بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
مقدمة:
تعتبر الإمامة من أهم المباحث الإسلامية في علم الكلام، حيث كانت هي محلّ البحث والنقاش بين العلماء، وهي المفصل الرئيسي الذي من خلاله تحل جميع المسائل التي اختلف فيها المسلمون، وتفرقوا إلى مذاهب متعددة، والإمامة بنفسها محل خلاف حتى في معناها وشروطها، وهل هي من الفروع أو الأصول؟، فذهب أتباع أهل البيت(ع) إلى أن الإمامة منصب إلهي لا دخل لأي شخص من الأمة في تحديده، ولو اجتمعت الأمة كلها ما استطاعت معرفة الإمام، وكما يقول الإمام الرضا(ع): «الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله.......، من ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات، ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب..........، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله..........، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا......»(1).
بينما ذهب الآخرون إلى أن الإمامة بيد المسلمين، ينصِّبون من شاؤوا ويعزلون من شاؤوا. والفارق بين النظريتين شاسع، فعلى نظرية أهل البيت(ع) يكون هناك من يمثل الرسول(ص) بعد رحيله، ويجب على الأمة طاعته، وإن لم يتأتى له استلام الخلافة الظاهرية( قيادة الحكومة الإسلامية)، لأن الخلافة الظاهرية ما هي إلا وظيفة من وظائف الإمام المنصّب من قبل الله، فإذا منع منها لا يعني زوال بقية الوظائف المناطة به.
بينما تحصر النظرية الأخرى وظيفة الإمام في الخلافة الظاهرية، فإذا منع منها فقد زالت إمامته، ولا يوجد –حسب هذه النظرية- من يمثل الرسول(ص) تمثيلاً حقيقياً، وفي جميع الوظائف التي كان يؤديها الرسول(ص).
وسوف نبحث هنا -إن شاء الله تعالى حسب عقيدتنا في الإمامة- الأدوار التي قام بها أوّل الأئمة، أمير المؤمنين وإمامهم وقائدهم وسيدهم علي بن أبي طالب(صلوات الله عليه)، في مرحلة من أهم المراحل التي مر بها خلال حياته المباركة، وهي فترة الخلفاء الثلاثة، التي دامت ما يقارب خمسة وعشرين سنة، وكانت الأمة قد حرمت نفسها من عطاءه عندما أبعدته وأقصته عن مواقع القرار، وقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: «إن تستخلفوا علياً _وما أراكم فاعلين_ تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة البيضاء»(2).
ولكن أمير المؤمنين(ع) قام بمسؤوليته كإمام، وعلى حسب ما أوصاه رسول الله(ص)، وأدى ما فرضه الله عليه من أدوار مهمة، نذكر منها ما يسعفنا ذكره، وعلى حسب طاقتنا، فإنه لا يمكننا إحصاء كل ذلك.
الدور الأول: إقامة الحجة البالغة في أحقّيّته بالخلافة:
كان أمير المؤمنين(ع) مأموراً بالصبر على ما سيجري عليه، كما ورد في أحاديث كثيرة، منها أن النبي(ص) بكى في حادثة فقال له أميرُ المؤمنين(ع): «ما يبكيك يا رسول الله قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني فقال: يا رسول الله أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم؟ قال: بل تصبر. قال: فإن صبرت؟ قال: تلاقي جهداً. قال: أفي سلامة من ديني؟ قال: نعم قال: فإذاً لا أبالي»(3).
ولكن هذا الصبر الذي أُمر به أمير المؤمنين(ع) مشروط بعدم وجود الناصر كما في بعض الروايات، فقد جاء في شرح أبن أبي الحديد ما لفظه: « ويقال أنه(ع) لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان يحمل فاطمة(ع) ليلاً على حمار وابناها بين يدي الحمار، وهو(ع) يسوقه فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان، ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة وكذلك في الليلة الثالثة....»(4).
وبعد اليأس من وجود الناصر، بقي(ع) يؤكد -في موارد كثيرة ومتكررة، وفي كل فرصة متاحة- على أنه هو الخليفة الشرعي المنصّب من قبل الله، مع علمه(ع) بأنهم لن يصغوا إليه ولن يسلّموه الخلافة، وإنما كان ذلك منه إقامة للحجة تلو الحجة، وحتى تصل هذه النظرية _نظرية الإمامة الإلهية- إلى الأجيال المتلاحقة ناصعة لمن أراد الحق، فكل من يدخل في مذهب الحق، فبفضل ما قام به أمير المؤمنين(ع).
فمتعلق التقية التي أُمر بها أمير المؤمنين(ع)، إنما هي عدم القيام بالسيف لأخذ حقه، ولا تشمل الإحتجاج وبيان حقه للناس، ومعارضة من سلب حقه في الخلافة، كما سيتبين إن شاء الله تعالى.
مواقفه(ع) في بيان حقه:
والمواقف التي صدرت منه(ع) في هذا الصدد تمتد على طول هذه الفترة، من رحيل المصطفى(ص) إلى تسلمه للخلافة الظاهرية وبعدها.
فقد أبدى(ع) احتجاجه منذ البداية على سلب حقه، وامتنع عن البيعة فترة وجود الزهراء(ع)، كما ورد في البخاري عن عائشة -وهي بنت الخليفة وتعلم ما يجري في بيت الخلافة- أنها قالت: فلما توفيت(الزهراء(ع)) دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يُؤذنْ بها أبا بكر، وصلّى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفّيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر(5).
وهذا الامتناع عن البيعة إنما هو لتسجيل الإعتراض الصارخ والمدوّي، الذي يسعى كثيرٌ الطمسَ عليه، لما له من دلالات كبيرة ومهمة، لكون علي(ع) ممن أجمعت عليه الأمة، ولكون امتناعه يؤدي إلى عدم شرعية ما اتفقوا عليه، ولكن المصادر تؤكد بما لا مزيد عليه من أنه(ع) قد امتنع عن البيعة، مهما اُختلف في مدة الامتناع.
خطبته(ع) في المهاجرين والأنصار:
ولم يكتف أمير المؤمنين(ع) بذلك، بل خطب في المسلمين حين أرادوا منه البيعة قائلا: «يا معاشر المهاجرين والأنصار الله الله، لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس، يا معاشر الجمع إن الله قضى وحكم، ونبيه أعلم، وأنتم تعلمون أنا أهل البيت أحق بهذا الامر منكم، أما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم»(6).
ولكنهم أداروا له ظهرهم، وأغلقوا آذانهم، وقد جاءت له الزهراء(ع)، فأخذته منهم ورجعا إلى المنزل، وزيادة في إقامة الحجة، كان أمير المؤمنين(ع) -كما تقدم- يأخذ الزهراء(ع) والحسنان(ع)، ويدور على بيوت الأنصار ويذكّرهم بوصايا النبي(ص) فيه وفي أهل بيته(ع)، كما عن الإمام الباقر(ع): « أن عليا(ع) حمل فاطمة صلوات الله عليها على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة(ع) الإنتصار له، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلناه به، فقال علي(ع): أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه»(7).
اختصامه(ع) مع العباس:
وفي حادثة لطيفة اختصم فيها علي(ع) والعباس اختصاماً صورياً _بعد أيام من مبايعة الناس لأبي بكر_ في بغلة النبي(ص) وسيفه وعمامته، فأقبلا حتى جلسا عند أبي بكر فافتتح العباس الكلام. فقال له أبو بكر: لا تعجل يا أبا الفضل، فإني سائلك عن أمر لست أسألك إلا وأنا عالم به: أنشدك بالله ! هل تعلم أن رسول الله(ص) جمع بني عبد المطلب وأولادهم وأنت فيهم فقال: «يا بني عبد المطلب، إنه لم يبعث الله نبياً إلا وجعل له أخاً ووزيراً ووارثاً ووصياً من قومه وخليفة من أهل بيته، فمن يقوم منكم يبايعني على أنه يكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أهلي»، فلم يقم أحد منكم ! فقال النبي (ص): «[يا بني عبد المطلب] كونوا في الإسلام رؤوسا ولا تكونوا أذنابا، والله ليقومن قائمكم وليكونن في غيركم، ثم لتندموا من بعد»، فقام علي من بينكم فبايعه على ما شرط له ودعاه إليه، تعلم أن هذا جرى من رسول الله(ص)؟! فقال له العباس: نعم، والحجة في هذا عليك ! وإلا فما أقعدك في مجلسك هذا؟ ! ولم تقدمت وتأمرت عليه؟ ! فأطرق أبو بكر وتشاغل بشيء آخر، ونهض علي آخذا بيد العباس وهو يقرأ: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض} (8)إلى آخر الآية. وروي أنهما قدما على عمر بعدما صار الأمر إليه، فقال لهما عمر: أخرجا عني، فهمت يا بني عبد المطلب ؛ هذا الذي فعله العباس إنما فعله توبيخاً لأبي بكر وتهجيناً له وتنبيهاً على أنه غاصب حق علي(ع) (9).
اظهاره(ع) الاحتجاج بشكل دائم:
وكان أمير المؤمنين(ع) يبدي الإنزعاج والكراهية لما فعله القوم، حتى يظهر ذلك لهم ويعلموه منه، فقد روى الصدوق(ره) في الخصال عن الإمام السجاد(ع) أنه قال: «لما كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب(ع) ما كان، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه انقباضاً، فكبر ذلك على أبي بكر فأحب لقاءه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إياه أمر الأمة وقلة رغبته في ذلك وزهده فيه، أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة، وقال له: والله يا أبا الحسن ما كان هذا الامر مواطاة مني، ولا رغبة فيما وقعت فيه، و لا حرصاً عليه ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة ولا قوة لي لمال ولا كثرة العشيرة ولا ابتزاز له دون غيري فمالك تضمر عليّ ما لم أستحقّه منك وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه وتنظر إليّ بعين السأمة مني.........، (إلى أن يقول) قال علي(ع): أجل ولكن أخبرني عن الذي يستحق هذا الأمر بما يستحقه؟ فقال أبو بكر: بالنصيحة، والوفاء، ورفع المداهنة والمحاباة، وحسن السيرة، وإظهار العدل، والعلم بالكتاب والسنة وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد. ثم سكت فقال علي (ع): أنشدك بالله يا أبا بكر أفي نفسك تجد هذه الخصال أوفيّ؟ قال: بل فيك يا أبا الحسن......(فذكر أمير المؤمنين ما يزيد عن ثلاثين خصلة ومنقبة)، إلى أن يقول السجاد(ع): «فلم يزل عليه السلام يعد عليه مناقبه التي جعل الله له دونه ودون غيره ويقول له أبو بكر: بل أنت، قال: فبهذا وشبهه يستحق القيام بأمور أمة محمد(ص)، فقال له علي(ع): فما الذي غرّك عن الله وعن رسوله وعن دينه وأنت خلو مما يحتاج إليه أهل دينه؟ قال: فبكى أبو بكر.....»(10).
فنرى هنا أن أمير المؤمنين(ع) يسعى دائماً لإقامة الحجّة والبرهان، حتى لمن يعلم علم اليقين أن الحق مع علي(ع).
وهذا الإحتجاج الدائم والمستمر جعل الخليفة الثاني أيضاً مهتماً بهذا الأمر وخائفاً من مطالبة علي(ع) للخلافة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: «دخلت على عمر في أول خلافته.....، قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان ويقرأ القرآن، قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله(ص) نص عليه؟ قلت: نعم وأزيدك سألت أبي عما يدّعيه فقال: صدق...» (11).
وقول عمر هنا: « أيزعم أن رسول الله(ص) نص عليه؟»، محاولة لإخفاء الحقيقة التي طالما كان علي(ع) يؤكد عليها، في أكثر من مناسبة كما تقدم.
وهذا ما يجعل أمير المؤمنين(ع) يستمر في بيان أمر الإمامة الإلهية، ويؤكد عليها طوال أيام حياته المباركة، حتى لا تُطمس الحقيقة الثابتة، وتنقلب إلى ضدها، وتصبح النظرية الأخرى للإمامة هي النظرية الثابتة التي لا شك فيها ولا ريب، كما هو الحال عند جماعة كثيرة من المسلمين، فقد أصبح الحال لديهم أن نظرية الشورى مسألة يقينية ثابتة، حتى كأن النبي(ص) قد أوصى بهذه النظرية، ولم يرض بسواها.
احتجاجاته(ع) عند الشورى:
وقد استمرت احتجاجات أمير المؤمنين(ع) عندما أرادوا مبايعة عثمان، فقد روي عن أمير المؤمنين(ع) أنه خطب ذات يوم، وقال: أيها الناس: انصتوا لما أقول رحمكم الله، إن الناس بايعوا أبا بكر وعمر وأنا والله أولى منهما بوصية رسول الله، -وسكت- وأنتم اليوم تريدون أن تبايعوا عثمان، فإن فعلتم - وسكت - والله ما تجهلون محلي، ولا جهل من كان قبلكم ولولا ذلك قلت مالا تطيقون دفعه. فقال الزبير: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي(ع) أنشدكم بالله: هل فيكم أحد وحد الله، وصلى مع رسول الله(ص) قبلي؟ أم هل فيكم أحد أعظم عند رسول الله(ص) مكانا مني؟ أم هل فيكم من كان يأخذ ثلاثة أسهم: سهم القرابة، وسهم الخاصة، وسهم الهجرة أحد غيري؟..... إلى أن قال(والحديث طويل): أم هل فيكم من باهل به النبي(ص) أحد غيري؟ قال: فعند ذلك قام الزبير وقال: صح مقالتك ولا ننكر منه شيئا ولكن الناس بايعوا الشيخين، ولم يخالفوا الإجماع، فلما سمع ذلك، نزل وهو يقول: {وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}(12) (13).
وروى الصدوق(ره) في الخصال عن عامر بن واثلة أنه قال: كنت في البيت يوم الشورى فسمعت علياً(ع) وهو يقول: «استخلف الناس أبا بكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لهم علي فضل، ولو أشاء لاحتججت عليهم بما لا يستطيع عربيّهم ولا عجميّهم المعاهد منهم والمشرك تغيير ذلك، ثم قال: نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحّد الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله(ص): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي " غيري؟ قالوا: اللهم لا...... (14)، (وذكر(ع) فضائله الكثيرة التي لا تنكر، وهم في كل ذلك يعترفون له).
ويروي الصدوق(ره) رواية أخرى في كتاب العلل عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «لما كتب عمر كتاب الشورى بدأ بعثمان في أول الصحيفة وأخر علياً أمير المؤمنين(ع)! فجعله في آخر القوم، فقال العباس: يا أمير المؤمنين يا أبا الحسن أشرت عليك في يوم قبض رسول الله أن تمد يدك فنبايعك فإن هذا الامر لمن سبق إليه، فعصيتني حتى بويع أبو بكر، وأنا أشير عليك اليوم أنَّ عمر قد كتب أسمك في الشورى وجعلك آخر القوم، وهم يخرجونك منها فأطعني ولا تدخل في الشورى، فلم يجبه بشئ فلمّا بويع عثمان قال له العباس: ألم أقل لك، قال له يا عم إنه قد خفي عليك أمر، أما سمعت قوله على المنبر ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة فأردت أن يكذب نفسه بلسانه فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً، وإنا نصلح للخلافة، فسكت العباس»(15).
فأمير المؤمنين(ع) لم يفوّت هذه الفرصة لبيان أحقّيته للخلافة، وبيان التناقضات التي وقع فيها مخالفوه وغاصبوا حقّه.
علي(ع) صاحب المبادئ والقيم:
وفي نفس حادثة الشورى، يؤكّد لنا عليٌ(ع) مبادئَه وقيمَه التي لا يحيد عنها، وأنه لا يتعامل مع الخلافة كمسألة شخصية، وسلطة دنيوية، بل هي أمر إلهي لتطبيق العدالة الإلهية على وجه الأرض، وذلك عندما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف الخلافة بشرط العمل على كتاب الله وسنة النبي(ص) وسيرة الشيخين، فأبى أمير المؤمنين(ع) الشرط الأخير، تأكيداً منه على نظرية الإمامة الإلهية، وأنه لا دخل للبشر في ذلك، ولا شروط أرضية للمشروع السماوي، ولو كان غير علي(ع) في هذا الموقف، لقبل الأمر ثم لم يفِ بالشرط، ولكنه(ع) له نظرة أبعد من ذلك، لأنه لو قبل الشرط ثم لم يفِ به، فسيكون أولاً كاذباً في نظر الناس، وأن المهم لديه هو الوصول إلى الخلافة بأي أسلوب وطريق، وتكون الحجّة لمن يخالفه بعد ذلك، وثانياً إن قبوله لأصل هذا الشرط سيكون مناقضاً لنظرية الإمامة الإلهية، التي كان(ع) يؤكد عليها طوال هذه الفترة، لأن القبول بهذا الشرط وعدم الإعتراض عليه يعطيه الشرعية، ويكون القبول ذريعةً لمن يأتي بعد ذلك ويقبل بمثل هذا الشرط، بالإضافة إلى إعطاء الشرعية لسيرة الشيخين، بينما كان(ع) يبذل كل ما بوسعه لبيان أن الذين تقدموه كانوا غاصبين لحقّه الإلهي.
وهو(ع) أعلم بما يفعل، ولعل هناك مصالح أخرى في هذا الرفض، قد غابت عن أفهامنا، وليس كل ما يعلمه(ع) يبينه الناس، وإنما يبين ما كان بيانه يخدم المشروع الإلهي.
حديثه(ع) عن الشورى:
وقد تحدث(ع) بما جرى في الشورى في حديث طويل لأحد اليهود بعد وقعة النهروان قال(ع): «وكان من فعله(عمر) أن ختم أمره بأن سمّى قوماً أنا سادسهم، ولم يستوني بواحد منهم، ولا ذكر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري، وصيّرها شورى بيننا وصيّر ابنه فيها حاكماً علينا وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صيَّر الأمرَ فيهم إن لم ينفذوا أمره، وكفى بالصبر على هذا - يا أخا اليهود – صبراً، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم وذكرتهم عهد رسول الله(ص) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم، دعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله لهم فإذا خلوت بالواحد(منهم بعد الواحد) ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه، التمس مني شرطا أن أصيّرها له بعدي فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء، والحمل على كتاب الله ووصية الرسول، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له، ومنعه ما لم يجعل الله له (شد من القوم مستبد، ف) أزالها عني إلى ابن عفان»(16).
وقول(ع): «فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني منهم، فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن بهذه النظائر؟»(17).
واستمر الاحتجاج إلى أيام عثمان كما تشير له هذه الرواية، وهي أن عثمان قال لأمير المؤمنين(ع): «إنك إن تربّصت بي فقد تربّصت بمن هو خير مني ومنك، قال: ومن هو خير مني؟ قال: أبو بكر وعمر! فقال: كذبت أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلكم وعبدته بعدكم»(18).
وبعد خلافته الظاهرية أيضاً، ظل يقيم البراهين والحجج على حقه المغصوب، وكانت له مناشدات مشهورة، شبيهة بما تقدم ذكره في خلافة أبي بكر وأيام الشورى، ونكتفي بهذا المقدار مما قام به أمير المؤمنين(ع) في هذا الدور المهم والخطير، والتوسع فيه له مجال آخر.
الدور الثاني: الدفاع عن الدولة الإسلامية:
كل ما تقدم من إقامة الحجّة على القوم والمعارضة لهم لم يمنع أمير المؤمنين(ع) من الدفاع عن الدولة الإسلامية، لسبب بسيط وواضح، وهو أنه(ع) كان يفرّق بين الحكومة والحاكم، فالحاكم لا يمثّل الإسلام آنذاك، والخطر إذا توجه إلى الدولة الإسلامية، فإنه سيتوجه إلى الإسلام والمسلمين، والإمام(ع) مسؤول من قبل الله عن الدفاع عن بيضة الإسلام، فلم يكن يتردّد أبداً في ذلك.
ونظرته(ع) إلى حماية الدولة تختلف عن نظر الآخرين، فإن الآخرين كانوا ينظرون إلى الأمر نظرة شخصية، حيث بزوال الدولة الإسلامية سيزول ملكهم وسلطانهم، فقلقهم من الأخطار المحدقة بالدولة الإسلامية إنما هو قلق على مصيرهم، بينما أمير المؤمنين(ع) لا يهمُّه وجوده في هرم السلطة، إلا إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام وللدولة الإسلامية، وتهمُّه مصلحة الدولة الإسلامية وإن كان معزولاً ومبعداً عن مواقع القرار.
وحيث أنه(ع) أُقصيَ من مواقع القرار، لم يكن بإمكانه إلا أن يبدي مشورته عندما يستشيرونه في أمر الدولة، حيث أنهم لم يستغنوا عنه في كثير من القرارت الخطيرة، كما ورد في بعض النصوص التاريخية.
رأي علي(ع) عندما أراد أبو بكر غزو الروم:
فقد روي أنه: «لما أراد أبو بكر غزو الروم دعا علياً(ع) وعمر وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه(وأعلمهم بنيّته غزو الروم، واستشارهم في ذلك، فقدم بعضهم رأيه)، وعلي(ع) في القوم لا يتكلم، قال أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت عليهم إن شاء الله، فقال: بشرك الله بخير، ومن أين علمت ذلك؟ قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناواه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون فقال: سبحان الله ما أحسن هذا الحديث لقد سررتني به سرك الله»(19).
فمع ما تقدم في الدور الأول لأمير المؤمنين(ع)، ووجود الخلاف بينه وبين أبي بكر، وما هو موجود في نفس كل منهما تجاه الآخر، نرى أنّ أبا بكر هو الذي دعا علياً(ع)، وطلب منه أن يقدّم رأيه في الأمر، لأهمية رأي أمير المؤمنين(ع)، ونرى استجابة علي(ع) وحضوره معهم، ثم تقديم رأيه وإخباره لهم بأن النصر حليفهم، فلو كان شخص آخر غير أمير المؤمنين(ع) يعمل بما فيه مصلحته الشخصيّة لما حضر معهم، ولما أخبرهم بحديث النبي(ص)، ولكنه(ع) أكبر من كل ذلك وأرفع.
خطة تفصيلية لمواجهة الأعاجم:
وفي نص تاريخي آخر ينقله الشيخ المفيد(ره) في الإرشاد، وهو: «أن الأعاجم من أهل همدان وأهل الري وأهل أصفهان وقومس ونهاوند تكاتبت، وأرسل بعضهم إلى بعض، واتفقوا على مهاجمة المسلمين، فلمّا وصل الخبر إلى عمر فزع فزعاً شديداً، فصعد المنبر وأخبر المهاجرين والأنصار، واستشارهم في الأمر، فقام طلحة وتكلم ثم عثمان، ثم قام أمير المؤمنين(ع) فقال«الحمد لله -حتى تم التحميد والثناء على الله والصلاة على رسول الله(ص)- ثم قال: أما بعد، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريهم وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإن أشخصت من بهذين الحرمين، انتقضت العرب عليك من أطرافها وأكنافها، حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهمّ إليك مما بين يديك. وأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم، فإنا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله(ص) بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر، وأما ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين، فإن الله لمسيرهم أكره منك لذلك، وهو أولى بتغيير ما يكره، وإن الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا: هذا رجل العرب، فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب، فكان أشد لكلبهم، وكنت قد ألّبتهم على نفسك، وأمدّهم من لم يكن يمدّهم. ولكني أرى أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم، وتكتب إلى أهل البصرة فليتفرّقوا على ثلاث فرق: فلتقم فرقة منهم على ذراريهم حرساً لهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا، ولتسر فرقة منهم إلى إخوانهم مدداً لهم»، فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد كنت أحب أن أتابع عليه. وجعل يكرر قول أمير المؤمنين(ع) وينسقه إعجاباً به واختياراً له»(20).
فهنا نرى أمير المؤمنين(ع) يقدم خطّة تفصيليّة لمواجهة الخطر الجدّي المتوجه للدولة الإسلامية، ونرى عمر قد قبل –من بين الآراء- رأي أمير المؤمنين(ع) وقدّمه على بقيّة الآراء، وطار به فرحاً لكونه يعلم بأن علياً(ع) يمثل الرسول الأعظم(ص)، وأنه(ع) صادق في مشورته، وعالم بالنتيجة التي ستؤدي إليها هذه الخطة.
أخذ عمر برأي علي(ع) في الأمور المهمة:
بل كان عمر دائماً ما يأخذ بقول أمير المؤمنين(ع) بالنسبة لما يتصل بالأمور المهمّة والمستعصية، التي تؤثر سلباً وإيجاباً على الدولة الإسلامية، كما يذكر ذلك أمير المؤمنين(ع) -في حديثه لليهودي-: «وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري»(21).
ولا عجب من هذا الأمر، لما تقدم من أن أمير المؤمنين(ع) كان يتعامل مع الأمر على أنه تكليف شرعي، وليس أمراً شخصياً ضيّقاً، وأيضاً لا عجب لكثرة مشاورة عمر لعلي(ع)، لأن ذلك من مصلحته، وإدامة لملكه.
والمواقف في ذلك كثيرة، فمنها ما ورد في نهج البلاغة عنه(ع)، وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه، فقال(ع): «وقد توكَّلَ اللهُ لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم -وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون- حي لا يموت، إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين»(22).
فهذا قمة الإخلاص لله، وقد أحسن علي(ع) النصيحة لعمر - الذي هو في نظر علي(ع) غاصب لحقّه الشرعي في الخلافة- فيرى علي(ع) ضرورة حفاظ عمر على نفسه في الحرب، لأن ذهاب الحاكم-أيّ حاكم- في المعركة مع العدو هو انكسار للجيش وهزيمة نفسية له، وربما يؤدي إلى الهزيمة العسكرية كما هو واضح، وبما أن الأمر يرتبط بالدولة الإسلامية وبالمسلمين فإن أمير المؤمنين(ع) لا يتردّد في إسداء النصيحة.
وفي الاقتصاد:
وفي رواية أخرى ترتبط بالجانب الإقتصادي للمسلمين، تذكر أن عمر شاور أصحاب رسول الله(ص) في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً(ع)، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا شئ، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفّقك الله! هذا الرأي» (23).
فلعلي(ع) نظرة بعيدة للأمور، فإن الأرض إذا وزّعت على الموجودين آنذاك، فسوف يتوارثونها، وستحرم منها الأجيال القادمة.
الدور الثالث: الدفاع عن الدين والعقيدة:
بدأ أمير المؤمنين(ع) هذا الدور -زمن الخلفاء- بكتابة القرآن الكريم كما أُنزل من قبل الله، ومع تأويل الآيات كما علّمه الرسول(ص)، ولكنّهم رفضوه، كما جاء عن الإمام الصادق(ع)، ففي حادثة أخرج الإمام الصادق(ع) المصحف الذي كتبه علي(ع) وقال: «أخرجه عليٌ(ع) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمّد(ص) قد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أَمَا والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه»(24).
فإخراج علي(ع) المصحف لهم مع علمه بأنهم لن يقبلوه هدفه أن يُعْلِمَ الناسَ أن التفسير الصحيح للقرآن هو عندي لا عند غيري، وهو بذلك يحافظ على التعاليم القرآنية، ويجعل المسلمين غير مطمأنّين لأي مصدر آخر غير أهل البيت(ع) الذين عندهم التأويل الصحيح للقرآن الكريم، ويقطع الطريق على كلّ من يحاول تحريف التعاليم القرآنية، والعقيدة الحقة.
وتتالت كثير من الشبهات الدينية والأخطار العقائدية، التي لم يكن أحد يستطيع ردَّها إلا من علّمَه رسول الله(ص) ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب، ومصاديق ذلك أكثر من أن تحصى.
أسئلة اليهودي:
فقد ورد أنَّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم، فقال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبّرني عن الله تعالى أين هو في السماء أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر: في السماء على العرش، فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، اغرب عني وإلا قتلتك، فولّى الحبرُ متعجّباً يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين(ع) فقال له: ( يا يهودي، قد عرفتُ ما سألتَ عنه، وما أُجِبْتَ به، وإنَّا نقول: إن الله جل وعز أيَّنَ الأينَ فلا أين له، وجلَّ عن أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شئ منها من تدبيره...... فقال اليهودي: أشهد أن هذا هو الحق، وأنك أحق بمقام نبيّك ممن استولى عليه»(25).
فالتعامل مع الأمور العقائدية بلغة السيف والقوة لا يؤدي إلا إلى وهن الدين وضعفه، ولم يذكر لنا التاريخ أيَّ حادثةٍ عقائديةٍ علميةٍ تعامل فيها أمير المؤمنين(ع) بالقوة، بل كان سلاحه دائماً هو سيف العلم والحكمة.
أبو بكر وأسئلة الجاثليق:
وفي حادثة أخرى جاء الجاثليق (من علماء النصارى) وقال لأبي بكر: خبِّرنا - أيها الخليفة - عن فضلكم علينا في الدين، فإنا جئنا نسأل عن ذلك؟ فقال أبو بكر: نحن مؤمنون وأنتم كفار، والمؤمن خير من الكافر، والإيمان خير من الكفر. فقال الجاثليق: هذه دعوى تحتاج إلى حجّة، فخبّرني أنت مؤمن عند الله أم عند نفسك؟ فقال أبو بكر: أنا مؤمن عند نفسي، ولا علم لي بما عند الله. قال: فهل أنا كافر عندك على مثل ما أنت مؤمن، أم أنا كافر عند الله؟ فقال: أنت عندي كافر، ولا علم لي بحالك عند الله. فقال الجاثليق: فما أراك إلا شاكاً في نفسك وفيَّ، ولستَ على يقين من دينك، فخبّرني ألك عند الله منزلة في الجنّة بما أنت عليه في الدين تعرفها؟ فقال: لي منزلة في الجنة أعرفها بالوعد، ولا أعلم هل أصل إليها أم لا، فقال له: فترجو أن تكون لي منزلة في الجنة؟ قال: أجل أرجو ذلك. فقال الجاثليق: فما أراك إلا راجياً لي، وخائفاً على نفسك، فما فضلك عليّ في العلم؟ ثم قال له: أخبرني هل احتويت على جميع علم النبي المبعوث إليك؟ قال: لا ولكن أعلم منه ما قضى لي علم، قال: فكيف صرت خليفة للنبي، وأنت لا تحيط علما بما تحتاج إليه أمّته من علمه، وكيف قدّمك قومك على ذلك؟ فقال له عمر: كف -أيها النصراني- عن هذا العَنَت وإلا أبحنا دمك. فقال الجاثليق: ما هذا عدل على من جاء مسترشداً طالباً. فقال سلمان(ره): فكأنما ألبسنا جلباب المذلّة، فنهضت حتى أتيت علياً(ع) فأخبرته الخبر، فأقبل -بأبي وأمي- حتى جلس والنصراني يقول: دلّوني على من أساله عما أحتاج إليه، فقال له أمير المؤمنين(ع) سل -يا نصراني- فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا تسألني عمّا مضى ولا ما يكون إلا أخبرتك به عن نبي الهدى محمد(ص)، فقال النصراني: أسألك عمّا سألت عنه هذا الشيخ، خبّرني أمؤمن أنت عند الله، أم عند نفسك؟ فقال أمير المؤمنين(ع): أنا مؤمن عند الله كما أنا مؤمن في عقيدتي. فقال الجاثليق: الله أكبر هذا كلام وثيق بدينه، متحقق فيه بصحّة يقينه، فخبّرني الآن عن منزلتك في الجنة ما هي؟ فقال(ع): منزلتي مع النبي الأمي في الفردوس الأعلى، لا أرتاب بذلك، ولا أشكّ في الوعد به من ربي. فقال النصراني: فبماذا عرفت الوعد لك بالمنزلة التي ذكرتها؟ فقال أمير المؤمنين(ع): بالكتاب المنزل وصدق النبي المرسل......، إلى أن قال الجاثليق لعلي(ع) (والحديث طويل وشيّق): صدقت والله الذي بعث المسيح، وما اطلع على ما أخبرتني به إلا الله تعالى، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنّك وصيّ رسول الله، وأحقّ الناس بمقامه. وأسلم الذين كانوا معه كإسلامه وقالوا: نرجع إلى صاحبنا، فنخبره بما وجدنا عليه هذا الامر وندعوه إلى الحق»(26).
ففي الواقعتين نرى أن أمير المؤمنين(ع) هو حصن الإسلام المنيع، والمدافع عن العقيدة، ولو أنه لم يتصدَ لتلك الشبهات لأصبح الإسلام ضعيفاً ذليلاً أمام اليهود والنصارى.
تصدّي علي(ع) لشبهات اليهود والنصارى:
وقد كان اليهود والنصارى يتربّصون بالإسلام سوءاً، خصوصاً بعد رحيل النبي(ص)، فقد روي أنه جاء يهودي لأمير المؤمنين(ع) وقال مستشكلاً: «ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه» فقال(ع): «إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أقدامكم من البحر حتى قلتم لنبيكم، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون»(27).
فهدف اليهودي هو إدخال الشك في قلوب المسلمين، فتصدى له أمير المؤمنين(ع) بما يرفع تلك الشبهة، وبيّن أن اختلاف المسلمين ليس حول النبي(ص)، وإنما هو تخلف عنه وعن تعاليمه، ولكن اليهود قد كفروا بموسى(ع) وهو لا زال بين ظهرانيهم.
ونرى هنا أمير المؤمنين(ع) لم يتطرّق ولم يهتم بالحديث عمّن اختلفوا، لأن الظرف كان يقتضي الدفاع عن الدين، وليس الهجوم على المختلفين، وإن كان في كلامه(ع) تعريضاً بالمختلفين بقوله: «إنما اختلفنا عنه».
وكان علي(ع) هو المرجع الذي يلوذ به المسلمون في كل معضلة تدهمهم، أو مسألة تعجزهم، فلذلك نرى حتى الخلفاء يرجعون إليه، لعلمهم بمقامه العلمي الرفيع ودرجته من رسول الله(ص)، واطمئنانهم بقدرته على حلّ أيّ مشكلة، والشواهد لمن أراد التتبع كثيرة جداً، وفي قضايا عدة، فمثلاً يأتي يهودي إلى عمر بن الخطاب ويقول له: «يا أمير المؤمنين إني رجل من اليهود وأنا علامتهم، وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أجبتني فيها أسلمت قال: ما هي؟ قال: ثلاث وثلاث وواحدة، فإن شئت سألتك وإن كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني إليه»، فيا ترى هل أجابه عمر بنفسه، أم أرسل إليه أحد المقرّبين له؟ ونحن نعرف أن إسلام شخص على يدي أحد شرف عظيم، ودليل على منزلته، خصوصاً إذا كان الشخص الداخل في الإسلام عالماً.
لم يتردد عمر في أن قال لليهودي: «عليك بذلك الشاب يعني علي بن أبي طالب(ع) فأتى علياً(ع) فسأله فقال له: لم قلت ثلاثا و ثلاثا وواحدة ألا قلت: سبعاً، قال: إني إذاً لجاهل إن لم تجبني في الثلاث اكتفيت قال: فإن أجبتك تسلم؟ قال: نعم، قال: سل..... وفي كل جواب يجيبه علي(ع) يقول اليهودي: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى»(28).
وفي حديث آخر مشابه عن الإمام الصادق(ع) قال: «جاء يهودي إلى عمر يسأله عن مسائل فأرشده إلى علي(ع) ليسأله، فقال له علي(ع): سل. قال: أخبرني، كم بعد نبيّكم من إمام عادل؟ وفي أي جنة هو؟ ومن يسكن معه في جنته؟ فقال له علي(ع): يا هاروني ! لمحمد(ص) بعده اثنا عشر إماماً عدلاً، لا يضرّهم خذلان من خذلهم، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم، أثبت في دين الله من الجبال الرواسي. ومنزل محمد(ص) جنة عدن، والذين يسكنون معه هؤلاء الإثنا عشر. فأسلم الرجل وقال: أنت أولى بهذا المجلس من هذا، أنت الذي تفوق ولا تفاق، وتعلو ولا تعلى»(29).
فالخلفاء كانوا محرجين جداً من أسئلة اليهود والنصارى، خصوصاً العلماء منهم الذين قرؤوا التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى، وكان الخلفاء في كثير من الأحيان قبل أن يستمعوا إلى الأسئلة، يرشدون السائلين إلى أمير المؤمنين(ع)، لأنهم في مرات عدّة يقعون في الحرج عندما يتصدّون للجواب كما مرّ في بعض الروايات.
ونعرف أن عدم وجود أحد يتصدى لأسئلة الناس -مع وجود كثير من السائلين الذين يريدون التحقّق من حقّانية الإسلام، وبعضهم للتشكيك في الإسلام- يؤثر ليس فقط على السائلين ونفورهم من الدين الحنيف، بل حتى على المسلمين مع كثرة الأسئلة والاستفسارت التي تحتاج إلى جواب شافٍ ووافٍ ومقنع، وما تقدّم شاهد على ذلك، ولا يوجد من يصلح لذلك إلا أمير المؤمنين(ع) بشهادة الجميع، ففي مناشدة له(ع) مع عبد الله بن عمر (في حديث طويل وقد تفاخر جماعةٌ من قريش) قال(ع): «أنشدك بالله ما قال لك(عمر) حين خرجنا»، فقال عبد الله: «أما إذا ناشدتني فإنه قال: إن بايعوا أصلع بني هاشم حملهم على المحجّة البيضاء وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم»(30).
دفاع علي(ع) عن مقامات النبي(ص):
المميّز للمسلمين عن غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى هو الإيمان برسالة النبي الأعظم(ص)، فإذا خدشت هذه العقيدة فقد خدش الإسلام، ولذلك أشكل أحد يهود الشام على مقامات النبي الأعظم(ص) إدخالاً للشك في نفوس المسلمين، ولم يكن ليتصدّى أحد له إلا وارث النبي(ص) كما ورد في الخبر عن الإمام الحسين بن علي(ع) أنه قال: إن يهودياً من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء(ع) وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله(ص) وفيهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو سعيد الجهني. فقال: يا أمّة محمد ما تركتم لنبي درجة، ولا لمرسل فضيلة، إلا أنحلتموها نبيّكم، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه (أي هابوه وجبنوا أن يجيبوه). فقال علي بن أبي طالب(ع): نعم ما أعطى الله نبيّاً درجة، ولا مرسلاً فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد(ص) وزاد محمداً على الأنبياء أضعافاً مضاعفة. فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟ قال له: نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله(ص) ما يقرّ الله به عين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله(ص)، إنه كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال: «ولا فخر» وأنا أذكر لك فضائله غيرَ مزرٍ بالأنبياء، ولا منتقص لهم، ولكن شكراً لله على ما أعطى محمداً(ص) مثلَ ما أعطاهم، وما زاده الله وما فضّله عليهم»(31).وفي نهاية الحديث ( وهو طويل جداً) قال له اليهودي: «فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأشهد أنه ما أعطى الله نبيّاً درجةً ولا مرسلاً فضيلةً إلا وقد جمعها لمحمد(ص)، وزاد محمداً على الأنبياء أضعاف درجات».
وكل هذا يدل على نظرية الإمامة الإلهية المتقدمة، فلو تخيَّلنا حالَ المسلمين (وهم قريبوا عهد بالإسلام) من دون وجود علي(ع)، وما قام به من أدوار عدّة، لتبين لنا ما هي المصيبة التي ستحلُّ بهم، والتخبّطات التي سيقعون فيها.
الدور الرابع: دوره(ع) في الجانب الفقهي وتطبيق الحدود:
الفقه وتطبيق الشريعة هو المظهر الأساسي للدين، ولا دين إلا بشريعة متبعة، ملتزم بها، ولكن تطبيق الشريعة يحتاج إلى عالم يحمل علم رسول الله(ص)، ومن هم في موقع القرار آنذاك لا يمتلكون ذلك العلم، فلا ملجأ لهم إلا باب مدينة علم النبي(ص).
وهم وإن كانوا قد خالفوه في موارد كثيرة مع علمهم بصوابية رأيه، إلا أنهم التجأوا إليه وقت الحيرة كما ذكر لنا التاريخ الصحيح، فعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: قضى أمير المؤمنين(ع) بقضية ما قضى بها أحد كان قبله. وكان أوّل قضية قضى بها بعد رسول الله(ص)، وذلك لما أفضى الأمر إلى أبي بكر أُتيَ برجل قد شرب خمراً، فقال له أبو بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم، فقال: ولم شربتها وهي محرمة؟ فقال: إني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلّونها، ولم أعلم أنها حرام فأجتنبها. فالتفت أبو بكر إلى عمر، فقال: ما تقول -يا أبا حفص- في أمره؟ فقال عمر: معضلة وأبو حسن لها. فقال أبو بكر: يا غلام، ادع علياً، فقال عمر: بل يؤتي الحكم في منزله، فأتوه في منزله وعنده سلمان، فأخبروه بقصة الرجل، وقص الرجل عليه قصّته. فقال علي لأبي بكر: ابعث من يدور معه على مجالس المهاجرين والأنصار، فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، وإن لم يكن أحد تلا عليه آية التحريم فلا شئ عليه، ففعل أبو بكر بالرجل ما قال علي(ع) فلم يشهد عليه أحد، فخلّى سبيله، ثم قرئت عليه آية التحريم، فقال سلمان لعلي(ع): أرشدتهم، فقال: إنما أردت أن أجدّد تأكيد هذه الآية فيَّ وفيهم: {أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }(32)» (33).
والملفت للنظر هنا قول عمر:(معضلة وأبو حسن لها)، والرواية تقول أن هذه أول قضيّة يقضي فيها أمير المؤمنين(ع) بعد رحيل المصطفى(ص)، مما يعني أنهم لم يجرّبوا أمير المؤمنين(ع) في قضايا كثيرة، فكيف عرفوا منزلته العلمية فالتجأوا إليه؟ فليس ذلك إلا لإخبار الرسول(ص) في حياته أن علياً هو الملجأ من بعده وحامل علمه، والروايات في ذلك كثيرة.
النبي(ص) يمتحن علياً(ع) وأبا بكر وعمر في القضاء:
فعن الإمام الباقر(ع): «أن ثوراً قتل حماراً على عهد النبي(ص) فرفع ذلك إليه وهو في أناس من أصحابه منهم أبو بكر وعمر فقال: يا أبا بكر اقض بينهم فقال: يا رسول الله بهيمة قتلت بهيمة ما عليها شئ فقال: يا عمر اقض بينهم، فقال مثل قول أبى بكر فقال: يا علي اقض بينهم فقال: نعم يا رسول الله فإن كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان عليهم، قال: فرفع رسول الله(ص) يده إلى السماء فقال: الحمد لله الذي جعل مني من يقضي بقضاء النبيين(ع) »(34).
فهدف الرسول(ص) هو إعلام القوم بمنزلة علي(ع)، وليست هذه هي المرّة الوحيدة، وهو الذي يقول: (علي أقضاكم).
وعلى كل حال، فالموارد التي قضى فيها أمير المؤمنين(ع) وبيَّن الحكم الشرعي الصحيح في عهد الخلفاء كثيرة جداً، منها ما ورد عن الإمام الصادق(ع): «أن عقبة بن أبي عقبة مات فحضر جنازته علي(ع) وجماعة من أصحابه وفيهم عمر، فقال علي(ع) لرجل كان حاضرا: إن عقبة لما توفي حرمت امرأتك، فاحذر أن تقربها، فقال عمر: كل قضاياك يا أبا الحسن عجيبة وهذه من أعجبها، يموت الإنسان فتحرم على آخر امرأته! فقال: نعم إن هذا عبد كان لعقبة، تزوج امرأة حرة، وهي اليوم ترث بعض ميراث عقبة، فقد صار بعض زوجها رقّاً لها، وبضع المرأة حرام على عبدها حتى تعتقه و يتزوجها، فقال عمر: لمثل هذا نسألك عما اختلفنا فيه»(35).
وتكفي الموارد التي قال فيها عمر: (لولا علي لهلك عمر)، فهي بالعشرات، نعرض عن ذكرها خوف الإطالة.
شدة علي(ع) في تنفيذ الحدود:
وكان علي(ع) شديداً فيما يتعلّق بتطبيق الأحكام والحدود، ففي كلّ ظرف يراه مناسباً يتصدى لمن يتهاون بذلك، فمن ذلك ما ذكره الشيخ المفيد(ره) (عن العامة والخاصة في قصة قدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فأراد عمر أن يحدّه، فقال له قدامة: إنه لا يجب عليَّ الحد، لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا}(36) فدرأ عمر عنه الحدّ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين(ع) فمشى إلى عمر فقال له: «لم تركت إقامة الحد على قدامة في شربه الخمر؟» فقال له: إنه تلا عليّ الآية، وتلاها عمر على أمير المؤمنين(ع)، فقال له أمير المؤمنين(ع): «ليس قدامة من أهل هذه الآية، ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم الله، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون حراماً، فاردد قدامة واستتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحد، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملّة» فاستيقظ عمر لذلك، وعرف قدامة الخبر، فأظهر التوبة والإقلاع، فدرأ عمر عنه القتل، ولم يدر كيف يحدّه. فقال لأمير المؤمنين: أشر عليَّ في حده، فقال: «حده ثمانين، إن شارب الخمر إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى»، فجلده عمر ثمانين وصار إلى قوله في ذلك)(37).
فتَرْكُ الحدِّ على مستحقّه بادرةٌ خطيرةٌ، جعلت أمير المؤمنين(ع) يسعى بنفسه إلى عمر، ويسأله عن حجّته في ترك الحد، ونرى شدّته(ع) في أمره بقتل قدامة فيما إذا أنكر وجوب الحدّ، لأنه من إنكار الضرورة.
ويقول أمير المؤمنين(ع) في بعض مواعظه لعمر كما في الرواية عن الإمام الصادق(ع): «ثلاثٌ إنْ حفظتهن وعملت بهنَّ كفتك ما سواهن، وإنْ تركتهن لم ينفعك شئ سواهن، قال: وما هنَّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود فقال له عمر: لعمري لقد أوجزت وابلغت»(38).
فإقامة الحدود الشرعية في غاية الأهمّية، وبدونها تنتشر الفاحشة ويعمُّ الفساد في الأرض، كما هو الحال في زماننا.
علي(ع) يجلد الوليد بن عقبة أمام عثمان:
وفي قصّة الوليد ابن عقبة جرى من علي(ع) ما هو أشدّ ممّا تقدم، «فحينما شُهِدَ على الوليد بشرب الخمر وكان والي عثمان على الكوفة، فأتى جماعةٌ ممن شهدوا ذلك إلى عثمان بن عفان فشهدوا عنده أن الوليد يشرب الخمر، فقال عثمان: وما يدريكم أنه شرب خمر؟. فقالوا: هي الخمرة التي كنا نشرب في الجاهلية، وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه فزبرهما، ودفع في صدورهما، وقال: تنحّيا عني!. فخرجا وأتيا علي بن أبي طالب(ع) فأخبراه بالقصّة، فأتى عثمان وهو يقول: «دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟!». فقال له عثمان: فما ترى؟. قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدلِ بحجّة أقمت عليه الحدّ، فلما حضر الوليد دعاهما فأقاما الشهادة عليه ولم يدلِ بحجّة، فألقى عثمان السوط إلى علي(ع).....، فلما نظر علي(ع) إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد عليه توقياً لغضب عثمان لقرابته منه، أخذ عليٌ السوطَ ودنا منه......، فأقبل الوليد يروغ من علي(ع) فاجتذبه وضرب به الأرض وعلاه بالسوط، فقال له عثمان: ليس لكَ أن تفعل به هذا؟. قال: بلى وشر من هذا، إذا فسق ومنع حق الله.....»(39).
ولما كان الوليد أخاً لعثمان لأمه ما كان أحد يتجرّأ أن يجلده أمام عثمان إلا علي(ع)، وفي هذه الواقعة دلالات عدة وأسئلة مهمّة، منها أنه لماذا يخشى الصحابة من إقامة الحدّ؟ ألم يكن حكماً شرعيّاً واجب التنفيذ؟ وهل القرابة من الخليفة تمنع من ذلك؟؟ نترك الجواب لأهل الضمائر والعقول.
وبنفس الشدّة التي يتعامل بها علي(ع) في تطبيق الحدود تعامل بها لدرء الحدود عن البريء والمشتبه به، كما هو الحال في كثير من الموارد التي قال فيها عمر: «لولا علي لهلك عمر»، ومنها ما وقع في زمن عثمان فإنه روي: «أنه أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فهمَّ برجمها، فقال أمير المؤمنين(ع): إنْ خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول: {وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا}(40)، ثم قال: {وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَة}(41)، فحولان مدّة الرضاع وستة أشهر مدّة الحمل، فقال عثمان: ردوها (42).
الدور الخامس: رد البدع عن الدين:
لقد تغيّرت سنّة النبي(ص) قبل أن يستلم أمير المؤمنين(ع) الخلافة الظاهريّة، وأصبحت سنّة الخلفاء مقدمة على سنّة النبي(ص) كما في كثير من النصوص التاريخية، وقد ذكر البخاري عن أنس بن مالك أنه قال: «ما أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: الصلاة، قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها»(43).
وروى أيضاً عن الزهري أنه قال: «دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكى فقلت له: ما يبكيك فقال لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيّعت»(44).
وفي رواية ثالثة عن أم الدرداء أنها قالت: «دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك، فقال: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً»(45).
فهذه الروايات الثلاث وغيرها، تدل على الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية من الإنحراف والضياع وتغيير الأحكام إلى درجة أن الصلاة التي كان يصلّيها النبي(ص) أمام المسلمين خمس مرات في اليوم وطوال سنوات عدة قد تغيّرت أيضاً، والسبب هو إبعادُ علي(ع) عن الخلافة، وتصرّفُ غيره بدين الله كما يتصرّف الإنسان بأملاكه الخاصة.
بعض مواقف أمير المؤمنين(ع) تجاه البدع:
ولم يكن أمير المؤمنين(ع) قادراً على الوقوف بوجه هذه التجاوزات إلا في نطاق محدود، وفي فرص قليلة، لأن رأي من بيده القرار كان هو المطبّق وإن اعترض عليه علي(ع).
وهناك بعض المواقف التي سجلها أمير المؤمنين(ع) اعتراضاً على بعض التغييرات للأحكام الشرعية، منها ما روي أنه: «توضّأ رجل، فمسح على خفّيه، فدخل المسجد يصلّي فجاء علي(ع) فوطئ على رقبته وقال: ويلك! تصلي على غير وضوء، فقال: أمرني عمر بن الخطاب، قال: فأخذ به فانتهى به إليه فقال: انظر ما يروي هذا عليك -ورفع صوته- فقال: نعم أنا أمرته، إن رسول الله(ص) مسح على خفيه فقال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفّين»(46).
فأمير المؤمنين(ع) تعامل مع المسألة بحزم، ورفع صوته أمام الخليفة واعترض عليه ليبيّن خطورة المسألة، وقوله(ع) للمصلي: « ويلك، تصلي على غير وضوء»، إشارة إلى أن الوضوء على الخف بحكم عدم الوضوء، فهو ترك للصلاة، فتغيير حكم معين يستتبع أموراً كثيرةً.
وموقف آخر لأمير المؤمنين(ع) فيما يتعلّق بمتعة الحج التي حرّمها عمر بعد فترة من خلافته، وكان عثمان ينهى عنها أيضاً، كما رواه مسلم وابن حنبل أنه: « كان عثمان ينهى عن المتعة وعلي(ع) يأمر بها، فقال عثمان لعلي قولاً، ثم قال علي: لقد علمتَ أنَّا قد تمتّعنا مع رسول الله(ص)، قال أجل، ولكنا كنا خائفين»(47).
وفي لفظ آخر للبخاري ومسلم أنه: «اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي: ما تريدُ إلى أمرٍ فعله رسول الله(ص) تنهى عنه، فقال عثمان دعنا منك، فقال إني لا أستطيع أن أدعك، فلمّا أن رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما جميعاً»(48).
وفي رواية ثالثة عن مروان بن الحكم (لعنه الله) قال: «شهدتُ علياً وعثمان بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمعَ بينهما، فلمّا رأى ذلك علي(ع) أهلَّ بهما فقال: لبيك بعمرة وحج معاً، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عنه وأنت تفعله، قال: لم أكن أدع سنة رسول الله(ص) لقول أحد من الناس»(49).
فنرى الشدة التي تعامل بها علي(ع) مع عثمان -خصوصاً في الرواية الثانية التي يقول فيها لعثمان: «إني لا أستطيع أن أدعك»- لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام في المفسدة والضرر، وفي كونه تشريعاً وابتداعاً في الدين.
وهذه المواقف من علي(ع) مع شدّتها لم تؤثر إلا في نطاق محدود لأن القرار الرسمي ليس بيده(ع).
سنة النبي(ص) تؤخذ من علي(ع):
وفي قضيّة أخرى فيها إشارة من علي(ع) إلى أن السنّة الصحيحة هي عند أهل البيت(ع)، فالعمل على خلاف عملهم هو ابتداع في الدين، لأن سنتهم هي نفسها سنة النبي(ص)، فقد روى العياشي(ره) في تفسيره عن الإمامين الصادقين(ع) أنهما قالا: «حجَّ عمر أول سنة حج وهو خليفة، فحج تلك السنة المهاجرون والأنصار وكان علي(ع) قد حج تلك السنة بالحسن والحسين وعبدالله بن جعفر، قال: فلما أحرم عبد الله لبس إزاراً ورداءً ممشقين مصبوغين بطين المشق، ثم أتى فنظر إليه عمر وهو يلبي وعليه الإزار والرداء وهو يسير إلى جنب علي(ع)، فقال عمر من خلفهم: ما هذه البدعة التي في الحرم؟ فالتفت إليه علي(ع)، فقال: يا عمر لا ينبغي لأحد أن يعلّمنا السنّة، فقال عمر: صدقت يا أبا الحسن لا والله ما علمت أنكم هم... الحديث(50).
فإن علياً(ع) لم يستدل بدليل على فعل عبدالله بن جعفر، بل أجاب عمر بقوله: «يا عمر لا ينبغي لأحد أن يعلّمنا السنّة»، فكما لا يحق لأحدٍ أن يعترض على الرسول الأكرم(ص) فيما يصدر منه، فكذلك ما يصدر من علي(ع)، وهذا يعني أن العمل على خلاف فعل علي(ع) يعني مخالفة صريحة للنبي(ص)، وهذه رسالة بليغة للمسلمين، وقد اعترف عمر بصوابية رأي علي(ع) من دون أن يطلب دليلاً على ذلك.
ملاحظة:
وفي الختام نقول، إنَّ ما ذكرناه لا يمثّل إلا جزءاً من الأدوار التي قام بها أمير المؤمنين(ع) زمن الخلفاء، ولم نستوفِ البحث في كل دورٍ ذكرناه، لقلة الباع، ولو أراد المتخصّصُ أن يجمعَ كلَّ ما ذكر عن علي(ع) لأحتاج إلى مجلدات ضخمة.
ثم إنَّ التاريخ لم ينصفْ عليا(ع) ولم يعطه حقه، وقد حاول أعداؤه عبر التاريخ إخفاء تاريخه الناصع والمليء بالدروس والعبر، وكما حكي عن كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي والشافعي قولهما عندما سئلا عن علي(ع)، فقال الخليل: «ما أقول في حق امرئ كتمت مناقبه أولياؤه خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثم ظهر ما بين الكتمين ما ملأ الخافقين»(51)، وقال الشافعي: ما أقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين»(52).
مما يعني أن ما وصلنا من تاريخ علي(ع) ما هو إلا نزر قليل من تاريخه المبارك، وسيرته المقدسة، وعطائه الكبير، ثبّتنا الله على ولايته(ع)، ورزقنا شفاعته، وسقانا من حوضه وبكفّه ريّاًً رويّاً لا نظمأ بعده أبداً، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
* الهوامش:
(1) الكافي ج1، ص201.
(2) مناقب آل أبي طالب،ج2، ص280، وكنز العمال، ج11، ص630، وشواهد التنزيل للحسكاني، ج1، ص84.
(3) البحار ج34، ص339.
(4) شرح النهج، ج11، ص14.
(5) البخاري ج5 ص83.
(6) الإحتجاج، ج1، ص89.
(7) البحار ج28، ص252.
(8) سورة ص، 24.
(9) العقد النضيد والدر الفريد – محمد بن الحسن القمي، ص144.
(10) خصال الصدوق، ص549.
(11) شرح النهج لابن أبي الحديد، ج12، ص21.
(12) الكهف، 51.
(13) الروضة في فضائل أمير المؤمنين- لشاذان ابن جبريل القمي، ص119.
(14) خصال الصدوق، 555.
(15) علل الشرائع ج1، ص171.
(16) الخصال للصدوق،ص375، والإختصاص للمفيد،ص173.
(17) نهج البلاغة ج1، ص34.
(18) البحار ج38، ص228.
(19) كنز العمال ج5، ص670.
(20) الإرشاد للمفيد، ج1، ص207.
(21) الخصال للصدوق،ص374.
(22) نهج البلاغة، ج2، ص18.
(23) تاريخ اليعقوبي، ج2، ص152.
(24) تفسير نور الثقلين، ج3، ص170.
(25) الإرشاد للمفيد، ج1،ص202.
(26) أمالي الطوسي، ص218-221.
(27) أمالي الطوسي، ج1، ص198.
(28) الخصال ص476.
(29) الإمامة والتبصرة للصدوق 135.
(30) مصباح الفصاحة (مستدرك نهج البلاغة)، -الميرجهاني- ج1، ص337.
(31) الاحتجاج ج1 ص314.
(32) يونس، 35.
(33) عجائب أحكام أمير المؤمنين(ع)، للسيد الأمين ص51.
(34) التهذيب ج10، ص 229.
(35) البحار ج40 ص225.
(36) المائدة، 93.
(37) الإرشاد للمفيد، ج1ص204.
(38) التهذيب، ج6، ص227.
(39) البحار، ج31، ص155-157 بتصرف طفيف.
(40) الأحقاف 15.
(41) البقرة 233.
(42) البحار ج40، ص237.
(43) البخاري ج1، ص134.
(44)البخاري ج1، ص134.
(45) البخاري ج1، ص159.
(46) الوسائل ج27، ص61.
(47) مسند ابن حنبل، ج1 ص61. وصحيح مسلم ج4،ص46.
(48) صحيح مسلم ج4 ص46. في البخاري ج2 ص153.
(49) مسند ابن حنبل ج1 ص136.
(50) تفسير العياشي، ج2، ص38، والوسائل ج12، ص483.
(51) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب(ع) للريشهري، ص106.
(52) الأنوار البهية الشيخ عباس القمي(ره)، ص71.
0 التعليق
ارسال التعليق