج46، ص356.

([6]) عيون أخبار الرّضا، للشّيخ الصّدوق، ج2، ص85.

([7])بحار الأنوار (ط - بيروت)، المجلسي، ج‏48، ص104

([8])الكافي (ط - الإسلاميّة)، الكلينيّ، ج‏1، ص485، 486.

([9])كشف الغمة في معرفة الأئمة (ط - القديمة)،بهاء الدين الإربلي،  ج‏2، ص: 228.

([10]) تاريخ اليعقوبي، أبوالعبّاس اليعقوبي، ج2، ص414. 

([11])الكافي (ط - الإسلاميّة)، الكلينيّ، ج‏1، ص316، 317.

([12]) عيون أخبار الرّضا، ج1، ص37.

([13]) حياة كريمة أهل البيت ( بالفارسي)، لمحمّد مهدي اشتهاري، ص154.

([14])الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشّيخ المفيد،  ج‏2 ، ص255.

([15]) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج43، ص107.

([16]) انوار براكنده(فارسى)، لمحمّد مهدي فقيه محمّدي جلاليّ، ج1،ص144.

([17]) نفحات من حياة السّيّدة المعصومة(ع)، المرزوق، ص54.

([18]) نفس المصدر.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا