في عصر قد تكالب فيه الأعداء لطمس معالم الدين ومحو آثاره لإطفاء نور الله في أرضه وإعلاء كلمة الكفر والإلحاد، وطغت فيه المادة على المعنى حتى صارت ربّاً من دون الله يُعبد، وصنما مقدّسا له يُسجد، ونُعت عابده، وذُمَّ نابذه. في هذا العصر، وتحت ظل هذه المعركة يبرز من يتصدى لحمل راية الحقّ جلّ اسمه، ومن يبذل نفسه لتعليم الجهّال، وإرشاد الضال، وإقامة دين الله و شرائع أحكامه.
طالب العلم عنوان مقدّس في نفسه، قد يتلبّس به غير أهله فيختلط بالسمين الغث، وبذي الجودة الرث، ولتشخيص السليم من السقيم ومعرفة الظروف والآليات التي من خلالها ننتهي إلى الطالب الذي يُرضي الله ورسوله ووليّه، يدور الحديث مع سماحة الشيخ محمد صنقور في عدّة أسئلة ترتبط بهذا الجانب.
وقبل الشروع، يجدر بنا أن ننوه بأن هذا الحوار كان مع سماحة الشيخ بشكل كتبي لا تحدّثي، مما فوّت علينا فرصة الاستفادة من سماحة الشيخ أكثر فأكثر، هذا مع كثرة مشاغله وثقل كاهله، مما أدى إلى تقليص مساحة الأسئلة، فنشكره على تفضله وإتاحة هذه الفرصة الثمينة، ونرجو له مزيدا من التوفيق والسداد، في خدمة العباد والبلاد.
في مرحلة ما قبل اتخاذ قرار التعنون بعنوان طالب العلم، يكون الفرد في مقام طرح الحسابات و المعادلات ليستخلص نتيجة معينة وهي إمّا أن تكون تصميما على طلب العلم أو بالعدول عنه نحو الخيارات الأخرى..
● نريد أن نعرف في البداية ما هي المميزات والمؤهلات التي ما إن توفرت في الفرد، أصبح مؤهّلاً لطلب العلم؟
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد
■ إذا أردنا الوقوف على ما ينبغي أن يكون عليه الفرد ليكون مؤهّلاً للتصدي لطلب العلم فلا بد من ملاحظة ذلك من ثلاثة محاور:
الأول يرتبط بالبعد النّفسي والثاني يرتبط بالاستعداد الذهني والثالث يتّصل بالبعد الاجتماعي.
أما البعد الأول، فله اتّصال وثيق باستقامة طالب العلم وتوازنه.
والبعد الثاني، يتحدّد به المستقبل العلمي لطالب العلم.
وأما البعد الثالث، فيُساهم في تأهُّل طالب العلم للتبليغ والوعظ وتربية المجتمع.
وقبل أن أقف معكم على هذه المحاور أو الأبعاد الثلاثة أودُّ أن أؤكّد على أن ما سأذكره لا يعبِّر عن اتصافي بما سأسوقه من حديث، فأنا مثال لقول الشاعر:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ
أما المحور الأول: والذي يتصل بالبعد النفسي فيمكن إجمال المؤهّلات المتّصلة بهذا البعد في عنوان الاستعداد الذاتي، ولهذا العنوان مجموعة من المقوِّمات:
المقوِّم الأول: هو اتّزان النفس واستقامة السليقة وعدم الابتلاء بالعُقَد أو مركّبات النقص، إذ أنَّ لذلك أثراً سيئاً على الذات لا يكاد يواريه العلم والتنسُّك.
المقوِّم الثاني: طهارة الروح وعدم الابتلاء بمعصية من المعاصي الكبيرة، إذ أن لذلك انعكاسات نفسية تلقي بظلالها القاتم على الذات حتى في المراحل الأخيرة من العمر.
المقوِّم الثالث: استعداد النفس وتأهلها للاشتمال على ملكات خاصة من قبيل سعة الصدر والصبر والشجاعة الأدبية والتأنِّي والتروِّي والقدرة على التركيز بل ومجموع المكارم والأخلاق الفاضلة، فما لم تكن النفس مؤهلة للاشتمال على هذه الملكات فإن التهذيب والتعلم لن يُجدي معها نفعاً.
المقوِّم الرابع: علوُّ الهِمَّة والطموح الرحيب، فكلما تسامت النفس في طموحها وتعالت همَّتها كلَّما كانت أكثر استعداداً لتلقي المعارف وأكثر استجابة للتعاطي والتفاعل معها، فهي في نهم وظمأ دائم، فكلَّّما ارتوت ظمئت.
عندما لا تكون النفس كذلك فإنها لن تكون مؤهلة للتصدي لطلب العلم، إذ أنّها لن تقوى على متابعة الطريق، فالنفس الخائرة والمتبلِّدة تُربكها الصعوبات ويحول بينها وبين الاستمرار الضجرُ والسأَمُ، فهي منحلة القوى خائرة العزم تأنس بالصوارف وتُطربها الشواغل ويبرمها الجدُّ فليس من شيء أشقَّ عليها من التحصيل والبحث والمطالعة.
وأمّا المحور الثاني: والذي يرتبط بالاستعداد الذهني فمقوِّمه الأساسي هو جودة الفهم والقدرة المتميزة على الاستيعاب، فما لم يكُن المتصدي لطلب العلم واجداً لهذه الملكة فإن مآل جهده وعنائه إلى غير نتيجة، ذلك لأن المعارف الدينية متشعّبة وذاتُ تفاصيلَ واسعة وهي من الدقة والعمق بمستوىً، تتصاغر دونها الكثير من العلوم والمعارف، فالأجدر بمن يحترم نفسه أن لا يزجَّ بها في هذا الطريق الشائك ما لم يكن واجداً للملكة التي تؤهله لمتابعة هذا الطريق.
وأما المحور الثالث: والذي يتصل بالبعد الاجتماعي فأرى أنه الذي ينبغي أن يكون عليه المريد للتصدي لطلب العلم مجموعة أمور:
الأول: أن لا يكون مشتهراً قبل التصدي لطلب العلم بالمعصية، إذ أن ذلك سوف يحول دون قبول وعظه وإرشاده بل إن دخوله في هذا السلك حتى بعد توبته موجب لتوهينه.
الثاني: أن لا يكون متَّصفاً قبل التصدي لطلب العلم بسوء الخلق البيِّن.
الثالث: أن لا يكون ضعيف الشخصية في الوسط الاجتماعي فإن انعكاسات ذلك اجتماعياً ستظلَّ ماثلة حتى بعد تصديه لطلب العلم وهو ما سيؤثر في قدرته على التأثير.
● الشروط والمؤهلات التي تفضلتم بها، هل يكفي اجتماع بعضها للتأهيل أم لا بد من اجتماعها كلها؟
■ أرى من اللازم توفُّر طالب العلم عليها جميعاً.
● من الذي يحدد ويشخص صلاح طلب العلم لفلان أو لغيره، نفس الشخص أم أحد غيره؟
■ المناسب هو أن يساهم في تشخيص ذلك أهل الخبرة في هذا المجال إذ أن كثيراً ما يغفل الإنسان عن ذاته واستعداداته على أن المريد للتصدي لطلب العلم غالباً ما يكون جاهلاً بطبيعة هذا الطريق ومقتضياته وتبعاته.
● ما هي السلبيات التي يمكن أن تنتج عن دخول غير المؤهل هذا المجال؟
■ السلبيات تختلف في طبيعتها باختلاف العناصر المفقودة في الشخصية المبتغية للتصدي لطلب العلم، إلاّ أنها جميعاً تشترك في تأثيرها السيئ على العمل الديني التبليغي، وإن كانت تتفاوت في ذلك فقد يساهم تصدي غير المؤهل في إضعاف هذا الخط وهو ما ينتج الإضعاف من العمل التبليغي، وقد يساهم في إرباكه وهو ما ينتج التأخير في عملية البناء الاجتماعي على أساس ديني، وهكذا.
ولا بأس من نقل هذه الرواية الواردة عن أبي عبد الله (ع)، قال: (أوحى الله إلى داوود (ع): لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فإنّ أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم)(1).
● من المهم بعد اتخاذ القرار معرفة الهدف من طلب العلم، فما هي الغاية من طلب العلم سماحة الشيخ؟
■ يمكن تلخيص الغاية من طلب العلم في أمرين:
الأول: تمكين النفس من التعرف على سبل الوصول إلى الهداية والكمال.
الثاني: المساهمة في هداية الناس والتي هي وظيفة الأنبياء والأولياء، وأرى أن ما روي عن أمير المؤمنين يعُبِّر عن هذه الغاية أبلغ تعبير، لذلك نكتفي بنقلها:
عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(ع): (تعلَّموا العلم فإنَّ تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلَمه صدقه، وهو عند الله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبل الجنة، وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم الخير أئمة يُقتدى بهم، وتُرمق أعمالهم، وتقتبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم، لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف، ويُنزل الله حامله منازل الأبرار ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة. بالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف الله ويُوّحد وبالعلم توصل الأرحام وبه يُعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل والعقل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء)(2).
● في بدايات طلب العلم بالنسبة للطالب الجديد يكون الحماس في أوجه، والرغبة في التحصيل في أعلى مستوياتها، ولكن من الملاحظ تراجع هذا المستوى من الطلب بعد حين عند الكثيرين. نريد معرفة السبب وعلاجه؟
■ إذا لم يكن المنشأ لذلك عارضاً فالسبب هو افتقاره للاستعداد الذي فصًّلناه في الجواب الأول، والعلاج هو أن يحترم نفسه ويلتمس طريقاً آخر لعله يكون نافعاً فيه.
● كما تعلمون سماحتكم أن التيارات عديدة، والمشارب كثيرة ويأتي الطالب من دون موجه ليختار لنفسه تيارا من التيارات، ومشربا من المشارب بما ينسجم ورآه الفكرية والشخصية، ونتيجة ذلك كما هو واضح سلبية جدا، فما هو حل ذلك بنظركم وما الذي ينبغي أن يقال في ذلك؟
■ أرى أن طالب العلم إذا أراد أن يكون منتجاً أن يشتغل في مرحلة الدراسة بأمرين لا ثالث لهما:
الأول هو تزكية نفسه والثاني هو تنمية مستواه العلمي، والاشتغال بغير ذلك سوف يحول دون وصوله لغايته على أنه سيجد نفسه مكبلاً بمتبنيات كان قد تبناها على غير دراية وحينئذٍ يصعب عليه التخلِّي عنها، وقد تساهم في تأطيره وتلوينه اجتماعياً بلون خاص وهو ما قد يمنع من قدرته على التأثير، هذا مضافاً إلى أن الانخراط في هذا الاتجاه أو ذاك يجعل من شخصية الطالب شخصية تصنيفية ــ إذا صح التعبيرــ تُمايز بين الناس على أساس فئوي ويشغلها أن يتبنى الآخرون ما يتبناه التيار الذي تنتمي إليه ويسوؤها أن لا يكونوا كذلك حتى وإن كانوا صالحين، تستشعر التعاطف والحب مع كل من يتبنى خطها وإن لم يكونوا أسوياء، وتستعشر النفور من كل أحد لا يتبنى رؤاها وإنْ كان سوياً صالحاً.
● من أين يأخذ الطالب منهجيته العلمية و العملية، و هل تختلف هذه المنهجية باختلاف الهدف والتخصص؟
■ ثمة وسائل أرى أن التوسل بها يُساهم في نجاح طالب العلم على المستوى العلمي والعملي.
الأول: الإكثار من قراءة كتب الحديث خصوصاً المتصدي منها للوعظ والحكمة، والسعي من أجل تمثُّلِها.
الثاني: الحرص على ملاحقة تجارب العلماء الذين عُرفوا بإنجازاتهم العلمية أو الاجتماعية.
الثالث: قراءة سير الصالحين من العلماء وغيرهم.
الرابع: استشارة ذوي الخبرة في كيفية التحصيل وفي ترتيب الأولويات، فإن ذلك سوف يوفِّر على الطالب الكثير من الجهد والوقت.
بنظري أنّّه على الطالب إذا أراد أن يكون ناجحاً أن يُحدِّد لنفسه مساراً وهدفاً في وقت مبكِّر، ذلك لأن العلوم متشعبة وواسعة والعمر قصير والفرصة لا تكون متاحة في كل وقت.
● نريد أن تشيروا إلى المشاكل و الأمراض الروحية و الخلقية التي من الممكن أن تصيب الطالب ليكون منها على حذر.
■ أرى أن أقرب الأمراض إلى طالب العلم وأكثرها استعصاءً وخطورة هي ثلاثة:
الأول: العجب بالنفس.
الثاني: الحسد.
الثالث: الضجر والسأم.
ويكفي لهلاك طالب العلم وانسلاب التوفيق عنه أن يتمكَّن واحدٌ من هذه الأمراض من نفسه.
● كلمة أخيرة تودون من خلالها تنوير الطلبة لا سيما الجدد منهم.
■ تذكروا أيها الأخوة الأعزاء أن أقصر الطرق الموصلة للنجاح وأنجعها هو التوفيق الإلهي فاجتهدوا في تحصيل أسبابه ومقتضياته الدعاء وصفاء النفس واجتناب المعصية وقضاء حوائج المؤمنين والتوسُّل بأهل البيت (ع) وهو أسرعها أثراً.
أرى أن أختم حديثي معكم بروايتين وردتا عن أبي عبد الله (ع) قال: (طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم:
صنفٌ يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبُه للاستطالة والختل وصنف يطلبه للفقه والعقل. فصاحب الجهل والمراء مؤذٍ ممارٍ مُتعرِّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلَّى من الورع، فدقّ الله عن هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والختل ذو خِبٍّ وملق، يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم هاضم ولدينهم حاطم فأعمى الله على هذا خُبره وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنّك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجِلاً داعياً مُشفِقاً مُقبِلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق إخوانه فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه)(3).
عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: كان أمير المؤمنين (ع) يقول: (يا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة ورجله زيارة العلماء، وهمّته السلامة، وحكمته الورع، ومستقرُّه النجاة وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا وقوسه المدارة، وجيشه مجاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب وزاده المعروف ومأواه الموادعة، ووليه الهدى، ورفيقه محبة الأخيار).
والحمد الله رب العالمين
* الهوامش:
1 ــ الكافي 1: 46، باب المستأكل بعلم.
2 ــ بحار الأنوار 1: 166.
3 ــ الكافي 1: 49.
0 التعليق
ارسال التعليق