بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين، هذه بعض الدروس الأخلاقية من كتاب الله تعالى وكلام أهل البيت(ع).
القرآن الكريم كتاب هداية الإنسان، وتعني الهداية أنْ يتجسد الحقُ في الإنسان في كل أبعاده، في سلوكه وصفاته وأفكاره، فعلى الإنسان أن يقف عند كل آية ليرى نوع الهداية التي جاءت من أجلها، هل هي هداية السلوك أم هداية القلب أم هداية العقل، ليستفيد منها بالشكل المطلوب، وعلى المتأمل في الآيات أن ينظر إليها بنظر الهادي المحب، دون أن يستغرق في الجانب العلمي على حساب الهدف الأساس-الهداية-، وهذا ما أكدت عليه النصوص الدينية، فالله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يصف القرآن الكريم، يقول عنه أنه كتاب هداية {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(1)، وعندما يصفه بأنه كتاب الفرقان بين الحق والباطل فإن ذلك تعبير آخر عن الهداية {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}(2)، لأن معنى أن يكون القرآن فرقانا بين الحق والباطل، يعني يريدك أن تسلك طريق الحق، الحق في السلوك الذي يوصل الإنسان إلى كماله، والحق في الصفات النفسية والحق في العقائد والأفكار، إذاً معنى قوله أنه كتاب الفرقان يعني أنه كتاب هداية، وكذلك وصفه(سبحانه وتعالى) القرآن بأنه تبيان لكل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(3)، إذاً القرآن الكريم هو الكتاب الذي جاء من أجل تحقيق الهدف من خلق الإنسان، والهدف الذي من أجله أوجد الله هذا العبد الضعيف هو الهداية والسير على طريق الله(سبحانه وتعالى)، وهذه بعض الإشارات والوقفات الأخلاقية من سورة الفاتحة المباركة، حاولت التركيز على الأبعاد التربوية فيها لتأكيد الجانب التربوي في الإنسان:
الدرس الأول (بسم الله الرحمن الرحيم)
أول آية يبدأ بها القرآن الكريم، هي البسملة، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم، وقد ورد عن الرضا(ع) في معنى قوله: بسم الله قال(ع): «يعني أَسِمُ نفسي بسِمَةٍ من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة»(4)، واسم الله هو الاسم الجامع لجميع الصفات والأسماء، ومعنى باسم الله أي أستعين بالله على كل ما أحتاجه سواء كان قياما بفعل، أو طلب الحصول على المعرفة الصادقة، أو التوفيق للحصول على الصفات النفسية الحسنة، لأن معنى باسم الله أن كل شيء في الوجود إنما يكون باسم الله(سبحانه وتعالى)، بمعنى أن هذا العالم كله تجليات لكمال الله(سبحانه وتعالى)، ولا شيء في الوجود إلا وهو نازل من خزائنه(سبحانه وتعالى)، قال تعالى {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(5)، كل فعل من الإنسان مخلوق فهو بإذن الله، وكل صفة نفسية في الإنسان مخلوقة فهي بإذن الله، والعقائد التي توجد في نفس الإنسان مخلوقة فهي بإذن الله، وهكذا كل شي، فبسم الله خلق الخلق، وبسمه يرجع، وبسمه يحي ويموت....، والدروس التي نستلهمها من هذه الآية المباركة كثيرة:
التوحيد الأفعالي: يعلمنا ربنا(سبحانه وتعالى) في هذه الآية المباركة أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله(سبحانه وتعالى)، وأن كل فعل وكل عين إنما هو تجلي وظهور لأسمائه المقدسة، وكل شيء إنما كان باسم الله(سبحانه وتعالى)، فأصل وجوده باسم الله وتحقق صفاته باسم الله ووجود أفعاله باسم الله، وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}(6)، الله يخاطب النبي(ص) ويقول له لا تحسب أنك أنت الذي قمت بالرمي مستقلا ومن عند نفسك، كلا بل الله هو الذي رمى على يدك المباركة، هذه حقيقة عظيمة على الإنسان المؤمن أن يكتبها بقلم عقله على صفحة قلبه، فإن لها ثمارا لا تعد ولا تحصى، ومن ثمار هذه المعرفة التوحيدية:
أ- حب الله:الإنسان بفطرته يحب المحسن المنعم؛ فمثلا عندما يرى المؤمن المحب للعلم الكتب الثمينة التي ألفها الإمام الخميني رضوان الله عليه، ويقرؤها ويرى ما فيها من درر ثمينة تساعده على الكمال، وتفتح له الطريق للسير نحو الله، يشعر بالفطرة أنه يحب الإمام الخميني رضوان الله عليه، فكيف به إذا رأى أن كل هذا الكون وكل صغير وكبير فيه إنما خطته يد القدرة الإلهية، وأن الإمام الخميني الذي أحبه ليس إلا مخلوقا ضعيفا أمام عظمته(سبحانه وتعالى) فكيف سيحبّه، هل سيحبه كما أحب الإمام الخميني؟ كلا سوف يحبه حبا لا يسعه كيانه، حباً يجعله ممسوسا في ذات الله كما كان أمير المؤمنين(ع)، فقد روي عن رسول الله(ص) «لا تسبوا عليا فإنه كان ممسوسا في ذات الله(عزّ وجلّ)»(7).
ب- ترك الحسد: الحسد يعني تمني زوال النعمة -المادية أو المعنوية- عن الغير وتحولها إلى الحاسد، وهذا يعني الاعتراض على الله(سبحانه وتعالى)، لأنه هو الذي أنعم على هذا الإنسان، روي عن رسول الله(ص): «قال الله(عزّ وجلّ) لموسى بن عمران: يا بن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإن الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي»(8)، فلماذا يتمنى الحاسد خلاف ما يريد الله(سبحانه وتعالى)! عندما يؤمن الإنسان إيمانا حقيقيا بأن كل فعل في هذا العالم إنما هو من آثار رحمة ربه، لا يمكن أن يعترض عليها ولا يمكن أن يجد الحسد إلى قلبه طريقا.
ج- ترك العجب والكبر والتكبر: العجب، حسب ما ذكره العلماء رضوان الله تعالى عليهم هو: "تعظيم العمل الصالح واستكثاره والسرور والابتهاج به، والتغنج والدلال بواسطته، واعتبار الإنسان نفسه غير مقصرٍّ "(9)، و الكِبْر عبارة عن حالة نفسية للإنسان تجعله يترفع ويتعالى على الآخرين(10)، والتكبر إظهار هذه الحالة، إذا علم الإنسان أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله وأن إيمانه إنما كان بتوفيق من الله وإعطاء منه(سبحانه وتعالى)، وأن صفاته الحسنة إنما هي من صفات جماله وجلاله(سبحانه وتعالى)، وهو الذي رزقه إياها، وأن كل فعل يفعله فإنه يخاطب كما يخاطب النبي(ص): {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فيعرف أن لا شيء له من نفسه وأن كل ما يملكه إنما هو من الله سبحانه، فهل يمكن أن يعجب بنفسه أو يتكبر؟! ولذا فإن العلاج الأساسي للمتكبر والمعجب هو أن يدخل هذه الحقيقة إلى قلبه فإنها علاج لكل رذيلة.
د- الشعور بعز الربوبية وذل العبودية: من أهم المعارف التي يجب على الإنسان أن يعمقها في نفسه ويكتبها على قلبه هي الشعور بالعزة المطلقة لله(سبحانه وتعالى) والصغار والذل المطلق للعبد في قبال ربه(سبحانه وتعالى)، يقول الإمام الخميني العظيم (من الآداب القلبية في العبادات، والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية، وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك بحيث تكون قوّة سلوك كل من السالكين بحسب قوة هذا النظر وبمقدارها، بل الكمال والنقص لإنسانية الإنسان تابع لهذا الأمر، وكلما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبا كان بعيدا عن كمال الإنسانية ومهجورا من مقام القرب الربوبي)(11)، ومن أهم موجبات تحصيل هذه الحالة هو الإيمان القلبي الصادق بالتوحيد الأفعالي وأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله(سبحانه وتعالى).
استحباب بدء كل عمل بالبسملة(12)
الحسن بن علي العسكري(ع) في التفسير المنسوب إليه: عن آبائه عن علي(ع) -في حديث- «أن رجلا قال له: إن رأيت أن تعرفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس، فقال: تركك حين جلست أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، إن رسول الله(ص) حدثني عن الله(عزّ وجلّ) أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر»(13)، و عن العسكري(ع) أيضا قال: «بسم الله، أي: أستعين على أموري كلها بالله -إلى أن قال- وقال الصادق(ع): ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه الله بمكروه لينبه على شكر الله والثناء عليه، ويمحق وصمة تقصيره عند تركه قول: بسم الله، قال: وقال الله(عزّ وجلّ) لعباده: أيها الفقراء إلى رحمتي، قد ألزمتكم الحاجة إليَّ في كل حال، وذلة العبودية في كل وقت، فإليَّ فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: أستعين على هذا الأمر بالله»(14).
وقفة مع الروايات
أ- من آداب البسملة أن يُقبِلَ الإنسانُ بقلبه على الله متوجها إليه مخلصا له، لكي يتحقق الغرض الأساس من البسملة، فعن رسول الله(ص): «من حزنه أمر يتعاطاه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وهو مخلص لله ويقبل بقلبه...»(15)، أما حينما تكون البسملة لقلقة لسان فلن تحقق غرضها المنشود من إيصال العبد إلى غايته الحقيقية، وسوف يكون العمل أبتر أي منقطع الآخر أي لا يصل إلى غايته.
ب- كل ذكر تكون قيمته بحسب ما يحمل من مضمون، وكذلك كل نص ديني، فسورة التوحيد أعظم من سورة الفتح مثلا؛ لأن مضمونها التوحيدي أرقى من مضمون سورة الفتح، والآية التي تتحدث عن التوحيد أفضل من الآية التي تتحدث عن حكم الصلاة مثلا؛ لأن التوحيد أعظم من الصلاة، بل لأجله جاءت الصلاة، وعندما نأتي إلى ذكر البسملة، نرى أنه ذكر عظيم الشأن حيث إنه يتحدث عن التوحيد، ويربط الإنسان بالله ويجعله متعلقا به دون سواه، ويريد من العبد أن يعيش حالة الارتباط بالغني المطلق في كل حالاته وسكناته، ليحبه ويخلص له، فإنَّ مَنْ أكثرَ مِنْ ذكرِ شيءٍ أحبه وأخلص له، حيث إن الإنسان إذا لم يكن ذاكرا لله فسوف يكون لا محالة ذاكرا لغيره، ذاكرا للدنيا والشهوات والذات والشهرة والمنصب والأموال...، وإذا كان ذاكرا لها فسوف يحبها ويخلص لها كل حياته وسوف تنطبع نفسه على ذلك وهذا هو الخسران المبين.
ج- الاستعانة أمر ضروري في حياة الإنسان بالقدرة المطلقة والرب الغني، خصوصا في تهذيب النفس وتطهيرها؛ لأن هذا العمل أشق من الأعمال الظاهرية والمادية، فإنه طريق صعب شاق، فعلى العبد أن يستعين دائما بربه في سيره وسلوكه، وإلا فلن يتمكن من الوصول إلى شيء، يقول الإمام المقدس الخميني رضوان الله عليه ( إذاً فيا أيها العزيز، فكِّر، وابحثْ عن العلاج، واعثرْ على سبيل نجاتك ووسيلة خلاصك، واستعنْ بالله أرحم الراحمين، واطلب من الذات المقدس في الليالي المظلمة، بتضرع وخضوع أن يعينك في هذا الجهاد المقدس مع النفس، لكي تتغلب إن شاء الله، وتجعل مملكة وجودك رحمانية، و تطرد منها جنود الشيطان)(16). والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني (الرحمن الرحيم)
الرحمة من الصفات الفعلية(17) لله(سبحانه وتعالى)، وهي في العبد انفعال نفساني ورقة قلبية تستتبع عادة القيام بمقتضى هذا الانفعال لسد حاجة الموجود الذي أوجبت حاله الرقة، فالإنسان عندما يرى فقيرا معدما يرق قلبه عليه فينعطف عليه ليقدم له المساعدة، فرحمة العبد تتكون من أمرين، من الانفعال القلبي والسلوك العملي، إلا أنها في الخالق(سبحانه وتعالى) ليست إلا الأمر الثاني وهي التفضل على العبد بما يحتاجه ويفتقر إليه(18)، يقول أمير المؤمنين وسيد الموحدين(ع) «رحيم لا يوصف بالرقة»(19)؛ لأن الله ليس محلا للحوادث ويستحيل أن يتغير حاله من حال إلى حال. والفرق بين صفتي الرحمن و الرحيم، أن صفة الرحمن أعم من صفة الرحيم، وهي المسماة بالرحمة العامة، فخَلْقُ العالَمِ إنما كان بمقتضى الرحمة العامة، والرزق المادي من المأكل والمشرب لكل الناس؛ الكافر والمؤمن من الرحمة العامة، أما صفة الرحيم فهي تعني الرحمة الخاصة لبعض عباده، فنعمة الإيمان من الرحمة الخاصة التي لا تشمل الكفار، ونعمة التوفيق لصلاة الليل مثلا من الرحمة الخاصة والتوفيق الخاص الذي لا يشمل كل إنسان، والجنة من الرحمة الخاصة، وهذه الرحمة الخاصة نابعة من الرحمة العامة، فالرحمة العامة هي منبع كل فعل من أفعال الله(سبحانه وتعالى)، حتى الغضب الإلهي هو من الرحمة العامة، لكنه ليس من الرحمة الخاصة، من هنا نفهم ما جاء في الأدعية من كون رحمته سبحانه سبقت غضبه «سبحان الذي سبقت رحمته غضبه»(20)، فإن المراد بالرحمة السابقة في الدعاء هي الرحمة العامة(21)، فالغضب الإلهي يقابل الرحمة الخاصة، دون الرحمة العامة لأن الرحمة العامة تشمل الغضب الإلهي وهو نابع منها(22)، ولذا فإن أساس كل شيء في العالم التكويني والتشريعي هو الرحمة الإلهية، وقد خلق الله(سبحانه وتعالى) عبده ليرحمه {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (23) (24). والآن نريد أن نقف على بعض الدروس الأخلاقية من هذه الآية المباركة:
أ- الرحيم محبوب: فطرة الإنسان وقلبه يميل إلى حب الرحيم، حتى لو لم يسد إحسانا إليه، فعندما يسمع الإنسانُ عن مؤمن رحيم بالناس وبزوجته وبأولاده يحبه ويأنس لذكره(25)؛ لأنَّ الرحمة من الصفات الجميلة التي فطر الإنسان على حبها، ويزداد حب الإنسان لهذا الرحيم عندما يصله من رحمته شيءٌ، فعندما تخطئ الزوجة وترى الرحمة البالغة من زوجها كما كانت رحمة الحبيب المصطفى(ص) مع زوجاته، تحب زوجها وترى فيه الكهف الذي تلجأ إليه، عن رسول الله(ص) «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها»(26)، فكيف بخالقنا وربنا؟! الذي يحيطنا بالنعم المعنوية والمادية، والذي يحن علينا أكثر من أمهاتنا وآبائنا، ويستر علينا، جاء في الحديث القدسي «يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي»(27)، ولكنا غافلون عن هذا المحبوب، ومنشغلون بمخلوقاته التي تعكس القليل من جماله، وكل حب ليس لحب الله فهو حب كاذب سوف يظهر زيفه يوم القيامة، قال تعالى {الأخِلاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ}(28)؛ لأن حب غير المتقين ليس على أساس المحبة في الله(سبحانه وتعالى)، بل على أساس المصالح الدنيوية، على أساس الجمال الظاهري، والمال والجاه و....
ب- درس للعبد: إذا كان الله(سبحانه وتعالى) الخالق المالك لكل شيء يتعامل مع عباده على أساس الرحمة، فكيف يجب أن يكون العبد في تعامله مع العباد الضعاف المحتاجون؟ طبعا سوف يكون من الواجب عليه أن يتعامل مع الناس على أساس الرحمة؛ لأنه من المطلوب منه أن يتخلق بأخلاق الله(سبحانه وتعالى)(29)، ولأن الناس عباد الله ومنتسبون إليه، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص) «الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سرورا»(30)، يجب أن يقف العبد مع نفسه بتأمل ليرى هل أن المبدأ الذي يتعامل به مع الناس هو مبدأ الرحمة والعطف والشفقة، أم مبدأ العنف والشدة والقسوة؟ خصوصا مع من هم أضعف منه، كالزوجة والأولاد، وإذا كان مسؤولا في مؤسسة فلينظر في نفسه جيدا وليراقبها، نحن عبيد فقراء لا نملك لأنفسنا شيئا، وليس لنا حقٌ إلا ما أعطانا ربنا، فلماذا القسوة والشدة على عباد الله، وما أجمل قوله تعالى في وصف المؤمنين والمتبعين للحبيب المصطفى(ص): {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}(31). وكما يجب على المؤمن أن يتعامل مع العباد على أساس الرحمة، عليه أيضا أن يتعامل مع نفسه على أساس الرحمة كذلك، ورحمة العبد بنفسه أخْذِها على طريق الله وطاعته(سبحانه وتعالى)، وعدم التجرؤ على الله(سبحانه وتعالى) والاغترار به سبحانه، يقول أمير المؤمنين(ع) «يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما آنسك بهلكة نفسك. أما من دائك بلول. أم ليس من نومتك يقظة. أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك. فربما ترى الضاحي لحر الشمس فتظله، أو ترى المبتلي بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك. وهي أعز الأنفس عليك»(32). ولا يتمكن الإنسان من رحمته بنفسه إلا إذا كان عارفا بما يوجب له الرحمة ويبعد عنه العذاب، فالجاهل بذلك لا يتمكن من القيام بهذا العمل، فالذي لا يعرف أن الرياء يفسد أعماله ويتسافل به مثلا، أو يعرف ذلك ولكن لا يعرف كيف يتخلص من الرياء، فإنه لا يتمكن من أن يرحم نفسه المسكينة، ولذا فإن المعرفة بالأحكام الشرعية وطرق تهذيب النفس أول خطوة ليتمكن العبد من أن يرحم نفسه، يقول أمير المؤمنين(ع) لكميل بن زياد «يا كميل! ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(33).
ج- محاربة المستكبرين رحمة: من رحمة الله بعباده أنْ أمرهم بالجهاد وقتال الكفار والمستكبرين؛ لأنَّ بقاء قوتهم وسيطرتهم تعني بقاء أكبر حجاب يحجب الهداية عن الناس، فتحرم بذلك ملايين الناس من الهداية؛ لأن الكفار يسعون مهما أمكنهم أن لا يصل الحق إلى الناس، فمثلا هل تقبل أمريكا المستكبرة أن يُبَلَّغَ الإسلامُ الأصيل في جميع أرجاء أمريكا؟ كلا لأنها تخاف انجذاب الناس لهذا الدين الفطري الذي تأنس به النفوس، لذا فلابد من السعي لإزالة هذه الحكومة الكافرة، وكل من يسعى سعيها لكي يفتح الباب لبقية الناس ويعرض عليهم الدين خالصا فيختاروا الطريق الآمن ليفلحوا في الدنيا والآخرة، وهذه الرحمة -محاربة المستكبرين- وإن ظهرت بصورة الغضب إلا أن باطنها الرحمة حتى على الكفار؛ لأن بقاءهم لا يزيدهم إلا تسافلا وانحطاطا إلى جهنم.
د- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة: لقد كلفنا الله بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل ذلك مراتب مختلفة، من الأيسر إلى الأشد، إلى أن تصل في بعض الأحيان إلى الضرب والجرح، أو حتى القتل، وهذا التكليف أيضا من أعظم مظاهر رحمته سبحانه، حيث يكون رحمة على الآمر والمأمور والمجتمع، هو رحمة على المأمور لأنه بذلك يرتدع عن الذنوب التي تهلكه، ورحمة على الآمر لأنه ينال بذلك الثواب الجزيل لأنه قام بتكليفه، ورحمة على المجتمع لأن المجتمع الذي يشيع في المنكر ينحط ويتسافل ويضعف وينهار، ويضيق فيه الحق وتختلط فيه المفاهيم، فعلى المأمور أن ينظر إلى الآمر على أنه طبيب رحيم مشفق عليه، كما يجب على الآمر أن يكون رحيما في أمره ونهيه، وما خربت المجتمعات وضاعت وكثر فيها البلاء والمشاكل إلا لأنه ضُيِّعت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ه- درس للمبلغين: ليس الله(سبحانه وتعالى) فحسب هو الذي يتعامل مع عباده على أساس الرحمة، بل كل من تربى في المدرسة الإلهية كذلك، كل الأنبياء والأوصياء والأئمة والأولياء والعلماء الحقيقيين كانوا يتعاملون مع الناس على أساس الرحمة، فمن يقرأ في سيرتهم يجد ذلك بوضوح؛ لأنهم تربوا التربية الإلهية، ويصف أمير المؤمنين(ع) النبيَّ الأكرم(ص)، بأنه طبيب دوار بطبه: «اختاره من شجرة الأنبياء ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء وسرة البطحاء. ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة،طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم. متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة»(34)، والطبيب يجب أن يكون شفيقا رحيما بالمريض، فكذلك طبيب القلوب والعقول، بل يمكن القول أنه الواجب عليه أبلغ؛ لأن مرض القلب والعقل أخطر، وعلاجه أصعب، كما أن مقتضى الرحمة من المبلِّغ أن يعرض نفسه لهداية الناس وأن يبادر هو بذلك ولا ينتظر الناس أن يأتوا إليه ليسألوه الموعظة والحكمة والرأي الشرعي، ولذا فإن الرسول لم يكن طبيبا فحسب، بل كان دوارا بطبِّه يتربص مواضع هداية الناس، لذا فإنه كان يعرض نفسه لذلك، ونقرأ هذا النص لبيان هذه الحقيقة، ينقل العلامة المجلسي في البحار هذا النص التأريخي، «وذلك ما روي أن رسول الله(ص) خرج في الموسم يعرض نفسه على القبائل فبينا هو على العقبة إذ لقي رهطا من الخزرج، فقال: من أنتم: فقالوا: من الخزرج، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله(عزّ وجلّ)، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن»(35). والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث (الحمد لله رب العالمين)
الحمد يعني الثناء على الجميل الاختياري من الذات والصفات والأفعال، والثناء على الله ثناء على كل شيء يرتبط به سبحانه على ذاته وصفاته وأفعاله، وكل ما في العالم أفعاله(سبحانه وتعالى)، وكل خير منه سبحانه، قال تعالى {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(36)، والرب هو الذي يعطي المربوب ما يحتاجه، والله رب العالمين رب الدنيا والآخرة، رب الغيب والشهادة، رب الأنبياء والمساكين، فهو الذي يعطي كل موجود ما يحتاجه، سواء كانت حاجة معنوية أو مادية، فالحمد له وحده لا غير، وحتى الحمد الذي يصدر من عبده إنما هو بتوفيقه(سبحانه وتعالى)، يقول زين العابدين(ع) في مناجاة الشاكرين: «فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر؟! فكلما قلت لك الحمد، وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد»(37). وهذه الآية عين لا تنبض بالمواعظ للعبد المسكين:
أ- لا حمد لغيره(38): على العبد أن لا ينتظر الثناء من أحد من العباد؛ لأنه ليس له حول ولا قوة فيما قام به، وعليه أن يشعر أن كل أعماله الصالحة التي يقوم بها إنما هي بتوفيق من الله(سبحانه وتعالى)، ولولا عناية الله(سبحانه وتعالى) لما قام بشيء من الأعمال الصالحة، فهو الموفق لكل خير، فعلام العجب إذن؟ إذا كان الخير ليس إلا له(سبحانه وتعالى) فعلام الغرور، أحيانا يشعر الإنسان أنه في منصب لولاه لما قام أحد غيره به! وهذا من حيل الشيطان(لع)، وأحيانا يشعر الإنسان أن له مقاما كبيرا لما يقوم به من أعمال صالحة وخدمات للمجتمع؟ واعجباه ألا يقرأ هذا الفقير كل يوم قوله تعالى الحمد لله؟ ليس للعبد شيء وإنما الحمد لله، تأمل أيها العبد في قوله تعالى {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(39)، هل هذه الآية مبالغة؟ أم حقيقة؟ على كل إنسان خصوصا أصحاب المناصب والمراكز الاجتماعية وسيما المناصب المعنوية المرتبطة بالدين، أن يركز هذه الحقيقة في نفسه وأنه لم يقم بشيء وليس هو شيء، إنما كل شيء منه سبحانه وهو المحمود بل وهو الحامد سبحانه، وأكثر مصائبنا من النفس وحبها وحب الدنيا، عندما يرى الإنسان نفسه شيئا وأنه لابد أن يحمد ويحترم ويقدس، من هنا تبدأ المشاكل الأساسية في المجمع، وتحل كل المشاكل عندما لا يرى الإنسان نفسه شيئا، وأنه لا يستحق لا حمدا ولا شكرا، وإنما الذي يستحق ذلك هو الله(سبحانه وتعالى)، لقد تمكنت المجاملات والرسوم وحب النفس من مجتمعنا أيما تمكن حتى انقلبت المفاهيم-والعياذ بالله سبحانه-؛ فترى كثيرا من أصحاب المناصب الدينية ربما يغضب كالأسد إذا لم يسد إليه الشكر والحمد ولم يشر إليه بالبنان.
ب- الشرك في الحمد: كثيرا منا يبتلى بالشرك في الحمد فيحمد سوى الله(سبحانه وتعالى)، فيحمد ويشكر ذلك الذي أعطاه المال ويغفل عن كونه من الله سبحانه، وأن هذا العبد ليس إلا وسيلة سخرها الله(سبحانه وتعالى)، أحيانا يعوِّل المؤمن في معيشته على الراتب الشهري الذي يستلمه من الشركة الفلانية، دون أن يلتفت إلى أن الرزق بيد الله، وأن هذا المال من الله(سبحانه وتعالى)، هذا شرك خفي، والحديث عن الرضا(ع) «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله(عزّ وجلّ)»(40) لا يتنافى مع هذه الحقيقة؛ لأنه لابد (41)أن يشكر المخلوق مع الالتفات إلى أنه مخلوق ليس من عنده شيء، وأن ذلك من عند الله(سبحانه وتعالى)، كثيرٌ منا يحمد غير الله، كثيرٌ منا يشكر الغني الذي أعطاه مالا غافلا عن الله(سبحانه وتعالى)، كثيرٌ منا يشكر المسؤول في الشركة لأنه وظفه في الشركة، ويغفل عن الله(سبحانه وتعالى)، كثيرٌ منا يمدح العالم العارف الفلاني غافلا عن كونه رشحة من جمال الخالق، كثيرٌ منا يثني على عِلْمِ فلان من العلماء غافلا عن كون علمه تجلي من علم الخالق...، ونغفل عن قوله تعالى وما نقرؤه كل يوم {الْحَمْدُ للّهِ}.
مالك يوم الدين
ملكُ اللهِ ملكٌ حقيقيٌ(42) وهو يملك الدنيا والآخرة، والآخرة باطن هذه الدنيا، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(43) ولكن تظهر ملكيته للجميع يوم القيامة، قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}(44) فالولاية لله في الدنيا والآخرة، لكنها تظهر للجميع يوم القيامة وتتجلى بأكمل صورها؛ لأن بصر الإنسان يكون نافذا يوم القيامة، بل بمجرد أن يموت قال تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(45) وفي يوم القيامة يجازى الإنسان عن جميع ما فعل، عن كل صغيرة وكبيرة، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}(46)، فالله مالك يوم القيامة وفيه يحاسب الناس وهذا معنى يوم الدين أي يوم الحساب، وفي هذه العقيدة دروس:
ذكرى الدار
يجب على الإنسان أن يضع نصب عينيه دائما أن مرده إلى القبر وإلى الحياة الخالدة التي لا موت فيها، وأنه إما إلى حفرة من حفر النار أو إلى روضة من رياض الجنة، عن أبي عبد الله(ع) قال: «إن للقبر كلاما في كل يوم يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»(47)، وهذه الحالة إذا عاشها الإنسان عصمته عن الذنوب والاستغراق في ملذات الدنيا، وهكذا كان حال أهل البيت(ع)، روي عن أم كلثوم بنت علي(ع): «لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت إليه عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلما نظر إليه وتأمله حرك رأسه وبكى بكاء شديدا عاليا، وقال: يا بنية ما ظننتُ أن بنتا تسوء أباها كما قد أسأت أنت إلي. قالت: وما ذا يا أباه؟ قال: يا بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غدا بين يدي الله(عزّ وجلّ) يوم القيامة؟! أنا أريد أن أتبع أخي وابن عمي رسول الله(ص)، ما قدم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلا طال وقوفه بين يدي الله(عزّ وجلّ) يوم القيامة، يا بنية إن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب...، يا بنية والله لا آكل شيئا حتى ترفعين أحد الإدامين، فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش»(48).
الإنسان الذاكر للآخرة عندما يهم بظلم أحد يفكر في الآخرة، وأنه سوف يؤخذ بظلمه فيتراجع، وإذا أراد أن يتكبر يتذكر أنه إن فعل فسوف يجعل كالذر ذليلا يقوم القيامة تطؤه الخلائق، ولذا قال رسول الله(ص) «كفى بالموت واعظا»(49)، وكان أهل البيت(ع) وهم المعصومون يضطربون عند ذكر الموت، تصف أم كلثوم سلام الله عليها حال أمير المؤمنين(ع) ليلة التاسع عشر من شهر رمضان فتقول: «ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو قلق يتململ... قالت: ولم يزل تلك الليلة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء، وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذِبْتُ ولا كُذِّبْتُ، وإنها الليلة التي وُعدت بها، ثم يعود إلى مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويصلي على النبي وآله، ويستغفر الله كثيرا. قالت: فلما رأيته في تلك الليلة قلقا متململا كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفا، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقلت: يا أباه مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل»(50).
علينا أن نراجع أنفسنا جيدا فهل نحن ذاكرون للموت؟ أم هي لقلقة لسان؟ ويستدل على ذلك بالآثار والعمل الصالح، فأكثرنا ذكرا للموت أكثرنا زهدا في الدنيا، وأكثرنا خوفا من الله، وأكثرنا ورعا وأكثرنا جهادا وخدمة للدين. والحمد لله رب العالمين.
الدرس الرابع (إياك نبعد وإياك نستعين)
العبد هو المملوك، والعبادة هي أن ينصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه، ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(51)، وتقديم إياك على العبادة يفيد الحصر فلم يقل نعبدك بل إياك وحدك نعبد، والعبودية تتعمق بمقدار المملوكية، فلو كان المالك يملك نصف العبد كانت عبودية العبد في نصفه، وإذا كان يملكه بأكمله صار عبدا محضا، والله يملكنا ملكا حقيقا كاملا، يملك حتى النَفَسَ الذي نتنفسه، فالله مالك كل شيء {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(52) لذا فلا يستعان بغيره(سبحانه وتعالى)(53)؛ لأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله(سبحانه وتعالى)، وفي هذه اللطيفة عبر:
العبادة هدف وجودك: قلنا إن تقديم إياك على العبادة يفيد حصر العبادة بالله(سبحانه وتعالى)، فلا معبود سواه، هذا من جهة ومن جهة أخرى فلا وظيفة للعبد غير العبادة؛ لأن هذا هو مقتضى المملوكية المطلقة لله(سبحانه وتعالى)، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(54)، هذه الآية المباركة تحصر وظيفة الإنسان بالعبادة وتقول له ليس لك عمل في هذه الدنيا غير العبادة، وكل عمل ليس عبادة فإنه يخالف الهدف من الخلق، ويكون حسرة يوم القيامة حتى لو لم يملؤه الإنسان بالذنوب، فإنه غفلة عن ذكر الله(سبحانه وتعالى)، والغفلة تسبب اسوداد القلب، عن أبي عبد الله(ع) قال: كان المسيح(ع) يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فان الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون)(55) حتى لو كان الكلام مباحا وخاليا من كل إشكال شرعي؛ لأن طبيعة الإنسان أنه بمجرد أن ينشغل عن الله بشيء يقسو قلبه ويبتعد وهذا أمر تكوني في الإنسان خلقه الله عليه.
جعل كل عمل عبادة لوجه لله يكون بنية القربة له(سبحانه وتعالى)، وذلك يوجب رحمة خاصة للعبد من قبل ربه(سبحانه وتعالى) وهذا الذي خلق الله العبد من أجله، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(56)، لقد خلقك الله ليرحمك برحمته الخاصة، وإنما تتحقق الرحمة الخاصة بالعبادة(57)، فكل وقت يقوم فيه الإنسان بعمل لم ينو فيه القربة لله حتى لو كان نوما أو أكلا، فإنه فوت على نفسه رحمة خاصة، وخالف الغرض الذي من أجله خلق، فكل لحظة لا يكون فيها الإنسان مشغولا بالعبادة فهي لحظة ضائعة من عمره لا توجب له إلا البعد عن الله(سبحانه وتعالى)، عن النبي(ص) قوله في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه: «يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى النوم والأكل»(59).
وما أسهل أن يجعل الإنسان جميع أعماله لوجه الله(سبحانه وتعالى)، وما أبلغ ذلك في توفيق الإنسان في حياته وأنسِه بربه، وما أوجب ذلك لنظر الرب إلى عبده الفقير، الذي يسعى أن يكون كل شيء له(سبحانه وتعالى)، وكم من أعمال كثيرة نقوم بها من دون نية القربة، لو نوينا القربة فيها لطهرت قلوبنا ورفعتنا، فكل أب يخدم عياله، وكل أم تخدم زوجها وأولادها، وكل رجل يعمل أكثر النهار، والطالب يدرس،... لو نوى كلُّ إنسان كلَّ أعماله قربة إلى الله لكان من العُبَّاد حقا وحقيقة، ولوجد نفسه يملك علاقة وطيدة بالله(سبحانه وتعالى)، ثم يجد رغبة وإقبالا على العبادة والصلاة والمناجاة.
الاستعانة بغير الله شرك: إذا آمن الإنسان بأنه لا يوجد مؤثر في الوجود إلا الله(سبحانه وتعالى)، فبطبيعة الحال لن يطلب العون إلا منه(سبحانه وتعالى)، ولن يسد حاجته إلا به سبحانه، وقد ورد أن الله اتخذ إبراهيم خليلا لهذا السبب، فإن الخلة التي هي بمعنى الصحبة مأخوذة من الخل أي النقص، فكأن الصاحب يسد حاجة صاحبه، وكان إبراهيم لا يطلب شيئا من غيره(سبحانه وتعالى) ولا يستعين بغيره سبحانه، لأنه وصل إلى الحقيقة القائلة "لا مؤثر في الوجود إلا الله" قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(59) وكل استعانة بغيره(سبحانه وتعالى) شرك؛ لأنها تعبر عن اعتقاد -ولو كان بسبب الغفلة- بتأثير غير الله(سبحانه وتعالى)؛ لأن الإنسان لا يستعين إلا بمن له القدرة على الإعانة والتأثير، وهذا شرك في التوحيد الأفعالي لله(سبحانه وتعالى)، ولذا جاء في النصوص الدينية التأكيد على الذكر الشريف التوحيدي "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
وكم هي حياتنا مملوءة بالشرك الخفي بسبب الاستعانة بغير الله(سبحانه وتعالى)؟ فكل استعانة بغير الله إذا لم يلتفت الإنسان فيها إلى أن المعين إنما أعان بقدرة الله وأنه مظهر لقدرة وعلم الله(سبحانه وتعالى) فهي شرك خفي؛ لأنها توجهٌ لغير الله، وما كان الرياء شركا إلا لأنه توجه لغير الله(سبحانه وتعالى)، فعندما يستعين أحدنا بصاحبه أو أبيه في المال دون أن يلتفت إلى أن المعين إنما أعان ما هو لله وبقدرة الله فقد أشرك، وعندما يمرض الإنسان ويذهب ليستعين بالطبيب، فإن لم يلتفت إلى أن الشافي هو الله، وأن الطبيب وسيلة خلقها الله، وأن ما عند الطبيب من علم وقدرة هي من الله فقد أشرك، فكم نحن مشركون، وكل شرك نجس، فكم هي أرواحنا ملوثة بلوث الشرك والتوجه لغير الله، وكل مصائب الإنسان تنشأ من التوجه إلى غير الله(سبحانه وتعالى)، طبعا هذا المستوى من الشرك ليس محرما فقهيا لكنه مذموم بالنص والعقل، وربما سبب ذنبا شرعيا.
عن الحسين بن علوان قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك فقلت: فلانا، فقال: إذا والله لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك، قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال: إن أبا عبد الله(ع) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب أن الله تبارك وتعالى يقول: «وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد؟! والشدائد بيدي، ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم أن من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أوليس الجود والكرم لي؟! أوليس العفو والرحمة بيدي؟! أوليس أنا محل الآمال؟! فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري، فلوا أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني»(60). والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس (اهدنا الصراط المستقيم)
الهداية بحسب تحليل العقل وما ذكره النص الديني المقدس على أقسام، الهداية الفطرية التي خلق الله الإنسان عليها، فقد خلق الله الإنسان بنحو يملك روحا موحدة منشدة إلى الكمال، والهداية التشريعية، وهي عبارة عن بيانات الشريعة فيما ينبغي فعله وما ينبغي تركه من العبد، ويعبر عن هذه الهداية في لسان العلماء "إراءة الطريق"، والقسم الثالث هي الهداية التكوينية وهي عبارة عن تكميل وتنوير قلبه ورفع درجته بعد امتثال الشريعة المقدسة، واعتقاده بالحقائق الكونية والمعارف الحقيقية الصادقة، والهداية تارة تكون في السلوك وأخرى في الصفات النفسية، وأحيانا في المعتقدات، وأهم هداية هي الهداية في العقيدة؛ لأنها أساس الهداية في الصفات والسلوك، إذن هناك صراط عمل وصراط صفات نفسية وصراط معارف ومعتقدات، والصراط المستقيم هو الصراط المطابق للواقع والذي يحقق الهدف -الكمال- من خلقة الإنسان.
ويقابل الصراط المستقيم سبل الضلال وطرق الشر قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(61)، فكل سلوك لا يصب في كمال الإنسان وكل صفة رذيلة وكل عقيدة باطلة إنما هي خروج عن الصراط إلى السبل التي تبعد الإنسان عن الله(سبحانه وتعالى)، ولنا في هذا دروس وعبر:
أهمية هذا الدعاء
كل نص ديني وكل فكرة دينية يحدد مقدار عظمتها بلحاظ مضمونها وما تكشف عنه من حقائق، سواء كانت في الأفعال أم المعتقدات، فالنص الذي يتحدث عن التوحيد مثل قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}(62) أعظم من النص الذي يتحدث عن الأمر بالصلاة والزكاة مثلا، من هنا فإن أهمية وعظمة الدعاء إنما تكون بحسب مضمونه، فالدعاء مثلا للرزق المعنوي كالتوفيق لصلاة الليل، أعظم من الدعاء للرزق المادي كطلب الدار الواسعة، وطلب المعارف التوحيدية أعظم من طلب التوفيق لقراءة القرآن الكريم مثلا وهكذا، وعندما نأتي إلى أول(63)دعاء في القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} نجده يحمل المضمون الذي يلخص الهدف من وجود الإنسان، ويحوي طلب جميع الكمالات المعنوية؛ لأنه كما قدمنا أن المراد من الهداية تشمل الهداية في السلوك والأخلاق والعقيدة، وليس من شيء وراء الهداية في هذه الأمور الثلاثة، وهذا أعظم الدعاء وأي شيء أكبر من أن يكون الإنسان على الصراط المستقيم؟ ولذا جاء الأمر بتكرار هذا الدعاء من خلال قراءة هذه السورة المباركة التي هي أفضل السور القصار، وعلى العبد وهو يقول اهدنا الصراط المستقيم أن يستحضر خطورة وأهمية ما يطلب، ومقدار حاجته إليه.
طلب تثبيت وزيادة
عندما يطلب الإنسان الهداية بأن يكون على الصراط المستقيم، فإن هذا الطلب ينحل إلى طلبين أساسيين، الأول طلب الهداية المفقودة، وثانيا طلب الثبات على الهداية الموجودة، فالإنسان يطلب ما يفقد ويدعو الله أن يثبته على ما هداه إليه، فليس المهم أن يهتدي العبد إلى الطريق الحق فحسب، بل عليه أن يسعى لأن يحافظ على ما اهتدى إليه، وهذا ليس بأسهل من الأول، ولذا فإن من أهم الأدعية القرآنية المرتبطة بهذا الدعاء الأساس {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} هو قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(64)؛ حيث أن الإنسان معرض للزيغ والضلال، وجاء التأكيد على مسألة العبادة لتثبيت الإنسان على الهداية والإيمان، وللهداية مراتب عديدة لا تقف عند حد، فإنها تساوق الكمال، فإن الكمال لا حد له يقف عنده، فالإنسان الذي هُدِيَ للدين الحق فهو على الصراط المستقيم من هذه الجهة، ولكنه ربما لا يكون كذلك بالنسبة إلى تجسيد هذا الدين، فيسأل الله أن يوفقه لتطبيق الدين الحق، فربما وفق لأداء ظواهر الدين كأداء الصلاة والصيام ومحاربة الظالمين، لكنه لا يؤدي هذه العبادات بحسب آدابها القلبية؛ فيكون على الصراط المستقيم من جهة أداء الأعمال ولكنه ليس كذلك بالنسبة لأداء حق الباطن، وربما يوفق لذلك لكنه يكون حبا في الجنة لا حبا لله و.... فالصراط مراتبه لا حدود لها، فإنه وإن كان واحدا إلا أنه ذو مراتب عالية، يصل بعضها إلى ما يكون فوق عقلونا، وكل مرتبة يوفق إليها الإنسان فهي عرضة للزوال، فربما يوفق لصلاة الليل فترة من الزمن، لكن عليه أن يعلم أن هذه الهداية وهذا المقدار من السير على الصراط هو عرضة للزوال(65)، إلا في المعصوم(ع)، فإن له شأنه الخاص.
فعلى العبد أن يعيش الخوف دائما من أن يفعل ما يوجب زوال هدايته ويقرأ الدعاء بتضرع "ربنا لا تزغ..." وقد جاء التحذير في روايات أهل البيت(ع) لهذه المسألة، عن أبي عبد الله(ع) قال: «إن العبد يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين، ثم قال: فلان منهم»(66)، وعن أمير المؤمنين(ع): «فمِنَ الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور»(67)، هذا ما تشير إليه الآية المباركة: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(68)، وهذا ينطبق على كل مرتبة من مراتب الاستقامة والهداية، وقد أشارت الروايات إلى أهم علامة من علامات المعارين، الذين تكون قلوبهم مستودعا للإيمان وليست مكانا ليقر فيه، فعن المفضل الجعفي قال: قال أبو عبد الله(ع): «إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفع له أم ضر، قلت له: فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟ قال: من كان فعله لقوله موافقا فأثبت له الشهادة بالنجاة ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع»(69).
ما يوجب استقرار الهداية
ولأهمية هذه المسألة التي تمثل أخطر أمر في حياة الإنسان المؤمن(70)، نشير إلى أسباب استقرار الهداية والإيمان في قلب المؤمن، وأسباب صيرورة الإيمان والهداية أمانة مؤقتة بحيث يكون القلب بالنسبة لها مستودعا مؤقتا، وقد ركزت الروايات على أمرين أساسيين:
أ- العمل والورع: عن الإمام علي(ع): «يا كميل، إنما تستحق أن تكون مستقرا إذا لزمت الجادة الواضحة التي لا تخرجك إلى عوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه و ما هديناك إليه»(71).
ب- الإلحاح في الدعاء: عن الإمام الصادق(ع) «إن الله جَبَلَ النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبدا، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبدا، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبدا، ومنهم من أعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألحَّ في الدعاء مات على الإيمان»(72).
إما على الصراط أو في سبل الضلال
مما مر يتبين أن كل عمل أو فكرة إما هي على الصراط المستقيم أو هي اتباع لسبل الضلال، ولا ثالث فلا واسطة بين الحق والباطل، حتى لو كان العمل ليس محرما، قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(73)، والعمل كذلك إما حق أو باطل، والمراد من العمل الباطل هو الذي لا يوصل العبد إلى كماله الذي خلق من أجله، والعقيدة إما حقة أو باطلة، والعقيدة الحقة هي التي تطابق الواقع، بخلاف الباطلة، فالإنسان في كل لحظة إما أن يكون على الصراط المستقيم وإما أن يكون في سبل الضلال، فعندما يتكلم الإنسان بكلام لا فائدة فيه، فأنه ليس على الصراط، وعندما يمازح أخاه المؤمن من دون نية القربة فإنه ليس على الصراط و...، فما أكثر الأوقات التي نسير فيها على غير الصراط المستقيم! ونحن ندعوا كل يوم مرات عديدة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، لقد خلق الله الإنسان وجعل له في كل لحظة من عمره القدرة على التكامل والسعادة، لكنه لحبه للدنيا وانشغاله بها يضيع أفضل الفرص على نفسه، فراقب أيها المسكين نفسك في كل آن وانظر لها نظر المشفق عليها لعل الله ينظر إليك بعينه ويصنعك لنفسه.
وأهل البيت(ع) هم الصراط المستقيم، وذلك لعصمتهم(ع)، جاء في الزيارة الجامعة في وصفهم «ومن أبغضكم فقد أبغض الله، ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله، أنتم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم»، فعلى العبد عندما يريد أن يُقيِّمَ نفسه، ويُقيِّمَ مقدار استقامته على الصراط، عليه أن يقايس سيرته بسيرة المعصوم(ع)، في ترك المعاصي والحفاظ على الواجبات، وهنا أريد أن أشير إلى مسألة مهمة جدا، وهي الحذر من الغفلة عن المحاسبة الدقيقة، فكثير منا يقتصر -عند محاسبة نفسه وتقييم مقدار استقامته على الصراط- على الأمور الفردية في المحاسبة، كأن يحاسب نفسه على النظرة المحرمة أو الغيبة أو..، وهذا أمر مهم، ولكن عليه أن لا يقتصر على ذلك، بل لابد أن يتعدى ليحاسب نفسه على الوظائف الاجتماعية كذلك، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل يؤدي وظيفته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل يقوم بوظيفة ردع الظالم والوقوف إلى جانب المظلوم؟ وهل يقوم بدوره التبليغي لنشر دين الله....
صراط الذين أنعمت عليهم
هذه الآية تشير إلى أن التوفيق للسير على الصراط المستقيم نعمة إلهية، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}(74)، فقد أنعم الله على الأنبياء العظام والصديقين والشهداء والصالحين(75)، ومن هذه الآية نفهم أن كل الكمالات أنما تنشأ من السير على الصراط المستقيم، وأن هذه النعمة إنما تكون بتوفيق من الله(سبحانه وتعالى)، إذن لابد من اليقين بأن السير على الصراط المستقيم نعمة لا تكون إلا بتوفيق من الله(سبحانه وتعالى)، ولا يمكن للعبد أن يوفق حتى إلى أدنى مراتب السير على الصراط المستقيم إلا توفيق من الله(سبحانه وتعالى)، وثانيا على العبد أن يعلم أن السير على الصراط نعمة، ويعني ذلك أن القرآن الكريم والنصوص الدينية عندما تتحدث عن النعم فهي لا تقصد النعم المادية فحسب، بل ما يشمل النعم المعنوية، بل تتقدم النعم المعنوية على المادية في الأهمية والرتبة، حيث هي التي تحقق الهدف من خلق الإنسان، ومن آثار استغراقنا في المادة انصرافُ أذهانِنا عند ذكر النعم إلى النعم المادية، حتى أن الواحد منا يتوجه بكامل قلبه عندما يرزق نعمة مادية -كما لو رزق وظيفة ممتازة-، لكن لا يكون حاله ذلك لو وفق لترك الذنب مثلا، وهذا من موجبات زوال النعم المعنوية لأن العبد ربما يكفر بها.
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
غضب الله(سبحانه وتعالى) عقابه للعبد، إما في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معا، وفي الدنيا ربما يكون سلبا لتوفيقاته، أو تضييقا في معيشته، وما شابه ذلك، عن رسول الله(ص): «يا أبا ذر إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»(76)، وروي أن رجلا قال لأمير المؤمنين(ع): إني أحب أن أصلي صلاة الليل ولست أستيقظ لها، فقال له أمير المؤمنين(ع): «أنت رجل قد قيدتك ذنوبك»(77)، وكل هذه آثار غضب الله سبحانه على العبد، وأكبرُ همٍّ عند الإنسان المؤمن هو أن لا يغضب عليه ربه(سبحانه وتعالى)، يقول الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة «اللهم فلا تحلل بي غضبك، فإن لم تكن غضبت عليَّ فلا أبالي سواك، غير أن عافيتك أوسع لي».
والسبب الذي يجعل الإنسان المؤمن يعيش خوف غضب الله عليه هو حبه لربه(سبحانه وتعالى)، فإن المحب يخشى كل الخشية من أن يغضب عليه حبيبه ولا يرضى عنه، فإن غضب المحبوب أشد إيلاما من النار المحرقة، وكلما ازداد حب العبد لربه ازداد خوفه من غضب ربه عليه، والسبب الآخر خوف العبد من العقاب الشديد في الدنيا والآخرة، فإن غضب الله ليس كأي غضب، إنه غضب جبار السماوات والأرض، نحن لا نتحمل حتى غضب مخلوق من مخلوقاته(سبحانه وتعالى)، فكيف بغضبه(عزّ وجلّ)، يقول النبي الأكرم(ص) في ذكره لما جرى ليلة الإسراء والمعراج: «حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه، كريه المنظر، ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك ولم أر فيه من الاستبشار ما رأيت ممن ضحك من الملائكة، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فإني قد فزعت منه، فقال: يجوز أن تفزع منه فكلنا يفزع منه، إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، ولم يزل منذ ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله وأهل معصيته فينتقم الله به منهم، ولو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك، فسلمت عليه فرد السلام علي وبشرني بالجنة، فقلت لجبرئيل -وجبرئيل بالمكان الذي وصفه الله: مطاع ثم أمين-: ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمدا النار، فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت، فقلت: يا جبرئيل قل له: فليرد عليها غطاءها، فأمرها فقال لها: ارجعي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه»(78)، ومالك والنار عبدان ضعيفان من عباد الله(سبحانه وتعالى).
مرارة الضلال
الإنسان الضال إنسان معذبةٌ نفسُه، ضيِّقٌ صدره، جزوعٌ حاله، غيرُ مطمئنة نفسُه، في الشدائد كالطفل يضعف، وفي الرخاء لا يجد لذة تدوم معه، أما الإنسان المؤمن فإنه مطمئن النفس، حتى أن الجبل يزول وهو لا يزول، فما أشقى الضال وأسعد المهتدي، كل الناس المنحرفين عن خط الله ليس لهم لذة تدوم وهم في هموم الحياة غارقون، وعلى زوال نعمها قلقون، في حرب على موائدها، والمؤمنون في أنس مع ربهم، في لذة لا مثيل لها ولا نظير، فانظر أيها العاقل أي الطريقين تختار.
هذا تمام الكلام في سورة الفاتحة المباركة والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) البقرة:2.
(2) آل عمران:4.
(3) النحل:89.
(4) تفسير الميزان:ج1/ص22.
(5) الرعد:16.
(6) الأنفال:17.
(7) المعجم الكبير: الطبراني:ج19/148.
(8) ميزان الحكمة:ج1: باب سخط الحاسد لنعم الله(سبحانه وتعالى).
(9) الأربعون حديثا للإمام الخميني: باب العجب.
(10) نفس المصدر: باب الكبر.
(11) الآداب المعنوية للصلاة: الفصل الأول: في التوجه إلى عز الربوبية وذل العبودية.
(12) بعض المستحبات ورد استحبابُها، ولكن لم يرد كراهةُ تركها حيث لا ملازمة بين الأمرين، وبعضها ورد فيها الأمرين معا، استحباب الفعل، وكراهة الترك مثل صلاة الليل، والبسملة من القسم الثاني.
(13) وسائل الشيعة: باب استحباب البدء بالبسملة.
(14) نفس المصدر.
(15) نفس المصدر: الحديث1.
(16) الأربعون حديثا: الحديث الأول.
(17) الصفات الفعلية هي التي تنتزع من مقام الفعل الإلهي، بخلاف الصفات الذاتية فإنها تنتزع من مقام الذات الإلهية.
(18) راجع تفسير الميزان: تفسير سورة الحمد.
(19) نهج البلاغة:خطبة:179.
(20) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: عوذة أخرى ليوم السبت:442.
(21) ويحتمل أن يكون معنى الدعاء هنا أن الله عادة يعامل العبد بمقتضى الرحمة والشفقة دون العقاب والانتقام، لذا فإنه فتح له باب التوبة، والشفاعة، بل ويغفر له حتى على الخدش الذي يصيب بدنه والهم الذي ينزل به.
(22) راجع تسنيم: تفسير سورة الفاتحة.
(23) هود:119.
(24) توجد رواية جاءت لتقول أن هذه الآية نسخت قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وللعلامة الطباطبائي في شرحها كلام جميل جدا خلاصته أن النسخ هنا ليس بمعنى نسخ الأحكام بل بمعنى بيان لحقيقة العبادة في قوله ليعبدون، فإن الهدف العام هو العبادة وهي هدف للجميع ولكن ليس كل إنسان يوفق لها بالرحمة الخاصة، والله خلق العباد لهذه الرحمة الخاصة التي تكون بالعبادة. راجع تفسير قوله تعالى {ما ننسخ من آية} - البحث الروائي-.الميزان.
(25) طبعا إذا كانت نفسه صافية وطاهرة، وإلا ربما يكره المحسن الرحيم.
(26) ميزان الحكمة: الإحسان: الإحسان إلى من أساء.
(27) نفس المصدر: لقاء الله: من أحب لقاء الله.
(28) الزخرف:67.
(29) إلا الصفات الخاصة به سبحانه مثل التكبر؛ فإنها من الصفات المختصة به(سبحانه وتعالى).
(30) الكافي: 164.
(31) الفتح:29.
(32) نهج البلاغة: في كلام له عند تلاوة {يا أيها الإنسان ما غرك بربك}.
(33) ميزان الحكمة: أدب المراقب.
(34) نهج البلاغة:خطبة 108.
(35) بحار الأنوار:العلامة المجلسي:ج19/23.
(36) النساء:79.
(37) الصحيفة السجادية.
(38) لأنه لا حمد إلا للرب حيث لا شيء إلا من الرب الحقيقي.
(39) الأنفال:17.
(40) ميزان الحكمة: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق.
(41) بحكم العقل.
(42) في قبال الملك الاعتباري.
(43) الروم:7.
(44) الكهف:44.
(45) سورة ق:22: وفي هذه الآية إشارة أيضا إلى أن الآخرة هي باطن الدنيا فتأمل.
(46) الكهف:49.
(47) الكافي: الشيخ الكليني:ج3/ باب ما ينطق به موضع القبر: وفي الرواية تغليب للإنذار، ولذا قدم أنا بيت الغربة و....
(48) بحار الأنوار: 42 / 276.
(49) تحف العقول:35.
(50) بحار الأنوار: 42 / 276.
(51) غافر:60.
(52) المائدة:120.
(53) راجع تفسير الميزان: تفسير الآية.
(54) الذاريات:56.
(55) أصول الكافي: باب الصمت وحفظ اللسان.
(56) هود:118/119.
(57) وهذا معنى النسخ في ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال(ع): ونسخ قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قولَه(عزّ وجلّ): {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} أي للرحمة خلقهم.(تفسير الميزان/ج1/ص254). فالنسخ في هذه الرواية ليس بمعنى النسخ الاصطلاحي المتعارف.
(58) مكارم الأخلاق: 2 / 370 / 2661، بحار الأنوار: 77 / 82.
(59) النحل:53.
(60) أصول الكافي: باب التفويض إلى الله والتوكل عليه.
(61) الأنعام:153.
(62) الأعراف:54: تشير هذه الآية إلى التوحيد في الخالقية {ألا له الخلق} والتوحيد في الربوبية {والأمر}.
(63) وإن كان في قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} معنى طلب العون.
(64) آل عمران:8.
(65) وربما يوفق لفترة للخلو من الحسد، ولكنه ربما يعود إلى حسده.
(66) الكافي:ج2/ باب المعارين: الحديث الثاني.
(67) نهج البلاغة:الخطبة:189.
(68) الأنعام:98.
(69) الكافي: ج2 باب علامات المعارين.
(70) أما الإنسان المحب للدنيا فإنَّ أخطر ما لديه دنياه.
(71) ميزان الحكمة: ما يثبت الإيمان.
(72) ميزان الحكمة: ما يثبت الإيمان.
(73) يونس:32.
(74) النساء:69.
(75) الصديقون: هم الصادقون في القول والفعل، والشهداء هم شهداء الأعمال، والصالحين أصحاب القلوب الصالحة والعمل الصالح.
(76) مستدرك الوسائل:ج11/ص330.
(77) المقنعة: الشيخ المفيد/142.
(78) بحار الأنوار:ج8/ ص291.
0 التعليق
ارسال التعليق