خيار التّوجّه إلى اليَمَن.. معطياته، وأسباب رفضه

خيار التّوجّه إلى اليَمَن.. معطياته، وأسباب رفضه

مقدّمة

من الملفت للنَّظر عند مطالعة السِّيرة الحسينيَّة أنَّ اقتراح الخروج إلى اليمن كان حاضراً بقوّة من قِبل الأشخاص الّذين أبدوا النّصيحة للحسينg، فلقد حاولوا أن يغيِّروا من موقف الإمام الحسينg تجاه التّوجّه إلى العراق، وأعطوه خيارات أخرى والّتي كان من ضمنها التّوجّه إلى اليمن، فنجد أنَّ اقتراح اليمن كان حاضراً في ثلاثة مواطن مهمَّة:

الموطن الأوَّل: في المدينة

فعندَ خروج الإمام الحسينg من المدينة اقترح عليه أخوه محمَّد بن الحنفيَّة مجموعة من الخيارات، منها البقاء في مكة، ثمَّ إن لم يأمن فيها فيخرج إلى اليمن، ومن ثمَّ إن لم تطمئن له اليمن فيخرج إلى شعوب الجبال.

الموطن الثّاني: في مكّة

ففي مكة نجد أنّه قد عاد الاقتراح من قبل ابن عمّه عبد الله بن عبّاس على الإمام الحسينg بالتّوجّه إلى اليمن.

الموطن الثّالث: في الطّريق إلى الكوفة

فبعدما تلاقى جيش الإمام الحسينg مع جيش الحرّ بن يزيد الرّياحيّ، اقترح الطّرمّاح -وهو من أهل اليمن- على الإمام الحسينg أن يذهبوا إلى اليمن.

فكلّ هذا الإصرار، ومن قبل أشخاص مختلفين، يجعلنا نتوقّف عند هذا الخيار ونتساءل: لماذا كان هذا الاقتراح حاضراً في ساحات مختلفة ومن عند أشخاص متعدِّدين؟ ولماذا لم يقبل الإمام الحسينg هذا الخيار؟ من هنا سوف يكون البحث في عدّة مقامات:

المقام الأوّل: خلفيّات وأسباب طرح خيار التّوجّه إلى اليمن

إذا تأمَّلنا في كلمات الّذين أشاروا على الإمام الحسينg، بالتَّوجّه إلى اليمن نجد أنَّ فيها مجموعة من الأسباب والعوامل أدَّت إلى أن يطرحوا هذا الاقتراح أمام الإمام الحسينg:

السَّبب الأوَّل: العامل الجغرافيّ لليمن

فقد قال ابن عبَّاس: "فسِر إلى اليمن؛ فإنَّ فيها عزلة، .. وبها قلاع وشعاب[1]، وإنَّ فيها حصوناً"[2].

وقال ابن الحنفيّة: ".. وأوسع النَّاس بلاداً، .. فإنْ اطمأنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقت بالرِّمال وشعوب الجبال"[3].

وقال الطُّرمّاح: "فسر حتّى أُنزلك مناع جبلنا الّذي يُدعى (أجأ)، امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحميَر، ومن النّعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر"[4].

ولا يخفى أنَّ العامل الجغرافي يعتبر من العوامل المهمَّة في التحرُّكات العسكريَّة؛ فلطالما كان هذا العامل مؤثِّراً في حصول الانتصارات في الحروب، ونذكر لذلك بعض النَّماذج:

الأوَّل: عندما هجم تيمورلنك على أنقرة وهزم بايزيد الأوَّل عام 1402م، أراد أن يتقدَّم إلى أوروبا من أجل القضاء على الدَّولة العثمانيّة النَّاشئة، ولكن عامل البحر أعاقه عن العبور إلى أوروبا، وبالتَّالي لم يتمكَّن من هزيمة الدّولة العثمانيّة، وبالتّالي استعادت مكانتها مرَّة أخرى[5].

الثَّاني: في الحرب الإنجليزيّة الأسبانيّة، عام 1588م ساعدت العواصفُ الأسطولَ الإنجليزيّ، في التّغلّب على الأرماد الأسبانية الضخمة، ممّا أدّى إلى هبوط أسبانيا وارتفاع شأن انجلترا[6].

الثّالث: هتلر استطاع أن يغزو الكثير من البلدان، وكان يريد السّيطرة على العالم، ولكنَّه لم يتمكَّن من غزو روسيا؛ وذلك لعاملين: الأوَّل: سهول روسيا الشاسعة وشتاؤها القارس، والثَّاني: وجود بحر البلطيق والبحر الأسود الّذي كان يشكّل عائقاً في التّنقّل[7].

إذاً، العامل الجغرافيّ له دور كبير في تغيير مسار الحروب، وإذا لاحظنا اليمن نجد أنَّه يتمتَّع بعامل جغرافيّ مناسب جدّاً للحروب، ممَّا جعله خياراً مطروحاً أمام الحسينg بقوَّة، فاليمن فيها أربعة أقسام جغرافيّة طبيعيّة مؤثّرة:

القسم الأوَّل: المناطق الجبليّة، وتقع الجبال المرتفعة في الشَّمال والشَّمال الغربي من اليمن، وتوجد في النّاحية الجنوبيّة إلى جهة الشَّرق جبالٌ قليلة الارتفاع، وتعتبر المناطق الجبليّة في اليمن من أخصب المناطق وأكثرها زراعة، وكانت في هذه المناطق تقطن أكثر دول اليمن القديمة[8].

ومن الواضح تأثير الجبال في صدِّ هجمات الأعداء، فمنذ القدم كان المحاربون يحاولون الاستناد إلى الجبال وجعلها في ظهورهم؛ حتَّى تصدَّ عنهم هجمات الأعداء، بل وعندما كانوا يفرُّون من الحروب فإنَّهم كانوا يفرُّون إلى الجبال، وهذا التَّأثير للجبال لا زال قائماً إلى اليوم، فأمريكا مثلاً عجزت عن إبادة حركة طالبان في أفغانستان بسبب كثرة الجبال الأفغانيّة، الّتي يتحصّن بها جنود حركة طالبان.

وهذا الواقع قد ذكره الطّرمّاح في كلامه مع الإمام الحسينg، حيث اقترح عليه أن يلجؤوا إلى جبل لهم يسمّى بـ (أجأ)، وكان هذا الجبل قد منعهم منذ القدم، وصدَّ عنهم ملوك غسّان وحميَر.

القسم الثَّاني: منطقة السُّهول، وهي مناطق ضخمة تضمُّ صعدة، والجوف، وشبوة، وحضرموت، والمهرة.

القسم الثَّالث: المنطقة السّاحليّة، فاليمن تطلُّ على العديد من البحار، كالبحر الأحمر، وخليج عدن، والبحر العربيّ، فهي تضمُّ سواحل كبيرة وعريضة جدّاً.

القسم الرَّابع: المنطقة الصحراويّة، وهي تعتبر جزءاً من صحراء الرُّبع الخاليّ أو صحراء اليمن الكبرى، وهي مناطق خطيرة؛ حيث تكثر فيها الرِّمال المتحرِّكة.

وهناك عوامل أخرى مهمَّة في اليمن تعتبر من العوامل غير الطَّبيعيّة، أي الّتي من صنع البشر، وقد ذكرها ابن عبَّاس في كلامه، حيث ذكر بأنَّ هناك قلاعاً وحصوناً في اليمن، وهي أيضاً من العوامل المهمَّة في ذلك الزَّمن في صدِّ الأعداء.

إذاً، اليمن يتمتَّع بعامل جغرافيّ مهمٍّ ومؤثِّر، ففيه الجبال الشَّامخة الشَّاهقة، والسُّهول الوسيعة، تحيطها السَّواحل العريضة، فاليمن بلدةٌ حصينة عصيَّة على الغزاة.

السَّبب الثَّاني: العامل البشريّ

قال ابن الحنفية: ".. وإن تكن الأخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن؛ فإنَّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف النَّاس، وأرقُّهم قلوباً، وأوسع النَّاس بلاداً، وأرجحهم عقولاً"[9].

وقال ابن عبَّاس: "ولك فيها أنصارٌ وأعوان"[10].

وقال الطُّرمّاح: "فأسير معك حتَّى أُنزلك القرية، ثمَّ نبعث إلى الرِّجال ممَّن بـأجأ وسلمى من طيء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيّام حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً، ثمَّ أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائيّ، يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصَل إليك أبداً ومنهم عينٌ تطرف"[11].

إذاً، اتّفق هؤلاء الثَّلاثة على أنَّ في اليمن شيعة، وهؤلاء الشِّيعة بمكانة وعدّة وعدد بحيث يستطيعون الدِّفاع والصّدّ عن أبي عبدالله الحسينg.

المقام الثَّاني: الشِّيعة في اليمن

من هم هؤلاء الشِّيعة الّذين أشارت كلمات النَّاصحين إليهم؟ ولماذا صارت اليمن معروفة بالتَّشيّع في ذلك الوقت؟ وهل كلُّ أهلُ اليمن كانوا من الشِّيعة فعلاً؟ هذه مجموعة من الأسئلة تتبادر إلى الذِّهن، فمن هنا سوف نلقي إطلالة تاريخيّة على إسلام اليمنيّين، وأسباب تأثُّرهم بالإمام عليg حتّى صاروا شيعة له، ثمَّ نخرج بالنّتيجة، وذلك في نقاط:

النِّقطة الأولى: حول إسلام اليمنيّين

اليمن عبارة عن مجموعة قبائل متعدِّدة، وكلُّ قبيلة تعيش في منطقة مختلفة، ولكلِّ قبيلة زعيم، وقد يُطلق على زعيم القبيلة اسم الملك، ولذا يقال: ملوك كندة، ملوك حميَر، مع أنَّه في الحقيقة لا يملك إلا منطقة محدودة جدّاً في اليمن.

وكان من عادة القبائل في ذلك الزَّمان أنَّها تسعى للحصول على التَّحالفات والقوَّة الّتي تساندها، بحيث تمنع عنها الغزوات والهجمات، فلذا تجد أنَّ كلَّ قبيلة تقوم بعمل تحالفات مع قبائل أخرى، ولا تبقى لوحدها من دون حليف، وهذا هو أحدُ الأسباب الّتي أدَّت إلى دخول قبائل اليمن في الإسلام؛ حيث إنَّ قبائل اليمن دخلت في الإسلام لعدَّة أسباب:

السَّبب الأوَّل: التَّحالفات السِّياسيّة

بعد تشكيل النّبيّe الدَّولة الإسلاميّة في المدينة المنوَّرة أصبحت المدينة المنوّرة صاحبة قوّة، وصار لها موقعها السّياسيّ المهمّ، خصوصاً بعد فتح مكّة في السّنّة الثّامنة للهجرة، من هنا نجد الكثير من الوفود اليمنيّة جاءت إلى النّبيّe في السَّنوات الأخيرة من الهجرة وتدخل في الإسلام، وبذلك تكون قد ضمنت تحالفها مع قوَّة سياسيَّة مهمَّة في المنطقة. وبما أنَّ المجتمع اليمنيِّ يتمتَّع بنظام قَبَليّ، فإنَّ النَّاس كانوا يتَّبعون شيوخهم وزعماءهم، فعندما يدخل الزُّعماء في الإسلام فإنَّ أهل القبيلة تتَّبعه في ذلك.

السَّبب الثَّاني: التَّبليغ في اليمن

فقد أرسل الرّسولe المبلِّغين إلى اليمن؛ لتعليمهم القرآن الكريم والتَّعاليم الإسلاميَّة، ممَّا أدَّى إلى قناعة مجموعة من أهل اليمن بالإسلام ثمَّ الدُّخول فيه.

السَّبب الثَّالث: الإمام عليّg

فقد بعث النّبيّe الإمام عليّاًg في السَّنة العاشرة من البعثة في شهر رمضان إلى أرض اليمن، فساهم الإمام عليّg في إسلام أكبر القبائل اليمنيّة وهي همدان ومذحج، يقول الشَّيخ المفيدO"ومن ذلك ما أجمع عليه أهلُ السّير: أنّ النّبيّe بعث خالِد بن الوليد إلى أهل اليَمَن يَدْعوهم إلى الإسلام، وأنفذ معه جماعةٌ من المسلمين فيهم البَراء بن عازِب" فأقام خالد على القوم ستّةَ أشْهُر يَدْعُوهم، فلم يُجبْه أحدٌ منهم، فساء ذلك رسولَ اللهe، فدعا أميرَ المؤمنين علَي بن أبي طالبg وأمَرَهُ أن يُقْفِلَ خالداً ومن معه. وقال له: «إن أراد أحدٌ ممَّن مع خالد أن يُعقِّبَ معك فاتْرُكْه».

قال البراء: فكنتُ فيمن عَقَّبَ معه، فلمَّا انتهينا إلى أوائل أهل اليمن بَلَغَ القوم الخبرُ فتجمَّعوا له، فصلَّى بنا عليُّ بن أبي طالبi الفجرَ ثمَّ تقدَّم بين أيدينا، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمَّ قرأ على القوم كتابَ رسولِ اللهe فأسلمت هَمْدان كلُّها في يومٍ واحد، وكتب بذلك أمير المؤمنينg إلى رسول اللهe فلمّا قَرَأ كتابَه استبشر وابتهج، وخَرَّ ساجداً شكراً للّهa، ثمَّ رَفَعَ رأسَه فجلس وقال: «السّلامُ على هَمْدان، السّلام على هَمْدان»، وتتابع بعد إسلام هَمْدان أهلُ اليمن على الإسلام"[12].

فإذاً كان إسلام أكثر أهل اليمن على يد عليِّ بن أبي طالبg، وهذا سبب مهم سيُعيننا على فهم موضوع اقتراح الذَّهاب إلى اليمن بشكلٍ أكبر.

السَّبب الرَّابع: القوَّة العسكريَّة 

فبعض القبائل دُعيت إلى الإسلام ولكنَّها أبت إلّا أن تحارب، وبعد حربها دخلت في الإسلام.

يقول الواقديّ: "لمَّا انتهى [الإمام عليّg] إلى أرض مذحج فرَّق أصحابه قبل أن يلقاهم جمع، فرجعوا إليه بغنائم من نعم وسبي، فجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب.

ثمَّ لقي جمعاً منهم، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فدفع لواءَه إلى مسعود بن سنان السِّلميّ، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود السّلمي وهما فارسان، فتجاولا ساعة حتّى قتل الأسودُ الرّجلَ وأخذ سَلَبَه.

ثمّ حمل عليهم عليّg بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتركوا لواءهم قائماً وانهزموا وتفرّقوا، فكفَّ عن تعقيبهم، ثمَّ دعاهم إلى الإسلام فسارعوا بالإجابة، وتقدَّم نفرٌ من رؤسائهم فبايعوه، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه أموالنا فخذ منها حقَّ الله"[13].

السَّبب الخامس: الحجُّ مع رسول اللهe

فقد قلنا بأنَّ القبائل اليمنيّة إنّما دخلت الإسلام في السَّنوات الأخيرة من البعثة، أي من السَّنة السّابعة أو الثَّامنة إلى السّنة العاشرة، وكان ذلك بشكل تدريجيّ، وأكثر هذه القبائل دخلت الإسلام في السَّنة العاشرة للهجرة على يد أمير المؤمنينg

وبعد أن علموا بأنَّ رسول اللهg سيحجّ أتوا زرافات إلى مكة ليحجّوا بحجّ رسول اللهe ويتعلَّموا الأحكام، فازداد تعلُّقهم بالإسلام، وبعد أن رجعوا إلى اليمن ساهموا في نشر الإسلام بشكلٍ كبير هناك. وهذا أيضاً عامل مهمّ في فهم قضيَّة اقتراح التّوجّه إلى اليمن كما سيتِّضح.

إذاً، يتَّضح لنا أنَّ من أهمِّ الأسباب الّتي أدَّت إلى إسلام أهل اليمن هو الإمام عليّg، فأهل اليمن تعلّق إسلامهم بالإمام عليّg، ممّا جعلهم يتعلّقون به ويحبّونه.

النُّقطة الثَّانية: حروب الرِّدّة

بعد رحيل النّبيّe عن هذه الدُّنيا، وتولِّي أبي بكر الخلافة، كثرت في اليمن الحروب المسمَّاة بحروب الرِّدّة؛ وذلك للأسباب التَّالية:

السَّبب الأوَّل: طراوة إسلام أهل اليمن

إنَّ الإسلام في اليمن كان بعد رحيل رسول اللهe ما زال جديد عهد، فلم يمضِ على إسلامهم سوى سنة أو سنتين فقط، وبالتَّالي لم يتغلل الإيمان في نفوسهم بشكلٍ راسخٍ في تلك الفترة، ممَّا أدَّى إلى ارتداد بعضهم بعد رحيل النّبيّe.

السَّبب الثَّاني: إنَّ إسلام بعضهم كان من أجل التَّحالف السِّياسيّ

فقد قلنا بأنَّ بعض القبائل اليمنيّة إنَّما كان دخولها في الإسلام؛ لمجرَّد أنَّها تريد قوَّة سياسيّة وعسكريّة تساندها وتساعدها في دفع الأعداء، فلم يكن إسلامها ناشئاً عن عقيدة راسخة، بل هو لمصلحة سياسيّة.

السَّبب الثَّالث: خروج مدَّعي النُّبوة في اليمن

فقد خرجت مجموعةٌ من الأشخاص في اليمن ادَّعوا النُّبوة، وقد أثَّر ذلك على عقيدة النَّّاس، فمالوا إليهم، منهم الأسود العنسيّ الّذي ادّعى النّبوة في السّنة العاشرة للهجرة، وكان كاهناً من قبيلة عنس، ومنهم طليحة بن خويلد، وكان كاهن بني أسد، ومنهم مسيلمة بن حبيب، والّذي لقّبه رسول اللهe بمسيلمة الكذّاب، وكذلك ادّعت النّبوة امرأة تُدعى سُجاح بنت حارث التّميميّ، وكانت كاهنة بني تميم، وكان مؤذّنها شبث بن رِبعي اليربوعيّ التّميميّ، وقد تزوّجها مسيلمة.

وقد وجَّه أبو بكر خالدَ بن الوليد لحربهم، فقُتل مسيلمة الكذّاب، وقد استشهد في هذه الحرب أبو دجانة سمّاك بن أوس الخزرجيّ، وهو أحد الثّلاثة أو الأربعة الّذين وقفوا مع رسول اللهe يصدّون عنه الأعداء في معركة أحد[14].

السَّبب الرَّابع: حضور حادثة الغدير في أذهانهم

إنَّ الكثير من أهل اليمن لم يرتدَّ أصلاً، بل كانوا يرون بأنَّه ليس لهم مع أبي بكر بيعة، وكانوا يرون بأنَّ الخلافة حقٌّ للإمام عليّg؛ لأنَّ أكثر اليمنيّين قد حضروا حادثة الغدير، وسمعوا رسول اللهg ينصِّب أمير المؤمنينg خليفةً من بعده، ولذا امتنعوا عن دفع الزَّكاة لأبي بكر حتَّى يُردّ الحقِّ إلى أهله، فحاربهم أبو بكر على أساس أنَّهم قد ارتدُّوا عن الإسلام. 

فمثلاً: ينقل الواقدي هذه الحادثة بعد أن حاول زياد بن لبيد -عامل أبي بكر على اليمن- أن يجمع الزَّكاة: "أَقْبَلَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ[15] إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَخْرَجَ النَّاقَةَ بِعَيْنِهَا[16]، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهَا: خُذْ نَاقَتَكَ إِلَيْكَ، فَإِنْ كَلَّمَكَ أَحَدٌ فَاخْطِمْ أَنْفَهُ بِالسَّيْفِ، نَحْنُ إِنَّمَا أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِe إِذْ كَانَ حَيًّا، وَلَوْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لأَطَعْنَاهُ، وَأَمَّا [ابْنُ] أَبِي قُحَافَةَ فَمَا لَهُ طَاعَةٌ فِي رِقَابِنَا وَلا بَيْعَةٌ"[17].

وكذلك قبيلة كندة -وعلى رأسها زعيمها الأشعث بن قيس الكنديّ- قد امتنعت عن تسليم الزَّكاة لعامل أبي بكر زياد بن لبيد؛ وذلك لنفس السَّبب المتقدَّم، فتوجَّه إليهم زياد بن لبيد ليخاطبهم ويقنعهم بدفع الزَّكاة، "فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ سَادَاتِ الْقَوْمِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا زِيَادُ، إِنَّكَ لَتَدْعُو إِلَى الطَّاعَةِ لِرَجُلٍ لَمْ يُعْهَدْ إِلَيْنَا وَلا إِلَيْكُمْ فِيهِ عَهْدٌ، فَقَالَ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: صَدَقْتَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ إِلَيْنَا وَلا إِلَيْكُمْ فِيهِ عَهْدٌ، وَلَكِنِ اخْتَرْنَاهُ لِهَذَا الأَمْرِ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: أَخْبِرْنِي فَلِمَ نَحَّيْتُمْ عَنْهَا أَهْلَ بَيْتِهِ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا، لأَنَّ اللهَa يقول: <وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ>، فَقَالَ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار أنظر لأنفسهم مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لا وَاللهِ، مَا أَزَلْتُمُوهَا عَنْ أَهْلِهَا إِلّا حَسَدًا مِنْكُمْ لَهُمْ، وَمَا يَسْتَقِرُّ فِي قَلْبِي أَنَّ رسول اللهg خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْصِبُ لِلنَّاسِ علمًا يَتَّبِعُونَهُ[18]، فَارْحَلْ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّكَ تَدْعُو إِلَى غَيْرِ رِضًا"[19].

فرجع لبيد بن زياد إلى المدينة وأخبر أبا بكر بما حصل، فبعث أبو بكر مع زياد جيشاً لمحاربة كندة، وحصلت المعارك بين زياد بن لبيد والأشعث بن قيس، ولم يستطع زياد أن يهزم جيش الأشعث، وقد تكبَّد خسائر كبيرة، فبعث لأبي بكر يخبره بذلك، فتحيَّر أبو بكر في أمرهم، حتَّى اضطرَّ أن يعزم على إرسال الإمام عليّ بن أبي طالبg إليهم؛ لأنَّه يعلم بقدرات الإمام عليّg في المواجهات العسكريّة، ويعلم بأنَّ أهل اليمن يحبُّون الإمام عليّg، فقال أبو بكر لعمر: "إنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُوَجِّهَ إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَدْلُ رِضى أَكْثَرَ النَّاسِ لِفَضْلِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَرِفْقِهِ بِمَا يُحَالُ مِنَ الأُمُورِ"[20]. ولكنَّ عمر بن الخطاب خاف من إرسال الإمام عليّg إليهم، ونصحه بأن لا يرسله إليهم وقال: "أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهُ خَصْلَةً وَاحِدَةً، أَنْ يَأْبَى قِتَالَ الْقَوْمِ فَلا يُقَاتِلُهُمْ، فَإِنْ أَبَى فَلَنْ تَجِدَ أَحَدًا يَسِيرُ إِلَيْهِمْ، إِلّا عَلَى الْمَكْرَهِ مِنْهُ، وَلَكِنْ ذَرْ عَلِيّاً يَكُونُ عِنْدَكَ فَإِنَّكَ لا تَسْتَغْنِي عَنْ مَشُورَتِهِ[21]، وَاكْتُبْ إِلَى عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ[22]، فَمُرْهُ بِالْمَسِيرِ إلى الأشعث"[23].

فسار إليهم عكرمة -ومعه زياد بن لبيد- وهزمهم، وحاصرهم في حصنهم، وبعد ذلك خان الأشعث قومَه وطلب الأمان لأهله وعشرة من كبار أصحابه، فقبل زياد بذلك، ثمَّ دخل زياد الحصن وأخذ رجال حربهم وقتلهم، فقال له النَّاس: "إِنَّمَا فَتَحْنَا بَابَ الْحِصْنِ لأَنَّ الأَشْعَثَ خَبَّرَنَا بِأَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ الأَمَانَ، فَلِم تُقَاتِلُنَا؟"، فأجاب زياد: "كَذِبَ الأَشْعَثُ، مَا أَثْبَتُّ أَحَدًا مِنْكُمْ فِي الْكِتَابِ غَيْرَهُ وَغَيْرَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَعَشَرَةً مِنْ بَنِي عَمِّهِ"، ولم يذكر أيَّ اسم آخر، فسكت النَّاس وعلموا أنَّ الأشعث قد خانهم وأسلمهم للقتل لينجو بنفسه[24].

إذاً، هذه الفئة لم تكن مرتدّة عن الإسلام في الواقع، وإنَّما امتنعوا عن دفع الزّكاة لأبي بكر؛ لأنَّهم كانوا يرون أنَّ الخلافة ليست حقّاً له، وإنَّما هي للإمام عليّg، وهذا المعنى قد صرّح به عمر بن الخطّاب نفسه، حيث إنَّه عندما بعث عكرمة الرّجال والنّساء سبايا إلى المدينة أراد أبو بكر أن يقتلهم، فقال له عمر: "إِنَّ الْقَوْمَ عَلَى دِينِ الإِسْلامِ، لأَنِّي أَجِدُهُمْ يَحْلِفُونَ بالله مُجْتَهِدِينَ مَا رَجَعُوا عَنْ دِينِ الإِسْلامِ، وَلَكِنْ شَحُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا كَانَ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، وَاحْبِسْهُمْ عِنْدَكَ إِلَى أَنْ تَرَى فِيهِمْ رَأْيَكَ"[25].

النُّقطة الثَّالثة: انتشار أهل اليمن في الشَّام والعراق

استعان عمر بن الخطَّاب في عهد خلافته باليمنيّين بشكل كبير في حروب الشّام والعراق وفارس، فكان لهم دورٌ كبير في تلك الفتوحات، وصار لليمنيّين نفوذٌ واسع في الدّول الإسلاميّة، خصوصاً في العراق، ولذا بعد ذلك أمر عمر بن الخطّاب أن تُبنى مدينة الكوفة لهؤلاء الجنود، فبُنيت الكوفة كمدينة للجنود والعسكريّين، وكان أكثر أهلها من اليمنيّين، بالإضافة إلى غيرهم من العرب والفرس. ومع تزايد عدد السُّكَّان جعلوا الكوفة أسباعاً[26]:

الأوّل: كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم، وبنو عمرو بن قيس عيلان.

الثّاني: قضاعة، ومنهم يومئذٍ غسّان بن شبام، وبجيلة، وكندة، وحضرموت، والأزد.

الثّالث: مذحج، وحمير، وهمدان، وحلفاؤهم.

الرّابع: تميم، والرّباب، وهوزان، (وكانت هذه القبائل الثّلاث من مضر).

الخامس: أسد، وغطفان، ومحارب، والنمر، وضُبيعة، وتغلب.

السّادس: إياد، وعكّ، وعبد القيس، وأهل هجر، والحمراء.

السّابع: قيل: قبيلة طيء.

إذاً، كان لأهل اليمن حضور كبير في العراق، سواء في الكوفة أم البصرة، وكذلك كان لهم حضور في الشّام ولكن لم يُعطَوا هناك مكانة مرموقة كما في العراق.

النُّقطة الرَّابعة: شيعة الإمام عليّg من أهل اليمن

إنّ وجود العناصر اليمنيّة في الكوفة -وخصوصاً قبيلتا همدان ومذحج اللتان أسلمتا على يد الإمام عليّg- أوجد بذرة العشق والمحبّة للإمام عليّg في الكوفة، وبسبب تصرُّفات عثمان بن عفّان الظّالمة أصبحت الكوفة من أبرز المناطق الّتي ثارت على عثمان بن عفّان، وكان على رأسهم مالك بن حارث النّخعيّ الأشتر؛ حيث إنَّ مالك الأشتر قد نفاه عثمان ظلماً إلى الشّام مع مجموعة من الكوفيّين[27]، فلذا بعد مقتل عثمان بايع زعماء الكوفة الإمام عليّg مباشرة، وفرح أهل اليمن لتنصيب الإمام عليّg خليفة على المسلمين، وبعثوا وفداً من زعمائهم إلى المدينة، وعندما علم الإمام عليّg بقدومهم بعث مالك الأشتر لاستقبالهم[28].

وبعد تولّي أمير المؤمنينg زمام الخلافة كان أكثر الولاة لأمير المؤمنينg هم من اليمنيّين، منهم مالك بن حارث الأشتر النخعي الذي ولي العانات والنّصيبين وسنجار والموصل، واستشهد في طريقه لولاية مصر، ومنهم أبو الأسود الدّؤليّ على البصرة، وحذيفة بن اليمّان على المدائن، وكميل بن زياد على هيت (أعلى الموصل)، وسليمان بن صرد الخزاعي على جَبُّل، وغيرهم الكثير ممّن كان لهم الدّور الكبير في حكومة الإمام عليّg‌[29].

فكان كبار أصحاب الإمام عليّg من أهل اليمن، وكان لهم دورٌ كبيرٌ في حروبه الثّلاثة مع النّاكثين والقاسطين والمارقين، وكثير من اليمنيّين قد استشهدوا مع الإمام عليّg في حروبه.

ولكن من الواضح بأنّه ليس كلّ اليمنيّين كانوا شيعة للإمام عليّg، بل هناك منهم ممّن كانوا في صفّ عائشة في حرب الجمل، وكثير منهم كانوا مع معاوية في الشّام، وأكثر الخوارج كانوا يمنيّين أيضاً، إلّا أنّه بشكل عامّ ارتبط اسم الإمام عليّg باليمنيّين، وأصبح أهل اليمن معروفون بالتّشيّع.

إلى هنا عرفنا بشكل واضح لماذا كان اقتراح الذّهاب إلى اليمن حاضراً بقوّة في مسيرة الإمام الحسينg منذ خروجه من المدينة إلى وصوله إلى مشارف كربلاء، فجميع هذه الأسباب والعوامل الّتي تقدّمت تعتبر عوامل مهمّة لكلّ من يريد التّخطيط للحرب. 

المقام الثَّالث: رفض الإمام الحسينg التّوجّه إلى اليمن

مع كلِّ ما تقدَّم من عوامل مهمّة يبقى السُّؤال المهمّ هنا: لماذا لم يقبل الإمام الحسين‌g بهذا الاقتراح وهذه النّصائح؟ خصوصاً أنّها صدرت من أمثال أخيه وابن عمّه الّذين يحرصون على سلامته!

للجواب عن هذا السُّؤال سوف نستعرض أوّلاً الأجوبة الّتي ذكرها الإمام الحسين‌g ردّاً على اقتراح أخيه وابن عمّه والطّرمّاح، ثمّ نأتي ثانياً لتحليل الواقع آنذاك لنرى هل كان هذا الاقتراح نافعاً أو لا؟

فالكلام في عدِّة نقاط:

النُّقطة الأولى: أجوبة الإمام الحسينg على اقتراح التّوجّه إلى اليمن

أجاب الإمام الحسينg على كلّ من اقترح عليه التوجّه إلى اليمن بأجوبة مختلفة:

الجواب الأوَّل: جواب الإمام الحسينg لمحمّد بن الحنفيّة في المدينة: «يا أخي، والله لو لم يكن في الدُّنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً، وقد قال [الرّسول]e: اللهمّ لا تبارك في يزيد»، ثمَّ قالg: «جزاك الله يا أخي عنّي خيراً، ولقد نصحتَ وأشرتَ بالصَّواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفّقاً مسدّداً، وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكَّة، وقد تهيَّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري، ورأيهم رأيي، وأمَّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم، ولا تُخْفِ عليَّ شيئاً من أمورهم»[30].

الجواب الثَّاني: جواب الإمام الحسينg لعبد الله بن عبَّاس في مكَّة: «يَا بنَ عَمِّ! إنّي لأَعلَمُ أنَّكَ لي ناصِحٌ وعَلَيَّ شَفيقٌ، ولكِنَّ مُسلِمَ بنَ عَقيلٍ كَتَبَ إلَيَّ بِاجتِماعِ أهلِ المِصرِ عَلى‌ بَيعَتي ونُصرَتي، وقَد أجمَعتُ عَلَى المَسيرِ إلَيهِم»[31].

الجواب الثَّالث: جواب الإمام الحسينg للطُّرمَّاح: «جزاك اللهُ وقومَك خيراً، إنَّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبه»[32].

وهناك أجوبة ذكرها الإمام الحسينg على من نصحه بعدم الخروج إلى العراق وإن كانوا لم يقترحوا عليه الذَّهاب إلى اليمن[33]:

منها: جوابه لأمِّ سلمة: «إنِّي واللهِ مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً».

ومنها: جوابه لعبد الله بن جعفر: «لو كنتُ في جحرٍ هامَّة من هوامِّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني».

ومنها: جوابه لابن الزُّبير وابن عبَّاس أيضاً: «لأنْ أقتل والله بمكان كذا أحبُّ إليَّ من أن أستحلَّ بمكَّة».

ومنها: جوابه لابن عمر: «هيهات يا بن عمر! إنَّ القوم لا يتركوني... فلا يزالون حتى أبايع وأنا كارهٌ، أو يقتلوني».

النُّقطة الثَّانية: تحليل موقف الإمام الحسينg الرَّافض للذَّهاب إلى اليمن

بعد أن استعرضنا أجوبة الإمام الحسينg في الردِّ على اقتراح التَّوجُّه إلى اليمن، أو في الردِّ على من اقترح عليه عدم التّوجّه إلى العراق، نأتي للجواب على السُّؤال القائل: لماذا لم يتوجَّه الإمام الحسينg إلى اليمن؟ لماذا رفض كلَّ تلك الاقتراحات وتوجّه إلى العراق؟

ويتّضح الجواب من خلال مجموعة من الأمور:

الأمر الأوَّل: نلاحظ بأنَّ الإمام الحسينg في أجوبته على النَّاصحين لم يعلِّق على اقتراح الذّهاب إلى اليمن لا بسلبٍ ولا إيجاب، فهو لم ينفِ أنَّ في اليمن شيعة لأبيه وأخيه -وهو العامل الأبرز- ولم يؤكِّد ذلك.

الأمر الثَّاني: أنَّ الإمام الحسينg كرَّر في أجوبته -خصوصاً أجوبته الأخيرة الّتي ذكرناها- بأنَّه مقتولٌ لا محالة، يعني سواء ذهب إلى اليمن أم إلى أيِّ مكان آخر، فهو مقتولٌ على يد هذه الزُّمرة الغاشمة.

الأمر الثَّالث: لم يكن حال اليمن وأهله ليخفى على الإمام الحسينg، فهذا الاقتراح لا بدَّ أنَّه كان حاضراً في ذهن الإمام الحسينg ولم يكن غائباً عنه، وإنَّما عدم الأخذ به كان لأجل اعتبارات أخرى قد تدارسها الإمام الحسينg، والشَّاهد على ذلك: أنَّ الإمام الحسينg لم يبادر بمكاتبة أهل اليمن، ولم يدعُهم لنصرته، فلو كان وضع أهل اليمن كما قال هؤلاء النّاصحين لكان قد أرسل إليهم الإمام الحسينg -لا أقل- يدعوهم لنصرته، ولكن لا نجد نصّاً يدلُّ على أنَّ الإمام الحسينg قد فعل ذلك؛ لأنَّه يعلم بحال أهل اليمن.

الأمر الرَّابع: أنَّ أهل اليمن كانوا على علم بالإمام الحسينg وأنَّه خارج ضدَّ يزيد، ولم تكن هذه الأخبار السّياسيّة الخطيرة لتغيب عنهم؛ ويؤيِّد ذلك مؤيَّدين: 

المؤيِّد الأوَّل: أنَّ الإمام الحسينg أقام أربعة أشهر في مكَّة قبل خروجه منها، ومن المعلوم أنَّ مكَّة قريبة من اليمن، والنَّاس -بما فيهم أهل اليمن- لا تنقطع عن زيارة مكّة المكرّمة، فمن البعيد جدّاً أن لا يصل خبر الإمام الحسينg إلى اليمن.

المؤيّد الثّاني: أنَّ أهل الكوفة كانوا يراسلون الإمام الحسينg في مكّة لأجل الخروج على يزيد، ومنهم الكثير من اليمنيّين الّذين استوطنوا في الكوفة كما قلنا سابقاً، وهم ما زالوا على تواصل مع أقاربهم في اليمن، فيستبعد أن لا يكون أهل اليمن على علم بما يحدث مع الإمام الحسينg

إلّا أنّه مع كلِّ ذلك لم نجد أيّةَ رسائل ومكاتبات من أهل اليمن مع الإمام الحسين‌g يدعونه إلى التّوجّه لليمن ويتعهّدون بالذّبّ عنه! وهذا بخلاف ما حصل من قبَل أهل الكوفة.

بل حتَّى بعد مسير الإمام الحسينg وبعد وصول سيِّد الشُّهداء إلى كربلاء لم نجد في التَّاريخ أيَّ تحرُّك من اليمن تجاه الإمام الحسينg، بل ولا بعد استشهاده، وهذا ما يعني أنَّ الإمام الحسينg كان على اطَّلاع تامٍّ بحال أهل اليمن ومدى استعدادهم للنُّصرة.

الأمر الخامس: أنَّ أكثر الشّيعة اليمنيّين المخلصين قد استشهدوا مع الإمام عليّg، ومن بقي منهم قد تمَّت ملاحقته وقتله على يد معاوية بعد ذلك، والّذين بقوا منهم حين خروج الإمام الحسينg هم القلّة فقط، وكان مركزهم الكوفة وليس اليمن.

الأمر السَّادس: أمَّا بالنّسبة لدعوة الطّرمّاح بالتّوجّه إلى اليمن، فيلاحظ عليها التّالي: 

أوّلاً: أنَّها دعوة بعد الأسر والحصار من قبل الحرّ بن يزيد الرّياحيّ، فلم تكن هذه الدّعوة لتجدي نفعاً؛ لأنَّ لازم ذلك أن يبتدئ الإمام الحسينg بالقتال ثمَّ يتوجَّه إلى اليمن، ولم يكن من منهج الإمام الحسينg أن يبدأ في القتال. 

ثانياً: أنَّ دعوة الطّرمّاح في الحقيقة هي دعوة رجل واحد فقط، في قبال دعوة الكثير من أعيان أهل الكوفة، فأهل الكوفة وإن كانوا قد نكثوا عهدهم إلّا أنّه يمكن الاحتجاج عليهم بأنّهم هم الّذين كاتبوا الإمام الحسينg ودعوه إليهم، وقد احتجّ الإمامg فعلاً عليهم بهذا الأمر، بخلاف ما لو توجّه إلى اليمن من دون دعوة.

ثالثاً: اتّضح من الأمر الرَّابع المتقدِّم أنَّه لم يكن هناك استعداد للتّحرّك من أهل اليمن، وكان الإمام الحسينg على اطّلاع تامّ بذلك، والطّرمّاح قد خفي عليه ذلك.

خاتمة:

من خلال كلِّ ما تقدَّم يتَّضح بأنَّ بعض جوانب مقترح الذَّهاب إلى اليمن كان صحيحاً وهو الجانب الجغرافيّ، ولكن اقتراح الذَّهاب إلى اليمن لم يكن نافعاً للإمام الحسينg في ذلك الوقت؛ لأنَّه يفتقد للعامل البشريّ المساند له، فالإمام الحسينg كان على دراية تامّة بالأوضاع في اليمن، ولم تكن لتخفى عليه مثل هذه الأمور، ولكنَّه أحاط بما لم يُحط به غيره من دراسة موضوعيّة متأنّية بحال أهل اليمن، هذا بالإضافة إلى الإخبارات الغيبيّة الّتي كان على علم بها، ولذا كانg يصرِّح للنَّاصحين له بأنّه مقتول لا محالة مهما فعل، سواء توجّه إلى اليمن أم إلى العراق، ولكنَّ الذّهاب إلى العراق -بنظرة موضوعيّة- كان هو الأوفق، وليس الذّهاب إلى اليمن؛ لأنَّ العراق به العدد الأكبر للشّيعة، وقد كاتبوا الإمام الحسينg من أجل القدوم إليهم والخروج على يزيد اللعين.

والحمد لله ربّ العالمين.


 


[1]  تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزيّ، ص137.

 

[2]  مقتل الحسين× للخوارزميّ، ج1، ص216.

 

[3]  الفتوح، ابن أعثم، ج5، ص20.

 

[4] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج44، ص369.

 

[5]  علم التّاريخ واتّجاهات تفسيره، أنور محمود زناتي، ص63.

 

[6]  نفس المصدر.

 

[7]  نفس المصدر.

 

[8]  دور القبائل اليمنيّة في الدّفاع عن أهل البيت في القرن الأوّل الهجريّ، أصغر منتظر القائم، ص62.

 

[9]  الفتوح، ابن أعثم، ج5، ص20.

 

[10]  مروج الذّهب، المسعوديّ، ج3، ص64.

 

[11]  بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج44، ص369.

 

[12]  الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج1، ص62.

 

[13] موسوعة التّاريخ الإسلاميّ، الشّيخ محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ، ج3، ص570، نقلاً عن مغازي الواقديّ، ج2، ص1079- 1080.

 

[14]  راجع كتاب: دور القبائل اليمنيّة في الدّفاع عن أهل البيتi في القرن الأوّل الهجريّ، أصغر منتظم القائم، ص249- 250.ّ

 

[15] رجل من رجالات كندة ورؤسائها، جاءه رجل يشكو زياد بن لبيد عامل أبي بكر لأنّه أخذ ناقته.

 

[16]  بعد أن أخذها زياد بن لبيد وجعلها مع إبل الصّدقات.

 

[17]  كتاب الرّدّة للواقديّ، ص171.

 

[18]  انظر إلى حجّة هذا الرّجل الدّامغة، وهي في أوّل فترات رحيل النّبيّe، فهذا هو المنطق السّليم لكلّ منصف، ولكن للأسف ما زال هناك من يعتقد بأنّ الرّسولe مضى ولم ينصّب خليفة من بعده!

 

[19]  كتاب الرّدّة للواقديّ، ص176.

 

[20]  نفس المصدر، ص197.

 

[21]  هذا ظاهر كلام عمر بن الخطاب وهو أنّه يخشى أنّ الإمام عليّg يرفض محاربة أهل اليمن؛ لأنّ الإمام عليّg لا يحارب إلّا بحقّ، وهذه الحرب ليست حقّاً، ويبدو أيضاً في الحقيقة أنّ عمر كان يخشى من إرسال الإمام عليّg إلى اليمن فيجتمع أهل اليمن إليه، وبالتّالي تتشكّل جبهة معارضة قوّة ضدّهم، فأبو بكر وعمر كانا يعلمان بأنّ القبائل اليمنيّة ترى بأنّ الإمام عليّg هو الأحقّ بالخلافة.

 

[22]  من الطّلقاء.

 

[23] كتاب الرّدّة للواقدي، ص197.

 

[24]  كتاب الرّدّة للواقدي، ص211.

 

[25]  نفس المصدر، ص200.

 

[26]  دور القبائل اليمنيّة في الدّفاع عن أهل البيتi في القرن الأوّل الهجريّ، أصغر منتظم القائم، ص289.

 

[27]  دور القبائل اليمنيّة في الدّفاع عن أهل البيتi في القرن الأوّل الهجريّ، أصغر منتظم القائم، ص310.

 

[28] نفس المصدر، ص328. وكان من ضمن هذا الوفد عبدالرّحمن بن ملجم كما يُنقَل.

 

[29]  نفس المصدر، ص334.

 

[30]  الفتوح، ابن اعثم، ج5، ص21.

 

[31]  موسوعة الإمام الحسينg، الرّيشهريّ، ج3، ص244.

 

[32]  مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي، ج1، ص89.

 

[33]  راجع موسوعة الإمام الحسينg، الرّيشهريّ، ج3، ص414- 416.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا