حكومة العلماء بالله.. ولاية الفقيه العادل في ضمن خطبة للسبط الشهيد الحسين(ع)

حكومة العلماء بالله.. ولاية الفقيه العادل في ضمن خطبة للسبط الشهيد الحسين(ع)

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله وسلّم على محمّد وآله.

كانت -ولا تزال- قضية ولاية الفقيه مسرحاً لأنظار العلماء ومن جهات عديدة، -وقبل أن نأخذ فيما هو المقصود لنا من بحثٍ- نستعرض جملة أمور:

أولاً: الفقيه المبحوث عن ثبوت الولاية له بأي مستوى من المستويات هو خصوص الفقيه الجامع لشرائط الفتوى لا مطلق الفقيه.

ثانياً: لا شبهة في ثبوت جملة مناصب لهذا الفقيه:

أحدها: الإفتاء في المسائل الفرعية والموضوعات المستنبطة وغيرهما مما يحتاج إليه العامِّي في عمله، ولا إشكال في جواز الإفتاء له في تلك الموارد، وليس المراد من الجواز هنا الجواز التكليفي، بل الجواز الوضعي، ففتوى الفقيه نافذة على مقلِّديه ومن يجب عليه الرجوع إلى العالم، وأمَّا الجواز التكليفي-بمعزلٍ عن الجواز الوضعي- فمن الواضحات أنه لا يشترط فيه العدالة وسائر الشرائط المعتبرة في المرجِع. هذا ولا فرق بين الأحكام الأوَّليَّة والثانوية في نفوذ فتوى الفقيه بموجبها في حق من يرجع إليه.

ثانيها: القضاء والحكم بما يراه حقّاً في باب المرافعات وكذا في غيرها في الجملة، فلا خلاف -فتوىً ونصّاً- في جواز ذلك، والمراد بالجواز هنا أيضاً هو الجواز الوضعي والنفوذ، هذا ونفوذ ولاية القضاء للفقيه نفوذٌ مطلق، فلا يجوز لأحدٍ ردُّ حكمه ولو كان فقيهاً.

ثالثها: الإلزام من جانبه بأمرٍ ما، وهو ما يعرف بحكم الحاكم، وفي الجواهر: إنه «مما يمكن تحصيل الإجماع عليه»، وأضاف معرِّضاً بسيد المدارك: «فما صدر من بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك مما لا ينبغي الالتفات إليه»(1)، وبموجب هذا المنصب وهذه الولاية فللحاكم أن يُنشئ حكماً من جانبه، وحكمه هنا من مقولة الإنشاء، وهو فعل الحاكم نفسه، بخلاف فتوى الفقيه فإنها من مقولة الإخبار بالحكم الصادر عن الله سبحانه. والخلاف -وإن كان قائماً- في لزوم اتِّباع حكم الحاكم من قبل غير مقلديه، إلا أنه لا خلاف في أنه لا يجوز لأحدٍ-ولو كان مجتهداً- أن ينقض حكمه إلا إذا تبيَّن خطؤه، ومخالفته لما ثبت قطعاً من الكتاب والسنَّة.

رابعها: الولاية في الأمور الحِسبية، وهي الأمور التي تكون مطلوبيتها قطعيةً في نظر الشرع أو العقل، ولم تُجعل وظيفةً لمعيَّنٍ واحدٍ أو جماعةٍ، ولم تُجعل لواحدٍ لا بعينه، بل عُلمت لابديَّة الإتيان بها أو الإذن فيه، ولم يعلم المأمور بها ولا المأذون فيها، بلا فرقٍ بين أن يكون الأصل الجاري فيها هو المنع، كما في التصرُّف في أموال الآخرين، أو يكون الأصل الجاري فيها هو الجواز كالصلاة على ميِّتٍ لا ولي له(2).

ثالثاً: ثمَّة ولايات ومناصب اختُلف في ثبوتها للفقيه الجامع لشرائط الفتوى، منها الولاية المطلقة في التصرُّف في الأموال والأنفس، بعد اتفاقهم على ثبوتها في الأموال في الجملة، كولايته على أموال بعض القاصرين كاليتيم الذي لا وليَّ ولا قيِّم له، على غرار ولاية الأب والجد للأب على الصبي، ومنها ولاية الزعامة، أي الولاية بحق الزعامة، فهل للفقيه الزعيم- بمقتضى زعامته العامَّة على البلد المسلم- أن يتصرَّف في مطلق الأمور الاجتماعية اقتصاديةً وثقافيةً وسياسيةً ودفاعيةً وغير ذلك، كل ذلك وفق المصلحة أم أن ولاية هذه الأمور محدودة؟(3) ومنها ولاية إقامة الدولة.

رابعاً: -مما تقدَّم في الأمر الثالث- ينقدح أن إطلاق الولاية أو محدوديتها أمران إضافيان يختلفان باختلاف ما يضافان إليه، فربَّ قائلٍ بإطلاقها في موردٍ، وهو يرى محدوديتها في آخر. نعم من الوهم تفسير الولاية المطلقة بحرية الفقيه المطلقة ومحوريته في القانون (التشريع) والعمل(التنفيذ) مما يؤذن بدكتاتوريته(4).

خامساً: لدى الشك في ولاية أيِّ أحدٍ على غيره أو في حدودها فإن الأصل يقتضي عدمها، فلا تنفذ-والحال هذه- التصرفات في سلطان الآخرين(5). إذن ما لم يقم دليل فمقتضى الأصل العملي هو العدم.

وبعد كل ما تقدَّم نقول-إن مما استُدل به على ولاية الفقيه العامَّة هو ما أرسله الشيخ الجليل أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحرَّاني(ره) في كتابه «تحف العقول عن آل الرسول(ص)» عن سيد الشهداء(ع)-وفيها-: «..مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه..»(6)، وقد ادُّعي أنه واضحٌ في كون كل أمرٍ من أمور المسلمين جارياً على أيدي أولئك العلماء، فهم المرجع للمسلمين لا في خصوص الأحكام، بل في مجمل أمورهم، ومن الأمور التي لا تجري إلا على أيديهم الأمور المربوطة بالحكومة الإسلامية، فبموجب هذه الرواية تثبت للفقيه الجامع ولاية الزعامة الآنف ذكرها، بل له بمقتضاها كل ما ثبت للنبي والوصي إلا ما أخرجه الدليل(7)، وبالجملة فمن له حق الإفتاء فقد جعله هذا المقطع وليَّاً عامَّ الولاية(8).

مناقشات مختلفة:

وقد أُوردت على الاستدلال بهذا المقطع جملة إشكالات، بعضها سندية، وأخرى دلالية.

أولها: إن روايته ضعيفة بالإرسال، ولم يشهد مؤلِّف الكتاب بصحة جميع ما ينقله فيه، بل قال في ديباجته: «وأسقطت الأسانيد تخفيفاً وإيجازاً، وإن كان أكثره لي سماعاً؛ ولأن أكثره آداب وحِكَم تشهد لأنفسها»(9)، ويظهر منه الاكتفاء ببعضها من حيث إن متنه يشهد لنفسه، وهو حدس محض، فإنه لا يمكن التيقُّن بكون تمام المنقول كلام الإمام(ع)، وإن كان المظنون بالنسبة إلى تلك الخطبة البليغة أن أكثرها كلام الإمام (ع)، إلا أن الظن لا يغني من الحق [شيئاً]، بل لا بدَّ من الاستحكام في الأصول والأحكام، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(10) (11).

ثانيها: إن المروي عنه مردد بين أمير المؤمنين وسيد الشهداء(ص)، وهذا الترديد يدل على أن السند غير واضح، ولو كان [رجال] السند كلهم أثباتاً عدولاً لم يكن ترديدٌ في ذلك؛ فإن السهو في كلام أو كلامين غير الترديد بينهما(ص)(12).

ثالثها: -ما في نهج الفقاهة- من إجمال المضمون(13).

رابعها: أن المقطع أجنبي عما نحن بصدده من أمر ولاية الفقيه العادل؛ فإن العلماء بالله غير العلماء بالأحكام الذين هم موضوع البحث(14)، وأن الظاهر منه أن المراد من العلماء بالله ليس إلا الأئمة الأطهار(ع)، وقد استُشهد لذلك بعدة شواهد:

1) إن التوصيف بالعلماء بالله يناسب الأئمة الأطهار(ع)؛ فإنهم أعرف الخلق بالله، ومعرفة غيرهم في جنب معرفتهم بمنزلة العدم، فصحَّ تخصيص المعرفة بالله بهم(ع)(15).

2) إن العالم بالله -بحسب اللغة- كالعالم بالفقه، أي من يدرك الحق بقدر الطاقة البشرية، و«الأمناء على حلاله وحرامه» ظاهر في كون جميع حلاله وحرامه عندهم، وذلك لا ينطبق على غير الإمام(ع)(16).

3) إن من فقرات هذه الرواية ما هو صريح في اختصاص العلماء بمن غُصب حقُّه؛ لتفرُّق الناس عن الحق واختلافهم في السنَّة بعد تمام الحجَّة ووضوح البيِّنة، ومن المعلوم اختصاصه بالأئمة، وذلك مثل قوله(ع): «أنتم أعظم الناس مصيبةً لما غلبتم عليه من منازل العلماء»، وقوله: «فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا»؛ لأن تنازعهم كان في المنزلة المغلوبة للعلماء، فلا بدَّ أن يكون المراد منها الخلافة؛ لأنها المتنازع فيها بينهم وبين أعدائهم، فيكون المراد من العلماء أنفسَهم(ع)، وقوله: «اللهم إنك..» وغير ذلك...(17).

4) أنه لو فرضنا أن المراد بالعلماء بالله هم الفقهاء فقوله(ع): «الأمناء على حلاله وحرامه» قرينة على أن مجاري الأمور من حيث الأحكام والحلِّية والحرمة بيد الفقيه؛ إذ لو لم يبيِّن حلِّية بعض الأفعال وحرمة بعضها الآخر لتوقفت الأمور وتحيَّر الناس لعدم العلم بحكمه، فالمقطع لا يدل على الولاية المطلقة بوجهٍ، وإنما يدل على أن للفقيه أن يبيِّن الحلال والحرام، وأما نفوذ تصرُّفاته في الأموال والأنفس فلا(18).

إن الظاهر كون (مجاري) جمع مجرى-اسم مكان، لا مصدر ميمي، يعني محالَّ جريان الأمور والأحكام، والمراد منها المصالح والمفاسد والمدارك الناشئة والجارية منها الحكام جريان الماء من المنبع، ومن المعلوم أنها بيدهم(ع) بمعنى أنها لا يعرفها غيرهم أصلاً(19).

خامسها: إن هذا المقطع واردٌ في ضمن حديث طويل لا يخلو متنه من ضعف واضطراب(20)؛ فإن آخر الخبر: «اللهم إنك تعلم... فيأمن المظلومون من عبادك» من صدر الخطبة131 من نهج البلاغة، وأوله أمور أخرى غير مربوطةٍ بصدر تلك الخطبة، وذلك مما يوجب سوء الظن بذلك(21).

نصُّ الخطبة:

وقبل أن نأخذ في معالجة هذه المناقشات-ننقل الخطبة بطولها؛ ليسهل تفهُّم المناقشة الأخيرة ولمآرب أخرى ستظهر إن شاء الله، وقد وزَّعتها إلى أربع قطع ـ كما سترىـ يحكم كل قطعةٍ سياق واحد، وتجمع هذه القطع وحدة جامعة، فالقطعة الأولى تتحدَّث عن الوظيفة الكبرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وخطورتها، والقطعة الثانية تناولت العلماء وكرامتهم على الله وعند الناس ووظائفهم، ومنها وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقطعة الثالثة-وفيها مقطع الاستدلال على موضوعنا- قد انصبَّت على واقع الحكومة والولاية آنذاك، وأنه مَن الحقيق بها وقد سلبت منه، وأسباب ذلك كلِّه، وأما القطعة الأخيرة فإنها تحدَّثت عن مبرِّرات المناوشة القائمة آنذاك مع الولاة المتسلطين ودواعيها(22).

قال في تحف العقول: «وروي عن الإمام التقي السبط الشهيد أبي عبد الله(ع) في طوال هذه المعاني(من كلامه(ع)):

*(في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويروى عن أمير المؤمنين(ع))* [القطعة الأولى] اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ}(23) وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(24)، وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون والله يقول: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}(25)، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(26)، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها؛ وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.

[القطعة الثانية]ثم أنتم أيتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة(بهيئة) الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله؟! وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله، أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها، ومن يعرف بالله لا تُكْرِمُون، وأنتم بالله في عباده تُكْرَمُون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله(ص) محقورة (مخفورة)، والعُمْي والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعينون (تعنون)، وبالادهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.

[القطعة الثالثة]وأنتم أعظم الناس مصيبةً لما غُلِبْتُم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (يسعون)، ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم تَرِد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستَبعد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم (بآرائكم)، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداءً بالأشرار، وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقِع (مسقع)، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خَوَل لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضَّعَفَة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد، فيا عجبا ومالي [لا] أعجب والأرض من غاشٍّ غشوم، ومتصدق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

[القطعة الرابعة] اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان، ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قَوِيَ الظَّلَمَةُ عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم، وحسبنا الله، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير(27).

معالجة المناقشات:

* أما المناقشتان الأوّلتان فيمكن تجاوزهما بعد الالتفات إلى بلاغة تلك الرواية ـ كما اعترف بها المناقش(28)ـ وإلى موافقة متنها للاعتبار والعقل(29)؛ إذ أنها ـ كما يقول أحد النابهين(قده)ـ مشتملة على المسائل الراقية الموافقة لأفكار الراشدين من علماء الإسلام، -وأضاف بأنه- يُستبعَد أن يكون فقيه في ذلك العصر يتمكن من تأسيس هذا البرنامج السياسي المشتمل على شتى الجهات(30)، وهذا يدلل على صحة صدورها عن المعصوم(ع)(31)، سواءً أكان الأمير أو السبط الشهيد أو غيرهما•، كما أنه لو ادعى مدَّعٍ أن فقرة (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) من جملة ما يُطمئَن بصدوره من المعصوم(ع)- فلا أراه مجازفاً؛ إذ ليست هذه الفقرة نشازاً في موضعها من الخطبة، بل جاءت متسقةً مع ما قبلها، واتسقت مع ما بعدها واتسق ما بعدها عليها، حيث إن فقرات القطعة الثالثة بطولها تعكس أن منزلةً من منازل العلماء قد سُلبت منهم وغُلبوا عليها، فتمكن منها الظلَمة الجبَّارون، بينما فقرة الاستدلال تضيِّق موضوع هذه المنزلة، فتجعلها لخصوص الفقهاء العدول.

* وأما المناقشة الثالثة فلعل منظور المناقش من الإجمال في المقطع المستدَل به- إجمال كلمة (العلماء بالله) وتردُّد المراد منها بين الأئمة الأطهار(ع) وبين الفقهاء، وهذا ما سنعمل على معالجته وبيانه فعلاً.

* وأما المناقشة الرابعة فالعمل على معالجتها واستخلاص أن المراد بالعلماء هم الفقهاء دون الأئمة(ع) يكون تارةً مع قصر النظر على الفقرة (مجاري الأمور..) وما تحمله من قرائن، وتارةً أخرى بالالتفات إلى القرائن في سائر الفقرات.

العلاج الأول: إن جعل الذات المقدّسة متعلّقاً لعلم أولئك العلماء لا يعيِّنهم في الأئمة الأطهار(ع)؛ وذلك لأن العلم به سبحانه لمَّا كان نتاج العلم بآياته فلا يختصُّون(ع) به، وإن كانوا(ع)أعلم الناس بالله سبحانه، ومما يشهد لكون العلم بالله من نتاج العلم بآياته سياق قوله سبحانه{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فإن المراد من العلماء في الآية بمقتضى ظاهرها هم العلماء بالله سبحانه، وسياقها يتضمن آيات الله في نظام التكوين، والعلم بهذه الآيات التكوينية يوجب العلم بقدرته وسطوته، وهذا بدوره يولِّد الخشية منه سبحانه قهراً. وفي الدعاء الثاني والخمسين من الصحيفة السجَّاديِّة يقول(ع): «سبحانك أخشى خلقك لك أعلمهم بك، وأخضعهم لك أعملهم بطاعتك»، وهذا المقطع واضح في التفاته إلى الآية المزبورة، فالعالم بالله يخشاه، ومن يخشاه يعمل بطاعته، والأئمة الأطهار(ع) لمَّا كانوا أعلم العباد بالله فهم الأكثر خشيةً منه سبحانه، وهم الأعمل بطاعته. إذن فالعلم بالله ينتج خشيته وملازمة العمل بتكاليفه، فالرواية -في محصَّلتها- تعتبر في مَن على أيديهم مجاري الأمور والأحكام أن يتوفَّروا على تقوى الله، فهي تشترط العدالة في من له هذا المنصب الخطير.

ومن هذا يتضح النظر في الشاهد الأول، فإن فقرة الاستدلال ليست بهذا النحو: مجاري الأمور والأحكام علي أيدي مَن هم أعلم بالله، حتى يتوجَّه ما ذكر في هذا الشاهد.

وأما ما استشهد به ثانياً من أن العلم بالله-بحسب اللغة- كالعالم بالفقه أي من يدرك الحق بقدر الطاقة البشرية- فيتوجَّه عليه أنه-لو سُلِّم أنه كذلك لغةً- إلا أن العرف ببابك يقضي بأن من توفَّر على فقهٍ بمقدارٍ معتدٍّ به فهو عالم بالفقه وبلا عنايةٍ أو مسامحة، وإن لم يستوعب بقدر الطاقة البشرية كل شاردةٍ فيه وواردةٍ؛ فإن العرف هو المحكَّم في المحاورات العرفية لا اللغة وأوضاعها.

ولو أن المستشهد فَهِمَ العلم بنفس الذات الإلهية من كلمة (العلماء بالله)، وأن العلم به كذلك لا يقال إلا في حق من يدرك الحق بقدر الطاقة البشرية-فيدفعه ما أسلفناه من أن المراد من العلم بالله العلم بصفاته وجليل أفعاله.

وأما ما ذكره من ظهور (الأمناء على حلاله وحرامه) في كون جميع حلاله وحرامه عندهم -فيردُّه أن الظاهر من كونهم أمناء على الحلال والحرام أنهم لا يكتمون ما يعلمون منهما، وهذه إحدى وظائف العلماء، وإن لم يعلموا بكل الحلال والحرام، على أنه من غير البعيد استفادة المشيرية إلى الفقهاء من هذه الفقرة.

وأما الشاهد الثالث فستعرف الحال فيه مما سنذكره -إن شاء الله- في العلاج بملاحظة سائر الفقرات المعنون بـ(العلاج الثاني).

وأما الشاهد الرابع فيدفعه-مضافاًإلى أن الفقرة ظاهرة في جعل موضوع مجاري الأمور والأحكام من يتوفَّر على العدالة (العلم بالله) والفقاهة (الأمناء على حلاله وحرامه)- ما في صدر الفقرة من عطف الأحكام على الأمور الظاهر في المغايرة بينهما، فمجاري الأمور إلى جانب مجاري الأحكام على أيدي الفقهاء العدول.

وأما ما تضمَّنه الشاهد الأخير من أن كلمة (مجاري الأمور والأحكام) تعني محل جريانهما، ومحل جريان الأحكام عبارة عن المصالح والمفاسد التي تجري منها الأحكام، وهذه لا تكون إلا بأيدي الأئمة الأطهار أي لا يعرفها غيرهم(ع) ـ فيدفعه ـ مضافاً إلى ما في هذا الشاهد من التكلُّف الملفت -أن الظاهر كون (مجاري) مصدراً ميميَّاً بقرينة قوله: (على أيدي)، والمعنى أن جريان وسير الأمور وجريان وسير الأحكام بالإفتاء بها لا يكون إلا بأيدي الفقهاء العدول.

هذا كلُّه فيما يرجع إلى علاج المناقشة الرابعة بشواهدها الأربعة مع قصر النظر على فقرة (مجاري الأمور والأحكام..) مع ما تحمله من قرائن.

العلاج الثاني لاستخلاص أن المراد من العلماء هم الفقهاء لا الأئمة(ع) بالالتفات إلى قرينية سائر فقرات الرواية:

إن ملاحظة الخطبة بقطعها الثلاث الأُوَل يوقفك على أن الحديث كلَّه يدور حول العلماء والفقهاء عامَّةً لا حول الأئمة الأطهار(ع)، سيَّما القطعة الثالثة المتضمِّنة لفقرة الاستدلال، كقولِه(ع) في مطلعها مخاطباً العلماء-الَّذين خاطبهم في مطلع القطعة الثالثة «ثمَّ أنتم أيتها العصابة عصابةٌ بالعلم مشهورة...»-: «وأنتم أعظم الناس مصيبةً لما غلبتم عليه من منازل العلماء..»، وقولِه(ع)-بعد فقرة الاستدلال يخاطبهم-: «فأنتم المسلوبون تلك المنزلة...»، وقوله(ع) لهم: «ولكنكم مكَّنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور الله في أيديهم...»(32). والعجب-بعد هذا- ممن استشهد بمطلع القطعة الثالثة من الخطبة إلى قوله(ع): «وما سلَّمتم ذلك إلا بتفرُّقكم عن الحق...» -على إرادة الأئمة(ع) من فقرة الاستدلال(33).

ويتحصَّل من كلِّ ما تقدَّم أن المراد بالعلماء بالله في فقرة الاستدلال هم الفقهاء العدول.

* وأما ما ذكر في المناقشة الخامسة من أمر اضطراب المتن- فأمرٌ لا نجده فيه، على أن هذه المناقشة ناظرة إلى روايةٍ في «غوالي اللآلي»، لا إلى رواية «تحف العقول»، كما صرَّح بذلك المناقش بقوله: (وفيه-مع ضعف سنده جدَّاً؛ حيث حكي عن عوالي اللآلي روايته مرسلاً في ضمن حديثٍ طويل لا يخلو عن ضعف واضطراب- أنَّه لا يخلو عن إجمال)(34).

وكون أول القطعة الرابعة إلى قوله(ع): «فيأمن المظلومون من عبادك» من صدر الخطبة 131 من نهج البلاغة- فلا يؤثِّر على ظهور وحجية فقرة الاستدلال، بل ولا على القطعة الثالثة المتضمِّنة لها، فضلاً عمَّا قبلها من قِطَع، على أن من المحتمل أن يكون الإمام الحسين(ع) قد ضمَّن خطبته هذا المقطع من خطبة أبيه(ع)، ولعلَّه لهذا المقطع من نهج البلاغة قال ابن شعبة الحرَّاني(ره) في بداية روايته للخطبة: (وروي عن الإمام التقي السبط الشهيد أبي عبد الله(ع) في طوال هذه المعاني: من كلامه(ع) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وروي عن أمير المؤمنين(ع) هذا.

وفي كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني(قده)ما نصُّه: (وفي تحف العقول تحت عنوان «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله» رواية مطوَّلة، القسم الأول منها ينقل الإمام الحسين(ع) عن أبيه أمير المؤمنين ما قاله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقسم الثاني خطاب وجَّهه سيد الشهداء الحسين(ع) إلى الناس في (منى) في شأن الفقيه وواجباته في محاربة الظلَمة ودولهم والقضاء عليها وإحلال الحكومة الإسلامية الشرعية محلَّها..)(35)، وفي كتاب البيع له(قده): (وكرواية تحف العقول عن سيد الشهداء عن أمير المؤمنين(ص)...)(36) إلا أنّا لا نعرف مأخذهما.

فالمتحصّل-بعد ردِّ كل ما تقدّم من مناقشات- صدق الدعوى بوضوح هذه الفقرة من خطبة السبط الشهيد(ع) في جعل الولاية العامّة للفقيه الجامع للشرائط.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله.

 

* الهوامش:

(1) جواهر الكلام 16: 359- 360.

(2) عوائد الأيام: 536- العائدة 54، فقه الشيعة(الاجتهاد والتقليد): 260- 261، الحاكمية في الإسلام: 707.

(3) لاحظ في سعة هذه الولاية كتاب «كلمات سديدة في مسائل جديدة» لآية الله الشيخ محمد المؤمن«سلّمه الله» تحت عنوان(كلمة في مزاحمة إقدام الحكومة الإسلامية لحق الأشخاص) ص9ـ23، وتحت عنوان(كلمة في تنظيم النسل) ص66-69.

(4) وقد ألمح إلى هذا الوهم في ولاية الفقيه (ولاية الفقاهة والعدالة):48 (س81).

(5) المكاسب 3: 545، الحاكمية في الإسلام: 355، 356.

(6) تحف العقول:238، وعنه في الوافي 15: 179 أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المستدرك 17: 315 باب11 من أبواب صفات القاضي ح16.

(7) في كتاب البيع 2: 488 - بعد أدلة ولاية الفقيه- قال: «فتحصّل مما مرَّ ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين(ع) في جميع ما ثبت لهم فيه من جهة كونهم سلطاناً (كذا) على الأمة، ولا بدَّ في الإخراج عن هذه الكلِّية في موردٍ من دلالة دليلٍ دالٍ على اختصاصه بالإمام المعصوم(ع)، بخلاف ما إذا ورد في الأخبار أن الأمر الكذائي للإمام(ع)، أو يأمر الإمام بكذا، وأمثال ذلك فإنه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول بالأدلة المتقدمة.

(8) قال الإمام الخميني(رضوان الله عليه) في كتاب «الحكومة الإسلامية»:144 «ولو لا ضعف سندها لاعتبرناها من أقوى أدلة موضوعنا..»؛ وما ذاك إلا لوضوح الدلالة جدّاً.

(9) تحف العقول(مقدمة المؤلِّف):3.

(10) الإسراء:36.

(11) كتاب الخمس للشيخ مرتضى الحائري: 842.

(12) كتاب الخمس للشيخ مرتضى الحائري: 842.

(13) نهج الفقاهة: 493، ومثله في مصباح المنهاج (التقليد): 202.

(14) نهج الفقاهة: 493، فقه الصادق(ع) (صلاة الجمعة)5: 171.

(15) فقه الشيعة(الاجتهاد والتقليد):259.

(16) كتاب الخمس للشيخ مرتضى الحائري: 844.

(17) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب للشهيدي(البيع2) 3: 252.

(18) التنقيح في شرح المكاسب(البيع2) - موسوعة الإمام الخوئي37: 166، فقه الصادق(صلاة الجمعة)5: 171.

(19) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب للشهيدي(البيع2) 3: 252.

(20) مصباح المنهاج (التقليد): 202.

(21) كتاب الخمس للشيخ مرتضى الحائري: 843.

(22) وللإمام الخميني(رضوان الله عليه) وقفات مهمَّة مع هذه الخطبة، لاحظ كتاب: «الحكومة الإسلامية»:135-147، هذا ولي وطيد أمل في الله الكريم أن يمدني بتوفيقه في مستقبل الأيام لشرح هذه الخطبة الحسينية في محاولةٍ لدرك عالي مضامينها.

(23) سورة المائدة:66.

(24) سورة المائدة:81.

(25) سورة المائدة:47.

(26) سورة التوبة: 72.

(27) تحف العقول:237-239.

(28) كتاب الخمس للشيخ مرتضى الحائري: 842.

(29) كتاب البيع للإمام الخميني(رضوان الله عليه) 2: 651، وقال(ره) -بعد أن صوَّر محل ولاية الفقيه من الإسلام، وأن قوام تشريعاته في زمن الغيبة لا يتم إلا بها-: « فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة(ع) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يعقل الفرق؛ لأن الوالي-أيَّ شخصٍ كان- هو مجري أحكام الشريعة، والمقيم للحدود الإلهية، والآخذ للخراج وسائر الماليات، والمتصرِّف فيها بما هو صلاح المسلمين-إلى أن قال- فولاية الفقيه -بعد تصوُّر أطراف القضية- ليست أمراً نظرياً يحتاج إلى برهان. كتاب البيع2: 626- 627.

(30) ثلاث رسائل (ولاية الفقيه) للسيد مصطفى الخميني(قده): 29.

(31) الحكومة الإسلامية للإمام الخميني(ره): 144، والمصدر السابق.

(32) وقد نقلنا فيما تقدّم عن فقه الصادق(صلاة الجمعة) استظهاره إرادة الأئمة الأطهار(ع) من كلمة العلماء بالله، إلا أنه –في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من فقه الصادق13: 292، وفي(كتاب البيع) منه16: 173- صار إلى كون المراد من العلماء هم الفقهاء، قائلاً في الموضعين: «إن المراد بالعلماء في الخبر غير الأئمة، بقرينة سائر الجملات المتضمنة لتفرُّقهم عن الحق، واختلافهم في السنة، وأن المخاطب فيه هم العلماء الساكتون غير الآمرين بالمعروف وغير العاملين بالوظيفة، وغير ذلك من القرائن. ويدل الحديث على أن مجاري الأمور على أيديهم، ولا معنى لمجاري الأمور في مقابل مجاري الأحكام سوى الأمور المربوطة بالحكومة الإسلامية ـ إلى أن قال ـ وعلى الجملة من تدبّر في الخبر صدراً وذيلاً يظهر له أن مراد الإمام الشهيد (صلوات الله عليه) أن العلماء هم الحكَّام، وأن تشكيل الحكومة من وظائفهم».

(33) مصباح المنهاج(التقليد):202.

(34) مصباح المنهاج(التقليد):202.

(35) الحكومة الإسلامية:132.

(36) كتاب البيع للإمام الخميني(قده) 2: 486.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا