مقدمة:
تتوالى الدهور والأزمان وتتحرك خلالها إرادات الإنسان محركةً معها عجلة التطور على أصعدةٍ مختلفةٍ، ينشغل هذا الإنسان ويذهل في خضم هذه التطورات فيصل بعضه لمستوى النسيان وآخر في حالةٍ وسطيةٍ، وهكذا تتفاوت شؤونه وتختلف مستويات إدراكه واهتماماته، وفي خضم هذه الانشغالات تشتعل في أفئدة هذا المخلوق نار الفطرة وتتأجج كلما شهد يوماً بعد يومٍ آيات أنفسه وآفاقه، وكلما تجلت هذه الآيات ازداد إلحاح مصدر سعادته لجذبه إليه وتنبيهه عن غفلته، فتتفجر من وسط تلك النيران أعينٌ متفاوتةٌ -شدةً وضعفاً- تحاول بقدر استطاعتها إخماد لهيب:
من أين؟
في أين؟
إلى أين؟
فترى ذلك المتبختر خارجياً بما وصل إليه من عمران يُشرّق تارةً و يُغرّب أخرى ساعياً للقبض ولو على قشةٍ في بحر تلك التساؤلات، فيغرق من يغرق و ينجو من ينجو، وتسير سفينة الحق في تلك البحار ضاربةً في طول مسيرها حبل النجاة من الحق إلى الخلق رافعةً أعلام الأمان لمن ركبها متخطيةً بشفقةٍ وحزمٍ من تركها.
نعم؛ هكذا هي العقيدة في فطرة الإنسان نارٌ موقدةٌ تشعل اخضرار حب الكمال في الإنسان، فإما أن يسعفها بأن يطفئها بأبحر الحقيقة فتزداد تألقاً ونضارةً وإما أن يتركها لتلك النيران تلتهمها فتتركها خاويةً على عروشها، فيتيه في متاهاتها المظلمة و يكون من المنسيين.
نعم؛ هي الحقيقة ضالة الإنسان أينما ذهب، ومصب اهتماماته، ولما لهذا الأمر من أهميةٍ خاصةٍ سعى قادة سفينة النجاة للذود عن الحياض الصافية للحقيقة، و سعوا بما أوتوا من قوةٍ لمحاربة كل من أراد السوء بها لمعرفتهم بأهمية سلامة هذا الأمر في كيان الإنسان ليستطيع به تشخيص بعضٍ من وظيفته الملقاة عليه من الحق تعالى، ويمكن اختزال أهمية العقيدة للإنسان في أمورٍ يتضح من خلالها كيف أن العقيدة تتصل بصميم الحياة هي:
1- فهم الحياة: من أين؟ في أين؟ إلى أين؟ أسئلةٌ لا يمكن للإنسان أن يتغاضى عنها أو يمر عليها من دون اكتراثٍ، خصوصاً و أنه يرى أن لكل ظاهرةٍ حياتيةٍ -حقيرةٍ أو خطيرةٍ- سبباً و أن لكل أمرٍ غايةٌ و منتهىً، فكيف بهذا الكون الرحيب -ككل- وما فيه، إن دراسة العقيدة تساعد الإنسان على فهم الحياة و درك هدفها و مصيرها و رفع حجاب الحيرة عنه.
2- طرد القلق: المتطلع في تاريخ الإنسانية يلاحظ بوضوح ظاهرة الأنبياء(ع)، فهناك مجموعةٌ من الناس خرجت لا لشيءٍ إلا إخراج الناس من الظلمات إلى النور، مخبرين بأن هناك واجباتٌ وتكاليف وثوابٌ وعقابٌ و حياةٌ أخرويةٌ.. الخ، وقد عرفت هذه الفئة من الناس بصدقها و أمانتها، أفلا يحتمل هذا الإنسان صدق دعوى هؤلاء فتؤرق هذه الاحتمالات سعادته و استقراره خصوصاً مع قوة محتملها؟ ولا نجاة من هذا الأرق إلا بالعقيدة (فإنها دافعةٌ للخوف الحاصل للإنسان من الاختلاف، ودفع الخوف واجبٌ لأنه ألمٌ نفسانيٌّ يمكن دفعه، فيحكم العقل بوجوب دفعه، فيجب دفعه)(1).
3- دعامة الأخلاق: الميل للخير وكراهة الشر أمران مغروسان في جبلة البشر، و لكن هذه البذور لا تنموا إلا في ظل رعايةٍ خاصةٍ، خصوصاً مع معرفتنا بأن الإنسان كتلةٌ هائلةٌ من الغرائز لا تعرف الحدود، ومجموعةٌ من الشهوات التي إن تُرِكَتْ من دون كبح جماحٍ جرّ هذا الإنسان على نفسه ومجتمعه الفساد بسبب تضارب المصالح والشهوات، ولا حل لهذا التعارض إلا العقيدة التي تنموا فيها بذور حب الخير و بغض الشر على أساسٍ إلهيٍّ لا مصلحيٍّ.
هذه الأمور وغيرها الكثير تعطي تصوراً عاماً بأهمية العقيدة في حياة الإنسان، و لأهميتها سعى الأئمة(ع) لنشر العقيدة الصحيحة بين الناس، وهذا البحث في صدد عرضٍ لسيرة أحد هؤلاء العظام و كيفية مواجهته التيارات الفكرية في عصره، و استخلاص الأمور التي واجهها بهم، ألا وهو الإمام الصادق(ع)، سادس أئمة أهل البيت(ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، و سيقع الكلام في محاور هي:
1- تعريفٌ بالفرق الكلامية في عصره (المُرجئة و الغُلاة).
2- مواجهته(ع) لهذه الفرق.
3- أبرز الأمور التي واجه بها الإمام(ع) هذه الفرق.
1- الفرق الكلاميّة في عصره (ع):
أ- المُرجئة:
- تسميتهم: وهي مأخوذةٌ من الإرجاء بمعنى التأخير، و قد قيل في تسميتهم إنهم يقدمون الإيمان ويؤخرون -يرجؤون- العمل، فالإيمان عندهم عبارةٌ عن مجرد الإقرار بالقول وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا منه جانب القول وأخروا جانب العمل، ولذا كان شعارهم (لا تضر مع الإيمان معصيةٌ كما لا تنفع مع الكفر طاعةٌ).
- زمن ظهورهم: يبدو من فكرة الإرجاء بأنها كانت ردة فعلٍ للموقف المتطرف الذي وقفه الخوارج من مرتكبي الكبيرة، وعلى هذا يتضح أن ظهورها كان في النصف الأول من القرن الأول للهجرة(2). وقيل أيضاً بأن ظهورها كفكرةٍ لا كمذهبٍ كان في عهد عثمان عندما وقف قسمٌ من المسلمين موقف المحايد بينه وبين الثائرين عليه(3).
- عقيدتهم: المعروف بين المسلمين أن مرتكب الكبيرة مؤمنٌ فاسقٌ، إلا أنه شذت بعض الفرق في ذلك فصارت بينهم ثلاث فرقٍ، فقيل(4) بتكفير مرتكب الكبيرة وخلوده في النار، بل أكثر من ذلك، فقد ذهب بعضهم إلى تكفير مرتكب الذنب مطلقاً حتى لو كان من الصغائر، وقيل(5)بعدم شرطية العمل في حقيقة الإيمان وإن العاصي مؤمنٌ وإن ترك الصلاة والصوم، فهاتين على طرفي نقيض، وقيل(6)بأن مرتكب الكبيرة عندهم لا مؤمنٌ ولا فاسقٌ بل هو في منزلةٍ بين منزلتين، و زعمت هذه الأخيرة انتهاج الوسطية، إلا أن المشهور بتقييده الإيمان بالفسق خالف المرجئة وبوصفه بالإيمان خالف الخوارج والمعتزلة.
و المتحصل أن المرجئة رتبوا على هذا أموراً:
1- إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن أمر التصديق دائرٌ بين الوجود والعدم، و مثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك، وليس العمل داخلاً في حقيقته حتى يقال إن العمل يكثر ويقل.
2- إن مرتكب الكبيرة مؤمنٌ حقيقةً لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الاتصاف بالإيمان.
3- إن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار و إن لم يتب و لا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفو الله تعالى له(7).
- خطر عقيدتهم: تكمن خطورة عقيدة المرجئة بأنها تشكل في حقيقتها إجازةً مفتوحةً للمتسلطين و أهل الجور بل للمجتمع ككل للخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم، وذلك كله تحت إطار وحجة كفاية اتصاف الإنسان بالإيمان من غير حاجةٍ بعد ذلك لشيءٍ من العمل، فلا ينفعه صومه، صلاته، زكاته،... الخ، ولا يضره زناه، شربه للخمر،... الخ، وهذه الأفكار كما هو واضحٌ تقطر كفراً وضلالاً {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَّغَرَّهُمْ فِيْ دِيْنِهِمْ مَّاْ كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(8). ولذا تنبأ الأئمة(ع) إلى خطر هذه العقيدة المنحرفة و بادروا إلى توعية الناس بخطرها كما سيأتي، خصوصاً وأنها انتشرت بشكلٍ كبيرٍ بترويجٍ من حكام بني أمية، إذ وجدوا فيها ضالتهم المنشودة لتبرير سلوكهم وتطبيق مشروعهم الهادف لهدم الإسلام وتقويضه، و فيما يلي بعض النصوص التي تبين ذلك، (وأما المرجئة فكانوا عوناً و سنداً لحكم معاوية، جاءت آراؤهم ومعتقداتهم تبريراً لخلافته وإقناعاً للمسلمين بوجوب طاعته.. )(9)، (وكان موقف المرجئة السابق من معاوية عندما انتهى الصراع السياسي بغلبته في إسناد حكمه وتجنيد الطاقات لتبرير خلافته ولإقناع المسلمين بطاعته الأثر الفعال في استمرار المرجئة، إذ أن الأمويين بطشوا بكافة الفرق الإسلامية باستثناء المرجئة، وعاش شيوخهم مرفهين برعية بني أمية في الشام والبصرة، لذلك كانت الفرصة أمامهم كبيرة لنشر مذهبهم بين أهليها)(10). (نشأت المرجئة بمناسبة الحملات التي حملها الشيعة والخوارج على بني أمية وعملت على أنه يجب على الأمة الرضوخ لسلطة الأمويين وتأجيل الحكم عليهم بالشرك والتكفير إلى يوم الدين)(11). وعلى أي حالٍ فقد لعبت المرجئة -كما تكشف النصوص المتقدمة- دوراً كبيراً في إرساء ظلم وعبث الدولة الأموية، لذا فقد كانت المواجهة معهم حاسمةً وقويةً، بل يتضح مما سيأتي بأنها من أكثر الفرق التي حذر منها أئمة أهل البيت(ع)شيعتهم.
ب- الغُلاة:
- تسميتهم: مأخوذةٌ من الغلو وهو تجاوز الحد، وسميت هذه الفرقة بهذا الاسم لأنها غالت وتجاوزت الحد في حق الأنبياء والأولياء(ع)، فاعتقدت بألوهيتهم وربوبيتهم، و قد حذر القرآن من هذا المنهج في التعامل مع مقامات الأولياء خصوصاً وأنه قد شاع بين المسيح فقالوا: {قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيْحُ ابْنُ مَرْيَمَ}(12)، فرد هذا الاعتقاد بـ {يَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِيْ دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا المَسِيْحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انْتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَّاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَّكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}(13).
- زمن ظهورهم: تتضارب الأقوال في مبدأ الغلو في عالم الإسلام، و ذلك -ظاهراً- تبعاً لتعدد أصناف هذه الفرقة (فقد صنفهم الأشعري إلى 15 فرقة و البغدادي إلى 20 فرقة، وقال الاسفرائيني:إنهم أكثر من 20 فرقة. أما الشهرستاني فاقتصر على 11 فرقة)(14). إلا أن المشهور هو ظهورها على يد عبد الله بن سبأ الذي اعتقد بنبوة علي(ع) ثم بألوهيته، وأنكر مصرعه وقال:إن شيطاناً تمثل في صورته. فتوهم الناس أنه قتل كما توهم اليهود والنصارى في مقتل المسيح(ع)، بل هو في السماء مرفوعٌ ينزل قريباً فينتقم من أعدائه وقتلته، فلا تختلف عقيدتهم عن عقيدة المسيح، و هذا مما يؤشر على أن مبدأ ظهورها هو عصر الإمام علي(ع). وهذا مما أخبر به الرسول الأعظم(ص) بأن قوماً يقولون فيك ما قالته النصارى في المسيح ابن مريم(ع)، وكذلك مما يدل عليه تبرأ نفس الأمير(ع) منهم، ففي المرويّ عنه(ع):(اللهم إني بريءٌ من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً، ولا تنصر منهم أحداً)(15).
- عقيدتهم: (الغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين(ع) والأئمة(ع) من ذريته إلى الألوهية والنبوة و وصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد و خرجوا عن القصد)(16). و بهذا التعريف يندرج كل من وصفهم(ع) بالتفويض أو ادعى لهم مقاماً أعلى من المقامات التي صرحوا بها لهم(ع). وقد ذكر كثيراً إن لهم عقيدةً خاصةً تشبه إلى حدٍّ ما عقيدة المرجئة، وهي اعتقادهم (إن معرفة و محبة أئمة أهل البيت(ع) تغني الإنسان عن عبادة الله تعالى وعن أداء الفرائض)(17). وتعتبر المفوضة صنفٌ من أصناف الغلاة إلا أنهم افترقوا عنهم بقولهم بحدوث الأئمة(ع) ونفي القدم عنهم، ذلك لأنهم قالوا بأن الله تعالى تفرد بخلقهم ومن ثم فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال.
- مواجهته(ع) لهذه الفرق: و أذكر في هذا الفصل بعض ما صدر منه(ع) في مواجهة هاتين الفرقتين مقسماً له إلى طوائف بحسب موضوع تلك الروايات لنستخلص بعد ذلك منها كيفية تعامله(ع) معهم.
مواجهة المرجئة:
- الطائفة الأولى:
1- ما رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام، قال:(روينا عن جعفر بن محمد الصادق(ع)أنه قال:الإيمان قولٌ باللسان وتصديقٌ بالجنان وعملٌ بالأركان، وهذا الذي لا يصح غيره، لا كما زعمت المرجئة أنه قولٌ بلا عمل، ولا كالذي قالت الجماعة من العامة أن الإيمان قولٌ وعملٌ فقط، وكيف يكون ما قالت المرجئة إنه قولٌ بلا عملٍ وهم والأمة مجمعون على أن من ترك العمل بفريضةٍ من فرائض الله عز وجل التي افترضها على عباده منكراً لها إنه كافرٌ حلال الدم ما كان مصراً على ذلك، و إن أقرّ بالله و وحّده وصدّق رسوله بلسانه، إلا أنه يقول:هذه الفريضة ليست مما جاء به، وقد قال الله عزّ وجل:{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ}، و بذلك استحلَّ القوم أجمعون بعد رسول الله(ص) دماء بني حنيفة وسبي ذراريهم وسموهم أهل الردة إذ منعوهم الزكاة)(18).
2- ما رواه الثقة الكليني عن رجلٍ سأله عن قول المرجئة وقال بأنهم يحتجون علينا بأن الكافر عندنا هو الكافر عند الله، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإيمانه أنه عند الله مؤمنٌ، قال(ع):(سبحان الله وكيف يستوي هذان والكفر إقرارٌ من العبد فلا يكلف بعد إقراره ببينةٍ، فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمنٌ والكفر موجودٌ بكل جهةٍ من الجهات الثلاث، من نيةٍ أو قولٍ أو عملٍ، والأحكام تجري على القول والعمل في أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان، ويجري عليه أحكام المؤمنين وهو عند الله كافرٌ، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله)(19).
3- ما رواه عن جميل بن دراج قال:(سألت أبا عبد الله(ع) عن الإيمان فقال(ع): شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قلت: أليس هذا عملٌ؟ قال(ع): بلى. قلت: فالعمل من الإيمان؟ قال(ع): لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه)(20).
4- ما رواه عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله(ع) قال:(سألته عن الإيمان فقال(ع):شهادة ألا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله، وما استقرّ في القلوب من التصديق بذلك)(21).
5- في البحار عن ابن البختري عن الصادق(ع)قال:(قال رسول الله(ص):ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنَّ الإيمان ما خلص في القلب و صدّقه الأعمال)(22).
- الطائفة الثانية:
1- عن الفضيل بن يسار عن الصادق(ع)قال:(لا تجالسوهم -المرجئة- لعنهم الله ولعن مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله على شيءٍ من الأشياء)(23).
2- عن جميل بن دراج عن الصادق(ع) قال:(بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة)(24).
- الطائفة الثالثة:
1- عن يونس بن يعقوب عن الصادق(ع) قال:(ملعونٌ ملعونٌ من قال الإيمان قولٌ ولا عملٌ)(25).
2- عنه(ع) قال:(لعن الله القدرية، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة)(26).
3- عن أبي مسروقٍ قال:(سألني أبو عبد الله(ع) عن أهل البصرة ما هم؟ قلت:مرجئةٌ وقدريةٌ وحروريةٌ. قال(ع):لعن الله تلكم الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيءٍ)(27).
مواجهة الغلاة :
- الطائفة الأولى:
1- كتاب المناقب، لمحمد بن أحمد بن شاذان بإسناده إلى الصادق عن آبائه عن علي(ع) قال:(قال رسول الله (ص):يا علي! مثلك في أمتي مثل المسيح عيسى ابن مريم افترق قومه ثلاث فرقٍ، فرقةٌ مؤمنون وهم الحواريون وفرقةٌ عادوه وهم اليهود، و فرقةٌ غلوا فيه فخرجوا عن الإيمان، وإن أمتي ستفترق فيك ثلاث فرقٍ، ففرقةٌ شيعتك وهم المؤمنون، وفرقةٌ عدوك وهم الشاكون، وفرقةٌ تغلو فيك وهم الجاحدون، وأنت في الجنة يا علي وشيعتك ومحب شيعتك، وعدوك والغالي في النار)(28).
2- نوادر الراوندي، بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه (ع)، قال رسول الله(ص):(لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً)(29)
3- عن فضيل بن يسار قال الصادق(ع):(احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شر خلقٍ، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله. والله إن الغلاة لشرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا. ثم قال(ع):إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله، فقيل له كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله عز وجل أبداً، و إن المقصر إذا عرف عمل وأطاع)(30).
4- عن الفضيل بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:(اتقوا الله وعظموا الله وعظموا رسوله(ص) ولا تفضلوا على رسول الله(ص) أحداً فإن الله تبارك وتعالى قد فضله، وأحبوا أهل بيت نبيكم حباً مقتصداً، ولا تغلوا ولا تفرقوا ولا تقولوا ما لا نقول، فإنكم إن قلتم وقلنا متم ومتنا ثم بعثكم الله وبعثنا فكنا حيث يشاء الله وكنتم)(31).
5- عنه(ع):(.... فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا و اصطفانا، ما نقدر على ضرٍّ و لا نفعٍ، و إن رحمنا فبرحمته و إن عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجةٍ و لا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبرون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم ما لهم لعنهم الله لقد آذوا الله وآذوا رسوله(ص) في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم وها أنا ذا بين أظهركم لحم رسول الله وجلد رسول الله(ص)، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً يأمنون وأفزع، ينامون على فرشهم و أنا خائفٌ ساهرٌ وجلٌ أتقلقل بين الجبال والبراري، أبرأ إلى الله مما قال فيّ الأجدع البراد عبد بني أسد أبو الخطاب لعنه الله، والله لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب أن لا يقبلوه، فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً أستعدي الله عليهم، وأتبرأ إلى الله منهم، أشهدكم أني امرؤٌ ولدني رسول الله(ص) و ما معي براءةٌ من الله، إن أطعته رحمني و إن عصيته عذبني عذاباً شديداً أو أشد عذابه)(32).
6- عن حنان بن سدير عن أبيه قال:(قلت لأبي عبد الله(ع) إن قوماً يزعمون أنكم آلهةٌ يتلون علينا بذلك قرآناً {أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوْا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوْا صَاْلِحاً إِنِّيْ بِمَاْ تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} قال(ع):يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براءٌ، برئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، والله لا يجمعني وإياهم يوم القيامة إلا هو عليهم ساخطٌ قال:قلت:فما أنتم جعلت فداك؟ قال(ع):خزان علم الله وتراجمة وحي الله، ونحن قومٌ معصومون أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض)(33).
- الطائفة الثانية:
1- عن فضيل بن يسار قال:الصادق(ع):(احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله، والله إن الغلاة لشرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا)(34).
2- قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع):(أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يجلس إلى غالٍ فيستمع إلى حديثه ويصدقه على قوله، إن أبي حدثني عن أبيه عن جده إن رسول الله(ص) قال:صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الإسلام، الغلاة والقدرية)(35).
- الطائفة الثالثة:
1- عن حنان بن سدير قال:(كنت جالساً عند أبي عبد الله(ع) وميسر عنده ونحن في سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، فقال له ميسر بياع الزطي:جعلت فداك عجبت لقومٍ كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم. قال:و من هم؟ قلت: أبو الخطاب وأصحابه. وكان متكئاً فجلس، فرفع إصبعه إلى السماء ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فأشهد بالله أنه كافرٌ فاسقٌ مشركٌ، وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً. ثم قال: أما والله إني لأنفس على أجسادٍ أصليت معه النار)(36).
2- عن يحيى الحلبي عن أبيه عمران قال:سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:(لعن الله أبا الخطاب، ولعن الله من قتل معه، ولعن الله من بقي منهم، ولعن الله من دخل قلبه رحمةً لهم)(37).
3- عن أبان بن عثمان قال:سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:(لعن الله عبدالله بن سبإٍ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين(ع) عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم)(38).
4- عن ابن مسكان عمن حدثه من أصحابنا عن أبي عبد الله(ع) قال:سمعته يقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد، إنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد. لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا)(39)
والمتحصل مما جُمع من هذه الروايات الشريفة(40) أنه يمكننا استنتاج أن الإمام(ع) في مقام المواجهة الخاصة مع هاتين الفرقتين استخدم ثلاثة أساليبٍ هي:
1- بيان الحقيقة:
من الملاحظ خصوصاً عند الغلاة أنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ومن ثم يعرضونه -بما هو مشوهٌ- على الناس، مما يعطيها القدرة على جذب من لا يمتلكون تلك الصورة الواضحة للحقيقة، إذ لا عذر للإنسان عن ابتعاده عن الحق إلا عدم وصوله إليه وعدم التعرف إليه أو معرفته للحق وجحوده عن شبهةٍ وغيرها، و يكون في الصورة الثانية محل النقمة الإلهية على هذا الإنكار مما يزيد في مسؤوليته، و على كلا الأمرين فبيان الحقيقة للغافل عنها إخراجه من الظلمات إلى النور، وبيانها لجاحدها زيادةٌ في إقامة الحجة عليه، فهي مطلوبةٌ في حد ذاتها، وتزيد أهميتها إذا عرفنا أن أكثر الانحرافات بين عوام الناس بهذا السبب، فتضييق الحكومات الجائرة على أهل البيت(ع) وأتباعهم وعزلهم عن المجتمع وإقصائهم عنه، وفي قبال ذلك فتح المجال للتيارات المعادية لنشر أفكارها بكل حريةٍ، يعطي لهذه الشرذمة المتسع الكبير لترويج أفكارهم واختلاق الأحاديث التي تشوه بها الحقيقة، لذا نرى بأن الإمام(ع) يبين للمرجئة حقيقة الإيمان بتبيان حدوده (الإيمان قولٌ باللسان وتصديقٌ بالجنان وعملٌ بالأركان)، و هكذا بالنسبة للغلاة فنراه(ع) يبين مقامهم الذي اختاره الله لهم وهو العبودية المطلقة لله تعالى (فوالله ما نحن إلا عبيد من خلقنا واصطفانا)، و يوضح لهم الضابطة في حبهم (لا تفضلوا على رسول الله أحداً فإن الله تبارك وتعالى قد فضله، وأحبوا أهل بيت نبيكم حباً مقتصداً، ولا تغلوا ولا تفرقوا ولا تقولوا ما لا نقول... )، و في هذا الصدد يركز الإمام(ع) على ضرب وتر الوجدان الذي يشكل البوابة الكبرى للحق، فهو أقوى وأخصر طريقٍ إليه فيقول(ع):(وإنا لميتون ومقبورون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون)، و (ها أنا ذا بين أيديكم لحم رسول الله(ص) وجلد رسول الله)، و(أشهدكم أني امرؤٌ ولدني رسول الله(ص)).
2- إعلان البراءة منهم:
لا يخفى ما لمفهومي الولاء و البراءة من أهميةٍ كبيرةٍ في الفكر الإسلامي، إذ بهما تتحدد وتتشخص هوية المسلم الحقيقي فكل من شملته دائرة الولاء فكان ولياً لله تعالى فهو من المشمولين برحمة الله تعالى دنياً و آخرةً، و أما من خرج عن هذه الدائرة فهو ممن غضب الله عليهم دنياً وآخرةً، ولا واسطة بينهما، إذ بين الولاء والبراءة تمام الانفصال والتعاند، فهما يشكلان امتداد خطي النور والظلمات الذي نادت به الديانات السماوية برمتها، فبينما تعني البراءة الارتباط بغير الله تعالى، يعني الولاء الارتباط بالله تعالى، وللولاء والبراءة أدواتٌ عديدةٌ من أبرزها اللسان، ومن أتم مصاديق البراءة به هو اللعن الذي هو (الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبةٌ وفي الدنيا انقطاعٌ من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دعاءٌ على غيره)(41)، و على أيّ حالٍ فقد صدر اللعن من الإمام(ع) على هاتين الفرقتين بما لا يعطي للمطلع عليه أدنى شكٍّ أو ارتيابٍ في خروجهم عن جادة الصواب و الولاية الإلهية التي تمثل النور، ودخولهم في ولاية الشيطان المخرج لهم من النور إلى الظلمات، وجاعلهم مستحقي النار والخلود فيها {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَىْ النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(42).
3- التحذير من مجالستهم:
لا يخفى ما للمجتمع والاجتماع من تأثيرٍ في بناء الشخصية الفكرية للإنسان، فالإنسان ميالٌ للاندماج و الاكتساب من الآخرين بما يجاريهم فيه، ولهذه الحقيقة المهمة وغيرها نرى تركيز الإمام(ع) في التحذير من مجالسة هذه الفرق المنحرفة، إذ أن تجربة المجتمعات السابقة خير دليلٍ على صدق هذه الحقيقة، فحينما يألف الإنسان فكراً ما ويعتاد عليه فبحكم هذه الألفة يكون مستعداً لرفض أيّ دعوةٍ مهما كانت إن كانت تصب في خلاف ما يعتقد، و هذا بصريح القرآن في آياتٍ عديدةٍ منها {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}(43)، و {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَّلاَ يَهْتَدُونَ}(44)، و{وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُوْنَ شَيْئاً وَّلاَ يَهْتَدُوْنَ}(45)، وغيرها من الآيات التي تبين أن شدة الارتباط بفكرٍ واجتماعٍ معينٍ تحمل الإنسان إلى مستوىً لا يستطيع أن يرتفع معه عن الواقع، فحالة الافتتان التي تصاحب الألفة والعادة بمجالسة الآخرين هي التي يحذر منها الإمام(ع)، بل أكثر من ذلك نرى القرآن الكريم يوجب الهجرة على ضعاف النفس الذين ينساقون وراء الفكر المنحرف، يوجب الهجرة من المجتمع الذي تضيق فيه الخيارات على الإنسان {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِيْ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيْمَ كُنْتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرْاً}(46)، فأهمية هذا الأسلوب الوقائي تكمن في أنه الحل الأوحد لأولئك الذين ينبهرون وينعقون وراء كل ناعق.
ما تقدم يمثل عرضاً للمواجهة الخاصة من الإمام(ع) لهذه الفرق، غير إن هناك أمورٌ أخرى صدرت من الإمام(ع) تصب في المواجهة ولكن بصورةٍ عامةٍ يمكن تلخيصها فيما يأتي:
إرساء حاكمية العقل:
عن أبي عبد الله(ع) قال:(حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل)(47).
عن أبي عبد الله(ع):(دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولمَ وحيث، وعرف من نصحه ومن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات ووارداً على ما هو آتٍ، يعرف ما هو فيه ولأيِّ شيءٍ هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائرٌ، وذلك كله من تأييد العقل)(48).
عن أبي عبد الله(ع) في حديثٍ طويلٍ:(إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع بشيءٍ إلا به العقل، الذي جعله الله زينةً لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبَّرون، وأنه الباقي وهم الفانون، واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره، وبأن له ولهم خالقاً ومدبراً لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل، قيل له:فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال:إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبةً وأن له كراهيةً وأن له طاعةً وأن له معصيةً، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به)(49).
والمتمعن في هذه الأحاديث يرى بوضوح كيف أولى الإمام(ع) تلك الأهمية الكبيرة للعقل، لا لشيءٍ إلا لأنه يشكل الدعامة للمعرفة الحقة، فبه عرف الحق تعالى وعُبِد، بل إن طريق العقل هو (الطريق الوحيد لكل باحثٍ عن معالجة المسائل الأساسية للرؤية الكونية و حلّها)(50). والمهم هنا أن يلحظ بأن الإمام(ع) بقدر ما يعطي للعقل هذه الأهمية يصرح عن عجز العقل لوحده لدرك كل المعلومات، وعجزه عن رسم الخريطة المتكاملة للأسس العقائدية إلا بمعونة العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به، بل يشدد(ع) على ضرورة اتخاذ العلم بالإضافة إلى العقل بأن العقل قاصرٌ لوحده في الدلالة على إرادات الله تعالى من خلقه.
والمتلخص من رأيهم(ع) في العقل أنه صاحب القابلية على معرفة الأسس العقائدية ومبادئها، ولكن يبقى -تبعاً لمحدوديته- قاصراً ومحتاجاً لهداية العلم وهو المأخوذ ممن يهدون إلى الحقّ تعالى بأمره، وسائط الحق إلى الخلق، فالعقل والوحي -بالمعنى الأعم- يمثلان المنهج المتكامل للمعرفة في مدرسة أهل البيت(ع).
الإرجاع إلى الكتاب:
عنه(ع):(ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلا وله أصلٌ في كتاب الله عز وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال)(51).
وعنه(ع):(إذا ورد عليكم الحديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(ص)، وإلا فالذي جاءكم به أولى به)(52).
وعنه(ع):(كل شيء مردودٌ إلى الكتاب والسنة، وكل حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زخرفٌ).
يظهر جليّاً مدى أهمية القرآن في فكرهم(ع) حتى جعلوه هو الفيصل الحاكم والمعيار لقبول الأحاديث أو ردّها، فالقرآن هو الجامع المشترك بين المذاهب الإسلامية وإن اختلفت كل فرقةٍ في كيفية استنطاقه، والمتأمل في حقيقة الإرجاع إلى الكتاب يتضح له بلا ريبٍ أنه إرجاعٌ إلى النور الواحد والحقيقة الواحدة، ألا وهي القرآن والعترة الطاهرة(ع) اللذان لن يفترقا بصريح الأحاديث المتظافرة عند الفريقين في ذلك، ولا غرو في ذلك، (فمن علم بظاهر القرآن وباطنه، وعرف تفسيره وتأويله، واطلع على متشابهه ومحكمه، وردّ المتشابه منه إلى محكمه، وعمل بعزائمه وفرائضه وبسننه ورخصه، وكان مؤمناً بجميع أحكامه، وقال:(كلٌّ من عند الله)، فهو القرآن الناطق، لأن علوم القرآن ومعارفه قد تحققت في نفوسهم الشريفة، إذ الإيمان قد خالطهم من القرن إلى القدم، فالإنسان الكامل -المعصوم- قرآنٌ مثل كما أنه صراطٌ مستقيمٌ وميزان قسطٍ، كل ذلك على منهج الحق لا المجاز)(53)، وعنه(ع) في تفسير الآية {إِنَّ هَذَاْ الْقُرْآنَ يَهْدِيْ لِلَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ} قال(ع):(يهدي للإمام)(54).
تربية جيل من المتكلمين:
عن يونس بن يعقوب قال:(كنت عند أبي عبد الله(ع) فورد عليه رجلٌ من أهل الشام فقال:إني رجلٌ صاحب كلامٍ وفقهٍ وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك. فقال أبو عبد الله(ع):كلامك من كلام رسول الله(ص) أو من عندك؟ فقال:من كلام رسول الله(ص) و من عندي. فقال أبوعبدالله(ع):فأنت إذاً شريك رسول الله. قال:لا. قال: فسمعتَ الوحي عن الله عزَّ وجلَّ يخبرك؟ قال:لا. قال:فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(ص)؟ قال:لا. فالتفت أبو عبد الله(ع) إلي فقال:يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم. ثم قال:يا يونس لو كنتَ تحسن الكلام كلمتَه. قال يونس:فيا لها من حسرةٍ. فقلتُ:جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول ويلٌ لأصحاب الكلام، يقولون هذا يُنْقَادُ وهذا لا يُنْقَادُ وهذا يُنْسَاقُ وهذا لا يُنْسَاقُ وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال أبوعبدالله(ع):إنما قلت فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون. ثم قال لي:اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله. قال:فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام، وأدخلت هشام بن سالمٍ وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر و كان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين(ع)، فلما استقر بنا المجلس وكان أبو عبد الله(ع) قبل الحج يستقر أياماً في جبلٍ في طرف الحرم في فازةٍ له مضروبةٍ. قال:فأخرج أبو عبد الله(ع) رأسه من فازته فإذا هو ببعيرٍ يخبُّ فقال:هشامٌ وربِّ الكعبة. قال:فظننا أن هشاماً رجلٌ من ولد عقيلٍ كان شديد المحبة له. قال:فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر سناً منه. قال:فوسَّع له أبو عبد الله(ع) وقال:ناصرنا بقلبه ولسانه ويده. ثم قال:يا حمران كلم الرجل. فكلمه فظَهَرَ عليه حمران. ثم قال:يا طاقي كلمه. فكلمه فظَهَرَ عليه الأحول. ثم قال: يا هشام بن سالمٍ كلمه فتعارفا. ثم قال أبو عبد الله(ع) لقيسٍ الماصر:كلمه. فكلمه، فأقبل أبو عبد الله(ع) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي. فقال للشامي:كلم هذا الغلام. يعني هشام بن الحكم، فقال:نعم. فقال لهشامٍ يا غلام سلني في إمامة هذا...، انتهى الأمر إلى إيمان الشامي، فالتفت الإمام إلى أصحابه وأخذ يبين لهم مراتبهم في المجادلة، حتى انتهى إلى هشامٍ فقال(ع) له:مثلك فليكلم الناس)(55). وفي هذا الحديث بعض النكات المهمة التي تدل على اعتنائه(ع) بهذا الجانب في مهمة إرساء العقيدة الصحيحة عند المجتمع أشير إلى اثنتين منها:
(يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته): إذ يلاحظ فيها بأن الإمام(ع) يهتم بالطاقات العلمية المميزة ويقدمها لتثقيف المجتمع والمناقشة مع الخصوم، ولا يسمح لمن لا يملك تلك القدرة أن يتصدى لذلك، وهي من الأمور المهمة التي نبهوا عليها(ع)، ففي الحديث عن الباقر(ع):(من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدىً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)(56). وعن الصادق(ع):(أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال:أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم)(57). وعنه(ع):(إن الله تعالى خصّ عباده بآيتين من كتابه:أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لم يعلموا، قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيْثَاْقُ الْكِتَاْبِ أَلاَّ يَقُوْلُوْا عَلَىْ اللهِ إِلاَّ الحَقَّ}، وقال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوْا بمَِا لَمْ يُحِيْطُوْا بِعِلْمِهِ وَلمَاَّ يَأْتِهِمْ تَأْوِيْلُهُ}(58).
(مثلك فليكلم الناس):وهي على طرف النقيض مما تقدم، فبينما نراه(ع) ينهى بعض أصحابه عن الكلام يشجع ويشير إلى آخرين منهم، بل ويأمرهم أن يتصدوا بأنفسهم لتعليم الناس، وهذا ما يظهر واضحاً في خطابه(ع) مع هشام بن الحكم، وكذلك في حديثٍ آخر عن النضر بن صباح قال:كان أبو عبد الله الصادق(ع) يقول لعبد الرحمن بن الحجاج:(كلم أهل المدينة فإني أحب أن يُرَى في رجال الشيعة مثلك)(59).
وهاتان النقطتان هما اللتان بيَّنهما الإمام(ع) واختصرهما في نفس الحديث المتقدم، حيث قال في جواب يونس حين سأله:( إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول ويلٌ لأصحاب الكلام، يقولون هذا يُنْقَادُ وهذا لا يُنْقَادُ وهذا يُنْسَاقُ وهذا لا يُنْسَاقُ وهذا نعقله وهذا لا نعقله) فقال(ع):(إنما قلتُ:فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون).
بهذا نصل إلى ختام البحث، والذي يمكن أن تتلخص فائدته في أمرين:
1- أهمية البحث العقائدي، والتي تتكشف من حرص الإمام(ع) على تقويته في أوساط المجتمع.
2- طرق الإمام(ع) في الذود عن العقائد الحقة، والتي يمكن تلخيصها في:
أ- إثبات طرق المعرفة الصحيحة من خلال:
1- الإرجاع إلى العقل.
2- الإرجاع إلى السنة الصحيحة.
ب- تحصين المجتمع من خلال:
1- تربية جيلٍ من الطلبة المتميزين.
2- النهي عن مجالسة الفرق المنحرفة.
3- إعلان البراءة من المنحرفين.
والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) الباب الحادي عشر ص11.
(2) دراسات في العقيدة الإسلامية،الشيخ محمد جعفر شمس الدين ص35.
(3) المصدر السابق نقلا عن كتاب ابو حنيفة للشيخ محمد أبو زهرة.
(4) الخوارج.
(5) المرجئة.
(6) المعتزلة.
(7) مقالات الإسلاميين126-147،المذاهب الإسلامية،السبحاني74.
(8) آل عمران:24.
(9) مقالات الإسلاميين 141.
(10) دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الصادق(ع)/مقال لمؤيد العبيدي عن الحركات السرية في الإسلام،محمد إسماعيل 40 .
(11) المصدر السابق عن العقيدة والشريعة،د. محمد جواد مشكور 123.
(12) المائدة: 72.
(13) النساء: 171.
(14) دروس في الشيعة والتشيع/علي الرباني 207.
(15) البحار ج25ص265.
(16) تصحيح الاعتقاد 109.
(17) دروس في الشيعة والتشيع 207.
(18) دعائم الإسلام،القاضي النعمان3:1 نقلا عن دراسات وبحوث مؤتمر الإمام جعفر الصادق 318.
(19) الكافي ج2 / 39-40.
(20) المصدر 38.
(21) المصدر 37.
(22) بحار الأنوار ج69/72.
(23) الكافي ج5/ 410.
(24) الكافي ج6/ 47.
(25) بحار الأنوار ج66/19.
(26) الكافي ج2/409.
(27) المصدر 410.
(28) البحار ج 25/265.
(29) المصدر 266.
(30) المصدر 265.
(31) المصدر 269.
(32) المصدر 289-290.
(33) المصدر 298.
(34) المصدر 265.
(35) المصدر 271.
(36) المصدر 280.
(37) المصدر 280.
(38) المصدر286.
(39) المصدر 297.
(40) قد لا تكون كل واحدة من هذه الروايات رواية معتبرة في جميع مفرداتها على مستوى علم الرجال والحديث، ولكنها بمجموعها تعبر عن هذه الحقيقة، وذلك لأنه عندما تكون الروايات متضافرة أو متواترة على مضمون إجمالي يمكن الاعتماد عليها كدليل في استنباط هذا المضمون الإجمالي للوثوق بصدور أحدها من المعصوم، و أن التضافر قد يوجب الوثوق بصدورها، لاسيما مع ملاحظة موافقة هذه الروايات للقرآن الكريم و الذي يمثل ميزانا وضعه أئمة أهل البيت^ في معرفة الخبر و صحته وسقمه،و لا نرى في هذه الروايات إلا تأكيداً لما هو موجود في القرآن.
(41) مفردات القرآن 741.
(42) البقرة: 257.
(43) هود: 62.
(44) البقرة: 170.
(45) المائدة: 104.
(46) النساء: 97.
(47) الكافي ج1/40.
(48) المصدر40-41.
(49) المصدر43-44.
(50) دروس في العقيدة الإسلامية،المصباح اليزدي ج1/54.
(51) الكافي ج1/81.
(52) المصدر 89.
(53) علي بن موسى الرضا(ع) و القرآن الحكيم،الجوادي الآملي 18-19 (بتصرف).
(54) الكافي ج1/242.
(55) الكافي ج1/192 (بتصرف).
(56) المصدر 42.
(57) المصدر 60.
(58) المصدر61.
(59) البحار ج2/136.
0 التعليق
ارسال التعليق