المصدر الأول للتشريع هو القرآن الكريم
لا يخفى الخلاف الذي طال بين الأصوليين وبين الأخباريين في حجية ظواهر القرآن بل في جواز تفسيره وعدمه، وقد أفرط بعض الأخباريين حتى منع فهم شيء من القرآن الكريم حتى مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} إلا بتفسير من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما حكي عن السيد نعمة الله الجزائري أنه قال: "وكنت حاضرا في المسجد الجامع في شيراز وكان المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ المحدث صاحب جوامع الكلم (قدس الله روحيهما) يتناظران في هذه المسألة في جواز أخذ الأحكام من القرآن فانجر الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(1) فهل تحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟ فقال: نعم لأنا لا نعرف معنى الأحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك"(2).
وقد استعرض صاحب الحدائق أدلة كلا الفريقين وقرّر ابتداءً تعارض الأدلة من الجانبين، غير أنَّه أشار إلى أنّ أدلة المنع أكثر عدداً وأصرح دلالة، ممّا يُظن في الوهلة الأولى من كلامه هذا أنه يحرّم التفسير، ولا يرى حجية الظواهر، لكنه سرعان ما جمع بين أدلة الطريفين، واختار ما تبناه الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان، حيث قسّم معاني القرآن إلى أربعة أقسام، وقسم واحد يجوز تفسيره والأخذ بظاهره، وثلاثة أقسام لا يستطيع المجتهد تفسيرها(3).
أقسام المعاني القرآنية
الأول: ما لا أحد يعرفه سوى الله تعالى فلا يصح لأحد تكلّف القول فيه ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ}(4)، ومثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة}(5)، إلى آخرها، فتفسير ما اختص الله بالعلم به غير صحيح.
الثاني: ما يكون له ظاهر، وظاهره مطابق لمعناه، فكل من كان يعرف اللغة العربية التي خاطب الله الناس بها عرف معناه، مثل قوله:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَق}(6)، ومثل قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(7)، وغير ذلك.
الثالث: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، فمعرفته تحتاج إلى تفصيل في المراد منه، مثل قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة}(8)، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(9)، وقوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه}(10)، وقوله:{فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}(11)، وما أشبه ذلك.
فإنّ تفصيل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن إلا ببيان النبي (صلّى الله عليه وآله) ووحي من جهة الله تعالى فتكلّف القول في ذلك خطأ ممنوع منه.
الرابع: ما كان اللفظ في الآية مشتركاً بين معنيين فما زاد عليهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً، فإنه لا ينبغي على المفسر أن يرجح أحد المعنيين أو المعاني وينسبه إلى مراد الله تعالى إلا بقول نبي أو إمام معصوم.
فجميع الروايات التي استدل بها الأخباريون على منع التفسير ومنع الأخذ بظواهر الآيات إلا مع وجود نص من المعصوم حملها صاحب الحدائق على القسم الثالث والرابع، وأما القسم الأول فهو خارج تخصصاً.
وأما القسم الثاني فلم يمنع صاحب الحدائق من تفسيره والأخذ بظواهر آياته، وتفسير هذا القسم ما هو إلا توضيح لمعاني المفردات، حيث أنّ بُعد الزمن وضعف اللغة العربية عند العرب بسبب اختلاط الشعوب أوجب غرابة كثير من معاني مفردات العربية.
وندعم تقسيم الشيخ بذكر شاهد عليه من الروايات رواه الطبرسي في كتابه الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزنديق الذي جاء إليه بآي من القرآن زاعماً تناقضها حيث قال (عليه السلام) في ضمن الحديث:
«إن الله جلّ ذكره بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل. وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام. وقسماً لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم. وإنما فعل ذلك لئلا يدّعي أهل الباطل، المستولون على ميراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن ولاه أمره (إلى أن قال): فأما ما علمه الجاهل والعالم، فمن فضل رسول الله في كتاب الله، فهو قول الله (عزّ وجلّ): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه}(12).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(13) ولهذه الآية ظاهر وباطن فالظاهر قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ} والباطن قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي سلموا لمن وصاه واستخلفه، وفضله عليكم، وما عهد به إليه تسليماً، وهذا ممّا أخبرتك: أنه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه، وصفى ذهنه، وصح تمييزه»(14).
والحديث ليس فيه سوى ثلاثة أقسام ويرى صاحب الحدائق أن هذه الأقسام الثلاثة هي الأقسام الثلاثة التي بعد القسم الأول من تقسيم الشيخ؛ فرادف بين القسم الرابع من كلام الشيخ بالقسم الثاني من كلام الإمام علي (عليه السلام) في الرواية، فما كان يحتمل فيه أكثر من معنى، فلا يرجح المفسر أحد المعاني إلا بقول ممن صفى ذهنه ولطف حسه، وهي صفة بحسب الظاهر منحصرة بالمعصومين (عليهم السلام) لأنهم هم المتّصفون بتلك الصفات على الحقيقة(15).
ورادف بين القسم الثالث من كلام الشيخ بالقسم الثالث في الرواية فلا يُعرف تفصيل المجمل إلا ببيان من النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أن عرف معناه بالوحي، أو عن طريق تفسير الراسخين في العلم(16).
وبما أنّ القسم الثاني والثالث في الرواية ينحصر تفسيرهما بالمعصومين (عليهم السلام) فقد يُشكل باتحاد القسمين؛ فما هي الثمرة المترتبة على جعلهما قسمين مع إمكان جعلهما قسماً واحداً؟
أجاب صاحب الحدائق على ذلك بأنّ فرق الثالث عن الثاني بكونه قسماً يختص بتشريع الشرائع، ولا يعلمه إلا الله جلّ شأنه أو أنبياؤه (عليهم السلام) بالوحي إليهم، ومعرفة الأئمة (عليهم السلام) له إنما هو بالوراثة من الأنبياء، وهذا بخلاف القسم الثاني؛ فإنه مما يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم ويستنبطونه بإشراق لوامع أفهامهم(17).
ويمكن مناقشة انحصار المراد من «من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه وشرح صدره للإسلام» في كلام الإمام علي (عليه السلام) بالمعصومين (عليهم السلام)، وإن كانت هذه الصفات بحسب الحقيقة تختص بالمعصوم، حيث يمكن بالدقة سلب إطلاق هذه الصفات على غيره، إذ لا أحد سواهم من المسلمين إلا ولديه بعض الشوائب، لكن إطلاق الرواية إنما يحمل على ما ينصرف لدى العرف، والعرف يمكن أن يطلق هذه الصفات على العالم الرباني ممن سواهم، وعلى هذا فيمكن شمول هذه الصفات لغير المعصومين (عليهم السلام).
وإن أبيت إلا على انصرافها إلى المعصومين فإنه يُمكن أن يُرفع اليد عن هذا الانصراف لقرائن:
الأولى: أنّ الإمام (عليه السلام) بتقسيمه في مقام بيان مراتب فهم البشر للقرآن، وأن كل مرتبة لها نصيب في فهم القرآن يختلف عن المرتبة الأخرى سعة وعمقاً، فلو كان القسم الثاني والثالث منحصر بمرتبة المعصومين (عليهم السلام) لما كان داعي لجعلهما في قسمين، ولا يظهر من الرواية أنّ الإمام (عليه السلام) في مقام تقسيم مضامين النصوص القرآنية.
الثانية: ابتدأ الإمام (عليه السلام) بذكر المرتبة الأدنى في فهم القرآن والتي تشمل كل من يعرف اللغة العربية، وانتهى بالمرتبة الأعلى من البشر الخاصة بالمعصومين، مما يُشعر بأن القسم الثاني ما بين المرتبين، فلا يختص بالمعصومين ولا يشمل كل من علم باللغة.
الثالثة: تَكْرار أداة الحصر لكل مرتبة، فذكرها للمرتبة الأولى ثم للثانية ثم للثالثة، مما يُشعر بأن أصحاب المرتبة الأولى أكثر عدداً من أصحاب المرتبة الثانية، والثانية أكثر من الثالثة.
لكن تدفع هذه القرائن بقرينة أقوى توجب انصراف تلك الصفات إلى المعصومين، وهي قرينة المثال الذي ضربه الإمام (عليه السلام) لفهم من يتصف بتلك الصفات حيث جعله من الباطن، ويعلم من الخارج أن الباطن يختص تأويله بالمعصومين، بل حتى لو لم يصرح الإمام أنه من الباطن فإنه يفهم من نفس تأويل {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} بالتسليم لوصي النبي (صلّى الله عليه وآله) وخليفته الذي عهد إليه أنه من التفسير الباطن الذي لا يدركه إلا المعصومون (عليهم السلام).
على أن القسم الثاني في الرواية هو القسم الرابع من كلام الشيخ -بناء على ما تبناه صاحب الحدائق- فهو مختص في ترجيح أحد المعاني المحتملة التي لا يحصل العلم بإرادة أحدها إلا ببيان المعصومين (عليهم السلام).
وجعل القسم الثاني من تقسيم الشيخ منطبقاً على القسم الأول في الرواية ويرى إحكام دلالة هذا القسم من الآيات في معانيه، ولذا جوّز الاستدلال به والأخذ بظواهره، وحكم على من يمنع ذلك بالمكابرة(18).
وإذا كان مراد الأصوليين من حجية ظواهر القرآن هو هذا القسم، حيث لا يوجد ظهور للمجمل ولا للمشترك اللفظي في معنى معين فلا خلاف بين صاحب الحدائق والأصوليين. وعلى هذا القسم حمل قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(19).
ويبدو من صاحب الحدائق أن بعض الأصوليين كانوا يظنونه وأمثاله أنه ممن يمنع من فهم القرآن الكريم، ولذا قال في ردّه على الاستدلال بالآية الآنفة على جواز تفسير كل القرآن من غير الأخذ من المعصومين: "فإنا لا نمنع فهم شيء من القرآن بالكلية كما يدّعيه بعضهم، ليمتنع وجود مصداق الآية، فإن دلالة الآيات على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والترغيب والترهيب ظاهر لا مرية فيه، وهو المراد من التدبر في الآية كما ينادي عليه سياق الكلام"(20).
فيتحصل من مجموع كلام صاحب الحدائق أنه يرى حجية دلالات الآيات التي يدرك معاينها من يعرف اللغة العربية، بحيث لو اطلع على تلك الآيات لتبادر إليه معناها، إلا إذا عُلم بأن الظاهر ليس مراداً، وإنما يمنع تفسير الآيات من غير المعصومين فيما إذا توقف استنباط معانيها على غير اللغة العربية، بحيث إذا اطلع عليها من يكون عارفاً باللغة العربية لا تتبادر إليه معانيها، فتفسير هذا القسم من الآيات لا يكون إلا عن طريق المعصومين (عليهم السلام).
وعلى هذا يمكن أن نقول أنّه لا خلاف بين الشيخ يوسف (قدِّس سرّه) وبين المجتهدين الأصوليين (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) إذ ليس مرادهم من ظواهر القرآن إلا المعاني التي ينصرف إليها الذهن عند سماع ألفاظها ويُحرز مطابقة ظاهرها للمراد.
لكن يبدو أنّ الشيخ يختلف مع المفسرين القائلين بجواز التفسير بصورة مطلقة، حيث أنه لا يرى إمكان تفسير بعض موارد القرآن إلا عن طريق المعصومين، وهي الموارد التي لا تكون فيها الآيات ظاهرة في معنى معين، بينما بعض المفسرين وإن كانوا يعتمدون على أخبار أهل البيت (عليهم السلام) في تفاسيرهم لكنهم قد يفسرون بعض الآيات التي ليس لها ظهور في معنى معين ولم يرد خبر معتبر في تفسيرها عن طريق اجتهادهم في التفسير واعتمادهم على قرائن منفصلة من غير الأحاديث، أما صاحب الحدائق فيرى التوقف في تفسير هذا النوع من الآيات، ولا يرى صحة إعمال الاجتهاد لمعرفة معنى هذه الآيات، وذلك لحمله الأدلة المانعة عن التفسير على تفسير هذا النوع من الآيات، وإنما جوز أولئك المفسرون تفسير هذا النوع من الآيات لأدلة جواز التفسير، وقد قام الشيخ بعرض أهمّها ومناقشتها.
أدلة جواز تفسير مجموع القرآن ومناقشتها
استعرض صاحب الحدائق (رضي الله عنه) بعض الأدلة التي اُستدل بها على جواز تفسير مجموع القرآن الكريم حتى في الموارد التي لا يظهر معناها بمراجعة اللغة والفهم العرفي من غير الرجوع إلى قول المعصومين (عليهم السلام) وناقش دلالتها:
الدليل الأول: الآيات الكريمة
وقسم صاحب الحدائق الآيات الكريمة التي استدل بها على جواز تفسير كل موارد القرآن حتى في موارد عدم اتضاح المعنى من اللغة ومن أحاديث المعصومين (عليهم السلام) إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما دل على أن الآيات الكريمة بيان لكل ما يحتاجه الناس، مثل قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(21) وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}(22).
فإذا كان في القرآن كل ما يحتاج إليه الناس فحينئذ لا يمتنع عليهم فهمه، لأنه مرجعهم في أمورهم، ولو امتنع فهمه ولو في بعض آياته لما صح أن يكون لهم مرجعاً.
المناقشة:
وأجاب على هذا الاستدلال: بأن غاية ما تدل عليه الآيتان هو أن القرآن الكريم جامع وكامل لكل ما يحتاج إليه الناس، ولا يستلزم منه أن كل ما يحتاجه الناس في القرآن يمكن أن يفهمه الجميع من غير واسطة أحاديث المعصومين، وكيف يمكن معرفة كثير من المعاني القرآنية ولم تدل عليها الآيات إلا على نحو الإجمال، وأشار إلى أنّ بعض ما جاء مجملاً من المعاني القرآنية مصداق لما دلت عليه بعض الروايات من عدم إمكان معرفتها من القرآن إلا من عند المعصومين، وبيّن بعض أمثلتها من الأحكام-غير الأمثلة المعروفة من تفاصيل الصلاة والزكاة والصيام- قال:
"إنّ الآيتين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو غير منكور. وأما كون فهم الأحكام مشتركاً بين كافة الناس كما هو المطلوب بالاستدلال فلا، كيف وجل آيات الكتاب سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدى منه -مع قطع النظر عن السنة- إلى سبيل، ولا يركن منه إلى دليل.
بل قد ورد من استنباطهم (عليهم السلام) جملة من أحكام الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا يهتدي إليه غيرهم وهو مصداق قولهم..«ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»(23)، وقولهم: «إنما يعرف القرآن من خوطب به»(24)، وقولهم: «إنما أراد تعميته في ذلك لينتهوا إلى بابه»(25)، كالأخبار الدالة على حكم الوصية بالجزء من المال، حيث فسَّره (عليه السلام) بالعشر مستدلاً بقوله سبحانه: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا}(26) قال: «وكانت الجبال عشر». والوصية بالسهم حيث فسره (عليه السلام) بالثمن لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين}(27). والنذر بمال كثير حيث فسره (عليه السلام) بالثمانين لقوله تعالى:{فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}(28) وكانت ثمانين موطنا..الخ"(29).
القسم الثاني: ما دل من القرآن على جواز استنباط واستخراج معاني القرآن الكريم والاجتهاد في توضيح ما جاء مجملاً، وهي قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}(30).
المناقشة:
المراد من الذين يستنبطونه في الآية هو خصوص الأئمة (عليه السلام) يدل عليه أمران:
الأول: سياق الآية حيث قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}، إذ أنّ ظاهر عود ضمير الجمع في ((يستنبطونه)) إلى أولي الأمر، وهم الأئمة (عليهم السلام).
الثاني: الروايات الدالة على عود ضمير الجمع في ((يستنبطونه)) إلى الأئمة (عليهم السلام)، منها ما رواه العياشي عن الرضا (عليه السلام) قال: «هم آل محمد وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام»(31).
ومنها ما جاء في دعائم الإسلام عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره للآية، قال: «هم الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جعلهم الله أهل العلم الذين يستنبطونه، ثم أوجب طاعتهم، فقال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}»(32).
القسم الثالث: وهي الآيات التي تحثّ على التدبر في آيات القرآن، كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(33)، فلو انحصر فهم القرآن على المعصومين (عليهم السلام) لما كان معنى للأمر بالتدبّر في القرآن.
المناقشة:- ناقشها بـ:
أولاً: إنّ هذا الاستدلال لا يتمّ مع القول بإمكان فهم قسم من الآيات القرآنية، وهو القسم الثاني من تقسيم الشيخ الطوسي أي بفهم الآيات التي يكون ظاهرها مطابقاً لمعناها، فكل من عرف اللغة العربية عرف معنى هذه الآيات، وهي مصداق لمتعلق التدبر.
وثانياً: إن المستفاد من سياق الآية حيث قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}(34) أنّ المراد من التدبر هو التدبر في قسم خاص من آيات القرآن وهي آيات الوعد والوعيد والزجر لمن تعدّى الحدود الإلهية، والترغيب والترهيب، والاعتبار بما جرى على الأمم السابقة، إذ أنّ من الواضح أنّ الآية جاءت في سياق التهديد والوعيد لمن يفسد في الأرض ويقّطع أرحامه، وهذا القسم من الآيات مندرج في القسم السابق الذي يُحرز مطابقة معناه لظاهره، فإنّ دلالة الآيات على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والترغيب والترهيب أمر ظاهر لا مرية فيه(35).
ولكن يمكن الاستدراك على الردّ الثاني بأنّ هناك آية أخرى تحث على التدبر وترشد إلى أنّ متعلق التدبر أوسع من ذلك النطاق، قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}(36).
فإنّ عدم الوجدان للاختلاف المتفرّع على التدبر يرشد إلى أنّ التدبر يشمل كل الآيات التي يمكن فهمها، إلا أن يُقال: لا مانع من أن يكون المراد منها هو الآيات التي تفهم بواسطة المعصومين (عليهم السلام) أو بواسطة معرفة اللغة وطُرقها.
الدليل الثاني: الروايات
لم يستعرض صاحب الحدائق من الروايات التي اُستدل بها على جواز التفسير بشكل مطلق سوى روايات العرض، وتقريب الاستدلال أن يُقال:
دلت جملة من الأخبار -ومنها المعتبر- على عرض الرواية على كتاب الله، فإن كانت توافق كتاب الله تعالى يأخذ بها، وإلا فهي زخرف، لا يقوله المعصوم، وحينئذٍ فإن توقفت معرفة الكتاب على الروايات لزم الدور، ولا يترتب على أحاديث العرض غرضها؛ فلا فائدة من العرض ما لم نعرف معاني الكتاب من غير الأحاديث حتى يصح تمييز الحديث.
المناقشة:
أجاب بأنّ كثير من الآيات ورد فيها تفسير من الأحاديث، وهذه الأحاديث بما أنها ناظرة إلى المراد من الآيات فهي بمنزلة الآيات في تقييم الأخبار التي تعرض على الكتاب، فالعرض حقيقة إنما هو على الأحاديث المفسرة للآيات، لا على نفس القرآن.
وأما الآيات التي لم يرد فيها تفسير من الأحاديث فلا تعرض عليها الروايات التي يُراد تقييمها، وذلك لأدلة منع تفسير القرآن الكريم فإنها تخصص أحاديث العرض؛ فتحمل أحاديث العرض على العرض على الآيات التي ورد فيها تفسير دون غيرها.
أفاد هذا الجواب بقوله: "والجواب أنه لا منافاة، فإن تفسيرهم (عليهم السلام) إنما هو حكاية مراد الله تعالى فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب. ألا ترى أن من عمل بحديث أو بآية قد استفاد معناها المراد منهما من أستاذه أو من تفسير أو شرح ونحو ذلك لا ينسب علمه إلى ذلك الذي استفاده منه معنى الخبر أو الآية، وإنما ينسبه إلى الآية أو الخبر. وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.
وأما ما لم يرد فيه تفسير عنهم (صلوات الله عليهم) فيجب التوقف فيه وقوفاً على تلك الأخبار وتقييداً لهذه الأخبار بتلك"(37).
ولا يبُعد أن يكون المراد من الكتاب في حديث العرض هو خصوص الآيات التي يمكن فهمها من ظاهرها، وعلى ذلك لا يمكن التمسك بها لجواز غير الظاهر من غير المعصومين، غير أن شيخنا صاحب الحدائق لم يشر إلى ذلك في هذا المقام.
تطبيقات العمل بالظاهر
وبعد أن اتضح بأن مسلك صاحب الحدائق هو الأخذ بظواهر القرآن نستعرض نماذج من تطبيقاته، فقد عمل المحقق البحراني بالظواهر في استدلالاته الفقهية؛ أذكر على سبيل الاختصار بعض الأمثلة:
1- قبوله استدلال المشهور بقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}(38) على عدم جواز الوضوء بالمضاف، بتقريب: أن الآية تعين التطهير بالتيمم مع فقد الماء، ولا خلاف بأن المراد من الماء هو المطلق؛ لأن إطلاق الماء لا ينصرف إلا إلى الماء المطلق، ولو أمكن التطهير بالمضاف لما تعين التيمم مع فقد الماء المطلق(39).
2- استدل بما استظهره من قوله تعالى:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَة}(40) ومن قوله سبحانه:{يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَة}(41) على حرمة تنجيس المصحف المكرم(42)، ولم أجد أحداً من علمائنا من تمسك بهما في حرمة تنجيس المصحف، وربما تمسك بها بعض العامة في ذلك(43).
3- استدل بمفهوم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}(44) على أنّ وجوب الوضوء وجوب غيري لا نفسي بتقريبين:
الأول: المتبادر إلى فهم العرف من الآية الكريمة هو أن وجوب الوضوء لأجل الصلاة، لا أنه واجب على كل حال، نظير قولهم: «إذا لقيت العدو فخذ سلاحك»؛ فأخذ السلاح لأجل مواجهة العدو، وليس أخذه مطلوب على كل حال.
الثاني: بمفهوم الشرط في الآية حيث يدل على عدم وجوب الوضوء مع عدم الصلاة فيتضح عدم وجوب النفسي للوضوء(45).
4- استند إلى ظاهر {وَأَيْدِيَكُمْ} إلى نفي جزئية ما تحت المرفق مما زاد على أصل الخلقة من يد ولحم زائد وجلد زائد وأصبع زائدة، حيث أن ظاهر الإضافة في «أيديكم» إضافة عهدية، فيتعلق حكم الغسل في آية الوضوء باليد المعهودة، وما اشتملت عليه من الأجزاء المعهودة(46).
5- قد أيد حرمة مس الجنب لاسم الله تعالى ولو كان على درهم أو دينار بظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(47) حيث يدل على أن عدم التعظيم يصدر نتيجة لعدم التقوى لما قيل من أن علة النقيض نقيض العلة، فمس الجنب لاسم الجلالة مصداق لعدم تعظيم لشعائر الله، فهو معلول لعدم التقوى(48).
فنرى صاحب الحدائق أرسل تطبيق اسم الله على شعائر الله إرسال المسلمات ولم يتعرض إليه، وكذا تطبيق مس الجنب لعدم تعظيم شعائر الله، وإنما استظهر من الآية حرمة ترك تعظيم شعائر الله لكون العلة في تعظيم الشعائر تقوى القلوب، فعدم تقوى القلوب علة لعدم التعظيم لأن علة النقيض (والنقيض في المقام عدم تعظيم الشعائر) نقيض العلة (ونقيض العلة حالة عدم التقوى) وحالة عدم التقوى تعني عدم امتناع المكلف عن ارتكاب المعاصي ولو بعضها، فيثبت أن مس الجنب لاسم الله تعالى نتيجة لعدم امتثال أمر الله، وأمر الله هنا حرمة مس الجنب لاسم الله لمناسبة الحكم والموضوع.
وهذا المعنى الذي استظهره ليس من منطوق الآية الكريمة بل من مدلولها الإلتزامي، وترقى صاحب الجواهر في فهم الآية الكريمة، حيث يرى دلالتها على حرمة مس الجنب لاسم الله عن طريق أولى، لأنها تدل وجوب تعظيم شعائر الله فيما لا يكون في تركه تحقيراً، فكيف فيما إذا كان تركه يوجب تحقيراً كمس الجنب لاسم الجلالة(49).
واحتمل الآخوند الخراساني دلالة الآية على منع مسّ أسماء الأنبياء أو أحد الأئمة (عليهم السلام) لكن من غير استظهار، فجعل عدم المس احتياطاً استحبابياً(50).
واستشكل بعضهم في دلالة الآية على حرمة المس لمنعه العموم في الآية الشريفة(51).
ومما استدل به على وجوب المباشرة في الغسل ظاهر قوله تعالى:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا}(52)، وبظاهر قوله تعالى{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}(53) حيث أن الظاهر في كل من الآيتين توجه الخطاب لنفس المكلف، فهو الذي ينبغي أن يقوم بفعل الغسل، فلا يجزيه أن يفعل الغسل به غيره(54)، وذهب إلى ذلك الشهيد الأول، والمحقق النراقي(55) واستدل كذلك على وجوب المباشرة في التيمم بظاهر قوله{فَتَيَمَّمُوا}(56)، لظهورها في لزوم استناد التيمم من نفس المكلف مباشرة.
6- مما استدل به على تصديق النساء بحصول الحيض-ما لم تكن المرأة متّهمة بتضييع حقّ الزوج- ظاهر قوله تعالى:{وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن}(57) حيث استفاد الملازمة بين حرمة الكتمان وبين وجوب قبول قولهنّ؛ فلو لم يجب القبول لما حرم الكتمان(58)، وهو نفس ما استظهره الشهيد الثاني من الآية في مورد اختلاف الزوجين في انقضاء العادة(59)، وبطبيعة الحال ليس المراد هو خصوص كتمان الحيض بل المراد أنَّ الآية تشمل الحيض كما تشمل الحمل(60).
وقد منع الشيخ البهائي الملازمة بين الكتمان وبين وجوب قبول قولهنّ، إذ أنّها ليست بيّنة ولا مبيّنة لاحتمال وجود ثمرة مستقلة في حرمة الكتمان، نظير وجوب عدم كتمان الشهادة على الشاهد وإن عُلم أنّ الحاكم لا يقبل شهادته(61).
7- مما استدل به على جواز التيمم لمن خاف المرض الشديد باستعمال الماء حدوثاً أو استمراراً أو بطؤ برئه سواء كان عاماً لجميع البدن أو مختصاً بعضوٍ بعضُ الآيات كقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(62) وقوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}(63) وقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}(64)، وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(65).
8- مما استدل به على نفي تحقق العدالة بمجرد الإسلام ظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم}(66) حيث أنها تدل على اعتبار أمر آخر وراء الإسلام لأنّ الخطاب فيها للمسلمين وضمير "منكم" راجع إليهم، فهي دالّة على إسلام الشاهدين؛ فيكون قوله "ذوي عدل" دالاً على العدالة بعد حصول الإسلام فهي أمر زائد على مجرّد الإسلام(67).
9- استظهر من قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}(68) حليّة دم السمك، حيث أنّ ذكاة السمك لا تكون بالذبح؛ فدمه ليس مسفوحاً، وبذلك قوى القول بالحلية، غير أنّه رجّح الاحتياط لاحتمال كون حليّة دمه مختصة بما لم يخرج منه، وأما لو خرج منه فيمكن شمول أدلة حرمة الدم له، إذ لم يستثنى من أدلة حرمة الدم سوى الدم المتخلف في الذبيحة(69).
10- قبل الاستدلال بظاهر قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}(70) على نجاسة مطلق الكافر(71).
وقد ذكر بعض الإشكالات على الاستدلال بالآية ثم قام بردّها، منها: أنّ النجس لغة ليس بمعنى النجاسة فلا ظهور في الآية على نجاسة الكافر. وعلى فرض أنّ المراد النجاسة فغاية ما تدل على نجاسة المشرك وهو أخص من المدعى، إذ أنّ المدعى نجاسة الكفار، وهو أعمّ من المشرك.
وأجاب بأنّ الحمل على المعنى اللغوي والعرفي يكون هو المرجع فيما إذا لم يكن في المورد عرف خاص، وفيما نحن فيه يوجد عرف خاص عند الأئمة (عليهم السلام) والمتشرعة حيث أنّ مرادهم من النجس هي النجاسة، وعرف الأئمة (عليهم السلام) في الأحكام الشرعية وفتواهم وأمرهم ونهيهم يرجع في الحقيقة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإنهم نقلة عنه، وحفظة لشرعه وتراجمة لوحيه، وبذلك يتضح بأنّ المراد من النجس في الآية هي النجاسة.
وأمّا دعوى أنّ الآية أخصّ من المدعى فهي غير صحيحة، لأنّ عنوان الشرك يصدق على أهل الكتاب لقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى أن قال تعالى:{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(72).
فنرى صاحب الحدائق (طاب ثراه) استعان بهذه الآية لتوضيح الآية السابقة في شمول المشركين لأهل الكتاب، وعلى هذا فإنه قد يفسر القرآن بالقرآن.
11- استدل على حرمة منع أهل مكة سكناهم عن الحجاج بظاهر قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد}(73) حيث استظهر من الآية مساواة البادي والحاضر في حق الانتفاع بمساكنها ودورها حتى يقضوا مناسكهم، وإذا كان حقاً لهم فمنعهم عنه محرم(74)، والملاحظ أنّ الآية إنما تدل على أصل استحقاق الانتفاع وأما تقييد الاستحقاق بالحاج -مضافا إلى أهلها- إنما هو ببركة الروايات، وكذا التقييد بغاية قضاء النسك.
واستظهار البحراني كاستظهار الشيخ الطوسي حيث قال: «لا ينبغي أن يمنع الحاج شيئاً من دور مكة ومنازلها لأن الله تعالى قال:{سواء العاكف فيه والباد}»(75) وأصرح منه ابن البراج(76).
12- استدل على حرمة أكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(77) ويرى معناها: إن الذين يأكلون مال اليتيم يأكلون ما يجرّهم إلى النار والسعير(78). وما يجرهم إلى النار فلا شبهة في حرمته.
13- استدل بقوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم}(79) على عدم توقف الحكم بالسفه على حكم الحاكم حتى ولو كان السفه غير متصل بزمن البلوغ، وذلك لأنّ الظاهر من الآية أنّ الرشد هو المناط في جواز التصرف في المال، فمتى لم يتحقق لا يجوز التصرف، ومتى ما تحقق فيجوز التصرف، ولا ينافي ذلك كون الآية في مورد اليتيم، لأن تعليق جواز التصرف فيها على علة عامة، فتشمل غيره أيضاً(80).
ومما يؤيد تمسكه بظاهر القرآن أنه قد يفسر بعض مفردات الروايات بالاستعانة ببعض معاني الآيات الكريمة وتفسيرها، وأمثلة على ذلك:
1- جاء في صحيحة داود بن النعمان عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن عمار أصابته جنابة فتمعك(81) كما تتمعك الدابة، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يهزأ به: يا عمار تمعكت كما تتمعك الدابة...الخ(82). حمل كلمة «يهزأ به» على المزاح لعدم صحة حملها على معناها الظاهري وهو السخرية، لأن السخرية لا ينسجم صدورها من الأنبياء (عليهم السلام)، لقوله (عزّ وجلّ) في قصة أمر بني إسرائيل ذبح البقرة:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين}(83)، دلّت على الاستهزاء صفة للجاهلين وأنّ الأنبياء يستعيذون بالله منها.
2- جاءت عدّة روايات في بيان الساتر للمرأة في الصلاة بعضها تشمل على الخمار وبعضها على القناع، ولم تصرح الروايات أنّ الخمار والقناع يستر الشعر والعنق، واستعان صاحب الحدائق لإثبات سترهما للشعر والعنق بما يوحي إليه ظاهر قوله تعالى:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن}(84) وبتفسير هذه الآية بما أورده الطبرسي حيث قال: «أُمرْن بإلقاء المقانع على صدورهن تغطية لنحورهن، فقد قيل: أنهن كن يلقين مقانعهن على ظهورهن فتبدو صدورهن، وكنى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها، وقيل أنهن أمرن بذلك ليسترن شعرهن وقرطهن وأعناقهن، قال ابن عباس: تغطي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها»(85) وبذلك يثبت بأن الخمار الذي جاء في لسان الروايات يكون ساترا للشعر والعنق(86)، فهذه استعانة بظاهر القرآن وتفسيره لتوضيح بعض الروايات.
3- اختلف العلماء في معنى الإنفحة المستثنى من نجاسة الميتة، وذلك لاختلاف اللغويين في تعريف الإنفحة فبعضهم ذهب إلى أنه نفس كرش الحمل، أو الجدي ما لم يأكل فإذا أكل صار كرشا(87).
وبعضهم ذهب إلى أنه ليس نفس الكرش من الحمل أو الجدي ما لم يأكل بل هو شيء يستخرج من بطن الجدي الرضيع أصفر فيُعصر في صوفة فيغلظ كالجبن(88).
واختار صاحب الحدائق المعنى الثاني تمسكاً برواية الثمالي حيث جاء فيها وصف الإمام الباقر (عليه السلام) للإنفحة بقوله «إن الإنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم» وذلك بعد أن وضّح معنى الرواية من خلال تفسير قوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِين}(89) فكما أن اللبن من البقر يكون من ما بين فرث ودم فكذلك الإنفحة من الجدي بمقتضى رواية الثمالي، فإذا اتضح معنى الآية يتضح معنى الرواية، فتعرض لتفسير الآية، قال:«قال في مجمع البيان نقلاً عن ابن عباس: "إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاهُ دماً وأوسطهُ لبناً فيجري الدمُ في العروقِ، واللبنُ في الضرعِ، ويبقى الفرثُ، كما هو"(90).
ومقتضى ذلك أنَّ اللبنَ الذي تشربهُ السخلةُ يصيرُ بعدَ وصولهِ إلى الكرشِ إلى هذه الأقسامِ الثلاثة، ثالثها هو هذا الشيء الأصفر الذي ذكره أهل اللغة، وإن كان بعد رعيه العلف يضمحلّ ذلك ولا يصير كذلك، وإنما يبقى الفرثُ-وهو التفلُ- والدم خاصة»(91).
وبذلك أثبت أن المراد من الإنفحة هو المعنى الثاني.
فيتضح من هذه النماذج أنّ صاحب الحدائق يعمل بظاهر القرآن فيما إذا لم تكن قرينة على الخلاف، بل قد يفسر بعض ما جاء مجملاً في الأحاديث بظواهر بعض الآيات الكريمة.
* الهوامش:
(1) الإخلاص:1.
(2) الدرر النجفية، ج2، ص339؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص27؛ أعيان الشيعة، ج8، ص29.
(3) الدرر النجفية، ج2، 340- 450؛ الحدائق الناضرة؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص27- 32.
(4) الأعراف: 187.
(5) لقمان: 34.
(6) الأنعام: 151، الإسراء33.
(7) الإخلاص:1.
(8) البقرة: 43، 83، 110، وغيرها.
(9) آل عمران: 97.
(10) الأنعام: 141.
(11) المعارج:24.
(12) النساء: 80.
(13) الأحزاب: 56.
(14) الاحتجاج، ج1، ص376- 377؛ بحار الأنوار، ج89، ص45- 46؛ تفسير الصافي، ج1، ص319؛ التفسير الأصفى، ج1، ص139؛ تفسير نور الثقلين، ج1، ص313؛ تفسير كنز الدقائق، ج2، ص16.
(15) الدرر النجفية، ج2
(16) الدرر النجفية، ج2، ص352؛ الحدائق الناضرة، ص34.
(17)الدرر النجفية، ج2، ص353؛ الحدائق الناضرة، ص34
(18) الدرر النجفية، ج2، ص352؛ الحدائق الناضرة، ج1، ص34.
(19) سورة محمد (صلّى الله عليه وآله): 24.
(20) الدرر النجفية، ج2، ص349- 350.
(21) الأنعام: 38.
(22) النحل: 347.
(23) المحاسن، ج1، ص300؛ تفسير العياشي، ج1، ص11، 12، 17- 18؛ تفسير القمي، ج1، ص19؛ وسائل الشيعة، ج27، ص192، أبواب صفات القاضي، ب13، ح41؛ بحار الأنوار، ج89، ص91،94،110- 111.
(24) الكافي، ج8، ص313؛ وسائل الشيعة، ج27، ص185، أبواب صفات القاضي، ب13،ح25؛ بحار الأنوار، ج24، ص238، وج46، ص350، تفسير الصافي، ج1، ص22.
(25) المحاسن، ج1، ص368، ح356؛ وسائل الشيعة، ج27، ص191، أبواب صفات القاضي، ب13، ح38.
(26) البقرة: 260
(27) التوبة: 60.
(28) التوبة: 25.
(29) الدرر النجفية، ج2، ص347- 348.
(30) النساء: 83.
(31) تفسير العياشي، ج1، ص260؛ وسائل الشيعة، ج27، ص171، ب12 من كتاب القضاء، ح56؛ بحار الأنوار، ج23، ص296، باب وجوب طاعتهم ح36.
(32) دعائم الإسلام، ج1، ص24، والآية من سورة النساء: 59، وانظر مناقشة صاحب الحدائق في الدرر النجفية، ج2، ص349.
(33) سورة محمد (صلّى الله عليه وآله): 24.
(34) سورة محمد (صلّى الله عليه وآله): 22- 25.
(35) الدرر النجفية، ج2، ص349- 350.
(36) النساء: 82.
(37) الدرر النجفية، ج2، ص347.
(38) النساء: 43.
(39) الحدائق الناضرة، ج1، ص395.
(40) عبس: 13- 14.
(41) البينة: 2.
(42) الحدائق الناضرة: ج2، ص46.
(43) كتاب الموطأ لمالك، ج1، ص119.
(44) المائدة: 6.
(45) الحدائق الناضرة، ج2، ص129- 130.
(46) الحدائق الناضرة، ج2، ص247.
(47) الحج: 32.
(48) الحدائق الناضرة، ج3، ص47- 48.
(49) جواهر الكلام، ج3، ص47.
(50) اللمعات النيرة، للآخوند الخراساني، ص88.
(51) مستند الشيعة للمحقق النرافي، ج2، ص287.
(52) النساء: 43.
(53) المائدة: 6.
(54) الحدائق الناضرة، ج3، ص95.
(55) ذكرى الشيعة، أحكام الشريعة، ج2، ص172؛ مسند الشيعة، ج155.
(56) النساء: 43، الحدائق الناضرة، ج4، ص354.
(57) البقرة: 228.
(58) الحدائق الناضرة، ج3، ص261- 262.
(59) مسالك الأفهام للشهيد الثاني، ج9، ص194.
(60) زبدة الأحكام للمحقق الأردبيلي، ص591.
(61) الحبل المتين، ص52.
(62) الحج: 78.
(63) المائدة: 6.
(64) سورة البقرة: 581.
(65) البقرة: 195، الحدائق الناضرة، ج4، ص276.
(66) الطلاق: 2.
(67) الحدائق الناضرة، ج10، ص20.
(68) الأنعام: 145.
(69) الحدائق الناضرة، ج5، ص48- 49.
(70) التوبة: 28.
(71) الحدائق الناضرة، ج5، ص164.
(72) التوبة: 30- 31، الحدائق الناضرة، ج5، ص165- 166.
(73) الحج: 25.
(74) الحدائق الناضرة، ج17، ص350- 351.
(75) المبسوط، ج1، ص384.
(76) المهذب للقاضي ابن البراج، ج1، ص273.
(77) النساء: 10.
(78) الحدائق الناضرة، ج18، ص343.
(79) النساء: 6.
(80) الحدائق الناضرة، ج20، ص362 وص372.
(81) التمعك: التقلب فيه، وفي الحديث فتمعك فيه أي تمرغ في ترابه. لسان العرب، ج10، ص490.
(82) الكافي، ج3، ص62؛ تهذيب الأحكام، ج1، ص207؛ الاستبصار، ج1، ص170.
(83) البقرة: 67. الحدائق الناضرة، ج4، ص319- 320.
(84) النور: 31.
(85) مجمع البيان، ج7، ص241- 242.
(86) الحدائق الناضرة، ج7، ص13.
(87) الصحاح للجوهري، ج1، ص413؛ لسان العرب، ج2، ص642؛ تاج العروس، ج4، ص238.
(88) كتاب العين، ج3، ص249؛ القاموس المحيط، ج1، ص253.
(89) النحل: 66.
(90) مجمع البيان، ج6، ص174.
(91) الحدائق الناضرة، ج5، ص87.
0 التعليق
ارسال التعليق