مقدِّمة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وصلّى الله على محمَّد وآله الطاهرين..
هذا حوارٌ طويلٌ نسبيّاً دار بيني وبين أحدِ الشَّباب المؤمن حول كتاب الكافي الشريف -عبر برنامج (واتس آب) تارة بالرسائل الصَّوتيَّة وأخرى بالرسائل المكتوبة-(1) جمعتها فتشكَّل هذا المكتوب الَّذي أرجو أن يكون نافعاً.
كانت الأسئلة تدور حول الرِّوايات الشَّريفة لا سيَّما روايات كتاب (الكافي) الشَّريف للشَّيخ محمَّد بن يعقوب الكلينيّ ظنّاً من هذا الشَّابّ أنَّها -أو كثير منها- مِن وضع الرُّواة أو الغلاة وأمثالهم، وكان في تصوُّره أنَّ إثبات الخلل في هذا الكتاب الشَّريف سيؤدّي إلى هدم الأساس الرِّوائيّ عند الشِّيعة الإماميَّة؛ لأنَّ الهدم والإشكال على بقيَّة الكتب الرِّوائيَّة الأخرى سيكون أسهل بكثير، لما لهذا الكتاب من متانة في ضبطه.
وكنتُ قد طلبت منه أن يطرح أسئلته بشكلٍ واضحٍ ومفصَّلٍ وألَّا يستخدم عبارات غامضة، كيلا أجيبه على سؤاله فيدَّعي عدم فهمي لمراده فيطول الأخذ والردّ. كما طلبت منه التريُّث في المناقشة؛ فلا يسأل قبل التأمُّل في الجواب الَّذي أرسله إليه؛ كي لا يكرِّر السؤال وأضطرُّ لتكرار أو شرح الجواب.
وبعد استعراض الأمر مع بعض الأحبَّة ارتأيت أن أرتِّب هذا الحوار مع شيء من الاختصار ونشره؛ ليكون بما فيه من معلومات نافعاً من جهة، ومن جهة أخرى أن يكون نموذجاً للصبر في الحوارات مع الآخرين كيما تصل إلى النتيجة المطلوبة، فليس الجميع يكون مستفهماً مع خلوِّ الذهن، بل منهم من يكون مطّلعاً ولا يسأل إلَّا بعد تتبع واطلاع، ومنهم من يكون متأثراً من بعض التَّيَّارات أو الجماعات المتبنّية لبعض الأفكار المنحرفة.. وفي هذا وذاك من الإجحاف ألَّا يحصلوا على الإجابات الوافية.
سأعرض الحوار بالترتيب الَّذي دار بيننا مع تهذيب الأسئلة -مع المحافظة على نصِّ الأسئلة الَّتي طرحها- والإجابات، راجياً من الله تعالى أن يكون في هذا المكتوب النفع للمؤمنين، وأن يكون فيه شيئاً من الدِّفاع عن هذا السِّفر العظيم وعن مؤلّفه الشَّيخ الجليل. والله وليّ التوفيق.
السَّؤال الأوَّل: حول مصدر الكافي
سؤال الشَّاب:
السَّلام عليكم شيخنا، أبدأ بسؤالي الأوَّل: من أين أتت لنا رواياتنا الشِّيعيَّة؟ فنحن نرى أنَّنا نحن الشِّيعة نركِّز على الأصول الأربعة، وأهمّها الكافي الَّذي يحتوي على روايات كثيرة، منها ما هو مناقض للقرآن، فكيف نقبل منه هذه الرِّوايات؟ بل كيف نقبل كتابه الَّذي يحتوي على مثل هذه الرِّوايات؟
مضافاً إلى أنَّ مؤلِّف الكتاب [الشَّيخ الكلينيّ] لم يعاصر ولا واحداً من المعصومينi. فكيف تصله الرُّوايات الَّتي ينسبها إلى المعصومينi. ما هي مصادره؟ مع لحاظ الفاصل الزّمنيّ بينه وبين الأئمَّةi فضلاً عن النَّبيّe فهل يعتمد على كتب ينقل منها؟ وما هي إن وجدت؟
وجود سلسلة سنديَّة في الكافي لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنَّه يمكن لأيّ شخص أن يأتي بسلسلة سنديّة من الرِّجال المعبّر عنهم بالرُّواة ويكون في آخرها قال أبو عبد الله -مثلاً- ويفتري حديثاً من عنده، فكيف تتشكّل هذه السِّلسلة وعلى أيِّ أساس اعتمد هذه السِّلسلة في نقل الرِّوايات!
ولمَّا جاء الشِّيعة لتصحيح كتاب الكافي رأوا بأنَّ سبعين من المِائة من الأحاديث مجهولة أو غير صحيحة! فهل يمكن الاعتماد على هذه المجاهيل لبناء أو تثبيت العقيدة؟! وهناك نماذج منها كمصحف فاطمة الَّذي يقارنه الكلينيّ بالقرآن وأنّه لا توجد فيه كلمة من القرآن؟ فبعد هذا كلِّهِ كيف نقبل الأحاديث من شخصٍ يطعن في القرآن [المقصود هو الشَّيخ الكلينيّ]، ويأتي بروايات مجهولة أو مكذوبة وينسبها إلى أهل البيتi، فهذا الشخص لا يكون ثقة فلا يمكنني أن أقبل منه شيئاً، فهو قد يكون ممن يتقوّل على رسول اللهe وقد نهى الرسولe عن أمثاله؟
مع علمي بأنَّ الكثير من علماء الشِّيعة يعتبرونه من الثُّقاة ويمتدحون كتابه، وهذا ما يثير استغرابي أكثر!
الجواب:
عليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله عزيزي، أجيب على سؤالكم -المنحل إلى عدَّة أسئلة- في نقاط من شأنها أن تجيب على ما طرحت من أسئلة إن شاء الله تعالى:
النُّقطة الأولى: من أين جاءت الرِّوايات عموماً وفي الكافي خصوصاً؟
الرِّوايات عموماً في كتب المسلمين ممَّا تروى عن النَّبيّe أو واحد من المعصومينi أو واحد من الصحابة، ويكون نقلها عبر هذا الزَّمان على أنحاء منها:
١. التناقل الشَّفهيّ:
من راوٍ إلى راوٍ آخر ومنه تتشكّل السِّلسلة السَّندية التِّي تتصل بالمعصومg.
٢. التناقل المكتوب:
بحيث يجمع الراوي الرِّوايات عن المعصومg في كتاب ومن ثمَّ ينقل هذا الكتاب إلى تلميذه -مثلاً- فيروي الآخر نفس الكتاب، وعادة ما ينسخ هذا الكتاب ويعرضه الطَّالب على أستاذه للاطمئنان من دقَّة النَّقل، وكان عندهم حرصٌ شديدٌ جداً على إعمال الدِّقَّة في النُّسخ والرِّواية بحيث يحاذرون ألَّا يختلف المنسوخ عن المنسوخ منه ولو بحرف واحد فلا يغايرون حتى بين الفاء والواو، ومن يتساهل في ذلك -ولو لتساهله أو أنَّه يغاير لظنّه بعدم الفرق في المعنى- يصفونه بأنَّه ضعيف في روايته، ذلك لورعهم وشدّة مداقّتهم في ذلك.
٣. الإملاء:
بأن يجلس الأستاذ (الراوي الأوَّل) في مجلسٍ ويروي ما عنده من روايات على طلَّابه فيملي عليهم ويدوِّنون ما يمليه عليهم فينقلونه عنه، ومنه تشكَّلت عدد من الكتب الرِّوائية المعروفة بالأماليّ، كأماليّ الطُّوسيّ، وأماليّ الصَّدوق وأمثالها.
ومسألة تدوين الرِّوايات كانت منذ زمن الإمام الصَّادقg، بل كانت قبله، وإن لم تصل إلينا تلك الكتب، ولكن وصل إلينا ما أُخذ منها.
وعلى هذا الأساس يدوّن الشَّيخ الكلينيّ أو الشَّيخ الصَّدوق أو الشَّيخ الطُّوسيّ أو الحرُّ العامليّQ وغيرهم الكتب الرِّوائية.
وعلى هذا فلا بدَّ من أن يكون لكلِّ رواية طريق من خلاله نعرف كيف وصلت إلينا هذه الرِّواية وهو ما يعرف بالسَّند، أو أسلوب آخر يكون من خلاله نطمئن من صدور الرِّواية عن المعصومg، كأن يكون الخبر في كتاب مشتهر في ذلك الزَّمان شهرة عظيمة يتداوله العلماء فيما بينهم ولا شكَّ عندهم في انتسابه إلى مؤلِّفه الثِّقة ولو لمعرفة خطِّه، أو لوجود سلسلة سنديَّة إلى نفس ذلك الكتاب.
ومع ذلك للتَّأكيد على صحَّة صدور الرِّواية عن المعصومg عمد الشَّيخ الكلينيّ وغيره من المصنِّفين إلى تدوين الطُّرق والأسانيد لكلِّ رواية بطريقة فنيّة ممنهجة في موضع محدَّد في كتبهم، وهو ما يعرف بالمشيخة حيث يذكر أسماء الرُّواة الَّذين أخذ عنهم الرِّواية والطَّريق إلى تلك الرِّواية، وعادة يكون لهم أكثر من طريق للرِّواية، ولكن يكتفون بذكر طريق واحد وقد يزيدون بذكر أكثر من طريق... وكذا ما يعرف بـ(الفهرست) –ليس المقصود فهرس الكتاب الَّذي هو كتابة عنوان مع الصفحة كما يُفعل في الكتب الحديثة في زماننا- أو ما يُعرف بـ(الرِّجال)، فيقال: رجال الشَّيخ الكلينيّ، أو فهرست الطُّوسيّ، وهكذا.
فإذا أراد الباحث أن يطَّلع على سند الرِّواية فإنَّه ينظر إلى الفهرست فيعرف من أين أخذ الشَّيخ الكلينيّ -مثلاً- هذه الرِّواية فتكون الرِّواية: أوَّل سندها اسم الشَّيخ الكلينيّ وآخر سندها اسم الرِّاوي المباشر الَّذي نقل عن الإمامg كزرارة أو غيره من الرُّواة الَّذين سمعوا من الإمامg مباشرة. وما بين الشَّيخ الكلينيّ وزرارة يوجد عدد من الرِّجال(2).
تلافي الدسّ في الرِّوايات:
ولكي يتلافى وجود الدَّسّ والتَّحريف في الرِّوايات من قبل الكذّابين أو المجهولين وغيرهم، يوجد عندنا علوم عديدة يعتمدها الفقيه الباحث لكي يحكم بأنّ الرِّواية صادرة عن المعصوم أم لم تصدر، ومن هذه العلوم: علم الرِّجال، علم الدراية، علم الأصول، وغيرها.
وهي تحتوي على ضوابط يرجع بعضها إلى سند الرِّواية، وبعضها إلى الكتب الَّتي أخذت منها الرِّواية، وبعضها يرجع إلى مضمون الرِّواية، وعلى هذه الضوابط تتم محاكمة الرِّوايات الشَريفة رواية رواية حتى يُحكم عليها بكونها صادرة فيمكن اعتمادها أو ليست كذلك.
وعلى هذا يتضح أنّ الكتب الرِّوائية ككتاب الكافي فيها الرِّوايات الصَّحيحة المعتمدة الَّتي يمكن الاستدلال بها في الفقه والعقيدة، كما قد يكون فيها بعض الرِّوايات الَّتي لا تكون معتمَدة على مستوى الاستدلال فتُترك، فالمدار على البحث في كلّ روايةٍ رواية.
ومما تقدّم يتضح:
١. إنّه ليس لي أن اقترح سلسلة سندية وأضعها في كتاب، لأنّ أسماء الرُّواة الَّذين سأذكرهم سيخضعون لدراسة تفصيليّة تبدأ من علم الرِّجال -إلى غيره من العلوم-، فإذا كان رجلٌ واحد مجهولاً ليس له ذكر في كتب الرِّجال أو لم يدلّ ما يثبت وثاقته فلن تُقبل روايته، وكذا الحال إذا كان في السَّند رجل واحد كذّاب، أو ينسى، أو يُخلِّط في النّقل، أو عرضت اسمين أحدهما ليس في زمن الآخر بحيث لا يمكن أن ينقل عنه مما يعني وجود حلقة مفقودة فتُرَدُّ الرِّواية حينئذٍ... فمحاولات الدَّس والتَّدليس يمكن استكشافها من خلال ما ذكر من ضوابط في هذه العلوم.
٢. إنّ الشَّيخ الكلينيّN لا يروي إلَّا بسندٍ حاله حال الرُّواة الآخرين، ومع ذلك فإنّ هذه الأسانيد خاضعة للدِّراسة قبل الحكم على الرِّواية.
النُّقطة الثَّانية: دعوى خطأ سبعين من المِائة من روايات الكافي
لا أعلم بوجود أحدٍ ذكر أنّ سبيعن من المِائة من روايات الكافي غير صحيحة أو مجهولة.. فإذا كان عندك أحد قال هذا فأرشدني إليه!
ما أعرفه أنّ أحدهم -من غير المعتمَد عليهم في هذه العلوم وإن كان هو شخصيَّة لها بناؤها العلميّ في ذاتها- وهو الشَّيخ محمَّد باقر البهبوديّ -توفي ٢٠١٥م- فإنّه يقول إنّ خمسة وعشرين من المِائة من روايات الكافي ليست صحيحة، وهذه دعوى بلا دليل. وإن صحَّت فهي تبتني على ضوابط وضعها هو نفسه لا يقبل بها مشهور العلماء.
نعم لا يفهم من كلامي أنّي أقول إنَّ كلَّ ما في الكافي هي روايات صحيحة. ولكن أقول إنَّ كلَّ رواية خاضعة للدِّراسة والتمحيص وهذا يحتاج إلى تحديد الضَّوابط للفحص والتَّنقيح وهو ما يحتاج إلى تلك العلوم الَّتي أشرت إليها كعلم الرِّجال.
النُّقطة الثَّالثة: روايات معارضة للقرآن
أمَّا ما ورد من روايات في الكافي أو غيره يظهر منها المعارضة للقرآن أو تحريف القرآن مثلاً، فهي روايات إمَّا ضعيفة أو مكذوبة أو مؤوّلة، أو ممَّا لم نستوعب فهمها ممَّا نحتاج في شرحها إلى الرُّجوع إلى أهل الاختصاص، أو تكون من الرِّوايات الَّتي يردُّ فهمها إلى أهلها، وهذا ما يجعلنا لا نطلق الدَّعوى جزافاً، بل لا بدَّ من عرض كلِّ رواية يحتمل مخالفتها للقرآن -ولو بالتصور الأوَّليّ- لتخضع للدِّراسة والتَّحقيق في سندها ومتنها.
النُّقطة الرَّابعة: الشَّيخ الكليني عالِم جليل القدر
أمَّا شخص الشَّيخ الكلينيّÄ لا يمكننا أن نصفه إلَّا بالوصف الَّذي يستحقُّه؛ فهو العالِم الجليل المتثبِّت. هو شيخ الشِّيعة في وقته –باصطلاح اليوم هو المرجع الأعلى للشِّيعة بحيث إنَّ الجميع يرجع إليه لغزارة علمه وجلالة قدره وحكمته فضلاً عن ورعه وتقواه-. هو ممَّن كان قريب عصر من الإمام المهديّ والتقَى ببعض الرُّواة ممَّن التقَى بالإمام المهديّg.
وأمَّا كتابه: فعادة ما يذكر سند الحديث أو الكتاب الَّذي أخذ منه الحديث وقد لا يذكر ذلك -وهذا قليل- اعتماداً على ذكره مسبقاً في الكتاب... مضافاً إلى أنَّ الشَّيخ الكلينيّ قد ينقل بعض الرِّوايات التِّي هي أقلُّ اعتباراً من غيرها ولكن يجعلها من حيث التَّرتيب في آخر الرِّوايات، وهذا يكشف عن وجود نظر عنده فيها، إمَّا أن يرجع إلى ضعف الرِّواية في سندها أو متنها. ولِنَقْلِ أمثالِ هذه الرِّوايات أغراضٌ عديدةٌ ليست على صعيد الاستدلال فبعضها قد تنقل للردِّ عليها أو لغيرها من الأغراض الصحيحة.
النُّقطة الخامسة: الكتب الأربعة
الكتب الأربعة وهي: الكافي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وهي كتبٌ معتمدة على ما ذكرت في النُّقطة السَّابقة، فمنها ما أُخذ من كتب قد كتبت في زمن المعصومg وبعضها من خلال الأسانيد وغير ذلك.
وهناك ما يزيد على الأربعمِائة كتاب روائيّ كانت مكتوبة في زمن المعصومينi كانت هي من مصادر هذه الكتب الأربعة، وتسمى بالأصول الأربعمِائة، وغيرها. وكانت تلك الأصول مشتهرة منتشرة بين الأصحاب وكان العمل عليها، وبعضها عرضت على المعصومg وصحَّحها كبعض مؤلفات يونس بن عبد الرحمن وغيره.
النُّقطة السَّادسة: لا يمكن الاعتماد على الرِّوايات الضَّعيفة لبناء العقيدة قطعاً
العقيدة تُبنى على أساسٍ من الدَّليل الموصِل إلى اليقين، ولذا فإنَّا لا نعتمد في تأسيس عقائدنا على روايات ضعيفة من هنا أو هناك.. نعم لا بدَّ من الالتفات إلى الترتُّب بين بعض الاعتقادات؛ فلا يصحُّ الاستدلال على ضرورة النُّبوَّة وإثبات نبوَّة النَّبيّe إلَّا بعد الفراغ من إثبات التَّوحيد وصفات الله تعالى، وهكذا.
نعم، نعتمد في العقيدة على الرِّوايات –الثَّابت صدورها جزماً- لتأسيس العقيدة وبيانها، وكذا لمزيد بيان لما ثبت بالدَّليل العقليّ مثلا.
هذا الجواب مختصراً.. أرجو من جنابكم قراءته جيداً قبل طرح سؤال آخر أو أيّ سؤال يتعلَّق بهذا الجواب. موفَّق عزيزي.
السُّؤال الثَّاني: الكافي كتاب اجتهاديّ وليس روائيّاً
سؤال الشَّاب:
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطَّاهرين. تعليقي على جوابك:
أوَّلاً: كتاب الكافي للكلينيّ ليس كتاباً روائيّاً، وإنَّما هو كتاب منهج فتوى، والدَّليل على ذلك أنَّه يأتي في مقدّمة الكتاب عن السبب في تأليف الكتاب فيقول: "وقلتَ أنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع من جميع فنون علم الدِّين والعمل به بالآثار الصَّحيحة عن الصادقَينh، والسُّنن القائمة الَّتي عليها العمل وبها تُؤدّى فرائض الله وسُنّة نبيّهe.. وقد يسَّر الله وله الحمد تأليفَ ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت"(ج:١، ص:٥).
بمعنى أنَّ الكتاب كتاب اجتهاديّ عقائديّ يهدف إلى العمل بفتواه، وليس كتاباً منهجه منهج روائيّ، فعندما يأتي الكلينيّ ليطرح موضوعاً عن الإمامة، أو عن مصحف فاطمة، فهو يقصد ما يقوله؛ لأنَّ هذا هو اجتهاده الَّذي يعتقد أنَّ على النَّاس العمل به.
وكذلك القول إنَّ الإمام الحجَّة المهديّg، قال عن الكافي: بأنَّ الكافي كافٍ لشيعتنا. أي: بمعنى أنَّ الكتاب يشتمل على روايات، ومسائل فقهيَّة، وعقائد، وأخلاق، فهو كتاب اجتهاديّ وليس روائيّاً.
وبخصوص ضعف روايات الكافي، فيرى البهبوديّ أنَّ ثلثيّ كتاب الكلينيّ الكافي ضعيف، وليس العكس كما تفضلتكم -أرجوا منكم التأكُّد-، وليس البهبوديّ فقط من علَّق على ضعف أحاديث الكافي، بل جملة من أعلام الإماميَّة، منهم العلَّامة المجلسيّ حيث يقول إنَّ ٩٤٨٥ حديثاً ضعيف من أصل ١٦١٢١، هذا يعني أنَّ أكثر من ستين من المِائة ضعيف (المصدر: ذكر في مقدّمة مرآة العقول) ولكنّي لا أُشكِل بطريقة أساسيَّة طبق هذه الإحصائيَّات. وإنّما إشكاليَّاتي الشَّخصيَّة تكون على أربعة نقاط هما كالآتي:
النُّقطة الأولى: عندما يذكر الكلينيّ الكافي بعض الأحاديث عن رسول اللهe، فلا يأتي بدليلٍ من أين جاء بالحديث، أو من أيّ كتاب؟!! فلو برَّرنا في كلّ مرّة أنّ الكلينيّ سمع الأحاديث من رجال ثقات شفهيّاً، فأنا أرى الإشكال في تواتر الأحاديث؛ فلو بحثت في الكتب قبل الكافي لن تجد شيئاً ولا حتَّى بين صحابة الرسول في ذلك الزَّمان، وأنَّ المشكلة أنّ بين الكليني ورسول الله أكثر من ثلاثمِائة سنة، فكيف يأتي بالأقاويل ولم يسمعها أحد من قبل؟!
وإن قلنا ضاعت الكتب القديمة أو احرقت فكيف وصلت إليه؟ أو على الأقل من الممكن أن يذكر اسم الكتاب الَّذي قرأ منه أو عرف منه المعلومة!!! وإن قلنا السَّلسلة الروائيَّة من معصوم فما المانع من أن يأتي أي شخص ويضع اسم رجال ثقات ينتهي بالمعصوم ومن ثمَّ يذكر حديثاً وإن كان مكذوباً.
وإن قلنا إنَّ الحديث مكذوب فهذا أمر خطير، وقد أخبَرنا به رسول اللهe عن عقاب الافتراء به.
[حذفت بقيَّة النُّقاط، لأنَّه لم نجب عليها للاكتفاء بالإجابة على هذه النُّقطة]
في النهاية هذه وجهت نظري في هذا الأمر. ولا أستطيع أنا شخصيّاً أن أثبت على معتقدي إن كانت هذه الأمور كلُّها مشوَّشة.
ومن ثَمَّ أحاديثنا أغلبها مجهولة وغير صحيحة، ويتضح لي أنَّ علماء الإماميَّة في هذه الفترة يأتون بأحاديث لم يسمعها أحد قطّ! ولو بحثنا في الكتب الَّتي من قبل لا نحصل على أيّ شيء. فكيف من الممكن أن أثبت على مذهب فيه كلّ هذه الأمور المشوَّشة والضعيفة. إضافة إلى أنَّه توجد في الكافي روايات تطعن في الإمام الحسنg.
وشكراً لكم على سعة صدركم، وأتمنّى منكم إن استطعتم أن توضِّحوا الأمر بالدَّليل وذكر المصادر.
الجواب:
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله عزيزي...
قرأت جوابكم ووجدت أنّي قد أجبت على بعض ما ذكرتم فيه.. مضافاً إلى أنّك أضفت فيه أسئلة أخرى [حذفت الأسئلة الأخرى الَّتي أضافها لعدم الوصول إليها في استعراض الإجابات، ولكي لا تبقى أسئلة في المقال بلا إجابة].
مستعدٌ للتعليق على كلِّ فكرة ذكرتَها في تعليقك وبالدَّليل، ولكن لي أمل في أن تعيد قراءة جوابي السَّابق مرَّة أخرى فقد أجبتُ فيه على بعض ما ذكرته في تعليقك.
فإذا وجدت إجابات على بعض النّقاط والأسئلة فأعد إرسال تعليقك مرّة أخرى من دونها كي لا نضطر لإعادة السؤال والجواب بصيغة أخرى.. وإن كنتُ مستعداً لذلك أيضاً إن شاء الله تعالى.
الشَّاب: عليكم السلام سماحة الشَّيخ محمَّد، لا بأس، أعلم أنّي قد أعدت بعض النّقاط لأنّي لم أجد جواباً مقنِعاً. فأتمنّى الإجابة على باقي الأسئلة. يعطيكم العافية، وشكراً لكم.
الجواب:
إذا سنحتاج إلى نقاشٍ أكثر تفصيلاً كي ننهي الحديث عن كلّ فكرة على حدة. وسنبدأ بلغة الأرقام والنِّسب، ولكن قبل ذلك أريد منك مصدر النِّسبتَين للبهبوديّ والمجلسيّ... أقصد أنّي أريدك أن تنقل لي نصَّ العبارتين الدالَّتين على هاتين النسبتين(3).
سؤال الشاب:
هذا مصدر تضعيف المجلسيّ للكافي [أرسل لي وصلة لموقع إلكترونيّ لكتاب: الكلينيّ والكافي للشَّيخ عبد الرَّسول الغفّار، الصَّفحة ٤٣٨. واتضح أنّه نقل مفاد كلامه في تلك الصفحة، وكان يقصد منها هذه الفقرة: "قول العلَّامة المجلسيّ الَّذي عدَّ من الأحاديث الضَّعيفة ٩٤٨٥، أي أن أكثر من نصف أخبار (الكافي) ضعيفة؟!" وهذه الفقرة: "في الوقت الَّذي يعرض كتاب (التَّكليف) لأبي جعفر محمَّد بن عليًّ الشَّلمغانيّ -المعاصِر للكلينيّ- على وكيل النَّاحية المقدَّسة، فلم يذكر منه إلَّا حديثَين" وتمَّمها بالتفريع بأنّه لماذا لم يعرض كتاب الكلينيّ أيضاً] .
وهذا مصدر تضعيف البهبوديّ إلى الكافي [أرسل لي وصلة لموقع إلكترونيّ لمقال ينسب إلى البهبودي هذه النِّسبة] و[أرسَل لي وصلة لكتاب الكافي والكلينيّ نفسه، للشَّيخ عبد الرَّسول الغفّار، الصَّفحة ٤٠٢، وهي تتضمن إحصاء لعدد روايات الكافي لكلِّ كتاب الكافي ولكلِّ كتاب منه . وقد ضمَّن سؤالَه هذا وسابقه تعريضاً وتسخيفاً بالشَّيخ الكلينيّ قد حذفته تقديراً لمكانة الشَّيخ الكلينيّ وتجليلاً له].
الجواب:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قبل كلِّ شيء...
جلالة الشَّيخ الكليني
لا بدَّ من التأكيد مرَّةً أخرى على جلالة الشَّيخ الكلينيّ، فلا يوجد أحد من علماء الطائفة إلَّا ويثني عليه أعظم الثَّناء.. فحتَّى مثل البهبوديّ -الَّذي اعتمَدتَ على كلامه في أسئلتك- والشَّيخ المجلسيّ أيضاً وغيرهم، يجلّون الشَّيخ الكلينيّN ويعظّمونه أشدّ التعظيم، فهذا الأمر لا بدَّ من أن يكون واضحاً لنحفظ مقام هذا العالِم الجليل ولا نصفه بالأوصاف الَّتي لا تليق ولو بالتَّعريض.. فمن كلام الشَّيخ المجلسيّ قوله في حقِّ الشَّيخ الكليني: "..وابتدأت بكتاب الكافي للشَّيخ الصَّدوق ثقة الإسلام مقبول طوائف الأنام ممدوح الخاصّ والعامّ: محمَّد بن يعقوب الكلينيّ حشره الله مع الأئمَّة الكرام؛ لأنَّه كان أضبط الأصول وأجمعها، وأحسن مؤلفات الفرقة النَّاجية وأعظمها، وأزمعتُ على أن أقتصر على ما لا بدَّ منه في بيان حال أسانيد الأخبار التِّي هي لها كالأساس والمباني، وأكتفي في حلّ معضلات الألفاظ وكشف مخيّبات المطالب بما يتفطّن به من يدرك بالإشارات الخفيَّة دقائق المعاني، وسأذكر فيها إن شاء الله كلام بعض أفاضل المُحشِّين وفوائدهم، وما استفدت من بركات أنفاس مشايخنا المحقِّقين وعوايدهم من غير تعرّض لذكر أسمائهم أو ما يرد عليهم..." (مرآة العقول، المجلسيّ، ج١، ص٣).
بعد هذا فإنَّا نحتاج إلى مناقشة نسبة الضعف إلى روايات الكافي من قبل البهبوديّ والشَّيخ المجلسيّ وبيان اللَّبس في الأمر.. وهذا ما سأركز الردّ عليه.
وقفة مع العلامة المجلسي:
أما فيما يتعلَّق بنسبة الشَّيخ المجلسيّ الضَّعف لعدد كبير من الرِّوايات في الكافي... فأقول –وأرجو التَّأمل مليّاً في هذه النقاط وعدم التَّسرع في الانتقال من نقطة إلى أخرى، وأرجو السؤال حول ما سأجيب به؛ ليدور النِّقاش حوله قبل فتح الباب لأفكار أخرى كي لا يتداخل النِّقاش وتختلط الأفكار؛ لأنّي سأشير وسأختصر مباحث كثيرة ومقدّمات تُذكر بصورة مفصَّلة في عدد من العلوم كعلم الرِّجال، وعلم الدِّراية، وعلم الأصول، وأسأل الله أن أُوفَّق لبيانها بصورة جيدة إليكم-:
أوَّلاً: فرق كبير بين وصف الرِّواية أنّها غير معتبرة، أو ضعيفة، وبين القول إنَّ الرِّواية خطأ أو مكذوبة وباطلة؛ وذلك لأنِّ القدماء من العلماء كان لهم تصنيف رباعيّ للرِّوايات (صحيح وحسن وموثق وضعيف)، والأصناف الثلاث الأولى هي أحاديث يمكن اعتمادها والاستدلال بها... وأما الضَّعيف فلا يراد منه أنّه مكذوب وباطل ...كلَّا وألف كلَّا... بل المراد منه أنّه لم تتحقَّق فيه الشروط ليكون في أحد الأصناف الثلاث الأولى. ولذا يخضع الحديث الضعيف إلى دراسة أخرى -غير البحث السندي- ليرى الفقيه هل يمكن اعتماده أو الاستفادة منه في مجالات أخرى غير استنباط الحكم الشَّرعيّ أو أنّه يبقى في قسم الضعيف.
ثانياً: التعبير عن الحديث بأنّه حديث صحيح يختلف المراد منه بين العلماء المتقدِّمين والمتأخِرين، وليس غرضهم أن يكذّب بعضهم البعض، فمن من يرى أنَّ الحديث ضعيف لا يطعن فيمن يرى صحّته؛ فالمتقدِّمون من العلماء يفسِّرون الحديث الصحيح: بأنّه ما كان من الأخبار الَّتي يمكن الاعتماد عليها والعمل بها سواء كان رجال سندها إماميُّون أم لم يكونوا كذلك مع اشتراط كون الرِّواية ترافقها مجموعة من القرائن الَّتي تجعلهم يطمئنُّون بصدورها عن الإمام، فيعملون بها ويصفونها أنّها رواية صحيحة.
بينما المتأخِّرون يرون أنَّ المراد من الصحيح هو خصوص ما كان رواته في السند هم من الإماميّة الثُّقاة. وهذا لا يعني أنَّ ما كان ليس بصحيح لا يمكن العمل به ..ليس هكذا.. بل هذا تقسيم علميّ يستفاد منه في مواضع عديدة على مستوى الاستدلال، ومنها ما إذا تعارض حديث صحيح مع موثّق فإنّه يقدّم الصحيح، وغيرها.
وعلى هذا فإنّه بطبيعة الحال تكون دائرة الأحاديث الصَّحيحة على المعنى الَّذي يعتمده المتأخِّرون تكون أضيق ممَّا عليه المتقدّمون.
ومن هذا نستنتج:
١. إنَّ الشَّيخ الكلينيّ عندما ذكر الأحاديث في الكافي كان يعتقد بصحَّتها –على المعنى الَّذي هو عنده لأنَّه من المتقدِّمين- وهذا ما بيَّنه في خطبة الكافي حيث قال: "... وقلت: تحبُّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع فيه من جميع فنون علم الدِّين، ما يكتفي به المتعلِّم، ويرجع إليه المسترشِد، يأخذ من يريد علم الدِّين والعمل به بالآثار الصَّحيحة عن الصَّادقَينh والسُّنن القائمة الَّتي عليها العمل، وبها يؤدِّي فرض الله عزّ وجلّ وسنَّة نبيِّهe.. وقد يسَّر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت" فهو قد جمع الرِّوايات ليعمل بها ويهتدى بهديها.
٢. ونستنتج أنَّ وصف المجلسيّ للرِّوايات بالضَّعف لا يعني أنّها مكذوبة أو مفتراة أو ما شاكل ذلك.. مع لحاظ أنَّ الشَّيخ المجلسيّ نفسه في مرآة العقول عمد إلى شرح الأحاديث، حتى تلك الأحاديث الَّتي وصفها بالضَّعف! فصحَّة النِّسبة من عدمها لا تؤثِّر على مصداقيَّة الشَّيخ الكلينيّ في روايته في الكافي. لما تقدَّم ذكره.
٣. ونستنتج أنّ ما قد يراه المجلسيّ ضعيفاً قد يراه غيره من العلماء صحيحاً ولكلّ حجَّته ودليله الَّذي يبتني عليه في تصحيح الرِّواية... فالمسألة ليست راجعة إلَّا إلى دراسة كلِّ رواية على حده، وفقاً للمباني والأسس والقواعد الَّتي يعتمدها كلُّ عالِم بعد تنقيحها واعتمادها والاستدلال عليها.
٤. تأكيد بعد تأكيد: الشَّيخ المجلسيّ عمد إلى شرح الرِّوايات جميعها حتى تلك الرِّوايات الَّتي وصفها بأنّها ضعيفة.. فإذا كانت ضعيفة لا يصح الاعتماد عليها فلماذا يشرح ثلثي الكافي الَّذي يرى أنّه ضعيف!! هذا يؤكّد المعنى الَّذي ذكره العلماء من كون ضعف الرِّواية لا يعني أنَّها باطلة.
ثالثاً: ذكرتُ لك سابقاً وأعيده مرَّة أخرى للتأكيد والزيادة: أنّ الكتب الرِّوائية ككتاب الكافي يوجد فيها الرِّوايات الصحيحة المعتمَدة الَّتي يمكن الاستدلال بها في الفقه والعقيدة، وبعض الرِّوايات التِّي لا تكون معتمَدة فيُضرب بها عرض الجدار ولا حزازة عندنا في ردِّ الرِّوايات التِّي نطمئن بعدم صدورها عن المعصومg وعلى هذا سيرة العلماء، وهو واضح جدّاً لمن اطّلع على الكتب الاستدلاليّة لهم على اختلاف مشاربهم.
فالمدار على البحث لكلّ رواية رواية. خصوصاً وأنّ الشَّيخ الكليني مثلاً قد بيّن عدداً من القوانين لمحاكمة الرِّوايات كما في أوّل كتابه الكافي الَّذي قد جمع فيه الرِّوايات التِّي يعتقد هو بصحَّتها فقال: "فاعلم يا أخي أرشدك اللّه! أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء، ممّا اختلف الرّواية فيه عن العلماء برأيه، إلَّا على ما أطلقه العالم بقولهg: >اعرضوها على كتاب اللّه، فما وافى كتاب اللّه عزّ وجلّ فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه<، وقولهg: >دعوا ما وافق القوم، فإنّ الرشد في خلافهم<، وقولهg: >خذوا بالمجمع عليه، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه<"[الكافي، الكلينيّ، ج١، ص٨-٩]، فلا ريب عندنا في أنْ نحاكم كتاب الكافي ونتوقَّف في قبول بعض رواياته، ولكن من الخطأ أن نعبِّر عن ما لا يثبت صحَّته عندنا -وقد ثبت صحَّته عند مثل الكلينيّ- أنَّه كذب وباطل.
رابعاً: نقلت الرَّقم والإحصائيَّة من كتاب (الكافي والكلينيّ) للشَّيخ عبد الرَّسول الغفَّار من صفحة ٤٠١-٤٠٢ ومن هامش صفحة ٤٣٨... وأحبُّ أن ألفت إلى أمرين:
١. هذا الكتاب إنّما ألفه الشَّيخ الغفَّار لغرض الدِّفاع عن الكافي وردِّ ما يساء فهمه عن الكتاب وما يُروّج.. وقد ذُكر هذا في كلام الناشر للكتاب وهي جماعة المدرِّسين في قم –من المؤسَّسات العلميَّة الكبيرة المعتمَدة-: "ولعظمة هذه الشَّخصيَّة ودورها في صيانة المذهب الإماميّ، وتشييد أركانه، لم تسلَم من الغمز فيها، وإثارة الغبار حولها من قِبل الأعداء والخصوم لغرض النَّيل منها، وبالتَّالي تضعيف المذهب والطَّعن فيه. والكتاب الماثل بين يديك -عزيزنا القارئ- عبارة عن دراسة علميَّة موضوعيَّة حاول فيها صاحبها الفاضل سماحة الشَّيخ عبد الرَّسول عبد الحسن الغفَّار أيَّده الله وسدّد خطاه نصرة هذه الشَّخصيَّة الكريمة، والذبّ عنها، وعن موسوعتها الحديثيَّة الفذَّة وردّ كيد الأعداء إلى نحورهم، وذلك بأسلوب فنِّيّ دقيق، وبحث موضوعيّ حريّ بالمطالعة والتَّحقيق".
- والمؤلِّف نفسه ذكر ذلك أيضاً في مقدّمة الكتاب حيث قال: "لقد تحسّست أهمِّيَّة الموضوع وبعد خطره لما قرأت نتاج بعض الكُتَّاب، فوجدته يتقمّص شخصيَّة العالِم المصلِح، والمعلِّم المرشِد، والنيقد الفاهم،... كلّ ذلك للنّفوذ إلى التّراث الشّيعيّ الإماميّ، وهدمه من الدَّاخل، على أنّ هناك محاولات مقصودة تقف من ورائها الوهَّابيّة والاستعمار الصَّليبيّ، إلَّا أنّها محاولات فاشلة، وخطوات غير موفقة وخائبة".
٢. في الصَّفحة ٤٣٨ ذكر في المتن جواباً مختصراً على تساؤلك، فراجع هناك. لأنّ ما ذكرتَه هو نفسه قد ذكره على أنّه إشكال وإثارة وأجاب عليها، فحبذا أن تقرأ إجابته هناك ولا تكتفي بقراءة الإشكال فقط.
خامساً: قد تكون بعض الرِّوايات غير صحيحة سنداً، ولكن لتعاضدها ووجود القرائن الَّتي تجعل الباحث يطمئنّ بصدورها فتكون معتبَره ويعمل بها... وهذا من الأمور الواضحة جداً والبديهيَّة، وممَّا يتناوله فقهاء المسلمين عموماً، وليس فقهاء الشِّيعة فحسب.
أرجو أن يكون هذا البيان كافياً فيما يتعلّق بالنسبة إلى كلام الشَّيخ المجلسيّ، وأمّا البهبودي فنعرض له بعد أن نفرغ معكم من كلام الشَّيخ المجلسيّ(4).
نسألكم الدعاء في هذه اللَّيلة المباركة [ليلة الجمعة].
الشاب: شكراً سماحة الشَّيخ.. شرحكم إلى هذا الموضوع واضح.
الجواب: حبّاً وكرامةً عزيزيّ، إذا كان الأمر واضحاً ولم تكن عندك ملاحظات سأكتب غداً ما يتعلّق بكلام البهبوديّ.
وقفة مع الشَّيخ البهبوديّ:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جعل الله جمعتكم مباركة..
أمَّا فيما يتعلَّق بكلام الشَّيخ البهبوديّ فأُجيبُ عنه باختصار، وسأحيل على بعض الأفكار الَّتي ذكرتُها في الجواب الأخير، فأقول:
ممَّا سبق الحديث عنه يتضح أنَّ الصَّحيح عند المتقدِّمين يختلف عن الصَّحيح عند المتأخِّرين. وأُضيف عليه أنَّ البهبوديّ جاء بمصطلح جديد للحديث الصَّحيح، فقال في مقدّمة كتابه صحيح الكافي ج١، ص١٦، وبترقيم الحروف (يج): "والَّذي تحصَّل لي بعد السَّبر والتَّحقيق، وبعد تلك المباحث العميقة أنّ الصَّحيح إنّما يكون من حيث السَّند والمتن معاً، بأن يكون سند الحديث عارياً عن الرّجال المتروكين. ومتن الحديث خالياً عن الوهم والاضطراب والتَّخليط. وها أنا الآن أقدّم إليكم صحيح الكافي سنداً ومتناً على تلك الشَّريطة...".
وهنا بعض الملاحظات:
١. لا يخفى أنَّ البهبوديّ عمد إلى حذف الرِّوايات التِّي لا تكون صحيحة عنده باعتبارها باطلةً ومكذوبةً بنظره كما أشار إلى ذلك من خلال مقدِّمة كتابه. وقد اتّضح ممَّا سبق أنَّه من الخطأ أن نصف الحديث الَّذي لم تثبت صحَّته بأنّه باطل وكذب، وهذا أمر غير مقبول لم يفعله المجلسيّ الَّذي كان يحافظ على الأحاديث ويضبط متنها ويشرح الأحاديث الَّتي يصفها بأنّها ضعيفة، وقد ذكرنا أنّ الأحاديث الضَّعيفة قد تدخل في خانة الاعتبار بعد دراستها متناً ودراسة روايات أخرى، وجمْع القرائن على ذلك، وعمل الفقهاء السَّابقين بها وغير ذلك... فلا يصحُ الحذف بأيِّ حالٍ من الأحوال.
٢. ما صحَّحه البهبوديّ من روايات وجمعها في كتابه (الصَّحيح من الكافي) ظنّاً منه أنَّه يمكن أن يوجَد عندنا كتاب صحيح لأنَّه أخذ بأشدّ الضَّوابط وأضيقها ليولِّد كتاباً صحيحاً على غرار صحيحي البخاريّ ومسلم كما هو عند العامّة... وقد سبق أن ذكرتُ أنّ كلّ روايةٍ رواية تخضع لدراسة مختصّة بها بالاعتماد على المباني المعتمَدة عند الفقهاء... وعلى هذا فقد يكون ما صحّ من روايةٍ عند البهبوديّ قد تسقط عن الاعتبار ولا يُعمل بها إذا جئنا بها إلى مائدة الاستدلال... فقد تكون الرِّواية صحيحة سنداً وواضحة متناً ولكنّها صادرة على نحو التَّقية.. وقد تكون معارَضة بروايات صحيحة أخرى فتسقط عن الاعتبار كلّاً أو بعضاً، وغير ذلك، وعلى تفصيل مذكور في طيَّات الأبحاث. فلا يوجد كتاب صحيح على كلّ المباني.
٣. ممَّا تقدَّم يتضح أنَّ عمليَّة الحذف الَّتي قام بها البهبوديّ قد جانبها الصَّواب كونه يحذف قسماً كبيراً من التُّراث الشِّيعيّ بلا وجهٍ ولا دليل، وما ذكره من مبرِّر للحذف ليس مقبولاً بعد وضوح كيفيَّة التَّعامل مع الرِّوايات عموماً، والموصوفة بالضَّعف خصوصاً.
٤. هنا نترقّى أكثر ونقول: إنَّ مثل البهبوديّ الَّذي من المفترض أنّه اطلع على الكافي وعلى روايات أهل البيتi كان حريّاً به أن يتوقّف ويتريث في مسألة حذف الرِّوايات... ويكفي في ذلك ما ورد في الخبر عن أهل البيتi: >ولا تقل لما بلغك عنَّا أو نُسِب إلينا هذا باطل وإن كنتَ تعرف خلافه، فإنّك لا تدري لم قلنا، وعلى أيِّ وجهٍ وصفة<(5).
٥. ما فعله البهبوديّ يغلق باب الاجتهاد؛ يعني: يريد البهبوديّ من حيث لا يشعر أن يقلِّدَه كلّ من يأتي من بعده فيما يراه هو!
وهذا مناسب لمذهب العامَّة الَّذين قد اغلقوا باب الاجتهاد. بينما علماء الشِّيعة –تبعاً لما ثبت عن المعصومينg- يعملون بالاجتهاد والاعتماد على الدَّليل والبرهان والنَّقد العلميّ لا التَّقليد الأعمى لمن سبق من العلماء.. وهذه ميزة عندنا من كون كلّ شيء خاضع للدِّراسة والتحقيق.
٦. تهتَّم الحوزة العلميَّة بالنتاجات المتميِّزة -من أبحاثٍ وكتب- وتُخضعها للبحث وتشقّ طريقها بين الأبحاث العلميَّة لتأخذ موقعها اللائق بها... وبما يتعلّق بكتاب البهبوديّ فلم يخضع لشيء من ذلك منذ صدوره وحتَّى اليوم وذلك للاتفاق على عدم صوابيَّة فكرة الكتاب.
ولو كان البهبوديّ قد صرف جهده في تأليف كتاب يشرح فيه الرِّوايات -ولو الصَّحيحة بنظره- من دون الدَّعوة إلى حذف الرِّوايات الضعيفة بنظره لكان أنفع وأولى. ولكان كتابه يهتمّ به العلماء والمحقِّقون وغيرهم.
أرجو أن يكون هذا البيان كافياً فيما يتعلق بكلام البهبوديّ(6).
السُّؤال الثَّالث: أسئلة قصار
سؤال الشَّابّ:
أستطيع أن أفهم من توضيحكم أنَّه يمكن القول إنَّ كتاب الكلينيّ (الكافي) توجد فيه من الرِّوايات الَّتي لا يمكننا إثبات صحَّتها أو ضعفها لأنَّه قد لا يُفهم معناها أو مضمونها، وعلماء الإماميَّة الحديثين [المعاصِرين] قد يصحِّحون الكافي بطريقتهم ومنهجهم في الأخذ بالرَّواية.
الجواب:
توجد روايات نجزم بصحَّتها وأخرى نجزم بضعفها، وروايات نتوقف فيها لأسباب عديدة منها ما أشرتَ إليه. أمَّا سبب التَّضعيف فهو ما ذكرتُه سابقاً ومنه الضَّعف السَّنديّ، أو المعارَضة أو الإعراض عن الرِّواية من العلماء، وغيرها من الأسباب، ولذا فإنَّ المدار كما ذكرتُه مكرَّراً هو على دراسة كلِّ راويةٍ رواية.
وعلماء الإماميَّة الحديثين بتعبيركم نسمِّيهم بالمعاصِرين؛ لأنَّه يوجد عندنا علماء متقدِّمون، ومتأخِّرون، ومعاصِرون. ولا نقول إنَّهم يصحِّحون الكافي، بل نقول: يصحّحون، أو يضعّفون الرِّواية سواء وُجدت في الكافي أم في غيره من الكتب الرِّوائية.
سؤال الشَّاب:
إذاً يتفرّع على ذلك أنّ العلامة المجلسيّ يضعّف الكثير من الرِّوايات بسبب عدم وجود المعايير الكافية حسب منهجه الرِّوائيّ وكذلك البهبوديّ.
الجواب:
نعم؛ وبعبارة أخرى يضعف الرِّواية لوجود معايير وقواعد -نسميها بالمباني- هو يعتمدها وقد لا يقبلها غيره من العلماء، فلا يحتجُّ على غيره بفعله.
سؤال الشَّابّ:
وأيضاً أفهم من كلامكم أنَّ الرِّوايات الضَّعيفة لا يعني أنّها خاطئة، ولكن من الأفضل عدم الأخذ بها؛ لعدم إثبات صحّتها في الوقت الحالي.
الجواب:
لا يؤخذ بها ولا يعمل بها مَن لم يثبت عنده صحتها، أمّا مَن ثبت عنده صحتها بالدَّليل فهو يعمل بها.
سؤال الشَّابّ:
الرِّواية الَّتي نقلتها في جوابك >ولا تقل لما بلغك عنَّا..<، هل من الممكن أن أعرف مصدرها؟
الجواب:
بصائر الدَّرجات للصَّفَّار ص٥٥٨، ونقل عنه المجلسيّ في البحار، والحرُّ في الوسائل وغيرهما.
سؤال الشَّابّ:
وهل أستطيع أن أقول: إنّ كتاب (الكافي) هو كتاب اجتهاديّ -يعبّر عن اجتهاده الشخصيّ-، أو روائيّ؟
الجواب:
الشَّيخ الكلينيّ في (الكافي)، وكذا الشَّيخ الصَّدوق في (من لا يحضره الفقيه) مثلاً يصدّر الباب بعنوانٍ ويطرح الرِّوايات التِّي يرى صحّتها تحت هذا العنوان لتكون دليلاً على رأيه، ويذكر -عادة- الرِّوايات المعتبرة، ثمَّ التِّي هي أقلّ اعتباراً، وعلى هذا يكون الكتاب جزء منه فتوائيّ، والجزء الأكبر منه روائيّ؛ لأنَّه يهدف إلى نقل الرِّوايات وجمعها في كتاب واحد.
سؤال الشَّابّ:
وأخيراً عندما سألتكم أوَّل مرَّة أنَّني مشوَّش بسبب الموروث الرِّوائي كنت أقصد ما تفضّلتكم به من أنّه توجد أحاديث ضعيفة في الكافي، ولكن لا نعلم بمدى صحَّتها ممَّا يجعل الانسان المنصِف العقلانيّ في حيرة.
الجواب:
أرجو أنَّ الحيرة قد ارتفعت بما تقدَّمت الإجابة عليه، وأن نعلم جيداً أنّ من الإنصاف التَّريّث في الوصف بالضَّعف وردّ الرِّوايات فضلاً عن حذفها وتكذيبها، أو تكذيب العلماء الأجلَّاء أمثال الشَّيخ الكلينيّN.
سؤال الشَّابّ:
إذاً لا يمكننا أن نقول: كلّ ما روى في الكافي صحيح؛ لأنَّ بعض الرِّوايات قد لا نؤمن بمضونها ولا يمكن أن نقول بصحَّته، أو يكون في السَّند ضعف. فما هو قولكم سماحة الشَّيخ محمَّد، يعطيكم العافية.
الجواب:
هو كذلك، ونقولها بكلِّ ثقة: لا يوجد عندنا أيّ كتاب صحيح بتمامه؛ لأنَّا سنبحث عن كلّ روايةٍ روايه بضوابط كثيرة ودقيقة قد ذُكِرت هذه الظوابط في عدد من العلوم، وعندها سنحكم بردّ هذه الرِّواية أو تلك بلا تردُّد.. ولذا سنبحثها على المستوى السَّنديّ، والمستوى الدّلاليّ -المعنى والمضمون-، والمستوى الحديثيّ من حيث مقارنة المضمون للكتاب والرِّوايات الأخرى.. هذا طبعاً بعد الفراغ عن فهم الرِّواية بدقَّة.
سؤال الشَّابّ:
عفواً سماحة الشَّيخ، أيضاً أزيد على علماء الإمامية مَن ضعف روايات الكافي هو الشَّيخ يوسف البحرانيّ (جامع المقال: ١٩٣). وقد ذكر ذلك أيضاً: الشَّيخ يوسف البحرانيّ (ت ١١٨٦هـ) في لؤلؤة البحرين (ص ٣٩٤).
الجواب:
أعلم بهذا وأعرضت عن ذكره كي لا نتشعب في الردّ. والكلام الَّذي ذكرته في الوقفة مع العلَّامة المجلسيّ يجري في كلام العلَّامة البحراني رضوان الله تعالى عليهم أجمعين(7).
تعليق الشَّابّ:
تعليقكم على هذا الأمر واضح وضوح الشَّمس، نشكر جهودكم، ولكم منّا جزيل الشكر والتقدير.
السُّؤال الرَّابع: اختراق الكتب الرِّوائية من الغلاة وأمثالهم
سؤال الشَّابّ:
أرى أنَّ كتب الشِّيعة الأربعة المعتمَدة تمَّ اختراقها بواسطة الغلاة، ودسُّوا أحاديث كثيرة مكذوبة على الأئمَّةiكما في الرِّوايات التِّي عن أبي الخطَّاب.
أنا أعلم شيخنا أنَّ أغلب الشِّيعة لا يؤمنون بهذا الكلام، لكن للأسف موجود في كتبنا، وهذا الكلام لا يمكن للمسلِم المنصِف أن يمرّ به مرور الكرام. فمن أين جاءت هذه الأحاديث؟ لماذا هي في كتبنا؟ هل قال الإمام هذا الكلام؟ هل زنادقة أهل الكوفة استطاعت دسّ هذه الأكاذيب الكثيرة في كتبنا؟
من حقِّ المسلم الشِّيعيّ الباحث للحقيقة أن يطرح هذه التَّساؤلات شيخنا، وسامحني إذا قاعد أزعجك، بس أنا مرتاح قاعد أكلّمك.
الجواب:
عزيزي أستاذ... من حقِّك أن تسأل، فعلماؤنا المدافِعون عن الدِّين والمذهب لم يتركوا أيّ تساؤل أو شبهة إلَّا وأجابوا عليها بإجابات مفصَّلة ومتعدِّدة، ولذا فنحن مطالَبون عقلاً وشرعاً أن نسأل كيلا يبقى أيّ تساؤل عالق فلا نبقى فريسة للمنحرِفين، ودواء العيّ السؤال كما في الخبر.
أمَّا بالنسبة إلى سؤالك فأختصره بإعادة صياغته، وهي أنَّ كتبنا الأربعة تمَّ اختراقها من قبل الغلاة والوضّاعين -لعنهم الله- وتأثّر بالتَّالي علماؤنا بهذا الوضع، وثمّت روايات في الوضع كما ورد من ذمٍّ شديد لأبي الخطّاب من قِبل الأئمَّةi والحال أنّا نجد رواياته -كما في مسألة وقت صلاة العشائَين- وروايات أمثاله في كتبنا.
وهنا أقول:
أوَّلاً: أبو الخطّاب هو زعيم فرقة مغالية منحرِفة عن خطّ أهل البيتi اتخذوا أسلوباً لنشر عقائدهم بنسبتها إلى أهل البيتi، فيكذبون في الرِّوايات ويضعونها باسم أهل البيتi خصوصاً الصَّادقَينh؛ لأنَّ هذه الفرقة كانت معاصرة للإمام الصَّادقg، ولذا كان التصدّي من الإمام واضحاً إليهم كما تصدّى لغيرهم، وكان يحذِّر من تداول رواياتهم، بل حتى مجالستهم ومصافحتهم. وأشدّ من هذا هو صدور اللَّعن من الإمامg لأبي الخطّاب، وهذا يعني مقاطعته وأتباعه. وقد ورد توصيف من الإمامg لأبي الخطَّاب: بأنّه أحمق كان يحدّثه الإمامg ولا يحفظ شيئاً، فيزيد من عنده. وكذا فقد وصفه بأنّه شيطان.
ثانياً: ما ورد على لسان الإمامg بأنّ أبا الخطّاب خوّفه قائماً وقاعداً؛ ذلك لأنّ أبا الخطّابW قد ادعى الألوهيّة إلى الإمام الصّادقg فأخافه من الله تعالى.
ثالثاً: مع الذمّ الشديد من الإمامg واللَّعن والتَّكذيب لأبي الخطّاب، فإنّه لا يمكن الأخذ عنه أبداً ولو افترضنا وجود رواية وقع الخطّاب في سندها فإنّها تكون مردودة بلا شكّ ولا ريب في أيّ كتاب وقعت ولا تردّد عندنا في ردّها.
رابعاً: أبو الخطَّاب كان من أصحاب الإمام الصَّادقg قبل انحرافه وحدّث عنه روايات قد ضبطت لا زيادة ولا كذب فيها عن الإمام... وفيه وأمثاله تتعامل الطَّائفة مع رواياته الَّتي كان يرويها حال استقامته -أي قبل انحرافه- وتترك الرِّوايات الَّتي رواها بعد انحرافه، بل حتى الرِّوايات الَّتي رواها قبل انحرافه ونعلم بكذبه فيها.
هذا ما ذكره علماؤنا في موارد عديدة، منها ما ورد عن الشَّيخ الطُّوسيّ في حديثه عن أبي الخطَّاب: "عملت الطَّائفة بما رواه أبو الخطَّاب محمَّد بن أبي زينب في حال استقامته، وتركوا ما رواه في حال تخليطه"(8).
ولم يكن أبو الخطَّاب أوَّل من تتعامل معه الطائفة بهذا التعامل بأمرٍ من المعصومينi، بل كان هذا التَّعامل مع غيرهم أيضاً كما ورد في شأن بني فضّال المنحرِفين، فقد سُئل الإمامg عن الرِّوايات الَّتي كانوا يروونها وكانت البيوت مملوءة من كتب بني فضّال -كونهم من الوجوه البارزة آنذاك وكتبهم منتشرة بكثرة- فأجابهم الإمامg: >خذوا ما روَوا، وذروا ما رأَوا<(9)، يعني: اعتمدوا على رواياتهم، لأنَّها صدرت عن المعصومين واتركوا ما يعتقدون به لأنَّه ضلال.
وعلى هذا يتَّضح أنّ الرِّوايات الموجودة في كتبنا عن مثل هؤلاء المنحرِفين ليست مدسوسة أبداً، بل هي روايات أُخذت عنهم عندما كانوا مستقيمين.. ولما انحرفوا هجرهم الأصحاب وتركوا الرِّواية عنهم، بل وتركوا من يروي عنهم أيضاً(10).
الشَّابّ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الفاضل... شكراً جزيلاً لجهودكم، وسامحنا على الإزعاج. مع السلامة.
التعليق: بخدمتكم وحياكم الله ووفقكم لكلّ خير وعافية(11).
(1) كان الحوار بين تاريخ ٢٤-١٠-٢٠٢١م واستمر إلى تاريخ ٩-١-٢٠٢٢م. وكان الحوار بالمراسلات لأنّها كانت فترة ابتلاء العالم بجائحة (كرونا)، فلم تتيسر الالتقاءات إلَّا القليل مع رعاية الاحترازات الطِّبِّيَّة اللَّازمة.
(2) لم يعتمد كلّ المصنفين هذه الطريقة فمثل الشَّيخ الصَّدوق في (من لا يحضره الفقيه) يقطع السند ويحيل إلى المشيخة، فيذكر اسم صاحب الكتاب الَّذي أخذ الرِّواية عنه ثم في المشيخة يذكر طريقه إلى الكتاب، وإن لم يكن صاحب كتاب ذكر اسمه وأشار في المشيخة إلى الطَّريق الموصل إليه ، وما لم يُذكر له سند حتَّى في المشيخة عمد المجلسيّ الأوَّل إلى تخريجه في شرحه (روضة المتَّقين)، بحيث لم تبقى رواية إلَّا وعُلم مصدرها، نعم يأتي الكلام لاحقاً في تقييم المصدر والطريق، وهذا هو دور المحقِّقين من العلماء.
(3) كان الغرض من طلب المصادر هو معرفة مقدار متابعة السَّائل للمصادر، ومن أين يأخذ معلوماته.
(4) ٢٨-١٠-٢٠٢١م.
(5) بصائر الدَّرجات، الصَّفَّار، ص٥٥٨، باب ٢٢، ح٤.
(6) ٢٩/١٠/٢٠٢١م.
(7) [ما ذكره المحدِّث البحرانيّ في اللُّؤلوة إنَّما هو نقلاً عن بعضهم، ومن المعروف من منهج البحرانيّ أنَّه يرى صحَّة الكتب الأربعة بل حتى غيرها، ولا يعترف بالمصطلح الجديد في وصف الرِّوايات بالضَّعيفة، فهو يرى (إجمالاً) صحَّة كلّ روايات الكافي] (أسرة المجلَّة)
(8) العدَّة في أصول الفقه، الطُّوسيّ، ج١، ص١٥١.
(9) من لا يحضره الفقيه، الصَّدوق، ج٤، ص٥٤٢.
(10) ٣٠-١٢-٢٠٢١م.
(11) فرغت من مراجعته يوم الأربعاء، ٢١-١٢-٢٠٢٢م، في قم المقدّسة.
0 التعليق
ارسال التعليق