إن المحرك لسلوك الإنسان في كل تصرفاته وأفعاله من عبادة وعمل وملل وضجر وقيام وقعود الخ.. هو ما يحويه عقله من تصورات واعتقادات تجاه القضايا المختلفة وما يحويه قلبه من ميول ونفور تجاه هذه القضايا، فالمحرك للسلوك هو العلم والميل معاً. فالذي يدفع الإنسان لتجنب النار مثلاً هو علمه بأن هذه النار محرقة ونفوره من الألم الذي يسببه الإحراق، فالمقتضي لوجود الفعل هو الميل، وشرطه وجود العلم، وهذا ما نعبر عنه بالإيمان.
حقيقة الإيمان
الإيمان كما يعرفه الأستاذ الشيخ مصباح اليزدي(حفظه الله):((حالة قلبية ونفسية تنشأ من العلم بمفهوم،والميل إليه))(1). فالإيمان هو المحرك للسلوك والدافع للفعل ففي الرواية عن أبي جعفر (ع) ((الإيمان ما استقر في القلب، وأمضى به إلى الله عز وجل وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره.....))(2) وفي رواية أخرى عن الصادق(ع) ((...الإيمان الهدى وما ثبت في القلوب من جهة الإسلام وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام درجة...))(3). وعن أبي جعفر الباقر(ع) ((قال رسول الله (ص): لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، فانه إذا فعل ذلك خلع عن الإيمان كخلع القميص))(4). ومن هذه الرواية يتضح لنا انه لا يمكن أن يصدر فعل من الإنسان إلا ما هو موافق لما يؤمن به ويعتقد، فلو كان الإنسان يؤمن بالله عز وجل لما صدرت منه المعصية
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وأصل هذا العلم والميل فطري، فلا نحتاج للتصديق بوجود الله سبحانه وتعالى والحركة تجاهه إلى شي خارج أصل هذا العلم والميل{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(5)
العلاقة بين العلم والحب (الميل):
إن العلاقة بين العلم والحب علاقة تبادلية تكاملية، فكل من هذين العاملين يوثر في الأخر ويتأثر به ((فإن من الحب ما يعمي ويصم)) كما ورد عن أمير المؤمنين(ع)، فالحب يؤثر على طبيعة الإدراك والعلم{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}(6) إذا أردنا بالقلب في الآية هو مركز الحب والبغض لدى الإنسان، كما أن طبيعة الإدراك والعلم يؤثر في حب الإنسان ((الناس أعداء ما جهلوا))(7) فمن جهل شيئا بغضه وعاداه. فللعلم كعنصر مكون للإيمان الأثر الكبير على ميل الإنسان ونفوره، وكذلك هو الحال بالنسبة للحالة القلبية من حب وبغض وميل ونفور فله التأثير الكبير في كيفية نظرة الإنسان للأمور وإدراكه للمواضيع المختلفة.
والإيمان يتشكل من هذين العاملين(العلم والميل) فلا يمكن أن نطلق على من عقل وجود الله سبحانه وتعالى وعلم به فقط انه مؤمن حتى لو وصل إلى مرحلة اليقين{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(8) ولا يصدق الإيمان على من أحب الله سبحانه وتعالى من دون معرفته ((أول الدين معرفته))(9).
والإيمان مفهوم مشكك قابل للشدة والضعف، ولا يشتد الإيمان في قلوبنا إلا إذا أخذنا بالأسباب والعوامل والوسائل التي من شأنها أن تعمق هذا الإيمان، ومن هذه العوامل هي العبادة، فللعبادة الدور الأبرز في تعميق الإيمان وترسيخه وخصوصاً الصلاة منها.
العلاقة بين الإيمان والعمل:
قبل الخوض في الدور التي تقوم به العبادة في ترسيخ الإيمان وتعميقه، من المفيد أن نتعرف على ماهية العلاقة بين الإيمان والعمل.
سبق أن قلنا بأن العمل (السلوك) هو أثر ونتيجة للإيمان، فهو مسبب عن الإيمان لا العكس، فالذي يمثل الدافع والمحرك هو الإيمان والذي ينتج عن هذه المحركية هو مختلف الأفعال والسلوكيات ظاهرية كانت أم باطنية، لكن العلاقة لا تقف عند هذا الحد بل تتعدى ذلك، فللعمل والسلوك الدور الكبير في تعميق الإيمان وترسيخه. فالعلاقة بين الإيمان والعمل علاقة تكاملية.
يقول السيد الشهيد الصدر (قده) : إن((الإيمان كغريزة لا يكفي ضماناً لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة….. كما أن السلوك وفقاً للغريزة أو ضدها هو الذي ينمي تلك الغريزة ويعمقها أو يضمرها ويخنقها، فبذور الرحمة تموت في الإنسان من خلال سلوك سلبي، وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء))(10) فالإيمان لا ينمو إلا بالعمل والإيمان من دون عمل يضمر ويضعف.
ويقول الشيخ مصباح اليزدي(حفظه الله): ((… فإن مثل هذا العمل (السلوك وفقاً للغريزة) له تأثيره في تقوية الإيمان، وإضاءة القلب أكثر وفي الصورة الثانية (السلوك ضد الغريزة) فإن العمل يؤدي إلى ضعف الإيمان، وظلمة القلب))(11) يقول الله سبحانه وتعالى{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(12) وفي آية أخرى إشارة للصورة الثانية {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}(13).
ولكي تتضح طبيعة العلاقة أكثر نقول: إن الإيمان له درجات ومراتب وما لم يصل الإنسان ِإلى الدرجة العليا وهي الإخلاص كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال((وكمال توحيده الإخلاص له))(14)، لابد من أن يشوب النفس شي من الحب لغير الله سبحانه وتعالى أو يشوبها شي من الشك، وهذا بدوره يقتضي صدور بعض الأفعال المسانخة لهذا الحب والمخالفة للحب الأغلبي (إن صح التعبير) أي حب الله سبحانه وتعالى، وإذا تكرر هذا الفعل تعمق في قلب الإنسان حب ما سوى الله سبحانه وتعالى، وزاد إلى أن تصل النوبة إلى أن ينخلع الإيمان من قلب الإنسان كما صرحت الآية{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}(15).
((إن تعارض اعتقادان أو إدراكان أو اعتقاد وسلوك لدى الإنسان يفضي للشعور بعدم الراحة والاستقرار، ويحاول الإنسان التخلص من هذا الشعور إما بتغيير اعتقاده أو بتغيير سلوكه))(16). وهذا ما يسمى بالتنافر الإدراكي في مباحث علم النفس الحديث.
دور الصلاة في تعميق الإيمان:
إن الإيمان((بدون سلوك معمق قد يضمر... ولا يعدو الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان، وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة))(17) ((والعبادات هي التي تقوم بدور التعميق لذلك الشعور لأنها تعبير عملي وتطبيقي لغريزة الإيمان، وبها تنمو هذه الغريزة وتترسخ في حياة الإنسان))(18).
ولكل عبادة آثار خاصة بها تختلف عن آثار العبادة الأخرى تنصب جميعها في تحقيق الإيمان بالله سبحانه وتعالى وترسيخه وتعميقه، وللصلاة آثارها الخاصة بها التي تتميز بها عن سائر العبادات، ولكن ليست كل صلاة تحقق الغاية وتوصل إليها، إنما هي عبادة وصلاة المتقين، الصلاة التي تتوفر على الشروط اللازمة، فكان من الحري بنا قبل أن نبين آثار الصلاة أن نبين ما هي الصلاة التي لها هذه الآثار، وما هي الشروط التي يجب أن تتوفر عليها هذه العبادة.
شروط الصلاة:
كما قلنا إن للصلاة آثار كبيرة في تعميق وترسيخ الحالة الإيمانية لدى الفرد المؤمن، ولكن هذه الآثار لا يمكن أن تجنى ثمارها إلا إذا توفرت الصلاة على شروط ومواصفات بدونها تكون الصلاة مجرد لقلقة لسن وعادة اعتادها الإنسان لا أكثر ولا أقل ولهذا المعنى(إن الصلاة قد تكون مجرد لقلقة لسان وعادة) تشير بعض الروايات، فعن أئمة أهل البيت (ع) ما مضمونه((لا تختبروا الناس بصلاتهم فإنهم اعتادوا عليها وإنما اختبروهم برد الأمانات)) والمقصود من الصلاة في الرواية هي الصلاة الفاقدة للشروط الباطنية للصلاة التي لا تعدو أن تكون مجرد عادة اعتادها الإنسان. ومن هنا كان حقاً على كل إنسان مسلم أن يراعي الشروط المطلوبة في الصلاة وأن يجتهد في تحصيلها والمحافظة عليها، والمقصود بالشروط هنا ليست الشروط الفقهية التي يذكرها الفقهاء في الرسائل العملية؛ إنما المقصود بها هي الشروط الباطنية للصلاة (بحسب تعبير علماء الأخلاق) وورد التأكيد في الشرع على الاهتمام بالصلاة وتوعد من استخف بها أو تهاون في أدائها.
عن أبي جعفر (ع) ((لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (ص) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته، ليس مني من شرب مسكراً، لا يرد علي الحوض لا والله))(19).
وعن أبي الحسن الأول (ع) أنه قال ((لما حضرت أبي الوفاة قال لي : يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة))(20)
وعن الإمام الباقر (ع) قال: ((بينما رسول الله (ص) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلي فلم يتم ركوعه ولا سجوده. فقال (ص): نقر كنقر الغراب! لئن مات هذا الرجل، وصلاته هكذا، ليموتن على غير ديني))(21).
وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ((والله انه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله من صلاة واحدة، فأي شي أشد من هذا ؟ والله إنكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إن الله لا يقبل إلا الحسن فكيف يقبل ما يستخف به))(22).
إن الإنسان الذي يقبل على صلاته بفتور وضجر((لما يرى حين التهيؤ لأداء الصلاة بأن هناك أموراً أخرى في نظره أهم منها، وإنها تتزاحم مع هذه الأمور الهامة، فيفضل غير الصلاة عليها...إن مثل هذه العبادة لا نورانية لها، بل تكون مثار سخط إلهي، وانه مستخف بالصلاة ومتهاون في أمرها))(23) ويكون هذا الإنسان مصداقاً للإنسان المنافق كما صرح القرآن بذلك في وصفه المنافقين{وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى}(24) ويكون هذا الإنسان مصداقاً من مصاديق المستخفين بالصلاة التي توعدتهم الآيات بالويل { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}(25) وتوعدتهم الروايات بحرمان الشفاعة((...لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة))(26)
إن أداء الصلاة بشروطها والمحافظة على حدودها أخذ في حدود التقوى والإيمان في القران الكريم يقول عز من قائل{ الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}(27) فمن لم يقم صلاته ويؤدها بحدودها فهو خارج عن زمرة المتقين والمؤمنين.
ولابد من الالتفات هنا إلى أن الإقامة للصلاة ليست بمعنى أداء الصلاة بصورتها الظاهرية، بل بمعنى أداء الصلاة مع المحافظة على حدودها وتشييد بنائها الباطني، فيقول عز من قائل في وصفه المؤمنين{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}(28) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(29) أي الذين يحافظون على الصلاة بإقامة حدودها وحفظ شروطها، بينما عندما يتكلم عن المنافقين نرى أن الآيات لا تعبر بالإقامة، بل يقول عز من قائل{وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى}(30) فعبرت الآية بالإتيان تنبيهاً على أن الإقامة لا تتحقق بمجرد أداء الصلاة بصورتها الظاهرية، بل لابد من إقامة حدود الصلاة ومراعاة شروطها الباطنية.
فعلينا أيها الأحبة أن لا نغفل عن إقامة حدود الصلاة، فالصلاة عمود الدين ((إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها))(31) كما في مضمون الأثر، ولا تنفع الإنسان يومئذ الندامة والحسرة{يا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}(32) { فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(33). وسنكتفي هنا بذكر أهم الشروط وأبرزها:
1- الخشوع: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}(34).
ليست كل صلاة وسيلة يستعين بها الإنسان على مشقات حياته ومعول يحطم به قيود شهواته ونزواته، بل نلحظ بالوجدان، إننا نؤدي الصلاة منذ صغرنا ولم نفكر لحظة من اللحظات أن نتخلى عنها أو نتركها، لكن مع ذلك نرى أن صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر ولم نستطع أن نتغلب على هوانا وشهواتنا بالصلاة. فما السر في ذلك يا ترى؟
تجيبنا الآية جواباً صريحاً وهو إن الصلاة التي هي المعين للإنسان على شهواته ونزواته إنما هي صلاة الخاشعين، أما الصلاة التي يفقدها الخشوع فهي حركات فارغة من أي محتوى لا قيمة لها في ميزان العمل ف((الصلاة ميزان، من وفى استوفى))(35) كما ورد عن سيد البشرية (ص).
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(36) يقول العارف بالله السيد روح الله الإمام الخميني(قده): ((فالآية الكريمة عدت الخشوع في الصلاة من حدود الإيمان وعلاماته، وعلى أساس قوله تعالى هذا فإن غير الخاشع في صلاته خارج عن زمرة أهل الإيمان، كما أن صلاتنا غير مشفوعة بالخشوع نتيجة نقص الإيمان أو فقدانه))(37) وفي كلامه تصريح بالعلاقة التكاملية بين الإيمان والعمل فالخشوع مسبب عن الإيمان والإيمان يزداد ويشتد إذا خشع الإنسان في صلاته، فالإنسان غير الخاشع في صلاته فاقد للإيمان أو غير كامل الإيمان، ولا عجب في ذلك، فأي إنسان هذا الذي يؤمن بأنه واقف أمام جبار السموات والأرض، واقف أمام من بيده ناصيته، واقف أمام من كل وجوده منه ومصيره ومرجعه إليه ولا يخشع !!! نحن عندما نقف أمام إحدى الشخصيات التي نعتقد بأهميتها نقف والجبين يتصبب عرقاً، نقف ونفوسنا يملؤها الارتباك والتردد، وفرائصنا ترتعد من الخشية !! لكن عندما نقف أمام الله سبحانه وتعالى رب العالمين، أمام الرحمن الرحيم ومالك يوم الدين، نقف والضجر والملل يملأ نفوسنا وقد ترى البعض لا تمر اللحظة عليه إلا ورفع يده ووضعها على فمه ليتثاءب!!! فهل هذا ما يأمر به إيماننا ؟!! وهل يصدق علينا بأننا مؤمنون؟!!
2- حضور القلب: ربما كان الكثير من الآداب القلبية مقدمة لأدب حضور القلب، فبدونه تفقد العبادة روحها ومعناها.
يقول السيد الإمام (قده): ((حضور القلب مفتاح الكمالات والباب الرئيس لأنواع السعادات، وقلما ورد في الأحاديث الشريفة ذكر لأمر كثرة ما ذكر في هذا الأمر، وقلما نال سواه من الآداب ما ناله من الاهتمام))(38).
عن الإمام الباقر(ع) قال((إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها… فما يرفع له إلا ما أقبل عليه منها بقلبه))(39) وعن الإمامين الصادقين(ص) أنهما قالا: ((إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها، فإن أوهمها كلها أو غفل عن آدابها لفت فضرب بها وجه صاحبها))(40).
إن الصلاة عمود الدين، وبها تقبل سائر الأعمال، وقبول الصلاة إنما هو بإقبال القلب فيها، وبدونه لا قيمة للصلاة، ولذا فحضور القلب مفتاح الكمالات والباب الرئيس لأنواع السعادات، وهذا أمر بديهي واضح، إذ كيف يصدق على الإنسان انه عابد أو يتعبد وقلبه ساه وغافل عن ذكر الله سبحانه وتعالى وعن ما يقوم به من أفعال أثناء صلاته((فإن القلب إذا كان غافلاً ساهياً حين العبادة، فإن عبادته لا تصبح حقيقة ولا تكون سوى أمر شبيه باللعب واللهو))(41) ((ولا شك أن مثل هذه العبادة _كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات_ لا تؤثر في النفس إطلاقاً ولن ترقى من الشكل الظاهر إلى الباطن والملكوت))(42) وعن رسول الله (ص) قال لأبي ذر: ((يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب لاه ))(43)
يعلم جميعنا أنه عندما يعرض إنسان عن آخر، أو يحدثه وقلبه وفكره مشغول بأمور أخرى، هذا يعني عدم اهتمام هذا الإنسان بمن يخاطبه، ويعتبر هذا السلوك في عرف الناس سلوك سيء ينم عن عدم الاحترام وسوء الأدب، فما بالكم بهذا السلوك مع العلي العظيم، أليست هذه جرأة من العبد على مقام الربوبية؟!!، فالله سبحانه وتعالى يقبل على العبد، وهو الذي يعرض عنه، فما هذه الوقاحة والجرأة ؟!!{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}(44) وبعد ذلك ماذا ينتظر هذا من الله سبحانه وتعالى؟ هل يقبل الله سبحانه وتعالى عليه !!؟. ((إذا أحرمت في الصلاة فأقبل عليها فإنك إذا أقبلت أقبل الله عليك، وإذا أعرضت أعرض الله عنك، فربما لم يرفع من الصلاة إلا الثلث أو الربع أو السدس على قدر إقبال المصلي على صلاته ولا يعطي الغافل شيئاً))(45) كما روي عن الإمام الصادق (ع).
آثار الصلاة:
وسنقتصر هنا على ذكر بعض الآثار التي من شأنها أن تعمق الأيمان وترسخه، وإلا لو أردنا أن نستقصي جميع ما يظهر لنا من آثار الصلاة قد يحتاج هذا إلى جهد كبير فوق طاقتنا. وآثار الصلاة متعددة ومتنوعة فمنها ما يؤثر في الإيمان مباشرةً ومنها ما يؤثر بشكل غير مباشر:
1- الصلاة والإخلاص: إن الشرط الأول من شروط صحة وقبول الصلاة هو نية القربى، أي أن تكون الصلاة خالصة لوجه الله سبحان وتعالى، وما لم تتوفر الصلاة على هذا الشرط فالصلاة غير مقبولة بل غير صحيحة أيضاً، ويمثل الإخلاص أمّ الصفات الأخلاقية العملية وأهمها، فهو أعلى الإيمان وملاك العبادة ولولاه لم تقبل العبادات ولا المعاملات، وهو غاية اليقين الذي يحدد مراتب المؤمنين فيتفاضل من خلاله المؤمنون، وهو سرٌ إلهي يستودعه الباري قلب مَن يحب من عباده وبه الخلاص والنجاة والفوز العظيم. من هنا كانت الصلاة عبارة عن ممارسة عملية لغرس روح الإخلاص لله سبحانه وتعالى والتخلص من عبادة الذات والهوى، والإخلاص كمال الإيمان ((وكمال توحيده الإخلاص له))(46) كما ورد عن أمير المؤمنين (ع)، فالمؤمن عندما يقف أمام الله سبحانه وتعالى وهو في غاية الخضوع له سبحانه وتعالى وحده، من شأن هذا أن يرسخ الإخلاص في قلب المؤمن، وأن يجعل كل أعماله حتى المباحات لوجه الله سبحانه وتعالى. والصلاة من هذه الجهة عبارة عن سلوك تدريبي يدرب الإنسان المؤمن على أن يجعل المحرك لكل حركاته وسكناته الله سبحانه وتعالى وحده، وأن يتخلص من عبادة الهوى والأنا، وأن يتحرر من قيود الشهوات والنزوات{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(47)
2- الصلاة والخضوع: إن للصلاة كمظهر من مظاهر الخضوع المطلق لمطلق الوجود عز وجل أثر كبير في تربية النفس وتحطيم قيود الأنا وعبادتها، فأفعال الصلاة من ركوع وسجود ودعاء هي غاية ما تدل عليه الأفعال من خضوع وتذلل. وبها يتمرس العبد على أن يجعل كيانه تحت سلطة الباري وتصرفه، وأن يجعل قوى النفس الباطنة والظاهرة تحت تصرف المولى وتحت إرادته، ((... ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما فرضته عليه وانه لا يتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته))(48) وهذا هو غاية التسليم الذي هو ركن من أركان الإيمان فعن أبي عبدالله الصادق (ع) عن أمير المؤمنين (ع) قال بما مضمونه: ((إن للإيمان أركان أربعة: رابعها التسليم لأمر الله عز وجل))(49).
3- الذكر: عندما يقف الإنسان المؤمن خمس مرات في اليوم أمام الله سبحانه وتعالى وهو في غاية الخضوع والتذلل يكون بمثابة من يجدد العهد لله سبحانه وتعالى بالخضوع والطاعة والعبودية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}(50)، فالإنسان قد ينشغل بأموره الدنيوية من عمل ودرس وغيره من دون وعي والتفات إلى الغاية والهدف من هذه الأعمال والذي هو رضا الله عز وجل، فتكون الصلاة بمثابة المذكر والمنبه عن الغفلة ((إن الله أحب أن يبدأ الناس كل عمل أولاً بطاعته وعبادته، فإذا فعلو ذلك لم ينسوه ولم يغفلوا عنه، ولم تقس قلوبهم))(51). إن الصلاة تجدد طاقة الإنسان الروحية والإيمانية وتجعل العبد دائم التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون الله عز وجل شاخصاً أمام العبد في كل لحظاته وفي كل حركاته وسكناته، فالصلاة عبارة عن محطات يومية لتذكير العبد بالله سبحانه وتعالى وصرفه عن كل ما يشغله من مشاغله اليومية إلى الله سبحانه وتعالى، وكلما كان الإنسان في حالة ذكر دائم(الذكر القلبي) كلما اشتد الارتباط بالله سبحانه وتعالى وبصفاته وأفعاله وأوامره.
4- الصلاة وتقوية الإرادة: إن للصلاة اثر كبير في تقوية إرادة الإنسان وتنمية العزم لديه، وخصوصاً صلاة الليل. يقول عز من قائل{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}(52) ((فقيام الليل بما فيه من مجاهدة النفس، وتحكم في الهوى، ومعاناة في سبيل الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى باعتبار مواجهة أتعاب النهار، وسلطان النوم، والشعور بالوحدة في جوف الليل، وباعتبار ذلك يكون قيام الليل أشد وطئاً وأكبر أثراً على بناء الإرادة والصبر وبناء الجهاز الحاكم في الشخصية الإسلامية، وما أحوج الإنسان المؤمن في الدرب الطويل، والمسيرة الصعبة وعناء الدعوة، إلى بناء الإرادة، وتكوين ملكة الصبر، الصبر الذي يكون لله وعلى عبادة الله))(53) {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}(54) فمن أراد أن يتحمل المعاناة في طريق الإيمان وأن يشحذ عزمه فليستعن بالصلاة، فبها يستطيع الإنسان أن يبسط يدي إرادته ويتسلط ويسيطر على قواه الباطنة والظاهرة وأن يحرر نفسه من قيود الهوى وبراثين الشهوة. والفرق بين الأثر الثاني وهذا الأثر، بأن النقطة الثانية كانت تشير إلى أثر الصلاة في وضع قوى النفس تحت تصرف الإرادة الإلهية والتسليم المطلق لها، أما هذه النقطة تشير إلى أثر الصلاة في تقوية الإرادة وتمكينها من التصرف في قوى النفس.
والحري بنا كأناس ننتمي لهذا الدين القويم، الدين الذي جاء لهداية البشرية{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(55) أن نجتهد لتحصيل بركات الصلاة وخيراتها التي بها سعادة الدنيا والآخرة، وبها يصل الإنسان والمجتمع إلى كماله{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}(56) فالخير كل الخير في الصلاة فهي طريق المؤمن للإيمان ومعراج المؤمن للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فـ ((الصلاة معراج المؤمن))(57) و((قربان المتقين))(58) كما ورد عن أئمة أهل البيت (ع).
* الهوامش:
(1) دروس في العقيدة الإسلامية، ص471.
(2) أصول الكافي، باب الإيمان يشرك الإسلام والسلام لا يشرك الإيمان،ح5 ص51.
(3) نظرات في الإعداد الروحي،ص72.
(4) أصول الكافي،كتاب الكفر والإيمان، ح1، ص57.
(5) سورة الروم: 30.
(6) سورة التوبة: 87.
(7) نهج البلاغة،قصار الكلمات،ح172،ص584.
(8) سورة النمل: 14.
(9) نهج البلاغة، الخطبة الأولى،ص15.
(10) نظرة عامة في العبادات، ص20.
(11) دروس في العقيدة الإسلامية، ص249.
(12) سورة فاطر: 10.
(13) سورة الروم: 10.
(14) نهج البلاغة، الخطبة الأولى،ص15
(15) سورة الروم: 10.
(16)Organizational Behavior، p96 (بتصرف)
(17) نظرة عامة في العبادات، ص20.
(18) نفس المصدر، ص20
(19) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص269.
(20) نفس المصدر، المجلد الثالث، ص270.
(21) نظرة عامة في العبادات، ص45.
(22) نفس المصدر، ص 45.
(23) الأربعون حديثاً، ص388.
(24) سورة التوبة: 54.
(25) سورة الماعون: 5.
(26) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص270.
(27) سورة البقرة: 1- 3.
(28) سورة البقرة: 3.
(29) سورة المؤمنون: 9.
(30) سورة التوبة: 54.
(31) من لا يحضره الفقيه، ج1، باب 30، ح5
(32) سورة الزمر: 56.
(33) سورة يس: 54.
(34) سورة البقرة: 45.
(35) نظرة عامة في العبادة، ص45.
(36) سورة المؤمنون: 1- 2.
(37) الآداب المعنوية للصلاة، ص22.
(38) نفس المصدر، ص55.
(39) وسائل الشيعة3: 52.
(40) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص363.
(41) الآداب المعنوية للصلاة، ص57.
(42) نفس المصدر، ص57.
(43) وسائل الشيعة، ج3، ص54.
(44) سورة الزمر: 22.
(45) مستدر الوسائل، 3010 /4،ج3، ص57.
(46) نهج البلاغة، الخطبة الأولى، ص15.
(47) سورة العنكبوت: 45.
(48) أصول الكافي، ج2 باب من آذى المسلمين واحتقرهم، ح7، ص361
(49) نفس المصدر، باب خصال المؤمن،ح2،ص74.
(50) سورة طه: 14.
(51) عيون أخبار الرضا،10،108.
(52) سورة المزمل: 6.
(53) نظرات في الإعداد الروحي، ص221.
(54) سورة البقرة: 45.
(55) سورة البقرة: 2.
(56) سورة الجن: 16.
(57) فروع الكافي، كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة، ج3، ص265.
(58) نفس المصدر السابق.
0 التعليق
ارسال التعليق