اختلف العلماء والمؤرخون في تحديد المكان الذي دفن فيه رأس الحسين، على أقوال عديدة، ولعل أهم هذه الأقوال قولان:
القول الأول: وهو القول المشهور عند علماء الطائفة من أن الرأس دفن في كربلاء، وهذا القول قد تؤيده اربع روايات وردت عن أهل بيت العصمة (ع)، وهذه الروايات يلاحظ عليها أولا: أنها غير نقية السند، وثانيا: أنه يمكن النقاش في دلالة ثلاث روايات منها، وثالثا: أنها معارضة بمجموعة كبيرة من الروايات التي تدل على القول الثاني.
القول الثاني: أن الرأس قد دفن في النجف بالقرب من قبر أمير المؤمنين (ع)، وهذا القول رغم عدم اشتهاره في زماننا إلا أن هناك مجموعة من الروايات تشير إليه، وهي وإن كانت بمجموعها غير نقية السند أيضاً إلا أن عددها ليس بالقليل إذ يصل عددها إلى تسع روايات.
وهناك أقوال عديدة أخرى غير هذين القولين وقد ذكرها المؤرخون، إلا أن الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) لا تشير إلا إلى هذين القولين على وجه التحديد.
هذا وكنت قد كتبت فيما سبق بحثا مستقلا حول هذا الموضوع، وتعرضت فيه إلى هذه الروايات وإلى أقوال العلماء، وقمت بإلقاء هذا البحث في محاضرتين في قم المقدسة، وما أريده هنا هو البحث في خصوص ما ذكره السيد رضي الدين علي بن طاووس المتوفى سنة 664هـ، حول هذا الموضوع.
وسأنقل هنا ثلاثة مقاطع ذكرها ابن طاووس في كتابيه (اللهوف في قتلى الطفوف) و(إقبال الأعمال)، وسأحاول بعد ذلك التعليق على هذه المقاطع الثلاثة:
المقطع الأول: قال في كتاب اللهوف: «فأما رأس الحسين (ع)، فروي أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف (ع)، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه، ورويت آثار كثيرة مختلفة غير ما ذكرناه تركنا وضعها كيلا ينفسخ ما شرطناه من اختصار الكتاب»(1).
المقطع الثاني: وهو مقطع طويل ذكره في كتابه إقبال الأعمال حيث قال: «فصل فيما نذكره من الجواب عما ظهر في أن رد رأس مولانا الحسين (ع) كان يوم العشرين من صفر.
إعلم أن إعادة الرأس المقدس لمولانا الحسين صلوات الله عليه إلى جسده الشريف يشهد به لسان القرآن العظيم المنيف، حيث قال الله جل جلاله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فهل بقي شك حيث اخبر الله انه من حيث استشهد حي عند ربه مرزوق مصون، فلا ينبغي أن يشك في هذا العارفون.
وأما كيفية إحيائه بعد شهادته وكيفية جمع رأسه الشريف إلى جسده بعد مفارقته؟ فهذا سؤال يكون فيه سوء أدب من العبد على الله جل جلاله أن يُعَرِّفه كيفية تدبير مقدوراته، وهو جهل من العبد وإقدام على ما لم يكلف العلم به ولا السؤال عن صفاته.
وأما تعيين الإعادة يوم الأربعين من قتله، والوقت الذي قتل فيه الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ونقله الله جل جلاله إلى شرف فضله كان الإسلام مقلوبا والحق مغلوبا، وما تكون الإعادة بأمور دنيوية، والظاهر أنها بقدرة الإله.... فليقتصر الإنسان على ما يجب عليه من تصديق القرآن، من أن الجسد المقدس تكلَّم عقيب الشهادة وانه حي يرزق في دار السعادة، ففي بيان الكتاب العزيز ما يغني عن زيادة دليل وبرهان»(2).
المقطع الثالث: ذكره بعد المقطع السابق بصفحتين حيث قال: «فصل: ووجدت في المصباح[مصباح المتهجد] أن حرم الحسين(ع) وصلوا المدينة مع مولانا علي بن الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وفي غير المصباح أنهم وصلوا كربلاء أيضا في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد لان عبيد الله بن زياد لعنه الله كتب إلى يزيد يعرفه ما جرى ويستأذنه في حملهم ولم يحملهم حتى عاد الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوما أو أكثر منها، ولأنهم لما حملهم إلى الشام روي أنهم أقاموا فيها شهرا في موضع لا يكنُّهم من حر ولا برد، وصورة الحال يقتضي أنهم تأخروا أكثر من أربعين يوما من يوم قُتِل (ع) إلى أن وصلوا العراق أو المدينة.
وأما جوازهم في عودهم على كربلاء فيمكن ذلك، ولكنه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر، لأنهم اجتمعوا على ما روى جابر بن عبد الله الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائرا من الحجاز، فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوما، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها»(3).
التعليق:
هناك بعض الملاحظات التي يمكن الالتفات إليها في كلام السيد ابن طاووس (قدس سره):
1- يفهم من كلامه في المقطع الأول والثاني أنه يعتقد برد الرأس إلى الجسد، ودفنه في كربلاء، ولم يشر إلى مصدره في هذا الاعتقاد سوى ما أشار إليه من الاستدلال بالآية القرآنية، مضافا إلى ما عبر عنه في المقطع الأول بقوله: (فـروي أنه أعيـد)، كما أنه يصرح بأن هذا هو الرأي الذي عليه عمل الطائفة، ولكنه في نفس الوقت يشير إلى وجود أقوال أخرى لا تتبنى رد الرأس ودفنه مع الجسد في كربلاء.
2- يصرح في المقطع الثاني أن الرأس أرجع في يوم العشرين من صفر، ولكن كيفية الإرجاع غير واضحة عنده، ويتمسك بالآية التي تدل على حياة الشهداء {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} للإستدلال بها على رجوع الرأس، ويلاحظ على استدلاله بالآية الكريمة ما يلي:
أ) أن الظاهر أن الحياة التي تتكلم عنها الآية غير الحياة الجسدية الدنيوية، بل هي حياة برزخية لها خصائصها، وهي لا تستلزم بالضرورة عودة الرأس إلى البدن، فالآية لا تدل على أن الرأس أعيد إلى الجسد ودفن معه في كربلاء.
ب) لو فرضنا دلالة الآية على ذلك، فهي جزما لا تدل على أن الرد كان في العشرين من صفر، بل ما تقتضيه الآية ـ لو فرض صحة الاستدلال بها في المقام ـ هو كون الرأس قد أعيد إلى الجسد في نفس يوم العاشر من المحرم لا في يوم العشرين من صفر.
ج) يظهر من كلامه في المقطع الثاني أنه يعتقد بأن عودة الرأس إلى الجسد لم تكن وفق النواميس الطبيعية بل كانت بقدرة إلهية نجهل كيفيتها، كما أن ابن طاووس نفسه لا يملك أي إثبات على أن الرأس قد أعيد في خصوص يوم العشرين من صفر، ولذلك نراه عاجزا عن تفسير ذلك، فيتمسك في الجواب عنه بان العبد غير مكلف بمعرفة هذه الأمور، وأن هذا السؤال فيه سوء أدب من العبد على مولاه. على أن التأمل في الكلام الذي ذكره في هذا المقطع قد يعطي إلماحة إلى وجود جو تشكيكي حول هذه المسألة آنذاك، وانه بكلامه هذا يحاول حلحلة هذه المسألة ورفع الشك المثار حولها.
3- في المقطع الثالث يستبعد السيد ابن طاووس ما روي من رجوع حرم الحسين إلى كربلاء في يوم الأربعين، وبالتالي فهو لا يعتقد بصحة ما يتناقله الخطباء من أن الإمام السجاد رجع في ذلك اليوم مع السبايا إلى كربلاء وأنهم حملوا الرؤوس معهم ودفنوها بكربلاء، كما أنه يستبعد ما ورد في مصباح المتهجد من أن حرم الحسين رجعوا إلى المدينة في العشرين من صفر، لأن مدة أربعين يوما لا تكفي للذهاب إلى الكوفة والانتقال منها إلى الشام ثم العودة إلى المدينة أو العراق، فما ذكره هنا صحيح لا غبار عليه، ولكن قد يحتمل البعض أن مراد الشيخ الطوسي وصولهم إلى المدينة في السنة التالية أي سنة 62هـ، ولكن هذا الكلام أيضا محل تأمل؛ إذ من البعيد أن يبقوا أكثر من سنة في سفرهم خصوصا وأنهم لم يكونوا في نزهة بل كانوا في عزاء ومصيبة، على أن عبارة الشيخ في (مصباح المتهجد) تحتمل معنى آخر، فقد قال ما نصه: (وفي اليوم العشرين منه كان رجوع حرم سيدنا أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله)(4) فمن المحتمل أن يكون مراده أن يوم العشرين من صفر بداية رجوعهم من الشام إلى المدينة.
الخلاصة: والذي يفهم من مجموع المقاطع الثلاثة، هو أن السيد ابن طاووس كان يعتقد أن الرأس قد ارجع ودفن في كربلاء، وأن ذلك حصل في يوم العشرين من صفر، ولكن كيف حصل ذلك فهذا ما لا يسعنا معرفته، لكي لا يبدر منا (سوء الأدب) على حد قول السيد ابن طاووس.
فالمتحصل من التأمل في كلام ابن طاووس هو عدم امتلاكه لأي مستند مهم حول رد الرأس ودفنه في كربلاء سوى الروايات الأربع التي عثرنا عليها نحن والتي أشرنا إلى ما فيها من مشكلات، إذ لو كان عنده مستند آخر مهم لكان ذكره لهذا المستند أولى من الاستدلال بالآية التي ليس فيها أي دلالة على ذلك.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
* الهوامش:
(1) اللهوف في قتلى الطفوف، ص 114.
(2) إقبال الأعمال، ج 3 : ص 98.
(3) إقبال الأعمال، ج 3 : ص 100.
(4) مصباح المتهجد: ص 787.
0 التعليق
ارسال التعليق