المقدمة
القرآن الكريم كتاب الله المنزل على نبيه المرسل (صلّى الله عيه وآله)، هداية للعالمين، حيث يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويضع عنهم إصر الجهل وأغلال العبودية لغير الله (سبحانه وتعالى)، وهو كتاب إلهي سماوي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الثقل الأكبر الذي قُرن بالعترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعـين، الذين هـم عدل القـرآن وترجمانه، وقد تواتـر بين
العامة والخاصة عن النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله) أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).
بل هم القرآن الناطق، وقد نزل القرآن الكريم في بيوتهم (عليهم السلام)، فليس من العجب حينئذ أن يكون الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو كاتب الوحي، والعالم بآياته المحكمات والمتشابهات، وبالتفسير والتأويل، وبالناسخ والمنسوخ(2)، وهو من تكفل بجمع القرآن الكريم بأمر من النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله) في حياته المباركة وبعد ارتحاله (صلّى الله عيه وآله) للرفيق الأعلى (عزّ وجلّ).
الأحاديث الواردة من طرق أهل السنة والجماعة في جمع القرآن الكريم
ورد في بعض أحاديث جمع القرآن الكريم من طرق المسلمين من أهل السنة والجماعة أنَّ أول من جمع القرآن هو الخليفة الأول أبو بكر(3)، حيث إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وقد سأل أبو بكر زيدَ بن ثابت النظر في ذلك، فأبى حتى استعان عليه بعمر، ففعل(4) وقال أحمد في مسنده: "عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون}، فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: إن رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) أقرأني بعدها آيتين {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} إلى {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ثم قال: هذا آخر ما أنزل من القرآن، قال: فختم بما فتح به الله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}"(5).
وورد في بعض آخر من الأحاديث أن أول من جمع القرآن الكريم هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فقد سأل عمر عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن فجُمِع، فكان أول من جمعه في المصحف(6).
وورد في بعض آخر من الأحاديث أيضاً أن أول من جمع القرآن هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيةَ وأذربيجانَ مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف(7).
ويلاحظ على أحاديث جمع القرآن التي وردت من طرق أهل السنة والجماعة عدة ملاحظات -مضافا إلى أن أكثر هذه الروايات تستبعد دور الإمام على بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث لم تجعله لا من ضمن الذين جمعوا القرآن الكريم، ولا من ضمن الذين كتبوا وأملو القرآن الكريم، ولا من ضمن الذين شهدوا على آيات القرآن الكريم، وكأنه لم يكن موجودا في خضم الأحداث والوقائع-:
أولا: أنها متناقضة(8)، حيث تدعي أن كل واحد من الخلفاء الثلاثة هو أول من جمع القرآن الكريم، لا أنه جمع القرآن الكريم، فلو فرض الاحتمال الثاني، أي أن كل واحد من الخلفاء الثلاثة جمع القرآن الكريم، فحينئذ يمكن التوفيق بين الأحاديث المتقدمة بالقول بتكرر جمع القرآن الكريم من كل واحد منهم، إلا أن الأحاديث المتقدمة تصرح بأن كل واحد من الخلفاء الثلاثة هو أول من جمع القرآن الكريم، ويلزم من ذلك التناقض، أي أن القرآن الكريم في عهد الخليفة الثاني مثلا، كان مجموعا -لأن بعض الأحاديث تصرح بأن أول من جمع القرآن الكريم هو الخليفة الأول- وغير مجموع في الوقت نفسه -لأن بعض الأحاديث تصرح بأن أول من جمع القرآن هو الخليفة الثاني- وحينئذ، فلا يمكن الاعتماد على شيء منها. وأيضا هناك بعض الأحاديث تشير إلى أن الخليفة الثاني لم يكمل مشروع جمع القرآن الكريم، حيث إنه قتل قبل إتمامه، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان، فقتل وهو يجمع ذلك، فقام عثمان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء، فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان فجاء خزيمة بن ثابت، فقال: قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قالوا: ما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله (صلّى الله عليه وسلم): {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن فختم بها براءة"(9). وأيضا هناك حديث يتعرض حتى لتسمية القرآن الكريم بعد جمعه في زمن الخليفة الأول، حيث جاء في كتاب البرهان للزركشي: "ذكر المظفري في تاريخه (لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه، فقال: بعضهم سموه إنجيلا، فكرهوه، وقال بعضهم: سموه السفر، فكرهوه من يهود، فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف، فسموه به)"(10).
ثانيا: هذه الروايات معارضة بروايات أخر -وردت من طرق أهل السنة والجماعة- دلت على أن القرآن كان قد جُمع وكُتب على عهد رسول الله (صلّى الله عيه وآله)، حيث روى قتادة: قال: سألتُ أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد النبي؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد(11).
ثالثا: هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإنَّ كثيراً من آيات الكتاب الكريم دالةٌ على أن سور القرآن كانت متميزةً في الخارج بعضها عن بعض، وأن النبي (صلّى الله عيه وآله) قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم(12).
نعم، قال الحارث المحاسبي: "المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات"(13). علماً بأن من جاء بفكرة توحيد المصاحف على عهد عثمان- كما يذكر البخاري- هو حذيفة بن اليمان(14)، وهو أحد الأركان الأربعة من أصحاب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)(15)، سكن الكوفة، ومات بالمدائن بعد بيعة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأربعين يوما(16).
ولم ينتقد عثمان أحد من المسلمين على عمله هذا؛ وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين وتمزيق صفوفهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضاً، ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف حتى سمي بحَرَّاق المصاحف(17). قال ابن شبة في تاريخ المدينة: "حدثنا علي بن محمد، عن يزيد بن عياض، عن الوليد ابن سعيد، عن عروة بن الزبير قال: قدم المصريون فلقوا عثمان (رضي الله عنه) فقال: ما الذي تنقمون؟ قالوا: تمزيق المصاحف. قال: إن الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر (رضي الله عنه) الفتنة فقال: من أعرب الناس؟ فقالوا: سعيد بن العاص. قال: فمن أخطهم؟ قالوا: زيد بن ثابت. فأمر بمصحف فكتب بإعراب سعيد وخط زيد، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم! فلما كان حديثا كتب إلى حذيفة: إن الرجل يلقى الرجل فيقول: قرآني أفضل من قرآنك، حتى يكاد أحدهما يكفّر صاحبه، فلما رأيت ذلك أمرت الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر (رضي الله عنه) وهو هذا المصحف، وأمرتهم بترك ما سواه، وما صنع الله بكم خير مما أردتم لأنفسكم"(18).
وبعد أن اتفقت الأحاديث الواردة من طرق أهل السنة والجماعة على عدم كون القرآن الكريم مجموعا في زمن النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله)، على الرغم من اختلافها وتعارضها في أول من جمع القرآن الكريم، يحق لنا أن نتساءل في صدد تفنيد الهدف المعلن الذي دعا الخلفاء الثلاثة لجمع القرآن الكريم، حيث إن السبب المعلن الذي دعا الخلفاء الثلاثة لجمع القرآن الكريم -كما تشير بعض الأحاديث- هو خشيتهم من أن يقتل حفظة القرآن الكريم، وبالتالي يضيع القرآن الكريم، وبضياعه يضيع الدين. كيف يحتاط الخلفاء الثلاثة لحفظ القرآن الكريم ويخشون ضياعه إن لم يكتب، ولا يحتاط النبي الأكرم ولا يخشى ضياعه وهو الأعلم والأبعد نظراً منهم؟ فهل هم أحرص على القرآن الكريم وعلى الدين من النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله)؟؟
نسخ وليس بجمع
من المحتمل أن ما قام به الخلفاء الثلاثة في فترة خلافة كل واحد منهم هو مجرد نسخ القرآن الكريم وتكثيره بغرض إرساله للبلدان التي فتحت في زمانهم -بالأخص الخليفة الأول والخليفة الثاني، حيث إن الخليفة الثالث وحّد القراءات-.
وهذا ما يشير إليه الكاتب أحمد حسين يعقوب في معرض رده على فكرة جمع القرآن الكريم من قبل الخلفاء الثلاثة: "كانت عند علي بن أبي طالب نسخة مكتوبة من هذا القرآن، وإن المئات من الصحابة كانت لديهم نسخ مكتوبة ومجموعة من القرآن الكريم، وكل ما في الأمر أنه لما بدأت الفتوحات صارت شعوب البلدان المفتوحة تسأل عن هذا القرآن، فكتب قادة الجيوش لأبي بكر بوصفه الخليفة، فتبنى أبو بكر بمساعدة أركان دولته عملية استنساخ عدد من نسخ القرآن المكتوبة والمجموعة، وأرسلها إلى قادة جيشه. وتكررت العملية مع عمر عندما تولى الخلافة، وتكررت مع عثمان عندما آلت إليه الخلافة، ولا خلاف في أن عثمان بن عفان قد منع قراءات القرآن المعتمدة وحصرها في قراءة واحدة ارتضاها شخصياً، وصارت هي القراءة الرسمية المعتمدة من دولة الخلافة"(19).
ويؤكد هذه الفكرة أيضا الكاتب مير محمدي في كتابه بحوث في تاريخ القرآن، حيث يقول: "أما بالنسبة لما ورد من أن الجمع كان في زمن أبي بكر، فالظاهر أن مقصودهم هو أن أبا بكر قد أمر زيداً أن يستنسخ مصحفاً له من تلك الصحف المكتوبة على عهد النبي (صلّى الله عيه وآله)، والمجموعة في مكان واحد، وقد أشار إلى هذا أبو شامة حيث قال في المقام: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي (صلّى الله عيه وآله)، لا مجرد من الحفظ"(20).
الأحاديث الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) في جمع القرآن الكريم
أما علماء الشيعة فقد قالوا بأن أول من جمع القرآن الكريم وكتبه هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تبعا للروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام)، قال ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب: "ومن عجب أمره -يعني أميرالمؤمنين (عليه السلام)- في هذا الباب أنه لا شيء من العلوم إلا وأهله يجعلون عليا قدوة، فصار قوله قبلة في الشريعة، فمنه سمع القرآن، ذكر الشيرازي في نزول القرآن وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} كان النبي يحرك شفتيه عند الوحي ليحفظه، فقيل له: لا تحرك به لسانك، يعني بالقرآن لتعجل به من قبل أن يفرغ به من قراءته عليك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: ضمن الله محمدا أن يجمع القرآن بعد رسول الله (صلّى الله عيه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال ابن عباس: فجمع الله القرآن في قلب علي وجمعه علي بعد موت رسول الله (صلّى الله عيه وآله) بستة أشهر. وفي أخبار أبي رافع أن النبي (صلّى الله عيه وآله) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي: يا علي هذا كتاب الله خذه إليك، فجمعه علي في ثوب فمضى إلى منزله فلما قُبض النبي (صلّى الله عيه وآله) جلس علي فألفه كما أنزله الله، وكان به عالما. وحدثني أبو العلا العطار والموفق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن علي بن رباح أن النبي (صلّى الله عيه وآله) أمر عليا (عليه السلام) بتأليف القرآن فألفه وكتبه. جبلة بن سحيم، عن أبيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لو ثنيت لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفا كتبته وأملاه عليّ رسول الله (صلّى الله عيه وآله)"(21).
تصريح مصادر أهل السنة برأي علماء الشيعة
وقد وافقهم في ذلك بعض علماء أهل السنة والجماعة، حيث قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: "أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب بن عون عن محمد قال علي: آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. قال: فزعموا أنه كتبه على تنزيله، قال محمد: فلو أصيب ذلك الكتاب كان فيه علم"(22)، وقال العلامة أبو المؤيد أخطب خوارزم في المناقب: "أنبأني أبو العلاء الحسن بن أحمد... (إلى أن قال): عن علي بن رباح أنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله علي بن أبي طالب"(23)، وقال ابن الأثير في أسد الغابة: "وهو -أبو بكر- أول من جمع القرآن، وقيل علي بن أبي طالب أول من جمعه(24)"، وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: "اتفق الكل على أنه -أي علي بن أبي طالب- كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفةً للبيعة، بل يقولون تشاغل بجمع القرآن، فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن"(25)، وقال ابن جزي الكلبي: "كان القرآن على عهد رسول الله مفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي جمعه علي ابن أبي طالب على ترتيب نزوله"(26)، وقال ابن حجر: "وقد ورد أن علياً جمع القرآن على ترتيب النـزول عقب موت النبي. أخرجه ابن أبي داود(27)"، وقال العلامة المحدث الشيخ علي بن برهان الدين الشافعي في السيرة الحلبية:"وهو -أي علي بن أبي طالب- أول من جمع القرآن وسماه مصحفاً"(28).
كلمات علماء الشيعة في جمع القرآن الكريم
وأما علماء الشيعة، فقد اتفقوا على أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أول من جمع القرآن وكتبه، سواء كان ذلك في حياة النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله)، أم بعد ارتحاله للرفيق الأعلى مباشرة وبأمر منه -تبعا لاختلاف الروايات-.
جاء في كتاب مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: "عن السدي قال: قال ابن عباس: أول من أسلم علي قبل الناس بسبع سنين، وكان أول من جمع القرآن"(29)، وقال الشيخ الصدوق: "إن القرآن الذي أنزله الله (سبحانه وتعالى) على محمد (صلّى الله عيه وآله) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس"(30)، وقال علم الهدى السيد المرتضى: "كان القرآن على عهده (صلّى الله عيه وآله) مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن. واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي (صلّى الله عيه وآله) ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي (صلّى الله عيه وآله) عدة ختمات. وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث"(31)، وقال الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي: "وأما الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) في أن علياً أول من جمع القرآن على ترتيب النـزول، ففوق حد الإحصاء"(32)، وذكر السيد نعمة الله الجزائري في كتابه نور البراهين: "أنه روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما جمع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عيه وآله)، شده بردائه وأتى به إلى المسجد إلى أبي بكر وأصحابه، وأخبرهم أن هذا القرآن كما أنزل، وأن النبي (صلّى الله عيه وآله) أمره بجمعه، فقال الأعرابي: لا حاجة بنا إليه، عندنا مثله، فحمله (عليه السلام) وقال: لن يراه أحد حتى يظهر ولدي المهدي، فيحمل الناس على تلاوته والعمل بأحكامه، ولما تخلف الأعرابي أرسل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) حيلةً منه على إحراقه، كما أحرق قرآن ابن مسعود، فلم يرضَ (عليه السلام)"(33)، وقال الميرزا محمد المشهدي في تفسير كنز الدقائق: "فقد كان -الإمام علي (عليه السلام)- أول من جمع القرآن وعلى هامشه الكثير من تفسير مجمله وتبيين معضله، كان (عليه السلام) قد شرح أسباب النـزول، وبين مواقعه وتواريخه، والأفراد أو الجماعات الذين نزلت فيهم الآيات، كما كان قد أشار إلى مواقع عموم الآيات من خصوصها ومطلقها ومقيداتها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها، بل وجميع ما يحتاج إليه المراجع عند فهم الآيات، كل ذلك على الهامش، تتميماً للفائدة"(34)، وقال الشيخ محمد هادي معرفة في كتابه تلخيص التمهيد: "أول من تصدى لجمع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عيه وآله) مباشرةً وبوصية منه هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قعد في بيته مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه على ما نزل، مع شروح وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النـزول ومواقع النـزول بتفصيل حتى أكمله على هذا النمط البديع"(35)، وقال السيد عبد الحسين شرف الدين: "كان القرآن مجموعاً أيام النبي (صلّى الله عيه وآله) على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وكلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان"(36)، وقال السيد الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن، مستدلاً على جمع القرآن بروايات الثقلين: "إن أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله (صلّى الله عيه وآله)"(37)، وقال في موضع آخر: "وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي (صلّى الله عيه وآله): «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي»، وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوباً مجموعاً؛ لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللحاف والعسب والأكتاف، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءاً غير مجتمع، فضلاً عما إذا لم يكتب، وكان محفوظاً في الصدور"(38)، وقال أيضاً: "إن المتصفح لأحوال الصحابة وأحوال النبي (صلّى الله عيه وآله) يحصل له علم اليقين بأن القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله (صلّى الله عيه وآله)، وأن عدد الجامعين له لا يستهان به"(39)، وقال السيد محمد باقر الحكيم في كتابه علوم القرآن: "وهذه العناصر الخمسة -أهمية القرآن الكريم، والخطر في تعرضه للتحريف بدون التدوين، وإدراك النبي (صلّى الله عيه وآله) لهذا الخطر، ووجود إمكانات التدوين، وحرص النبي (صلّى الله عيه وآله) على القرآن والإخلاص له- هي التي تكون اليقين بأن القرآن الكريم قد تم جمعه وتدوينه في زمن الرسول (صلّى الله عيه وآله)؛ لأن أهمية القرآن الذاتية مع وجود الخطر عليه والشعور بهذا الخطر، وتوفر أدوات التدوين والكتابة، ثم الإخلاص للقرآن، حين تجتمع لا يبقى مجال للشك بتدوين القرآن في عهد رسول الله (صلّى الله عيه وآله) وكتابته في زمانه"(40)، ويقول أبو محمد الخاقاني في كتابه مع الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب: "من البعيد جداً أن يمضي رسول الله من هذه الدنيا ثم لا يأمر بجمع ما نزل عليه من سور وآيات يريد أن يتحدى بها الكافرين عامةً، ويريد أن يجعلها نبراساً لأمته، ومرجعاً لمن أراد أن يرجع لأصول الدين وفروعه، وقوله (صلّى الله عيه وآله): «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله و..» يدل على أن كتاب الله كان مجموعاً ومهيئاً للرجوع له، وهذا قول عمر في ذلك الحين: (يكفينا كتاب الله، ما فرط الله فيه من شيء)، فإن هذه قرائن صحيحة تدل على أنه كان مجموعاً وجاهزاً للرجوع والاستفادة منه في المهمات والأزمات. وإذا ثبت أنه جمع فليس هناك جامع له إلا علي بن أبي طالب؛ لأنه هو الشخص الوحيد من كتاب الوحي الذي كان طوع أمر الرسول وحاضراً عنده في سفره وحضره، وهو الذي لازمه ملازمة الظل من أول بعثته، أي من أول نزول الوحي إلى ساعة وفاته"(41).
طريق الجمع بين الأخبار والأقوال
إن طريق الجمع بين الأخبار والأقوال التي تتفق على أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أول من جمع القرآن -على الرغم من اختلافها في التوقيت- هو أنه من المحتمل أن الإمام (عليه السلام) قد جمع القرآن الكريم مرتين، الأولى كانت في عهد الرسول (صلّى الله عيه وآله)، حيث إنه كتبه بإملاء من الرسول (صلّى الله عيه وآله)، وجمعه في مصحف واحد كنص قرآني، من دون شرح وتفسير للمواضع المبهمة من الآيات، ومن دون بيان أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والخاص والعام، أما الجمع الثاني، والذي حصل بعد وفاة النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله)، فقد كان جمعاً تفسيرياً إضافةً إلى النص القرآني، فقد كان على هامشه الكثير من تفسير المجمل وتبيين المعضل، وشرح أسباب النزول، وبيان المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، والأفراد والجماعات التي نزلت فيهم الآيات، وجميع ما يحتاج إليه الناس.
ويؤيد ذلك -إضافةً لما تقدم- جملة من النصوص:
منها: ما أورده الكليني في الكافي في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال:«إذا قام القائم (عليه السلام) قرأ كتاب الله (عزّ وجلّ) على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي (عليه السلام) وقال: أخرجه علي (عليه السلام) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله (عزّ وجلّ) كما أنزله الله على محمد (صلّى الله عليه وآله)، وقد جمعته بين اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن، لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا»(42).
وظاهر الرواية بأن المصحف الذي أخرجه علي (عليه السلام) إلى الناس هو غير المصحف الذي عندهم، أي أن هناك مصحفاً آخراً.
ومنها: ما ذكره ابن شهرآشوب في مناقبه، حيث قال: "وفي أخبار أهل البيت (عليهم السلام): أنه (عليه السلام) آلى على نفسه أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه، فانقطع عنهم مدةً إلى أن جمعه، ثم خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد، فأنكروا مصيره بعد انقطاع الألبة. فقالوا: لأمرٍ ما جاء أبو الحسن، فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم، ثم قال: إن رسول الله (صلّى الله عيه وآله) قال: «إني مخلفٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». وهذا الكتاب وأنا العترة. فقام إليه الثاني وقال له: إن يكن عندك قرآنٌ فعندنا مثله، فلا حاجة لنا فيكما، فحمل (عليه السلام) الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة.
وفي خبر طويل عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنه حمله وولى راجعاً نحو حجرته وهو يقول {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(43)".
والمتحصل مما ذكر أنه لا منافاة بين الأخبار الواردة من طريق أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة جمع القرآن الكريم، حيث إنها تشير إلى نحوين من الجمع، الجمع الأول هو جمع النص القرآني، وقد كان ذلك في زمن النبي (صلّى الله عيه وآله)، بينما الجمع الثاني الذي وقع بعد وفاة النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله) وبأمر منه، فهو جمع القرآن الكريم على ترتيب نزوله، وقد كان على هامشه الكثير من تفسير المجمل وتبيين المعضل، وشرح أسباب النزول، وبيان المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، والأفراد والجماعات التي نزلت فيهم الآيات، وجميع ما يحتاج إليه الناس.
* الهوامش:
(1) كنز العمال، المتقي الهندي،ج5 ص290، وأيضا لاحظ كتاب الغدير للعلامة الأميني، ج1ص176.
(2) قال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص ص317: سمعت جدي ينشد في مجالس وعظه ببغداد سنة [596 ه ] بيتين ذكرهما في كتاب تبصرة المتبدي وهما:
أهــوى عـليـاً وإيـمـاني محبتـه
كم مشرك دمه من سيفه وكفا ( أي سال)
إن كنت ويحك لم تسمع فضائله
فاسمـع مناقبـه من هل أتى وكفى
(3) صحيح البخاري، 6/98، كتاب تفسير القرآن، حديث 4311.
(4) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2/43.
(5) مسند أحمد ج 5 ص 134.
(6) كنز العمال، المتقي الهندي: 2/361.
(7) صحيح البخاري: 6/99، كتاب الجهاد والسير، حديث 2596.
(8) البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص245.
(9) كنز العمال، المتقي الهندي ج 2 ص 574.
(10) البرهان في علوم القرآن، الزركشي ج 1 ص 281.
(11) صحيح البخاري: 6/202، كتاب المناقب، باب القراء من أصحاب النبي، حديث 3526.
(12) البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص252.
(13) الإتقان: 1/103، النوع 18.
(14) صحيح البخاري:6/99، كتاب الجهاد والسير، الحديث 2596.
(15) خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ص131.
(16) رجال الطوسي، الشيخ الطوسي، ص35.
(17) البيان في تفسير القرآن، الخوئي، ص 257. وراجع كنز العمال، المتقي الهندي، ج2 ص580.
(18) تاريخ المدينة، ابن شبة، ج 3 ص 1136.
(19) مساحة للحوار، أحمد حسين يعقوب، ص109.
(20) بحوث في تاريخ القرآن، مير محمدي زرندي، ص124.
(21) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1ص319.
(22) الطبقات الكبرى، ابن سعد ج2 ص338.
(23) المناقب ص 56.
(24) أسد الغابة، ابن الأثير، ج3، ص224.
(25) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص27.
(26) التسهيل لعلوم التنزيل، ج1 ص47.
(27) الإتقان، ج1 ص71.
(28) السيرة الحلبية ج3 ص360.
(29) مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)، محمد بن سليمان الكوفي ص292.
(30) كتاب الاعتقاد ص63.
(31) مجمع البيان، ج1ص15.
(32) التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج6، ص1.
(33) نور البراهين، السيد نعمة الله الجزائري ج1ص528.
(34) تفسير كنز الدقائق، الميرزا محمد المشهدي، ج1، ص5.
(35) تلخيص التمهيد، محمد هادي معرفة، ج1، ص148.
(36) آراء علماء المسلمين، سيد مرتضى الرضوي ص150.
(37) البيان في تفسير القرآن، الخوئي ص250.
(38) ن،م، ص252.
(39) ن،م، ص251.
(40) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص104.
(41) مع الخطوط العريضة لمحب الدين، الخاقاني ص46.
(42) الكافي، الكليني، ج2، ص633.
(43) مناقب ابن شهرآشوب، ابن شهرآشوب، ج2، ص40.
0 التعليق
ارسال التعليق