حرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد المرضعة وصاحب اللبن

حرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد المرضعة وصاحب اللبن

المعروف حرمة نكاحه فيهم في الجملة لا لأنّ قاعدة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» تقتضي ذلك؛ فإنّ أقصى ما تقتضيه هو أنّ العنوان النسبيّ المقتضي للتحريم بذاته إذا اتّفق من جهة الرضاع فإنّه يكون موضوعاً للحرمة، وما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ بنات المرضعة أو الفحل ما هنّ إلا أخوات المرتضع؛ وإنمّا تحرم أخوات المرتضع على أبيه لو كنَّ بناته أو ربائب له قد دخل بأمهنّ، وهذان الأمران لم يحصلا بالرضاع ليكون مقتضى القاعدة حرمتها، بل العمدة هي النصوص الخاصّة الّتي نزَّلت بنات المرضعة وصاحب اللبن منزلة الولد لأبي المرتضع، فهي تتضمّن ما يمكننا تسميته «تعميم التنزيل»، لا عموم المنزلة بالمعنى المصطلح.

فلا بدّ من إيراد تلكم النصوص ابتداءً، وهي ثلاث رواياتٍ صحاح السند وواضحات الدلالة على الحرمة:

أولاها: صحيحة عليّ بن مهزيار: قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني(ع): أنّ امرأةً أرضعتْ لي صبيّاً، فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي: ما أجود ما سألت، من ههنا يؤتى أن يقول الناس: حرّمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل هذا هو لبن الفحل لا غيره، فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة الّتي أرضعت لي، هي ابنة غيرها، فقال: لو كنّ عشراً متفرّقاتٍ ما حلّ لك شيءٌ منهنّ وكنّ في موضع بناتك(1).

ثانيها: صحيحة أيّوب بن نوحٍ: قال: كتب عليّ بن شعيب إلى أبي الحسن(ع): امرأةٌ أرضعتْ بعض ولدي، هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها؟ فكتب(ع): لا يجوز ذلك لك؛ لأنّ ولدها صارتْ بمنزلة ولدك(2).

ثالثها: صحيحة عبد الله بن جعفر: قال: كتبت إلى أبي محمّدٍ(ع): امرأةٌ أرضعتْ ولد الرجل، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع: لا تحلّ له(3).

وقد وقع البحث في هذه الروايات من عدّة جهاتٍ:

المناقشة الأولى: في استفادة الحرمة وعدمها:

فقد نوقش في استفادة حرمة نكاح أبي المرتضع في فروع المرضعة والفحل بعدّة مناقشاتٍ:

الأولى: استغراب عدم ورود أيّ سؤالٍ عن حكم هذا النكاح من قِبَلِ الرواة قبل زمن الإمام الرضا(ع) رغم كثرة الروايات في باب الرضاع عن الإمام الصادق(ع)، رغم كثرة الابتلاء به(4).

وعليه فالحكم بحرمة هذا النكاح مستبعدٌ، وهذه المناقشة سيّالةٌ، ومن مواردها مسألة نجاسة الناصب، ومسألة نجاسة عرق الجنب من الحرام(5).

وقد أُجيب عن هذا الاستبعاد نقضاً وحلاًّ، أما النقض فبثبوت الخمس في أرباح المتاجر والمكاسب، مع أنّه لم يرد إلا عن الإمام الكاظم(ع) فمَن بعده، مع كثرة الابتلاء به في أزمنة الأئمّة السابقين(ع).

وأمّا الجواب بالحلّ فبأمرين:

أولاً: بأنّ أسئلة الرواة كانت ـ على الأكثرـ تعبيراً عن الحاجات الّتي يواجهونها مباشرةً، ومن الجائز عدم ابتلاء رواة زمن الصادق(ع) ـ فعلاًـ بهذه المسألة، فعدم السؤال لعدم مقتضيه لا يعاند الحكم بالحرمة.

وثانياً: بأنّه قد ورد في عدّة رواياتٍ التفويض بتبليغ بعض الأحكام للمتأخّرين من الأئمّة لمصلحةٍ عامَّةٍ في التأخير، فيبلّغونه بموجبه في حينها(6)، فيكون هذا الحكم مما فوِّض أمر تبليغه إلى المتأخِّر منهم(ع)، على أنّ نكاح أب المرتضع في بنات المرضعة أو صاحب اللبن لم يثبتْ شياعه بنحوٍ يعدُّ من المستهجن عدم التعرُّض له، ولعلَّه صدرت نصوصٌ فيه لم تصل إلينا.

المناقشة الثانية:

إنّ قول النبيّ(ص): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»- قاعدةٌ عامّةٌ في باب الرضاع، ولذا كان الأئمّة(ع) يقولون فيما يُروى عنهم من تفصيلاتٍ: «فذلك الّذي قال رسول الله(ص)...»، و(... ذلك رضاعٌ ليس بالرضاع الّذي قال رسول الله(ص): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»)(7)، فإذا كان الأساس الّذي تدور حوله مسائل الرضاع هو هذه القاعدة، فلا بدّ للروايات أن تكون بأجمعها منسجمةً مع هذه القاعدة في الموارد الّتي يكون المراد منها بيان الشرط والضوابط، وقد ركّزت هذه القاعدة على أنّه لا بدّ أن تكون العلاقة الّتي يحدثها الرضاع مشابهةً للعلاقة النسبيّة المحرّمة، حتّى يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، فإذا لم تكن العلاقة مشابهةً للعلاقة النسبيّة فإنّ الرضاع حينئذٍ لا ينشر الحرمة(8)، ويتوجّه عليه:

أوّلاً: أنّ غاية مفاد قاعدة «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» هو أنّ ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع، لا أنّ ما يحرم من الرضاع خصوص ما يحرم من النسب، أو فقل إنهّا في مقام بيان تنزيل الرضاع منزلة النسب في الحرمة، لا في مقام تحديد ما يحرم من الرضاع كي ينعقد له ظهور مفهومٍ، وعلى فرض الحصر فهو حصرٌ إضافيٌّ لا يزيد على قوله(ع): «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصالٍ»، ثمَّ خرجنا عنه بأدلّة المفطّرات الأخرى، ونحو: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} مع أنّنا رفعنا اليد عن الحصر بما دلَّ على الشرائط الأخرى، وكذا {لاَ يحُبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} ثمَّ أُخذ باستثناءاتٍ أخرى.

وثانياً: إنّ الّذي ينفع لنفي حرمة النكاح فيما نحن فيه من مسألةٍ ـ لو انطلقنا ممّا كان يقوله الأئمّة• فيما يُروى عنهم من تفصيلاتٍ ـ إنمّا هو نفيهم لانطباق القاعدة على المورد الّذي سُئِلوا عنه، من قبيل: «... ذلك رضاعٌ ليس بالرضاع الّذي قال رسول الله(ص)...»، وهو الّذي لم يردْ إلاّ في صحيحة بريد العجليّ(9)، وأمّا ما اشتمل على التطبيق الإيجابيّ للقاعدة، نحو: «فذلك الّذي قال رسول الله(ص)»، فإنّه وإن ورد في رواياتٍٍ عديدةٍ(10)، إلا إنّه إنمّا يجدي لنفي الحرمة في غير منطبق القاعدة مع عدم الدليل الخاصّ على الحرمة، لا مع الدليل حال قصور القاعدة عن إفادة الحصر.

وثالثاً: ـ وهو ما لفت إليه أحد الأساتيذ(سلَّمه الله)(11) ـ إنّ ظاهر صحيحة عليّ بن مهزيار النظر إلى الرواية الكبرويّة الواردة عن النبيّ(ص): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، ومقتضى النظر المذكور هو الحكومة على الرواية على نحو التوسعة؛ وذلك لأنّ ظاهر قوله(ع): «هذا هو لبن الفحل» تنبيه السائل على أنّ مناط الحرمة في الرضاع ليس هو حدوث العلقة النسبيّة، وإنمّا المناط هو اشتراك المطلوب زواجها مع المرتضع في لبن الفحل أو في العود إلى فحلٍ واحدٍ،،وأنّ النبيّ(ص) إنمّا قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»؛ لأنّه تطبيقٌ لهذا المناط، وهو الرجوع إلى فحلٍ واحدٍ، وهذا هو معنى الحكومة والنظر.

المناقشة الثالثة:

إنّ التعليل الوارد في ذيل هذه الصحاح غير واقعيٍّ، بمعنى أنّه غير جارٍ على طبق القاعدة؛ لأنّ العلاقة لو كانت ممّا توجب الحرمة بحسب انطباق القاعدة على المورد، لما كان هناك حاجةٌ إلى التعليل، وعندئذٍ يكون هذا التعليل بمثابة قرينةٍ على عدم إرادة التحريم، فإنّ بنات المرضعة والفحل ليسوا بنات ـ ولو بالرضاع ـ لأبي المرتضع، فتنزيلها منزلة بناته ليكون ذلك لتأكيد القول بالحرمةـ بعيدٌ(12).

ويُلاحظ عليه:

أوّلاً: إنّ مقتضى أصالة الجدّ كون التعليل مراداً جدِّياً ما لم تقم قرينةٌ عرفيّةٌ على خلافه.

وثانياً: إنّ هذا التعليل لبَّاً تنزيلٌ، فكأنّه قال: «بنت مرضعة ولدك ـ مثلاًـ بنتك»، ومن طبع التنزيل ألا يكون المنزّل فرداً حقيقيّاً للمنزّل عليه، وإلا لما عاد تنزيلاً، فمثل قضية «الطواف بالبيت صلاةٌ» تعطي أنّ الطواف حقيقةً يُغاير حقيقة الصلاة، وليس فرداً لها إلا أنّه نزّل منزلتها ادّعاءً، ومن الواضح أنّ التعليل يعطي أنّ المورد أحد صغريات الكبرى في التعليل، وما نحن فيه ليس كذلك.

المناقشة الرابعة:

إنّ التعليل بـ«وكنّ في موضع بناتك» في صحيحة ابن مهزيار، وبـ«لأنّ ولدها صارتْ بمنزلة ولدك» في صحيحة ابن نوحٍ ـ كاشفٌ عن أنّ الحرمة إنمّا هي بسبب حصول علقةٍ بين أبي المرتضع وبين أولاد صاحب اللبن والمرضعة، وليس للحرمة مِلاكٌ سوى ما ذُكر، فيجب تعميم الحكم إلى موارد لا يلتزم المشهور فيها بالحرمة، وحيث لم يكن التعليل مطَرداَ فيحمل النهي في هذه الروايات على الكراهة الشديدة مع تعميمها إلى هذه الموارد(13).

ثم ساق صاحب المناقشة جملة موارد وهي:

أ- نكاح أم المرتضع في أولاد الفحل والمرضعة.

ب- نكاح أولاد أبي المرتضع الّذين لم يرتضعوا من هذا اللبن في أولاد المرضعة وصاحب اللبن.

ج- نكاح أبي المرتضع في أخوات الفحل.

د- نكاحه لأمّ المرضعة.

هـ- نكاح الفحل في أخوات المرتضع.

وذلك لأنّ مقتضى صيرورة أولاد الفحل والمرضعة أولاداً لأبي المرتضع أن تكون أمّ المرتضع في (أ) أمّاً لأولاد الفحل والمرضعة، وأن يكون أولاد المرتضع في (ب) أخوةً لأولاد المرضعة والفحل، وأن تكون أخوات الفحل في (ج) عمّاتٍ لأولاد أبي المرتضع فلا ينكح فيهنّ، وأن تكون أمّ المرضعة في (د) أم زوجته، وأن تكون أخوات المرتضع في (هـ) بنات الفحل.

و- نكاح الفحل لأمّ أمّ المرتضع، لحرمة ذلك في النسب فيحرم مثله في النكاح، فإنّ المرتضع إذا صار ولداً تصير أمّه زوجة الفحل، وأمّها أمّ زوجته.

ز- نكاح أخوةٍ لقومٍ في أخوات بنتٍ لقومٍ آخرين قد ارتضعا من امرأةٍ واحدةٍ؛ لأنّ الاشتراك في الرضاع يعقد الأخوّة بين المرتضعين وبين منْ كان في طبقتها من الأخوة والأخوات.

ويلاحظ على هذه المناقشة بطولها حلاًّ ونقضاً، أمّا الحلّ فبأنّ تنزيل أولاد المرضعة والفحل منزلة الأولاد لأبي المرتضع لا يستلزم أصلاً أن تنزّل أمّ المرتضع في (أ) ـ مثلاًـ منزلة الأمّ لأولاد الفحل والمرضعة، وهكذا الحال بالنسبة إلى البقيّة؛ إذ لا مانع من التفكيك بين المتلازمين في التنزيل التعبّديّ، ويقتصر على مقدار دلالة الدليل، والتعدّي عنه لا يكون إلا قياساً باطلاً.

وأمّا النقض فبما هو مورد التسالم من عدم التزامهم بلوازم التنزيل بإطلاقها في «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، فلو أرضعت الجدّة أمّ الأب ولد ابنها فأصبحتْ أمّ الأخ بالنسبة لإخوانه من طرف الأمّ، فهل يلتزم بحرمة جدّته على إخوانه من طرف الأمّ؛ لأنّ أمّ الأخ إما أمٌّ أو زوجة أبٍ، وكلاهما محرمٌ.

وكذلك لو أرضعته خالته أخت أمِّه فهل تحرم على إخوانه من طرف الأب؟ وأمثال ذلك، مع أنّ عموم التنزيل هو ما أفاد، كما أنّ عدم عمل المشهور بعموم التعليل لا يوجب رفع اليد عنه إذا كان تعليلاً، ولو فرضنا قيام التسالم على عدم العموم فلا يوجب ذلك الحمل على الكراهة؛ فإنّه غير صناعيٍّ؛ إذ أنّ عدم العمل ليس قرينةً عرفيّةً على الكراهة، بل يقتصر على القدر المتيقّن منه.

والمتحصِّل ـ بعد دفع المناقشات الأربع ـ هو تماميّة الاستدلال بالصحاح على حرمة نكاح أبي المرتضع في أولاد الفحل والمرضعة، ثمّ إنّه كما يحرِّم الرضاع السابق على النكاح، كذلك يبطل النكاح السابق للرضاع، كما لو أرضعتْ أمّ الزوجة ولد هذه البنت، فتعود الزوجة بنتاً لأبي المرتضع فتحرم، كما دلّت عليه صحيحة ابن مهزيارٍ.

النقطة الثانية: نظر الشيخ الأعظم(قده) في الموردين (أ) و(ب):

قد عرفت ممّا تقدَّم أنّ المشهور لم يلتزم بالحرمة في جميع الموارد المتقدّمة، بما فيها الموردان (أ) و(ب)، ولمّا كان للشيخ الأعظم(ره) نظرٌ خاصٌّ فيهما يُخالف نظر المشهور، فالبحث فعلاً فيهما في مطلبين:

الأول: قوَّى الشيخ(ره) ـ أوّلاًـ حرمة أمّ المرتضع على فروع المرضعة والفحل؛ وذلك لأنّ كون بناتهما بمنزلة الولد لأبي المرتضع يستلزم كون بنيهما بمنزلة الولد لأمّ المرتضع؛ إذ أنّ المنشأ لبنوّة بناتهما لأبي المرتضع ـ وهو أخوّة البنات للمرتضع ـ مشتركٌ بين أب المرتضع وأمّه(14).

ولكنّك قد عرفت الخدشة فيه ممّا تقدّم في مناقشة رابعة المناقشات في النقطة الأولى.

نعم اختار أحد الأعلام(قده) ما اختاره الشيخ الأعظم من القول بالحرمة، موجِّهاً ذلك بأنّ مقتضى عموم التنزيل في صحيحة ابنيْ مهزيار ونوحٍ حرمة زوجة أبي المرتضع ـ سواءً أكانت أمّاً للمرتضع أم لاـ على أولاد صاحب اللبن أو المرضعة، لأنهّا حليلة أبيهم التنزيليّ، فتشملها الآية المتضمّنة لحرمة نساء الآباء على أولادهم، قال سبحانه:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}(15)(16). وأضاف بأنّه تظهر الثمرة بين ما أفاده الشيخ الأعظم(ره) وبين ما قلناه في أمِّ أمّ المرتضع، فإنّها على قول الشيخ(ره) تحرم عليهم لأنهّا جدّتهم، وعلى ما قلناه لا تحرم لعدم حرمة أمّ حليلة الأب ما لم تكن جدَّةً(17).

ويتوجَّه عليه أنّه ليس ظاهراً في التعليل، بل الظاهر أنّه تنزيلٌ في صورة تعليلٍ ـ كما تقدَّم ـ، ومعه فيقتصر على مورد التنزيل، والتعدِّي إلى غيره قياسٌ لا نقول به.

المطلب الثاني: قوّى الشيخ الأعظم(قده) حرمة حواشي المرتضع نسباً على فروع المرضعة والفحل نسباً؛ وذلك لأنّ فروعهما إذا صاروا بمنزلة ولد أبويه المرتضع فقد صاروا أخوةً لأولادهما، الّذين هم حواشي المرتضع، فإنّ الأخوَّة الّتي نيطت بها الحرمة في آية المحرّمات ليس مفهومها العرفيّ بل الحقيقيّ إلا كون الشخصين ولداً لواحدٍ، فكونهم أولاداً لأبيه أو لأمّه عين كونهم أخوةً له، لا أنّه عنوانٌ آخر ملازمٌ له.

وبعبارة واضحةٍ: إذا ثبتتْ أبوّة الرجل لشخصٍ وأمومة المرأة له ـ ثبتتْ أخوّة أولادهما له، فيحرمون عليه من هذه الجهة(18).

وقد أورد عليه(19):

أوّلاً: بأنّ الأخوّة إضافةٌ بين الولدين، والولديّة إضافة الأب والولد، فالأخوّة قرابةٌ خاصّةٌ مغايرةٌ للولديّة ناشئة عنها لا أنّها عينها.

وثانياً: بأنّ الظاهر من صحيحي ابنيْ مهزيار ونوحٍ كون التنزيل بلحاظ حرمة تزويج أبي المرتضع في فروع المرضعة والفحل لا بلحاظ جميع الآثار الّتي منها حرمة بعضهم على بعض.انتهى.

والإيراد الأوّل ـ وإن قيل عنه بأنّه ممّا يأباه الفهم العرفيّ(20)ـ إلا أنّه تامٌّ؛ فإنّ منشأ الأخوّة لا ينحصر في الولديّة، كما أنّ ثاني الإيرادين واضحٌ ومتّجهٌ، وقد عرفت النظر فيما أفيد من أنّ حرمة حواشي المرتضع على فروع المرضعة والفحل هو مقتضى تعليل التنزيل في الصحيحتين.

النقطة الثالثة: في جواز نظر أبي المرتضع إلى فروع الفحل والمرضعة:

فالّذي لا مرية فيه ولا خلاف هو جواز النظر بلا تلذّذٍ أو ريبةٍ إلى غير العورة من المحارم الّتي يحرم نكاحهنّ نسباً أو رضاعاً أو مصاهرةً.

والوجه في جواز النظر إلى المحارم الرضاعيّة ما دلّ على أنّ ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع، فكلّ ما يجوز النظر إليه من المحارم النسبيّة يجوز النظر إليه من المحارم الرضاعيّة، وقد استهلّ السيد صدر الدين الصدر(قده) منظومته الرضاعيّة بهذا البيت:

 

إن أحرز الرضاع شرطه نشر

                        تحريم تزويجٍ وتحليل نظر(21)

 

 

ثمَّ إنّه قد ذهب بعض الأعاظم(ره) إلى اختصاص هذا الحكم بالمرضعة وصاحب اللبن والأصول والفروع والحواشي لهما، ولا يشمل أب المرتضع؛ لقصور حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب» عن تناوله، باعتبار أنّ التنزيل إنمّا هو بالنسبة إلى المرتضع وكلٍّ من المرضعة وصاحب اللبن، دون أبي المرتضع؛ وذلك لأنّ ثبوت حرمة نكاحه لأولاد المرضعة أو صاحب اللبن إنّما كان هو بالتعبّد، ولا يقتضي ذلك الخروج عن حرمة النظر وعموم وجوب الستر(22).

وأشكل عليه أحد الأعلام(قده) بأنّه إنمّا يمكن أن يُقال بأنّ حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن وأولاد المرضعة حكمٌ تعبّديٌّ صرفٌ، فيما لو لم تكن الرواية الدالّة عليها معلّلةً، أمّا لو كان الحكم معلّلاً ـ كما هو الحال بالنسبة إلى ما نحن فيه ـ بـ«أنّ ولدها صارت بمنزلة ولده» فلا مجال لما ذُكر؛ إذ أنّ التعليل يقتضي شمول أب المرتضع بالتنزيل أيضاً(23).

ويُلاحظ عليه بأنّ التعبير بمثل «إنّ ولدها صارت بمنزلة ولده» ليس تعليلاً، بل هو تنزيلٌ ـ كما مرَّـ فيقتصر فيه على حيثيّة حرمة النكاح، وأمّا حيثيّة جواز النظر وحرمته فالمرجع فيها عمومات حرمة النظر ولزوم الستر، وأمّا أخذ عنوان (البنوّة) في النصوص دون غيره من العناوين المحرَّمة؛ لكونه أكثر مناسبةً عرفاً من بقيّة العناوين فيما نحن فيه من محرّميّة بنات المرضعة والفحل على أبي المرتضع، فلا ملازمة عرفاً أصلاً بين هذا العنوان وبين جواز النظر. فالنتيجة هي حرمة نظر أبي المرتضع إلى بنات المرضعة والفحل، ولزوم تستّرهنّ منه عليهنّ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلَّى الله على محمّد وآله وسلَّم.

 

* الهوامش:

(1) الوسائل، 20: 391، ب6 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح10.

(2) الوسائل، 20: 404، ب16 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح1.

(3) الوسائل، 20: 404، ب16 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح2.

(4) رسالة في الرضاع، تقرير لأبحاث  السيد فضل الله ص119.

(5) لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى للشهيد الصدر، ج4/ 7-8.

(6) ومن روايات التفويض المشار إليها معتبرة فضيل بن يسار: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول ـ في حديث ـ : إنّ الله(عزّ وجل) فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعةً، فصارتْ عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلا في سفرٍ، وأفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمةً في السفر والحضر، فأجاز الله له ذلك كلّه، فصارتْ الفريضة سبع عشرة ركعة، ثمّ سنّ رسول الله(ص) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثليْ الفريضة، فأجاز الله(عزّ وجل)  له ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر ـ إلى أن قال: ـ ولم يرخّص رسول الله(ص) لأحدٍ تقصير الركعتين اللتين ضمّهما إلى ما فرض الله(عزّ وجل)، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً، ولم يرخّص لأحدٍ في شيءٍ من ذلك إلا للمسافر، وليس لأحدٍ أن يرخّص ما لم يرخّصه رسول الله(ص)، فوافق أمر رسول الله أمر الله، ونهيه نهي الله، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله. الوسائل4: 45 ب13 من أبواب أعداد الفرائض ح2.

ومنها رواية محمّد بن الحسن الميثميّ. الوسائل27: 113 ب9 من أبواب صفات الراوي ح21.

(7) الوسائل 20: 388 ب6 من أبواب ما يرحم بالرضاع، ح1.

(8) رسالة في الرضاع، تقرير لأبحاث السيد فضل الله ص119.

(9) جامع أحاديث الشيعة 20 : 398 ب4 من أبواب أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ح1.

(10) جامع أحاديث الشيعة 20 : 398- 400، ب4 من أبواب أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ح1،2، 4، 5.

(11) سماحة العلامة السيد منير الخباز(سلَّمه الله).

(12) رسالة في الرضاع، تقرير لأبحاث السيد فضل الله ص119-120.

(13) قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، تقرير لأبحاث الشيخ السبحاني ص 210-212.

(14) كتاب النكاح للشيخ الأعظم، ص342، م10، وص351 م26.

(15) سورة النساء، الآية: 22.

(16) أحكام الرضاع في فقه الشيعة، تقرير بحث الإمام الخوئي، ص40.

(17) المصدر، ص 41.

(18) كتاب النكاح، ص 343- 345، م12، وص 352 م 28.

(19) فقه الصادق(ع)، 21 : 404،410.

(20) أحكام الرضاع في فقه الشيعة، تقرير بحث الإمام الخوئي، ص40.

(21) الرسالة الرضاعية وشرحها، السيد صدر الدين الصدر(قده).

(22) مستمسك العروة الوثقى 14 : 33-34، بتوضيح من مباني العروة الوثقى(النكاح 1)= (موسوعة الإمام الخوئي 32: 53).

(23) مباني العروة الوثقى(النكاح 1)= (موسوعة الإمام الخوئي 32: 53).


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا