دروس في الأخلاق السياسية في الإسلام (الحلقة الثالثة)

دروس في الأخلاق السياسية في الإسلام (الحلقة الثالثة)

لازال الكلام حول الطريق الثاني من طرق خلق اليقظة السياسية وهو المداومة على ذكر الله، ومن الأمثلة الناصعة في بيان التجارب الذكرية المؤدية لمواقف سياسية راسخة ما ذكره (أبو الفرج الأصفهاني) في مقاتل الطالبيين حول حياة علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن أحد أحفاد الإمام الحسن(ع) الذي يُسمَّى بعلي الخير، وعلي العابد، فقد اعتقله أبو جعفر ضمن مجموعة من بني الحسن، ويروي أبو الفرج رواية في شأن هذه المجموعة رواها عبد الله بن الحسن أحد أفراد هذه المجموعة، عن فاطمة الصغرى عن أبيها عن جدتها فاطمة(ع)، قالت:«يُدفن من ولدي سبعة بشاطئ الفرات لم يسبقهم الأولون ولا يُدركهم الآخرون»، قال عبد الله: فقلت: نحن ثمانية. قال: هكذا سمعت. قال: فلما فتحوا الباب وجدوهم موتى وأصابوني وبي رمق وسقوني ماء، وأخرجوني فعشت.

والشاهد الذي أودُّ ذكره في التجربة الذكرية أوضاع هؤلاء الثمانية وهم يعيشون في قعر السجون، فقد حبسهم أبو جعفر في محبس ستين ليلة، لا يعرفون الليل من النهار، ولا يعرفون وقت الصلاة إلاّ بتسبيح علي بن الحسن، قال الحسين بن نصر -في بيان حال السجناء الثمانية-: «ضجر عبد الله ضجرة، فقال: يا علي ألا ترى ما نحن فيه من البلاء؟! ألا تطلب إلى ربّك(عزّ وجلّ) أنْ يُخرجنا من هذا الضيق والبلاء؟ فسكت عنه طويلاً ثم قال: يا عمّ إنّ لنا في الجنّة درجة لم نكن لنبلغها إلاّ بهذه البلية أو بما هو أعظم منها، وإنّ لأَبي جعفر في النّار موضعاً لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منّا مثل هذه البليَّة أو أعظم منها، فإن تشأْ تصبرْ، فما أوشك فيما أصبنا أن نموت فنستريح من هذا الغمّ كأن لم يكن منه شيء، وإن تشأ أن ندعو ربنا (عزّ وجلّ) أنْ يُخرجك من هذا الغمّ ويقصر بأبي جعفر غايته التي في النار فعلنا.قال: لا، بل أصبر. فما مكثوا إلاّ ثلاثاً حتى قبضهم الله إليه».

فالإنسان حين يتعرض لألوان المحنة والوحدة قد يُصاب باليأس والضيق ويشعر بالضعف والوهن والضنك، لكنَّ ذكر الله والتطلع لما لديه، يصنع سمواً في المشاعر، واستقراراً في النفس، وراحة في البال.. يصنع صلابة في الموقف وثباتاً على الرؤى والأفكار النابعة من الدين.

فاليقظة هي التي تحدد الخيارات، فالسياسي إما أن يخضع لإغراءات المال حينما يقف مع السلطان ويكون أداة للظلم والجور والقهر، أو يرفض كل ذلك ويقف مع المُستضعفين والمظلومين، وتحديد أي الخيارين بحاجة ليقظة سياسية مُتحررة.

الطريق الثالث- الاعتبار بالعبر السياسية:

ومما يُمكن أن يُذكر لخلق اليقظة الاعتبار بالعبر السياسية، فقراءة حياة السياسيين بغرض الاعتبار السياسي يخلق اليقظة والالتفات، وهذا مما أوصى به أمير المؤمنين(ع) ولده الإمام الحسن(ع) بقوله: «وذكّره -أي قلبك- بما أصاب منْ كانَ قبلكَ من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغُربة، وكأنك عن قليل صرتَ كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك»(1).

فقراءة حياة الفاسدين والصالحين ممن انشغلوا بالسياسة لها تأثيرها الكبير في استيعاب الحقائق، وعدم السقوط في المُستنقعات السياسية التي وقعوا فيها، فهناك من أفسدتهم المصالح الدنيوية كعمر بن سعد، فخسر الدنيا والآخرة، وهناك من أصلحتهم الابتلاءات الدنيوية كالحرّ بن يزيد الرياحي الذي لم يحجبه منصبه عن رؤية الحقيقة والوقوف معها وقدم دماءه فداء للحق..

وهناك الكثير من السياسيين الذي حكموا الكثير من بلدان العالم، فأين رحلوا؟! أين شداد بن عاد الذي بنى مدينة {لَمْ يُخْلَق مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}(2)؟! أين هشام بن عبد الملك الذي كان يقول للسحابة: "أمطري حيث شئت فسيصل إليَّ خراجُك"؟! وغيرهم كثير ممن حكموا ظلماً وعتواً أو باعوا أنفسهم طمعاً أو خوفاً، فعلينا أن نستحقر هؤلاء وأمثالهم في داخل أنفسنا حتى لا نصير أمثالهم، وقد صدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بقوله: (من لم يعتبر بغير الدنيا وصروفها لم تنجع فيه المواعظ)، فالعبر كثيرة لمن أراد أن يقرأ قراءة سياسية واعية، ومتى ما أخذت العبرة مأخذها من النفس، واشتعلت نيران المعرفة الوجدانية فسوف يحصل للإنسان عزم وإرادة تدفعه للحركة التغييرية.

الطريق الرابع: معاشرة السياسيين المتدينين:

فمعاشرة رجالٍ مُتقين سوف يجعل الإنسان مُستفيداً من يقظتهم، وستنعكس على شؤونه وتصرفاته لحصول سنخية بينه وبينهم بسبب معاشرته، وقال النبي(ص): (قالَ الحَواريونَ لعيسى: يا روحَ اللهِ منْ نُجالسُ؟ قال: منْ يُذكركم اللهَ رؤيتُه، ويزيد في عملِكُم منْطقُه، ويرغبكم فِي الآخرةِ عملُه)(3).

ثانياً (من طرق اليقظة السياسية): طرق تحصيل "اليقظة الجذبية":

ذكرت فيما سبق أن هناك يقظتان: يقظة كسبية ويقظة تُقابلها وهي يقظة جذبية يتلطف بها الله على من يشاء من عباده، وقد تقدم الكلام حول اليقظة الكسبية، وأودُّ هنا الحديث حول اليقظة الجذبية، والتي نعني بها جذبة من الله(سبحانه وتعالى) للقلوب المُستعدة، واستقطابها نحوه، وبما أنَّ الجذبات الرحمانية كثيرة، بل في الجذبة الواحدة فيوضات ومراتب، فسوف أتناول أطراف الحديث حول مُفردة واحدة من مفردات الجذب الرباني، وهي جذبة التوفيق، حتى أتمكن من بيان بعض أبعاد هذه الجذبة.

ومن البيانات الراقية لهذه اليقظة الجذبية التوفيقية –إنْ صحّ التعبير- ما ذكره أمير المؤمنين(ع) في دعاء الصباح بقوله :« إِلهِي إنْ لمْ تبْتدئنِي الرحمةُ منكَ بِحُسنِ التَّوفيقِ فمنِ السالكُ بِي إِليكَ في واضحِ الطريق». فهنا يعلمنا الإمام(ع) بأنَّ هناك جذبة رحمانية ابتدائية باسم التوفيق، فعلينا أن نتوجه إليه ليتلطف بها علينا، وقد قال أيضاً: «التَّوفيقُ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّبِ»(4).

فالتوفيق عناية من الله ونعمة من نعمه، فمن رزقه الله توفيقه فسوف يتقدم في طريق الكمال، وإلاَّ فسوف يعيش التخلف، كما قال : «من لمْ يَمدّه التَّوفيقُ لم ينب إلى الحقّ»(5).

وكما قال(ع): «كيف يتمتع بالعبادة من لم يعنه التوفيق؟!»(6)، فإذاً «مَنْ أمَدّه التوفيق أحسن العمل»(7)، كما قال. فلقيمة هذه الجذبة وعظمتها وأساسيتها في طريق الكمال والقرب من الله، أشير إلى بعض ما يرتبط بها، فأقول وبالله التوفيق:

المراد من التوفيق:

ومما يُمكن قوله في بيان المراد من الجذبة التوفيقية أنها:

أ_ تدخلُ يدِ الغيب لتذليل كل العقبات التي تقف حائلاً بين الإنسان وبين ما يضره، فهناك عقبات قد تحول بين الإنسان وبين التوبة من ذنوبه السياسية، أو تحول بينه وبين الجد من أجل الله، بحيث يكون عمله من أجل الجاه والمواقع والمصالح السياسية الذاتية أو الحزبية، أو تحول بينه وبين جعل ما يتمتع به من قدرات فكرية وبيانية وجسدية في سبيل الله، فتجد نشاطه وعمله وقلمه في طاعة الشيطان لا في طاعة الرحمن، وهكذا فهناك عقبات تحول بينه وبين أن تكون أهدافه ومنطلقاته وممارساته لله(سبحانه وتعالى)، وتلك العقبات قد تكون أسرة أو أصدقاء أو انشغال أو همٍّ أو غمّ أو غفلة، فتتدخل يد الغيب لتفتح مسامع قلبه فيُبصر واقعه الذي يحول بينه وبين ربه.

نعم هناك من يتركهم الباري في هذه المُستنقعات، وهذا ما بينه لنا زين العابدين(ع) في دعاء أبي حمزة الثمالي مُبدياً قلقه من عدم تدخل العناية الإلهية، حينما يصف الحال بقوله: «اللهم إني كلما قلت قد تهيأت وتعبأت، وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك، ألقيتَ عليَّ نعاسا إذا أنا صليت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت! ومالي كلما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك! سيدي لعلك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني! أو لعلك رأيتني مستخفا بحقك فاقصيتني! أو لعلك رأيتني معرضا عنك فقليتني! أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني! أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني! أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني! أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني! أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني! أو لعلك لم تحب أن تسمع دعائي فباعدتني! أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني! أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني!..».

فهنا نتعرف على العقبات الموجبة للخذلان كالاستخفاف بحق الله سبحانه، والإعراض عنه، والتواجد في مقام الكاذبين، وعدم شكره على نعمائه، وعدم تواجدنا في مجالس العلماء والتواجد مع الغافلين وألفة مجالس البطالين، فهذه بعض العقبات، والله سبحانه قد يأخذ بيد بعض عباده ممن توسم فيهم الخير فينتشلهم من هذه المُستنقعات.

ب- الجذبة التوفيقية وهي لطف يؤيد بها عبده فلا يكله لنفسه، بل يوجهه للأسباب النافعة، ويهيئ له الأجواء النظيفة، ويقوده إلى الأفعال الموصلة للمطلوب الخيّر. فإذا عمل وفق أوامر الله واجتنب عما نهاه سُمي مُوفقاً، أما إذا لم يعمل بما يُرضي الله، ولم يجتنب معصيته سُمّي مخذولاً.

ت- منحة إلهية لهدايته أو عصمته عن السهو والنسيان والخطأ.

ث- الإلهام للخير، وجعل الإنسان رشيداً، ويدل على كون التوفيق إلهام ما رواه خيثم، عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: «يكون شيء لا يكون في الكتاب والسنة؟ قال: لا. قال: قلت: فإن جاء شيء؟ قال: لا. حتى أعدت عليه مرارا فقال: لا يجئ، ثم قال –بإصبعه- بتوفيق وتسديد، ليس حيث تذهب، ليس حيث تذهب». والمراد من قوله(ع): (بتوفيق وتسديد) أي بإلهام من الله وإلقاء من روح القدس، وليس حيث تذهب من الاجتهاد والقول بالرأي.

كيفية التوفيق:

وعلى ضوء هذه الرواية الشريفة أود تحليل عملية الإلهام، ليتبين معنى كونه توفيقاً. وما يُمكن أن يُقال: أنّ القلب في حقيقة الأمر متوسط بين عالمين: عالم روحاني وعالم جسماني، ويتأثر بما يرد عليه من طريق الحواس الظاهرة كالعين والأذن واللسان أو الحواس الباطنة كالخيال والشهوة والغضب، والخواطر من أهم المؤثرات في قلب الإنسان، وهي تلك الأفكار والأذكار والإدراكات والعلوم التي تعرض القلب على سبيل التجدد، وتُحرك إرادة الإنسان، إذ بعد أن يخطر المنوي في البال تحصل الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء فيصدر الفعل خيرا كان أو شراً.

وهذه الخواطر على قسمين:

القسم الأول: خواطر تدعو إلى الشرور، وهي التي تعرض على القلب من طرق الحواس الخمس، وهذه الخواطر الداعية إلى الشرور تُسمى وساوس. وسبب الوسواس يسمى شيطاناً، وهو موجود مسلط على الحواس، وله سبيل إلى باطن العروق، ولكن لا سلطة له على العقل، ولا سبيل له إلى داخل القلب، فالشيطان عبارة عن موجود روحاني ظلماني شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالمنكر والتخويف بالفقر ونحوه عند الهم بالخير.

القسم الثاني: خواطر تدعو إلى الخيرات وهي التي تعرض على القلب من غير الحواس الخمس، وذلك لأن العقل لا يدعو إلى الشر البتة، وهذه الخواطر الداعية إلى الخيرات تُسمى إلهامات. وسبب الإلهامات يسمى ملكاً، وسُمي بذلك لأن داعي الخير يأتي إلى القوة العاقلة من العالم الروحاني، والعالم الروحاني هو عالم الملائكة، فالملك عبارة عن جوهر روحاني نوراني خلقه الله، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف وقد سخره الله لذلك.

 

* الهوامش:

(1) نهج البلاغة، كتاب رقم 31.

(2) الفجر 8.

(3) الكافي، ج‏1، ص‏39، ح‏3; بحار الأنوار، ج‏14، ص‏331، ح‏72.

(4) كتاب غرر الحكم، الباب الثالث، ارتباط الله مع الناس-الفصل الأول في التوفيق- الحديث3989.

(5) نفس المصدر، الحديث 3998.

(6) نفس المصدر، الحديث 4005.

(7) نفس المصدر، الفصل الرابع في العمل-حسن الفعل وآثاره- الحديث2858.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا