جواز التقصير أو الحلق ليلة العيد للنساء والضعفاء

جواز التقصير أو الحلق ليلة العيد للنساء والضعفاء

من أفعال الحج تمتّعاً، رمي جمرة العقبة وذبح الهدي أو نحره والحلق أو التقصير، كل ذلك بعد الإحرام والوقوفين بعرفات والمشعر.

والمشهور تعيّن إيقاع التقصير أو الحلق في نهار العيد لا ليلته حتى ممن له أن يرمي جمرة العقبة ليلاً، وأفاد السيد الخوئي(قده) في «المعتمد على المناسك» بأن الظاهر كون عدم جواز تقديم الحلق أو التقصير على نهار العيد مما قطع به الأصحاب-على حدِّ تعبيره-(1)، وقد استَدل لعدم جواز التقديم بأمور أربعة:-

الأول: السيرة القطعية.

الثاني: تأخّر الحلق أو التقصير عن الذبح أو النحر، وبما أن لزوم الذبح أو النحر نهار العيد أمرٌ معلوم، فلا يسوغ تقديمهما على النهار.

الثالث: مفهوم الشرط في صحيحة سعيد الأعرج الآتية، فالصحيحة بمفهومها تدل على أن من كان عليه ذبح لا يقصِّر حتى يذبح.

الرابع: الروايات الآمرة بالبدأة بالرمي، ومحلّه النهار، ولازم ذلك وقوع الحلق أو التقصير في النهار بعد الرمي؛ لترتّبهما على الرمي(2).

وفيما عرضناه مجال للمناقشة، والواضح جواز التقصير في حق من جاز له الإفاضة من المشعر إلى منى ليلاً، بعد رميه جمرة العقبة وبعد أن يوكِّل في ذبح الهدي أو نحره، بل له الرجوع إلى مكّة لأداء مناسكها الخمسة، ويدل على كل ذلك مجموع الصحاح التالية – بعد ضمِّ بعضها إلى البعض الآخر وعطف بعضها على البعض الآخر كما سيأتي –.

أولاها: صحيحة أبي بصير قال: «سمعتُ أبا عبدالله(ع) يقول: لا بأس بأن يقدّم (تقدِّم) النساء فيقفن عند المشعر ساعة،ثمّ ينطلق بهنَّ إلى منى فيرمين جمرة العقبة، ثمَّ يصبرن ساعة، ثمّ يقصِّرن وينطلقن إلى مكّة فيطفن، إلا أن يكن يردن أن يُذبح عنهن فإنهن يوكلن من يَذبح عنهن»(3).

ثانيتها: صحيحته الأخرى عن أبي عبدالله(ع) قال: «رخَّص رسول الله(ص) للنساء والضعفاء أن يفيضوا من جمع بليل، وأن يرموا الجمرة بليل، فإذا أرادوا أن يزوروا البيت وكَّلوا من يذبح عنهن»(4).

ثالثتها: صحيحة سعيد الأعرج قال: «قلت لأبي عبدالله(ع): جعلت فداك معنا نساء فأفيض بِهنّ بليل، فقال: نعم، تريد أن تصنع كما صنع رسول الله(ص)؟ قلت: نعم، قال: أفِض بِهنّ بليل، ولا تفض بِهنّ حتى تقف بِهنّ بجمع، ثم أفض بِهنّ حتى تأتي(بهنَّ) الجمرة العظمى فيرمين الجمرة، فإن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصِرن من أظفارهن، ويمضين إلى مكّة في وجوههن، ويطفن بالبيت ويسعين بين الصفا والمروة ثم يرجعن إلى البيت ويطفن أسبوعاً، ثم يرجعن إلى مِنى وقد فرغن من حجهن، وقال: إن رسول الله(ص) أرسل معهن أسامة»(5).

وما تقدّم عن المرحوم السيد الخوئي(قده) من أن هذه الصحيحة تدل بمفهومها على أن من كان عليه ذبح فلا يقصِّر حتى يذبح- فغايته الإطلاق، فكأنه قال: من كان عليه ذبح فلا يقصِّر حتى يذبح، سواءً وكَّل في الذبح عنه أم لم يوكِّل فيه، فنقيِّد إطلاق المفهوم هذا بذيل صحيحة أبي بصير الأولى، فتعود النتيجة ما يلي: من كان عليه ذبح فلا يقصِّر حتى يذبح إلا إذا وكَّل من يذبح عنه،فإن له أن يقصِّر ليلاً.

لا يقال: بأن ذيل صحيحة أبي بصير الدال على كفاية التوكيل لجواز فعل التقصير-هو الآخر- مطلقٌ، فكما نحتمل أن التوكيل نافذ لجواز فعل التقصير ليلاً نحتمل أيضاً أن نفوذه لجواز التقصير في النهار، وإن وقع التوكيل ليلاً.

نعم لا يقال ذلك؛ فإنَّه يتوجه عليه بأن القدر المتيقن من الإطلاق المزبور هو الاحتمال الأول، على أنا نحتمل الفرق بين الذبح ليلاً والتوكيل فيه كذلك من جهة ترتُّب التقصير عليه، فلا شاهد عرفياً على اتحادهما كذلك، سيما بعد نهوض الدليل على جواز الثاني.

ولئن كان مورد صحيحة الأعرج هو من لم يكن عليه ذبح من النساء، وهن من وظيفتهن حج الإفراد – فإن صحيحة أبي بصير الأولى ظاهرة في الاكتفاء ممن وظيفته الذبح أن يوكِّل في الذبح لتسويغ ذهابه إلى مكة للطواف، فان الاستثناء في قوله(ع) "ثم يقصِّرن وينطلقن إلى مكة فيطفن، إلا أن يكن يردن أن يذبح عنهن" – راجع إلى تمام ما بعد كلمة (ثم) لا إلى خصوص جملة "وينطلقن إلى مكة فيطفن"؛ وذلك لأن الفقرة ذات سياق واحد ابتداءً من كلمة (ثم) إلى ما بعد الاستثناء.

وبعبارة أخرى مختصرة: إن هذه الصحيحة كما قد تكفّلت بالحديث عن صورة من لم يكن الذبح في ضمن وظيفتها وهي المفرد، فذكرت أن لها بعد وقوفها بالمشعر ليلاً أن تقصِّر ثم تمضي إلى مكة للإتيان بالطواف – كذلك تحدّثت عن صورة من فرضها الذبح وهي المتمتعة، وذكرت أن لها بعد وقوفها بالمشعر ليلاً أن توكِّل من يذبح عنها، ثمَّ تقصِّر، ثم تمضي إلى مكة لتطوف.

وإذا دغدغ في دلالة هذه الصحيحة على حكم الصورة الثانية فإنه – بعطف الصحيحة الثانية لأبي بصير على الأولى – يتضح حكمها بجلاءٍ، وإذا كانت أولى الصحيحتين تتحدث عن النساء خاصة فإن ثانيتهما تتحدث عنهن وعن الضعفاء معاً، وتشرِّك بينهما في حكم الصورة الثانية، وإذا أُهمل ذكر رمي جمرة العقبة في الأولى من صحيحتي أبي بصير فإن الثانية منهما قد نبَّهت عليه، على أن رمي جمرة العقبة ليلاً للنساء والضعفاء هو مدلول جملة وافرة من الروايات(6) وبموجبها الفتيا بلا خلاف.

ومما قدَّمناه تظهر الخدشة في إطلاق ما تقدم عن السيد الخوئي (عليه الرحمة) من أنه لا يسوغ التقصير ليلة العيد؛ لتأخُّره عن الذبح، ولمّا كان محل الذبح هو نهار العيد فلا محالة يكون التقصير نهاره أيضاً.

بيان الخدشة: أن ما ذكره لا ينسحب على النساء والضعفاء بعد ظهور صحيحتي أبي بصير في كفاية التوكيل في الذبح لجواز فعل التقصير.

كما تظهر الخدشة وبشكل واضح في رابع الأمور التي ساقها في المعتمد لعدم جواز التقصير ليلة العيد، وذلك لأن النساء والضعفاء مرخص لهم أن يرموا ليلة العيد، مع تقديم الرمي على التقصير كما نصَّت عليه صحيحتا سعيد الأعرج وأبي بصير، ومعه فلا تنافيان الروايات الآمرة بالبدأة بالرمي، بل هما في صراط الروايات المشار إليها.

وأما الأمر الأول الذي تمسّك به السيد(قده) لعدم جواز التقصير ليلة العيد وهو السيرة القطعية على فعل التقصير أو الحلق نهار يوم العيد – فيتوجَّه عليه أنها مجرد سيرة فعل مجرد، وأن أقصى ما تفيده جوازه فيه لا تعيُّنه. وكبروياً ثمّ تطبيقاً نقول:إن السيرة القائمة على صحة فعل أو توظيفه شرعاً لا دلالةَ التزاميةً لها على عدم جواز غيره حتى لو كان الفعل الذي قامت عليه السيرة ذا كلفةٍ، فإن غاية الالتزام به كونه راجحاً لا لازماً، ثم أن ما نحن فيه من أمر تأخير التقصير إلى النهار وإن كان مصحوباً بالمؤونة الزائدة بخلاف تعجيله ليلاً، إلا أن في محاولة النساء والضعفاء للتقصير ليلاً مؤونةً أكثر تنشأ من الإفاضة بهم من المشعر إلى مِنى ليلاً ليرموا جمرة العقبة ثم الرجوع عنهم أو بهم للوقوف بالمشعر، فهذه السيرة نظير سيرة المتشرعة على الترتيب بين الجانبين الأيمن والأيسر في غسل الجنابة ؛ فانه لا يستكشف منها اللزوم، كما أفاد ذلك الفقيه الهمداني معلِّلاً بأن مجرد الرجحان في مثل هذه الأشياء التي لا تحتاج إلى كلفة زائدة، كافٍ في استقرار السيرة عليها، نظير غسل اليدين أمام الوضوء (7).

ومما تقدّم نحتمل احتمالاً قريباً أن يكون منشأ السيرة على تأخير التقصير إلى النهار هو إيثار الرجال إبقاء نسائهن ومن معهم من الضعفاء تجنُّبا عن مزيد مؤونة الإفاضة بهم إلى منى ثم رجوع الرجال للوقوف بالمشعر، أو محاذرةً من تفرُّقهم على تقدير إفاضة بعضهم بهم. ومع هذا الاحتمال فلا نجزم بأن السيرة المدّعى قطعيتها ناشئةٌ من التعبُّد الشرعي بتأخير التقصير إلى النهار في حقهم، فلا تعود السيرة – والحال هذه – حجة.

وإمعاناً في الاستشكال في أمر السيرة المدَّعاة أقول- نقلاً عن أحد الأساتيد- إنه لو ثبت عن المتشرِّعة مواظبتهم على التربُّص بالنساء والضعفاء في أمر التقصير إلى النهار وكأنه أمرٌ لا حياد عنه، فإنها آنئذٍ وإن كانت لا تخلو عن دلالة على عدم جواز تقديم التقصير ليلة العيد؛ إذ أن تأخيره إلى ما بعد الذبح نهاراً مشتمل على كلفة بخلاف تعجيله ليلاً-إلا أن إثبات هذا النوع من السيرة في غاية الصعوبة. انتهى ما أفاده (سلَّمه الله).

فالسيرة المدَّعاة كما هي مشكِلةٌ كبروياً، هي كذلك صغروياً.

تنبيه: ثم إن صحيحتي أبي بصير المتقدمتين وان اقتصرتا على ترخيص خصوص طواف الزيارة أو الطواف إلا أنهما لا تنافيان ما تضمنته صحيحة سعيد الأعرج من الترخيص في إتيان تمام أعمال مكّة الخمسة ليلة العيد بعد الرمي والتوكيل في الذبح وفعل التقصير أو الحلق؛ إذ أنهما إثباتيان ولا يتصور التنافي بينهما ما داما كذلك.

تنبيه آخر: يتعيَّن على النساء المضي إلى مكّة لأداء أعمالها فيما إذا خِفن الحيض، ولم يسبق منهن تقديم الطواف على الوقوفين، وذلك لصحيحة أبي بصير الثالثة عن أبي عبدالله(ع) قال: رخَّص رسول الله(ص) للنساء والصبيان أن يفيضوا بليل، وأن يرموا الجمار بليل، وأن يصلُّوا الغداة في منازلهم، فان خفن الحيض مضين إلى مكّة ووكلن من يضحي عنهن (8).

ودعوى أخصِّية هذه الصحيحة من صحيحتي أبي بصيرالسابقتين، فتقيدان بها؛ وذلك لأن ظاهر تفريع "فإن خفن الحيض.." على ما قبله- أنه داخل في الترخيص، وعليه فلا ترخيص في المضي إلى مكة مع التوكيل في الذبح إلا لخائفة الحيض(9).

(هذه الدعوى) غير متَّجهة؛ فإن مفهوم الشرطية وإن كان مسلَّماً، إلا أن جواب الشرطية منطوقاً هو لزوم المضي إلى مكة مع التوكيل في الذبح، فغير خائفة الحيض لا يلزمها ذلك، وهذا لا ينافي جوازهما لمطلق النساء والضعفاء المستفاد من الصحيحتين. نعم لو كان جواب الشرطية هو جواز المضي إلى مكة مع التوكيل في الذبح لكان للشرطية مفهومٌ في عدم جوازهما لغير خائفة الحيض فيقيِّد الصحيحتين.

والمتحصَّل أن من رخِّص له في الإفاضة من المشعر إلى منى ليلاً فكما قد رخِّص له في رمي جمرة العقبة ليلاً، رخِّص له في التقصير بعد التوكيل في الذبح، كما رخِّص له في إتيان أعمال مكّة الخمسة ليلاً(10)، بل يتعيَّن على خائفة الحيض أن توكِّل في الذبح لتقصِّر وتذهب إلى مكة لزيارة البيت.

والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً،وصلّى الله على محمد وآله وسلَّم.

 

* الهوامش:

(1) المعتمد على المناسك 2: 316.

(2) المعتمد على المناسك 2: 317.

(3) الوسائل 14: 30 ب17 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 7.

(4) الوسائل 14: 28 ب17 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 6.

(5) الوسائل 14: 28،30، 29 ب17 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 2.

(6) الوسائل ب17 من أبواب الوقوف بالمشعر.

(7) مصباح الفقيه3: 369-370.

(8) الوسائل 14: 28،30، 29 ب17 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 2،6،7،3.

(9) لاحظ سند العروة الوثقى(الحج) 4: 137.

(10) وقد اطّلعت لاحقاً على مصير علَمين من أعلام مراجعنا (أيدّهم الله) إلى هذا الرأي، وهما سماحة السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم وسماحة الشيخ محمّد إسحاق الفياض(سلَّمهما الله).

لاحظ مناسك الحج والعمرة للحكيم: 177 م425 ط الثامنة(1422هـ)،وتعاليق مبسوطةللفيَّاض 10: 489، ولكنّه في مناسك الحج: 214 م211(الأمر الخامس)اقتصر على ذكر ترخيص الحلق أو التقصير ولم يتعرّض إلى ترخيص العود إلى مكّة ليلاً لأداء مناسكهم.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا