مقدمة:
من القواعد التي كثر الرّجوع إليها في باب الصلاة هي قاعدة (لا تعاد)، حيث استند الفقهاء عليها لتصحيح صلاة المكلّف الّتي تفتقر إلى بعض الشّرائط المعتبرة، أو نسيان بعض الأجزاء مثلاً.
أمّا عنوانها فقد اشتقّ من صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقرg: >لا تعاد الصّلاة إلّا من خمسة: الطّهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود<[1].
وما نريد بحثه هنا هو مقدار سعة هذه القاعدة من حيث شمولها للجاهل وعدمه؟ ونفرّع الكلام في البحث عن مدرك القاعدة، مع تحرير محلّ النّزاع في المسألة، وعرض الأقوال وأدلّتها، ونختم بعرض الاستثناءات من هذه القاعدة.
وسيكون البحث متركّزاً حول مورد وقوع الخلاف في شمولها للجاهل سواء كان قاصراً أو مقصّراً.
الفصل الأوّل
المبحث الأوّل: المبادئ التّصوّريّة
المطلب الأوّل: تعريف الجهل وأقسامه:
أوّلاً: تعريف الجهل:
الجهل في اللغة: نقيض العلم[2]. وفي الاصطلاح كما عرّفه الشيخ المظفر في منطقه: "هو ليس إلا عدم العلم ممن له الاستعداد للعلم والتّمكّن ومنه"[3].
ثانياً: انقسامه إلى جهل بسيط ومركّب:
أمّا الجهل البسيط: فهو عدم العلم ممن له استعداد العلم مع فرض التفاته إلى جهله.
وأمّا الجهل المركّب: أن يجهل شيئاً، وهو غير ملتفت أنّه جاهل به، بل يعتقد أنّه من أهل العلم به، فلا يعلم أنّه لا يعلم[4].
ثالثاً: انقسامه باعتبار متعلّق الجهل:
الجهل تارة يتعلّق بالموضوع، وأخرى بالحكم. ويتّضح ذلك بمثال: حرمة الصّلاة في الثّوب المغصوب. فالمكلّف تارة يعلم بهذا الحكم الشّرعي، ولكنّه يعتقد أنّ هذا الثّوب مباح رغم أنّه مغصوب واقعاً، وهذا ما يسمّى جهلاً بالموضوع.
وتارة يعلم المكلّف أنّ هذا الثّوب مغصوب، ولكنّه يجهل الحكم الشّرعيّ للصّلاة فيه، وهذا ما يسمّى بالجهل في الحكم.
رابعاً: انقسامه باعتبار مسبوقيّته بالعلم:
الجهل الابتدائيّ: وهو الجهل غير المسبوق بالعلم.
الجهل النّسيانيّ: وهو الجهل المسبوق بالعلم، فالنّسيان بهذا المعنى يكون جهلاً حقيقة، والجاهل بهذا المعنى (أي النّاسي) يُتصوّر في حقّه القصد والتّعمّد، وهذا في قبال الجهل الابتدائي الغير مسبوق بالعلم الذي لا يتأتّى منه القصد والتّعمّد[5].
المطلب الثّاني: المراد من الفريضة والسّنّة:
الفريضة في اللغة: تعني الواجب،" فرَضْت الشّيء أَفْرِضه فَرْضاً وفَرَّضْتُه للتّكثير: أَوْجَبْتُه"[6]،
وفي الصّحاح ما أوجبه الله تعالى، سمّي فرضاً لأنّ له معالماً وحدوداً[7].
وفي الاصطلاح فقد وقع الاختلاف بينهم في تحديد ضابط الفريضة:
الأوّل: ما ذهب إليه السّيّد الخوئيS: ما فرض في الكتاب، أي ما تصدّى القرآن الكريم لبيانه واعتبار وجوبه، فالطّهور مثلاً تعرّض القرآن الكريم لبيان اعتباره في الصّلاة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[8]،[9].
الثّاني: مختار السّيّد السّيستانيF: ما فرض في الكتاب أو ورد في السّنّة تفسيراً أو تفصيلاً للكتاب، فعمّم الفريضة لما يَرِد في السّنّة تفصيلاً للكتاب نفسه[10].
الثّالث: ما فرضه الله تعالى في مقابل ما سنّه النّبيe، وإن لم يكن في الكتاب ولم يرد في رواية تفصيلاً في الكتاب[11].
السّنّة في اللغة: الطّريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم: سننت الشّيء بالمسن إذا أمررته عليه، حتّى يؤثّر فيه سَناً أي طريقاً، وهي الصّورة وما أقبل عليك من الوجه[12] وهي الطّريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السُّنّة، معناه من أهل الطّريقة المستقيمة المحمودة، والسُّنّة: الطّبيعة[13].
وفي الاصطلاح تطلق لفظ السنّة على مجموعة من المعانيّ:
الأوّل: تطلق على الحكم الّذي بيّنه النّبي|، وذلك في مقابل الحكم الشّرعيّ الّذي تصدّى القرآن الكريم لبيانه، ويعبّر عنه بالفرض، وبهذا فهُمْ يُطْلقون -وتبعاً لبعض الرّوايات- على الوقوف بالمشعر الحرام عنوان الفرض، وذلك لأنّ القرآن الكريم قد تصدّى لبيانه.
الثّاني: تطلق على الأحكام الشّرعيّة الّتي جعلها النّبيe بتخويل من الله تعالى، في قبال المجعول من الله تعالى ابتداءً، فإنّه يطلق عليه عنوان الفرض، ومثاله الرّكعتين الأخيرتين في الصّلوات الرّباعيّة، والرّكعة الثّالثة في صلاة المغرب فإنّها من السّنّة؛ لأنّها مجعولة من قبل النّبي| بتفويض من الله تعالى، وفي قبال ذلك الرّكعتين الأوليين في تمام الصّلوات اليوميّة، فإنّها فريضة باعتبارها مجعولة من الله تعالى ابتداءً، كما دلّت على ذلك مجموعة من الرّوايات.
الثّالث: تطلق على كلّ فعل ثبت استحبابه في الشّريعة، وذلك في مقابل ما ثبت وجوبه في الشّريعة، فيقال النّافلة سنّة، وصلاة الظّهر فريضة.
الرّابع: تطلق على الأحكام الثّابتة في الشّريعة، وذلك في مقابل ما لم يثبت فيها كالبدعة، وهو إسناد ما ليس من الشّريعة إليها[14].
والمعنى المقصود من السّنّة في الحديث محلّ البحث، ما تصدّى رسول اللهe لاعتباره وإيجابه، وليس المراد من السّنّة والفريضة المعنى المعروف المندوب والواجب؛ لأنّه من الواضح أنّ القراءة والتّشهّد ليسا من مستحبّات الصّلاة بل من واجباتها.
المبحث الثّاني: مدرك القاعدة ومفادها إجمالاً
أمّا مدرك القاعدة فهو ما رواه الشّيخ الصّدوق بسنده عن زرارة عن أبي جعفرg أنّه قال: >لا تعاد الصّلاة إلا من خمسة: الطّهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود ثمّ قال g: القراءة سنّة، والتّشهّد سنّة، والتّكبير سنّة، ولا تنقض السّنّة الفريضة<[15].
المطلب الأوّل: سند الحديث:
السند معتبر، فطريق الشيخ الصدوق إلى زرارة صحيح كما في الخصال ومن لا يحضره الفقيه وجميع الرواة ثقاة[16]، ولهذا قال صاحب القواعد الفقهيّة السّيّد البجنوردي: "ولا يمكن الخدشة فيها من حيث السّند والصّدور؛ لصحّة سندها وعمل الأصحاب بها"[17].
المطلب الثّاني: دلالة الصّحيحة
الحديث وارد في بيان الوظيفة الشّرعيّة عند الخلل في الصّلاة، حيث قسّمت الرّواية أجزاء الصّلاة وشرائطها إلى قسمين:
القسم الأوّل: ما تبطله الصّلاة عند حصول الخلل فيه، وهي الخمسة المذكورة في عقد المستثنى وهي: (الطّهور، والوقت، والقبلة، والرّكوع، والسّجود).
القسم الثّاني: ما لا تبطله الصّلاة عند وقوع الخلل فيه وهي باقي الأجزاء والشّرائط الواقعة في عقد المستثنى منه، حيث عبّرت الرّواية: >لا تعاد الصّلاة إلا من خمسة....<. والرّواية مطلقة من جهة بطلان الصّلاة عند وقوع الخلل في القسم الأوّل فتشمل الخلل العمديّ والسّهويّ والجهل والزّيادة والنّقصان، وكذلك لا إعادة عن الخلل الواقع في القسم الثّاني سواء كان عن عمد، أو سهو، أو زيادة أو نقصان، أو جهل بقسميه القصوريّ والتّقصيريّ، سواء كان في الحكم أم الموضوع، إلا أنّ هناك مقيّدات لهذا الإطلاق الابتدائيّ، كصحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصّادقg في رجل تيّقن أنّه زاد سجدة فقالg: >لا يعيد الصّلاة من سجدة، ويعيدها من ركعة<[18] وغيرها.
فالخلل إذا كان في أحد هذه الأمور الخمسة فتبطل الصّلاة، أمّا في غيرها فلا تبطل على تفصيل مذكور في محلّه.
وممّا تقدّم يتّضح مفاد القاعدة أنّ حكم من أخلّ ببعض أجزاء الصّلاة أو شرائطها فإنّه يمكن تصحيح صلاته، وإن شئت قلت: إذا حصل الخلل في ركن من أركان الصّلاة بل لو وقع الخلل في أحد الخمسة المذكورة بطلت الصّلاة، حتى لو كان الإخلال عن عمد أو جهل بخلاف غيرها من الأجزاء والشّرائط، كما لو أنّ المكلف نسي القراءة ودخل في الرّكوع، فإنّه يتمّ صلاته وتحكم بالصّحة، بخلاف ما لو نسي تكبيرة الإحرام أو الرّكوع حتّى دخل في ركن لاحق للجزء المنسيّ، فإنّ الصّلاة تحكم بالبطلان.
المبحث الثّالث: تحرير محلّ النّزاع مع بيان أقوال العلماء:
المطلب الأوّل: تحرير محلّ النّزاع:
بعد الفراغ من عدم شمول القاعدة لمن أخلّ بشيءٍ من الأجزاء أو الشّرائط عالماً عامداً ملتفتاً، وذلك بمقتضى نفس أدلّة الشّرطيّة والجزئيّة، أو بمقتضى لزوم اللغويّة العرفيّة ونقض الغرض بحسب المنظور العرفيّ، يبقى الحديث عن اختصاص القاعدة بالنّاسيّ- وهو القدر المتيقّن-، أو شمولها للجاهل أيضاً، وقد عرفت سابقاً أنواع الجهل وأقسامه، فهل تشملها جميعاً أو تشمل بعضها -على فرض دخول الجاهل في مفاد القاعدة-.
المطلب الثّاني: الأقوال في المسألة:
القول الأوّل: عدم شمول القاعدة للجاهل مطلقاً، سواء القاصر أو المقصّر، ومورد جريانها النّاسيّ فقط، وممن ذهب الى هذا القول الميرزا النّائينيّ والمحقّق الحائريّ+.
القول الثّاني: تجري القاعدة في مورد الجاهل القاصر فقط، وهو ما نسبه السيّد البجنورديّ إلى الشّيخ الأعظم الأنصاريّ، وكذلك ذهب إليه مشهور المعاصرين كالسيّد الخوئيّ والسيّد الإمام الخمينيّ_ وغيرهما.
الفصل الثّاني: استعراض الأدلّة
المبحث الأوّل: أدلّة عدم شمول القاعدة لمطلق الجاهل
الدليل الأوّل: الرّوايات الّتي تدلّ على لزوم الإعادة من الجاهل مطلقاً:
الرّواية الأولى: صحيحة زرارة: محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة عن أحدهماi قال: >إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى فرض الرّكوع -والسجود والقراءة سُنّة -فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصلاة- ومن نسي فلا شيء عليه<[19].
أمّا طريق الشّيخ الصّدوق إلى زرارة فإنّه صحيح معتبر كما تقدّم، وأمّا تقريب الاستدلال بالرّواية على لزوم الإعادة على الجاهل القاصر والمقصّر فيمكن بيانه في مقدّمتين:
الأولى: ضابطة التعمّد هي الإتيان بالفعل عن قصد ملتفتاً إلى عنوانه، وإن لم يكن ملتفتا إلى حكمه، كمن ترك القراءة مع علمه بتركها وإن كان جاهلاً بحكمها، فيصدق عليه بأنّه متعمّد.
وهذه الضّابطة منطبقة على الجاهل؛ بمقتضى تقابل عنواني التعمّد والنّسيان في الرّواية، حيث قال: >فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة، ومن نسي فلا شيء عليه<، فإنّ مقتضى المقابلة أنّ المراد بالتعمّد من ليس ناسياً، وهذا يشمل الجاهل، فمن ترك القراءة جاهلاً بجزئيّتها وإن كان الجهل جهلاً قصوريّاً، فإنّ مقتضى إطلاق هذه الرّوايّة أن يعيد صلاته.
الثّانية: معارضة حديث (لا تعاد) لصحيحة زرارة؛ باعتبار أنّ (لا تعاد) لا يخلو حالها، إمّا أنّها تشمل العالم العامد وإمّا منصرفة عنه، وعلى كلا الاحتمالين يقع التّعارض بين (لا تعاد) وصحيحة زرارة.
فعلى الاحتمال الأوّل-شمول (لا تعاد) للعالم العامد- تكون (لا تعاد) أعمّ من صحيحة زرارة؛ لأنّ مفاد (لا تعاد) عدم مبطلية الإخلال بأيّ سنّة عن عمد أو جهل أو نسيان، بينما صحيحة زرارة تفيد مبطليّة الإخلال العمديّ دون الإخلال عن نسيان، فمفادها أخصّ من (لا تعاد) فيقع التّنافي بينهما، ومقتضى ذلك تخصيص (لا تعاد) بصحيحة زرارة.
وعلى الاحتمال الثّاني-عدم شمول (لا تعاد) للعالم العامد- فإنّه يمكن تصوير التّنافي من جهة شمول (لا تعاد) لغير السنّة- القراءة- المذكورة في صحيحة زرارة، فلا تعاد تشمل القراءة والتّشهّد والتّكبير، فتشترك (لا تعاد) مع صحيحة زرارة في القراءة، فتكون النّسبة عموم وخصوص من وجه، فلا تعاد تقول بالصّحة في فرض الجهل وصحيحة زرارة تقول بالبطلان إذا كان كذلك، فيحصل التّنافي.
وبناءً على هاتين المقدّمتين وبعد التّعارض والتّساقط، يرجع إلى الأدلّة الأوّليّة الّتي تقتضي إعادة الصّلاة من باب عدم امتثال الأمر بالمركّب[20].
الرّواية الثّانية: صحيحة منصور بن حازم، محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله g: >إنّي صلّيت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها، فقال: أليس قد أتممت الرّكوع والسّجود؟ قلت: بلى، قال: قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً<[21].
الظّاهر من الصّحيحة أنّ صحّة الصّلاة تدور مدار تحقّق عنوان النّاسي حيث وردت في بيان حكم من ترك القراءة في الصّلاة نسياناً (قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً)، فحكمت بصحّة الصّلاة بشرط إتمام الرّكوع والسّجود، ومقتضى مفهوم الشّرط فيها، إذا لم تكن ناسياً فتجب عليك الإعادة؛ لعدم تماميّة أجزاء الصّلاة[22]، والإخلال بترك القراءة عن جهل ليس من الإخلال بالقراءة نسياناً، فتجب إعادة الصّلاة.
الدليل الثّاني: معارضة أدلة الأجزاء والشّرائط لحديث (لا تعاد):
يبتني هذا الدليل على التّسليم بأنّ حديث (لا تعاد) له إطلاق يشمل الجاهل مطلقاً، ولكنّ هذا الإطلاق معارَض بإطلاق الأدلّة الدالّة على أجزاء الصّلاة وشرائطها كقول الرّسولe: >لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب<، وكرواية زرارة قال: قال أبو جعفرgـ في حديث ـ >وقم منتصِباً فإنّ رسول اللهe قال: من لم يُقِم صلبه فلا صلاة له<[23] ونحوهما، فإنّ لهذه الأدلّة وغيرها إطلاقاً يشمل العامد والنّاسيّ والجاهل من حيث إنّ القراءة والقيام واجبان في الصّلاة مطلقاً، نعم خرج النّاسيّ عن مقتضى هذا الإطلاق باعتباره القدر المتيقّن من حديث (لا تعاد)، ويبقى الجاهل مشمولاً لحديث (لا تعاد) وكذلك مشمولاً لهذه الإطلاقات، وبالتّالي يحصل التّعارض بين إطلاق الدّليلين في حقّ الجاهل.
فيحصل التّعارض بين إطلاق الحديثين فيتساقطان، وهنا تكون وظيفته العمل بمقتضى قاعدة الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ[24].
الدّليل الثّالث: أ- عدم صحّة مخاطبة الجاهل بالإعادة:
نقل السّيّد الخوئيّ عن المحقّق النّائيني_ أنّ الجاهل لا تصحّ مخاطبته بالإعادة، وبيانه بنقطتين:
الأولى: حديث (لا تعاد) وارد في بيان حكم من يصحّ مخاطبته بالإعادة، أمّا من لا يصحّ توجيه الحكم له بذلك كالجاهل فهو خارج عن دائرة (لا تعاد)؛ لأنّه لم يوجّه إليه خطاب أصلاً لينفى بـ(لا تعاد)، أمّا النّاسيّ فهو عاجز عن الإتيان بالصّلاة المشتملة على الجزء المنسيّ.
الثّانية: الجاهل كالعالم مخاطب بالأجزاء والشّرائط، فإذا لم يأتِ بأحدها بصورة صحيحة نتيجة جهله، فهنا لا يخاطب بالإعادة بل نفس التّكليف والأمر الأوّل هو المحرِّك له نحو الامتثال الصّحيح التّام لكلّ الأجزاء؛ باعتبار أنّه لم يمتثل الأمر بصورة صحيحة، فلا تفرغ ذمّته من هذا التّكليف فيكون حاله حال العالم؛ لاشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، نعم الفارق بينهما في مسألة التّنجيز والعقاب، فهو غير منجّز في حقّه والعقاب موضوع عنه.
النّتيجة: يكون الجاهل مكلفاً بنفس الصّلاة التي أمر بها أوّلاً، لا بأمر جديد بإعادتها كما هو الحال بالنّسبة للنّاسيّ[25].
ب- انصراف حديث (لا تعاد) عن مطلق الجاهل
المنقول عن المحقّق النّائينيّS[26] أنّه يرى اختصاص حديث (لا تعاد) بفرض النّسيان وعدم شموله لفرض الجهل.
ويتّضح دليله في نقطتين:
الأولى: إنّ حديث (لا تعاد) منصرف عن الجاهل، كما لو خالف المكلف التّكليف الواقعيّ، كأن صلّى جاهلاً بنجاسة ثوبه أو بوجوب قراءة السّورة، ثم علم بعد الصّلاة، فهنا لا يخلو الأمر من أن يكون التّكليف الواقعيّ ما زال باقياً وفعليّاً، ومحرّكاً له نحو الامتثال التّامّ لكلّ الشّرائط والأجزاء، ولا معنى لمخاطبته مرّة أخرى، أو أنّه سقط، بمعنى عدم فعليّة الأمر الواقعيّ في حقّه، فهنا لا يتصوّر خطاب في حقّه سوى الخطاب بالإعادة أو بعدم الإعادة.
الثّانية: في مورد النّسيان يتحقّق موضوع الإعادة، بخلافه في مورد الجهل، وبيان ذلك:
أمّا مورد النّسيان كما لو صلّى المكلّف ناسياً نجاسة ثوبه أو قراءة السّورة، ثم تذكّرها بعد الصّلاة، فهنا لا يعقل أن يتوجّه إليه أمر بالإتيان بالمركّب المشتمل على الأجزاء أو الشّرائط المنسيّة، فيكون الأمر الواقعيّ ساقطاً في حقّه، فلا تجب عليه إعادة الصّلاة؛ لأنّه لا يعقل أمر النّاسيّ بالمركّب بالأجزاء الّتي نسيها لعدم إمكان التفاته إلى الخطاب، وعدم القدرة على الامتثال لفرض النّسيان، وحديث (لا تعاد) ناظر إلى حالة يصحّ فيها مخاطبة المكلّف بالإعادة، والنّاسي يصحّ في حقّه ذلك، فتشمله (لا تعاد) النّافية لوجوب الإعادة.
أمّا مورد الجهل كما لو صلّى المكلّف جاهلاً بنجاسة ثوبه أو بوجوب قراءة السّورة، ثم علم بعد الصّلاة، فهنا لا يسقط الأمر الواقعي؛ لاشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.
ومع افتراض علمه بعد ذلك، فإنّه يخاطب بنفس ذلك الأمر الواقعيّ، ألا وهو وجوب صلاة بثوب طاهر وبسورة بعد الفاتحة، ولا يخاطب بأمر جديد، فلا يصحّ في حقّه أن يخاطب بالإعادة كما في صورة النّسيان، وعليه يكون الجاهل خارجاً عن موضوع الإعادة، وهذا يعني انصراف حديث (لا تعاد) عن الجاهل.
وإن شئت قلت: (لا تعاد) في الحديث ناظرة إلى من يصحّ في حقّه الخطاب بالإعادة، فتنفى بـ (لا تعاد)، والجاهل لا يصحّ في حقّه ذلك، فيكون حديث (لا تعاد) منصرفاً عن الجاهل.
الدّليل الخامس: لزوم أحد محذورين- ثبوتيّ أو إثباتيّ- من شمول (لا تعاد) للجاهل
وهو ما ذكره المحقّق الحائريّ+ في كتاب الصّلاة من لزوم شمول لا تعاد للجاهل أحد محذورين ثبوتيّ أو إثباتيّ:
الأوّل: اختصاص الحكم بالعالم به دون الجاهل، فمن جهل حكم جزئيّة السّورة أو شرطيّة الطّهارة في السّاتر، فإنّه بمقتضى (لا تعاد) لا يكون مكلّفاً بهذه الجزئيّة وبهذه الشّرطيّة لعدم علمه بذلك.
الثّاني: وعلى القول بشمول الجزئيّة والشّرطيّة للجاهل يلزم المحذور الإثباتيّ، حيث إنّ المستفاد من ظاهر (لا تنقض السّنّة الفريضة) تماميّة عمله، وعدم إتيانه بالسّورة (السّنّة) لا أثر له في بطلان الفريضة، وهذا يتنافى مع القول بصحة صلاته من باب إسقاط التّكليف، فمع أنّ التّكليف عامّ للعالم والجاهل ومع ذلك يسقط لجهله بحكم السّورة مثلاً، فصحّة الصّلاة من باب الإسقاط مخالف لظاهر (لا تعاد) في تماميّة عمله.
وعليه لا يمكن القول بشمول (لا تعاد) للجاهل للزوم ذلك أحد هذين المحذورين، فإنّ القول بأنّ الجزئيّة أو الشّرطيّة خاصّة بالعالم، يلزمه محذور ثبوتيّ، وإنّ القول بأنّ الجزئيّة أو الشّرطيّة عامّة للجاهل لكن عمله مسقط، يلزمه محذور إثباتيّ[27].
المبحث الثّاني: مناقشة أدلّة عدم جريان القاعدة في حالة الجهل مطلقاً
أوّلاً: مناقشة الدّليل الأوّل- الرّوايات-:
مناقشة الرّواية الأولى: ما ذكره السّيّد الإمام الخمينيّS[28]:
أوّلاً: عدم تماميّة المقدّمة الأولى؛ حيث إنّ المستدلّ فسّر (العمد) بعدم النّسيان بحيث يشمل الجاهل، إلّا أنّ معنى العمد عند العرف الإتيان بالفعل ملتفتاً إلى أمرين: إلى عنوانه عن قصد (الموضوع) وإلى الحكم أيضاً، ولا يكفي الالتفات إلى خصوص الأمر الأوّل.
وممّا يشهد على ذلك من القرآن والسّنّة:
أمّا من القرآن العزيز فقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[29]، فمن قتل مؤمناً متعمّداً معتقداً بكفره فإنّه لا تنطبق عليه هذه الآية.
ومن السّنة ما نقله زرارة، عن أبي جعفرg في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: >أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته<[30]، فتارك الإخفات جهلاً بالحكم لا شيء عليه، إلّا أن يكون تركه مع علمه بالحكم، فإنّه تلزمه الإعادة، وهذا بمقتضى المقابلة بين حالتي الحكم بالإعادة وعدمه.
ثانياً: مع التسليم بكفاية الموضوع من دون مدخلية الحكم في ضابطة العمد، يكون معنى العمد مجملاً؛ فإنّ عنوان العمد كما استعمل في المعنى الأوّل، فقد استعمل في- المعنى الثّاني- الإتيان بالفعل عن التفات للحكم والموضوع-.
فتبيّن عدم ظهور عنوان العمد في صحيحة زرارة بالمعنى الأوّل لكي يشمل الجاهل، وعليه فالاستدلال بصحيحة زرارة على عدم شمول حديث لا تعاد للجاهل بالحكم غير تامّ.
مناقشة الرّواية الثّانية: صحيحة منصور بن حازم:
أوّلاً: إنّ المفهوم المدّعى مسوق لبيان تحقق الموضوع، وقد صرّحوا بعدم حجّيّته، حيث قال الإمامg: >قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً<، فالشّرط إذا كان ناسياً هو عين الموضوع، وهو وقوع الخلل نسياناً، وبانتفاء الشّرط ينتفي الموضوع، فلا يكون لها مفهوم فهي سالبة بانتفاء الموضوع[31].
ثانياً: يتوقف الاستدلال بالرّواية على كون النّسيان في الرّواية قيد احترازيّ، ولكن يوجد احتمال آخر في كلمة (ناسياً)، وهو كون النّسيان من باب أنّه مجارات لسؤال السّائل؛ حيث إنّ السّائل فرَض النّسيان في قوله: "إنّي صلّيت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها"، فأجابه الإمامg بقوله: >قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً<، وعليه لا ينعقد المفهوم للجملة الشّرطيّة لكي يستدلّ به على بطلان الصّلاة حالة الجهل[32]، فيختصّ حكم هذه الصّحيحة بالنّاسي من أنّه لا تجب عليه الإعادة لو ترك القراءة، أمّا الجاهل فهي ساكتة عنه فلا يمكن الاعتماد على هذه المعتبرة لتقييد إطلاق (لا تعاد) للجاهل.
ثانياً: مناقشة الدّليل الثّاني-معارضة أدلّة الأجزاء والشّرائط لحديث (لا تعاد)-:
أوّلاً: إنّ حديث (لا تعاد) حاكم على هذه الرّوايات الدّالّة على الأجزاء والشّرائط؛ لأنّه ناظر إليها ومبيّن لها، حيث إنّها لم تتكفّل بنفسها بيان اختصاصها بالعالم، وبما أنّ الحكومة توسّع وتضيّق، فإنّ (لا تعاد) تضيّق من دائرة الأجزاء والشّرائط بالنّسبة للجاهل والنّاسي، فالقاعدة تقتضي عدم الجزئيّة والشّرطيّة للأجزاء والشّرائط الّتي تركها المصلّي عن نسيان أو جهل، وعليه لا تصل النّوبة إلى التّعارض الموجب لسقوط كلا الدّليلين.
ثانياً: مع التّسليم بالمعارضة وغضّ النّظر عن الحكومة المذكورة، فإنّ المرجع إلى أصالة البراءة؛ لتعارض الإطلاقين وتساقطهما، بل للشّكّ في اعتبار الجزئيّة في حالة الجهل مع العلم بها في حالة العلم، فيقتصر على القدر المتيقّن.
ودعوى التّمسّك بمرجحيّة الشّهرة، مدفوعة بأنّ الشّهرة الفتوائيّة-كما في المقام- لا تعدّ من المرجّحات كما ثبت في مباحث الأصول[33].
ثالثاً: مناقشة الدّليل الثّالث -عدم صحّة مخاطبة الجاهل بالإعادة- ويمكن الجواب على ما أفاده+ بعدم التّسليم بالنّقطة الثّانية، فالجاهل وخصوصاً القاصر كالنّاسي من حيث استحالة تكليفه لتعذّر مخاطبته وعدم قدرته على تلقّي الأمر بالتّكليف، فلو ترك الجاهل بعض الأجزاء كما في القاطع المعتقد للخلاف على نحو الجهل المركّب, فهنا لا يتوجّه إليه تكليف على خلاف قطعه، فيكون كالنّاسي فتصحّ مخاطبته بالإعادة.
بل يمكن القول بأنّ مدعى عدم صحّة مخاطبة الجاهل بالإعادة لمجرّد كونه مأموراً بالأجزاء والشّرائط غير صحيح؛ لأنّ ذلك لا يتنافى مع صحّة مخاطبته بالإعادة تأكيداً للأمر الأوّل، أو لرفع توهّم سقوط الأمر بما أتى به من عمل واجد للخلل، والعرف لا يرى قصوراً في ذلك[34].
رابعاً: مناقشة الدّليل الرّابع- انصراف حديث (لا تعاد) عن مطلق الجاهل-:
1- لا فرق بين النّاسي والجاهل من جهة صحة توجيه الخطاب لهما بالإعادة؛ لأنّ النّكتة في ذلك هي نظر العرف، والعرف لا يفرق بينهما بحيث يوجب الإعادة على النّاسي فقط، ويكون حديث (لا تعاد) مسقطاً لوجوب الإعادة، بل كذلك الجاهل يرى وجوب الإعادة عليه أيضاً، وتسقط بحديث (لا تعاد).
وعليه إذا دخل النّاسي في الصّلاة وتذكّر أثناءها أو بعدها، وكذلك الجاهل علم في الأثناء أو بعد الصّلاة، فإنّه بنظر العرف يصحّ مخاطبتهما بالإعادة، إلا أنّ (لا تعاد) تسقطها عنه، وهذا بخلاف ما لو لم يدخل في الصّلاة أصلاً؛ لأنّ الأمر الواقعيّ فعليّ وباقٍ في حقّه يحرّكه نحو الامتثال، وهذا بمقتضى نظر (لاتعاد) إلى من سقط الأمر الواقعيّ عنه[35].
2ـ إذا كان المدار في مخاطبة النّاسي بالإعادة أو بعدمها على سقوط الأمر الواقعيّ، فهذا يمكن تصوّره في الجاهل أيضاً، وذلك كما في حالة الجهل المركّب، كأن يكون الجاهل قاطعاً بعدم وجوب السّورة ثم انكشف له الخلاف في الأثناء أو بعد الصّلاة، فإنّه في هذه الحالة أيضاً لا يمكن تكليفه بالأمر الواقعيّ، لامتناع تكليف القاطع بما يخالف قطعه، فيكون مخاطباً بالإعادة أو بعدمها، فتأتي (لا تعاد) لتسقط عنه ذلك[36].
وهذان الإشكالان بناءً على أنّ مراد المحقّق الميرزا النّائينيّ هو اختصاص (لا تعاد) بالنّاسيّ، وأمّا بناءً على شمولها لكلّ مورد لم يمكن للشّارع توجيه الأمر بالصّلاة التّامّة إلى المكلّف كما في المضطرّ، والمخطئ، والغافل كما في تقرير الصّلاة للآمليّ فلا يتمّان، حيث قال: "مورد عدم وجوب الإعادة المستفاد من صحيحة زرارة وهو حديث (لا تعاد) ما كان مقتضى القاعدة لولا الصّحيحة هو الإعادة"[37]، أي إنّ ظاهر حديث (لا تعاد) بقرينة التعبير بلا تعاد أنّه لولا هذا الحديث لكان مقتضى القاعدة في حقّه هو الإعادة، وهذا غير مختصّ بصورة النّسيان، بل يعمّ كلّ مورد لم يمكن للشّارع توجيه الأمر بالصّلاة التّامّة إليه، ففي كلّ مورد لا يمكن للشّارع أن يأمر المكلّف بالصّلاة التّامّة، يكون مقتضى القاعدة الإعادة لولا حديث (لا تعاد)، وهذا أيضاً يتصوّر في النّاسيّ، إذ لا يمكن أن يأمره المولى بما نسي، كذلك يتصوّر في المضطرّ والمخطئ والغافل[38].
3ـ لو سلّمنا بمقالة المحقّق النّائينيّS، من أنّ حديث (لا تعاد) لا يشمل الجاهل، لأمكن القول: إنّ مقتضى قوله التفصيلُ بين الجاهل الّذي لم يتجاوز المحلّ بحيث يمكنه التّدارك، وبين الجاهل الذي تجاوز المحلّ، فإنّ في مثله لا يمكن مخاطبته بالأمر الأوّل، بل يتعيّن خطابه بالإعادة فتشمله (لا تعاد)؛ لإمكان إيجاب الإعادة في حقّه ونفيها كالنّاسيّ.
ولهذا قالS: "والجواب عن ذلك: أنّ الجاهل وإن كان مكلّفاً بالإتيان بالمركّب واقعاً، إلاّ أنّه محدود بما إذا أمكنه التّدارك ولم يتجاوز عن محلِّه، وأمّا إذا تجاوز عن محلِّه فأيّ مانع من الأمر بالاعادة عليه، مثلاً إذا كان بانياً على عدم وجوب السّورة في الصّلاة، إلاّ أنّه علم بالوجوب وهو في أثناء الصّلاة فبنى على وجوبها، فإنّه إن كان لم يدخل في الرّكوع فهو مكلّف بإتيان نفس المأمور به أعني السّورة في المثال، ولا مجال معه لإيجاب الإعادة في حقّه، وأمّا إذا علم به بعد الرّكوع فلا يمكنه تداركها لتجاوزه عن محلّها، وحينئذ إمّا أن تبطل صلاته فتجب عليه إعادتها، وإمّا أن تصحّ فلا تجب إعادتها"[39] .
خامساً: مناقشة الدّليل الخامس- لزوم أحد المحذورين من شمول (لا تعاد) للجاهل-:
1ـ بالنّقض: فقد ورد عن الإمام الباقرg تصحيح صلاة من ترك الجهر والإخفات جهلاً من باب تماميّة العمل لا من باب إسقاط التّكليف، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفرg: في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقالg: >أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته<[40].
فالإشكال المتقدّم من قبل المحقّق الحائريّS يرد على هذه الرّواية، فصحّة الصّلاة هنا مع تركه الجهر والإخفات إمّا لاختصاص ذلك بالعالم فيرد المحذور الثّبوتيّ، وإمّا لسقوط الأمر بالجهر والإخفات في حقّه فيرد المحذور الإثباتيّ وهو مخالفة ظاهر قولهg: >وقد تمّت صلاته<، فما ذكر من إشكال على حديث (لا تعاد) في مورد الإخلال عن جهل يرد في مثل هذه الرّواية.
2ـ بالحل: فيمكن بيان صحّة الصّلاة الفاقدة للجهر والإخفات، من دون لزوم المحذورين السّابقين بأن يقال: الأمر متعدّد في المقام في حقّ الجاهل القاصر، فالأمر الأوّل هو الأمر الجامع بين الصّلاة التّامّة والصّلاة النّاقصة. والأمر الثّاني هو الأمر بالصّلاة التّامّة في فرض عدم إتيانه بالصّلاة النّاقصة، فإن أتى المكلّف بالصّلاة التّامّة فقد امتثل كلا الأمرين، وإن أتى بالصّلاة النّاقصة عن جهل قصوريّ فقد امتثل الأمر الأوّل، وفي نفس الوقت يكون معذورأً عن الأمر الثّاني(السّنّة) بمقتضى (لا تعاد)، فالإخفات في صلاة الظّهر سنّة، وهي عامّة للجاهل والعالم، ولكن عند الإخلال بها صدق عليه أنّه صلّى صلاة تامّة بلحاظ امتثاله الأمر بالجامع، وبناء على ذلك فإشكال المحقّق الحائريّS لمنع شمول حديث (لا تعاد) للجاهل القاصر غير تامّ[41].
وبناء على ما تقدم يمكن القول بأنّ حديث (لا تعاد) يشمل الجاهل مطلقاً سواء القاصر والمقصّر؛ لوجود المقتضي وهو التّمسّك بإطلاق الحديث، ولعدم تماميّة المانع وهو تقييد إطلاق الحديث بما تقدّم من أدلّة.
المبحث الثّالث: أدلّة شمول القاعدة لمطلق الجاهل
الدّليل الأوّل: التّمسّك بإطلاق ذيل صحيحة زرارة (ولا تنقض السّنّة الفريضة) المتقدّمة
حيث نُقل عن السّيّد السّيستانيّF[42]؛ تمسّكه بإطلاق ذيل الصّحيحة، حيث إنّ الظّاهر من حديث (لا تعاد) أنّ المدار في الإعادة من عدمها على صدق الذّيل، فهو بمثابة الكبرى؛ لأنّ المدار في الخطابات العرفيّة على الذّيل حيث سيق مساق التّعليل، (والتّشهّد سنّة.... ولا تنقض السّنّة الفريضة)، وما ذكر في الصّدر فهو تطبيق من تطبيقاتها، فتشمل كلّ مورد فيه سنّة وفريضة، والإخلال بالسّنن لا يوجب نقض المركّب، وإنّما ينتقض بالإخلال بالفريضة، سواء كان الإخلال ناتجاً عن جهل أو نسيان أو غيرهما.
ويترتّب عليه: لا حاجة للبحث في صدق (تعاد) أو (لا تعاد)؛ لأنّ المدار ليس على صدر الحديث، ولا نهوض لدليل المحقّق الميرزا النّائينيّ+ الّذي ساقه لبيان اختصاص (لا تعاد) بالنّاسي؛ لأنّه يركز على صدق (تعاد) أو (لا تعاد)، والحال أنّهما من تطبيقات الذّيل لا الصّدر.
بل حتّى لو لم يتمّ ما أشكل به السّيّد الخوئيّ على الميرزا النّائينيّ_، فإنّه يمكن الرّكون إلى ذيل الحديث حيث يفيد إطلاقه لحالة الجهل كما يمكن تطبيق الحديث لكلّ مورد فيه سنّة وفريضة كباب الصّوم والحجّ، ولا يختص تطبيقها بباب الصّلاة[43].
إن قيل: لا نحرز اشتمال الرّواية على الذّيل، والمنبّه على ذلك:
أوّلاً: وقوع التّعارض بين ما نقله الشّيخ الصّدوق في الفقيه (339،1) والخصال(284) وبين ما نقل في الفقيه (279،1)، حيث ذكر الذيل في المصدرين الأوّلين دون الثّالث، وعليه لا يُحرز صدور الذّيل من الإمامg، هذا إضافة إلى اختلاف المرويّ عنه في المصدرين الأوّلين؛ ففي الفقيه روى الذّيل عن زرارة عن الإمام الباقرg، وفي الخصال عن حريز عن الإمام الصّادق×.
ثانياً: الاختلاف في نفس عبارة الذّيل؛ ففي الخصال أضاف: (القراءة سنّة والتّشهّد سنّة والتّكبير سنّة ولا تنقض السّنّة الفريضة)، دون إضافة ذلك في الفقيه. وعليه لا يمكن الاعتماد على ذيل الحديث لإثبات شمول القاعدة لحالة الجهل.
فإنّه يقال: يتوقّف التّعارض بين النّقلين على أمرين: أوّلهما: إحراز كون سكوت الرّاوي عن نقل الزّيادة شهادة بعدمها، فلو لم يحرز ذلك بأن احتمل سكوت الرّاوي من باب الاختصار أو اعتماداً على نقل آخر مثلاً فلا يتحقّق التّعارض.
ثانيهما: تغيّر معنى الحديث عند حذف الفقرة الدائرة بين الزّيادة والنّقصان، وأمّا مع عدم تغيّر المعنى عند حذفها فلا يتحقّق التّعارض وإن أوجب وجودها عموماً في المعنى، وكلا الأمرين غير متحقّق في المقام.
أمّا الأوّل: فلا نحرز كون سكوت الشّيخ الصّدوقS شهادة بعدم زيادة الذّيل (القراءة سنّة والتّشهّد سنّة والتّكبير سنّة ولا تنقض السّنّة الفريضة)، فسكوتهS عن نقل الزّيادة في الفقيه ليس ظاهراً في عدم الزّيادة، فلا تنعقد للزّيادة شهادة سلبيّة، بمعنى أنّ سكوته عن نقلها ظاهر في عدمها؛ لعدم انحصار النّقيصة بذلك، بل هناك مناشئ أخرى محتملة في المقام، فقد يكون الحديث مشتملاً على الزّيادة، ولكنّ الصّدوقS نقله في موضع بدون الزّيادة من باب الاختصار، أو أنّه بوّب الفقيه على أبواب متعدّدة وفي كلّ باب يأخذ الفقرة المفيدة في ذلك الباب من الحديث، فهو في الباب الذي يتعلّق ببطلان الصّلاة في غير الخمسة أو ببطلانها في أحد الخمسة اقتصر على صدر الحديث؛ لتحقيقه هذا الغرض ولم ينقل ذيله.
وأمّا الثّاني: فعدم وجود الذّيل لا يغيّر معنى صدر الحديث (لا تعاد الصّلاة إلا من خمسة: الطّهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود)، فالمعنى المستفاد من الرّواية- عدم بطلان الصّلاة بالإخلال بغير الخمسة، وبطلانها بالإخلال بأحد الخمسة- لا يتغير بحذف الذّيل، غاية ما يفيده إضافة الذّيل توسّع مدلول الحديث لغير باب الصّلاة مثلاً. وبهذا أيضاً يتّضح الجواب على المنبّه الثّاني.
وأمّا كون نقل الحديث تارة عن الإمام الباقر وأخرى عن الصّادقi فالصّحيح أنّه عن الإمام الباقرg؛ فإنّه بمجرّد الرّجوع إلى (التّهذيب، 2، 152)، (والهداية) للصّدوق، والبحار (77، 237) والوافيّ(7، 441) وكذلك الفقيه، تجد ذلك، فمع اتّفاق هذه المصادر وتفرّد نسخة من نسخ الخصال في نقل الرّواية عن الصّادقg يوجب الوثوق في أنّ المرويّ عنه هو الإمام الباقرg.
إضافة إلى ذلك يحتمل أنّ زرارة قد سمعها تارة عن الإمام الباقر وأخرى عن الصّادقi، وعلى احتمال سماعها من أحدهما فقط، فغايته حصول علم إجماليّ بأنّ هذه الرّواية لأحدهما، وهذا العلم الإجماليّ لا أثر له؛ لأنّها بالنّتيجة مرويّة عن إمام معصوم، والنّتيجة لا يتحقّق التّعارض بين النّقلين، ويبقى كلّ نقل على حجّيّته بمقتضى وثاقة المخبر وضبطه، وعليه تكون هذه الزّيادة حجّة فيتمّ الاستدلال المتقدّم[44].
الدّليل الثّاني: قولهg: (لا تعاد) حكم إرشادي إلى صحّة الصّلاة.
فقد يقال بأنّ قولهg (لا تعاد) يدلّ على حكم إرشادي إلى صحّة الصّلاة، وليس على حكم مولويّ تكليفيّ، ولا محذور من شمول الحكم الإرشادي إلى النّاسي والجاهل.
فـ(لا تعاد) حكم إرشاديّ يضيّق دائرة الجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة فيما عدا الخمسة، بحيث لا تشمل حالة العذر، فلو نسي جزءاً أو شرطاً من الصّلاة أو كان جاهلاً به، أو أتى بمانع من موانع الصّلاة كذلك ولم يكن من الخمسة، فإنّه يحكم -بناءاً على كون الحكم إرشادياً- بعدم جزئيّة ذلك الجزء وبعدم شرطيّته وبعدم مانعيّته، وهذا بناءً على كون المدار على صدر الرّواية لا ذيلها، ويترتّب عليه:
أوّلاً: لا موجب للتّفريق بين النّاسي وبين العالم؛ لأنّ المحذور من اختصاص الحكم بالنّاسيّ كما تقدّم هو سقوط الأمر الواقعي عنه، فيمكن تكليفه بحكم مولويّ بالإعادة فيأتي (لا تعاد) فيسقط الحكم بالإعادة، بخلاف العالم فهو لا يمكن تكليفه بذلك لبقاء فعليّة الحكم الواقعيّ، ولكنّ هذا لا يتمّ بناءاً على كون الحكم بالإعادة أو بعدمها حكماً إرشادياً لا يتوقّف على سقوط الأمر الواقعيّ كما هو واضح، ولا حاجة للتّمسّك بكلمة (أعد) الّتي تشمل الجاهل أيضاً لدفع إشكال الميرزا النّائينيّ+.
ثانياً: لا فرق بين كون الحكم الإرشاديّ ناظراً إلى حالة ما قبل الشّروع في الصّلاة أو ما بعد الشّروع فيها؛ لأنّه إرشاد إلى ضيق الجزئيّة أو الشّرطيّة أو المانعيّة، فهو يرشد إلى أنّ جزئيّة الجزء وشرطيّة الشّرط ومانعيّة المانع لا تشمل فرض العذر سواء كان قبل الشّروع أم بعده، وهذا بخلاف ما لو كان الحكم بالإعادة مولويّاً، فإنّه يصحّ مخاطبته بالإعادة بعد الشّروع دون قبله -لأنّه قبل الشّروع مخاطب بالحكم الواقعيّ كما تقدّم بيانه-، فتأتي (لا تعاد) فتسقط هذا الوجوب[45].
الفصل الثّالث: مقدار شمول القاعدة للجاهل
المبحث الأوّل: أدلّة شمول قاعدة لا تعاد للجاهل القاصر دون المقصّر
الدليل الأوّل: ما أفاده السّيّد الخوئيّ:
والدّليل يقع في مرحلتين:
المرحلة الأولى: إثبات عدم شمول حديث (لا تعاد) للجاهل المقصّر الملتفت.
الظّاهر من حديث (لا تعاد) أنّه ناظر إلى نفي الإعادة عمّن كان متصدّياً للمأمور به ثمّ تبيّن له وقوع الخلل بعد ذلك، والجاهل المقصِّر كالعالم العامد إذا كان ملتفتاً إلى جهله بشرط أو جزء أو مانع، أو كان محتملاً لذلك ولم يتصدَّ للاحتياط أو السّؤال، فلا يصدق عليه تبيّن له الخلل بعد الوقوع، فلا يشمله حديث (لا تعاد)، "فالحديث قاصر الشّمول بالنّسبة إليه في حدّ نفسه، لعدم كونه متكفّلاً لبيان من عمله محكوم بالبطلان من الأوّل"[46].
المرحلة الثّانية: إثبات عدم شمول حديث (لا تعاد) للجاهل المقصّر غير الملتفت.
بالرّغم من أنّ الإطلاق المتقدّم يتمّ في حقّ الجاهل المقصّر غير الملتفت، إلّا أنّ هناك قرينيتن خارجيّتين على المنع من شمول لا تعاد له:
الأولى: الإجماع القطعيّ على عدم شمول القاعدة لمطلق الجاهل، أو قل "الإجماع القطعي القائم على إلحاق المقصّر بالعامد، المؤيّد بما ورد من أنّه يؤتى بالعبد يوم القيامة" فيقال له: هلّا عملت، فيقول: "ما علمت"، فيقال: هلّا تعلّمت[47] "فهو ملحق بالعامد بالإجماع والنّصّ"[48].
الثّانية: لزوم حمل أدلّة الأجزاء والشّرائط غير الرّكنيّة على الفرد النّادر، وحمل الدّليل على ذلك مستهجن بحسب المرتكز العقلائيّ.
وبيان ذلك: قد وردت الأدلّة الكثيرة الآمرة بالإعادة عند الإخلال بجزء أو شرط أو مانع كما تقدّم، فلو قيل بشمول (لا تعاد) للجاهل القاصر والمقصّر غير الملتفت إضافة للنّاسيّ، فإنّه لن يبقى مورد لتطبيق هذه الأدلّة إلّا مورد العامد وما يلحق به من المقصّر الملتفت، وهذان الموردان يندر تحقّقهما إن لم يكن منعدماً كما في صورة العمد، وإذا كان كذلك فيكون الأمر بالإعادة الوارد في هذه الأدلّة لَغوياً، وعليه لا بدّ من القول بعدم شمول (لا تعاد) للجاهل المقصّر مطلقاً[49].
الإشكال على القرينة الأولى:
أوّلاً: إنّ تحصيل الإجماع- التّعبّديّ الكاشف عن تلقّي المجمعين الحكم من قبل الشّارع- بعيد جدّاً؛ لعدم وضوح الرّوايات واختلافهم في تفسيرها، ممّا يوجب عدم وضوح المسألة.
ثانياً: مع التّسليم بوجود الإجماع المذكور فقدره المتيقّن الجاهل المقصّر المتردّد.
إلّا أنّه يمكن التّأمّل فيما أفاده من أنّ نكتة الإجماع تتّبع كلمات الفقهاء في الفقه، ووجود الاختلاف في تفسير الرّواية لا يمنع من تحقّق الإجماع، نظير إجماعهم على مسائل كثيرة مع وجود النّزاع فيها، بل بالعكس كلّما كانت الرّوايات وقع النّزاع فيها مع حصول اتّفاقهم في المسألة، هذا يكشف عن أنّ المستند ليس الرّواية وإنّما تلقّيهم الحكم من قبل الشّارع، فيبعد كونه مدركياً[50].
ثالثاً: أمّا تأييده- على إلحاق الجاهل المقصّر بالعامد وعدم شمول القاعدة له- بإطلاق أخبار التعلّم فغير تامّ للزوم الدّور؛ لأنّ الإطلاق في أخبار التعلّم يتوقّف على تنجّز التّكليف في حقّ الجاهل- فلولا تنجّز التّكليف لأمر بالتعلّم-، وتنجّز التّكليف في حقّ الجاهل متوقّف على عدم الإطلاق في دليل (لا تعاد)، فيتوقّف إطلاق أخبار التّعلّم على عدم إطلاق دليل (لا تعاد)، والفرض أنّ عدم إطلاق (لا تعاد) متوقّف على إطلاق أدلّة التّعلّم، فتوقّف عدم إطلاق (لا تعاد) على نفسه، وهذا دور، فلا يمكن التّأييد بأخبار التعلّم لتقييد إطلاق (لا تعاد).
بل يقال: إنّ إطلاق أدلّة التّعلّم متوقّف على عدم إطلاق لا تعاد، فإذا ثبت إطلاق (لا تعاد) فلا إطلاق لأخبار التّعلّم؛ لأنّ (لا تعاد) واردة عليها ورافعة لموضوعها؛ لأنّ موضوعها التّنجّز ودليل لا تعاد ينفي التّنجّز فيرتفع الموضوع[51].
رابعاً: على فرض قيام هذا الإجماع، فإنّه إجماع على استحقاقه العقاب على تقصيره وعدم تعلّمه ولا يدل على بطلان عمله[52].
خامساً: إنّه دليل لبّي والقدر المتيقّن منه القاصر ولا يشمل الجاهل المقصّر الملتفت[53].
الإشكال على القرينة الثّانية:
دعوى لزوم حمل أدلّة الأجزاء والشّرائط غير الرّكنيّة على الفرد النّادر غير تامّة لعدّة أمور:
أوّلاً: إنّ كثيراً ما يخطأ الإنسان في صورة العمد، كأن يكون مستعجلاً في صلاته، بالتّالي لا تشمله (لا تعاد) بل تشمله أدلّة الأجزاء والشّرائط كما أنّ الجاهل المقصّر المتردّد بحكم العامد كما تقدّم بيانه في الدّليل، فتشمله أدلّة الأجزاء والشّرائط، فيكون للقاعدة موردان: العامد والمقصّر المتردّد وهذا ليس فرداً نادراً[54].
ثانياً: مع التّسليم بالملازمة المذكورة، لا يلزم منع تقييد (لا تعاد) لأدلّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ الحكم من الأصل مبنيّ على الفرد النّادر بحيث تختصّ هذه الأدلّة بالعالم بها، فتلزم الإعادة بالعالم مع الإخلال، وهذا بمقتضى الجمع بين هذين النّحوَين من الأدلّة.
نعم، يحصل الاستهجان لو كان الحكم تكليفيّاً- بحيث يبعث المولى فرداً نادراً نحو التّكليف- لا إرشادياً[55].
ثالثاً: إنّ النّدرة المذكورة لم تكن في زمن ما قبل صدور الأدلة، فقبل صدورها من الشّارع لم يكن الإخلال نادراً، نعم ببركة صدورها صار نادراً[56].
رابعاً: على فرض التّسليم بالنّدرة، لا يلزم من القول بها إخراج المقصّر من إطلاق (لا تعاد) وإدخاله تحت أدلّة الأجزاء والشّرائط، نعم ذلك موجب لتعارض حديث (لا تعاد) مع أدلّة الأجزاء والشّرائط[57].
الدّليل الثّاني: ما أفاده الشّيخ محمّد هادي معرفة:
يلزم من شمول إطلاق (لا تعاد) للجاهل المقصّر أحد محذورين إمّا تعجيز نفسه أو تفويت المصلحة؛ لأنّ النّهي عن الإعادة في حديث (لا تعاد) إمّا أن يكون بنحو العزيمة أو الرّخصة.
فعلى الأوّل- عزيمة- يجب عليه ترك الإعادة، فتفوت مصلحة الجزء– كالقراءة- على العبد؛ لأنّ مقتضى الأدلّة الآمرة بالجزء مثلاً كـ (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) الاشتراك بين العالم والجاهل، وهذا يعني بقاء مصلحة الحكم الواقعيّ للجاهل والعالم، وإن شئت قلت: هذا يوجب تعجيزاً للمكلّف عن تحصيل المصلحة من ذلك الفعل وهو قبيح، فلا بدّ من القول بعدم شمولها للجاهل المقصّر.
وعلى الثّاني-الرّخصة- لا يجب عليه الإعادة، فكأنّ الشّارع خيّره بين الاكتفاء بالنّاقص مع استحقاق العقوبة؛ لأنّه مقصّر، وبين الإعادة من دون عقوبة، فكأنّ الشّارع لبّاً يخيّر المكلّف بين الاكتفاء بالنّاقصة مع رضاه بالعقاب وبين وجوب الإعادة فلا عقاب، وهذا التّخيير مستهجن؛ لأنّه مع وجود المصلحة في العمل فلماذا لم توجبها عليه؟ وهذا يعني استعمال (أعد) مع أنّ الشّارع لا يريد الإعادة وهو خلاف مفاد القاعدة[58].
وأشكل عليه بأنّ حديث (لا تعاد) تارة ناظر إلى عالم الجعل وأخرى إلى عالم الامتثال، وعلى كليهما لا يرد الإشكال:
أمّا على القول بأنّ دليل لا تعاد مطلق لحالة الجهل، فغاية ما يقتضيه معالجة دليل الجزئيّة والشّرطيّة -الّتي بإطلاقها تشمل الجاهل-، وبما أنّ (لا تعاد) تشمل الجاهل، فهو مقيّد لإطلاقات تلك الأدلّة، وبالجمع بينها تكون الجزئيّة مقيّدة بحالة العلم دون الجهل، فلو لم يأتِ بالجزء فإنّه لا يعاقب لعدم مخاطبته به، هذا بناء على نظرها إلى عالم الجعل وتقييدها لأدلة الشّرطيّة والجزئيّة، فيكون امتثاله تامّاً بلحاظ نفسه فلا يستحقّ العقوبة.
وأمّا بناء على أنّ التّصرّف في عالم الامتثال، فعلى القول بأنّ نفي الإعادة أعمّ من تقييد الجزئيّة أو استيفاء الملاك، كما لو أتى بالقراءة جهراً في الصّلاة الإخفاتيّة، الموجب لحدوث ملاك يمنع من استيفاء الملاك الواجب وهو ملاك الإخفات، فيكون تفويتاً للغرض، وفي المقام لو أتى بالصّلاة النّاقصة فإنّه أحدث ملاكاً يمنع من استيفاء ملاك الواقع، فهنا الشّرطيّة والجزئيّة ثابتة فيستحقّ العقاب. وإن شئت قلت: (لا تعاد) يشمل الجاهل القاصر والمقصّر ومع ذلك يستحقّ المقصّر العقاب لأنّه فوّت الملاك ولا مانع من ذلك لا ثبوتيّ ولا إثباتيّ.
وامتنانيّة حديث (لا تعاد) -الشّاملة لمطلق الجاهل- تقتضي عدم استحقاق الجاهل المقصّر للعقاب؛ لأنّه خلاف الامتنان، مدفوعة بكفاية تحقّق الامتنان على نحو الموجبة الجزئيّة، فهو وإن كانت العقوبة خلاف الامتنان، إلا أنّ عدم الأمر بالإعادة امتنان؛ لأنّ عقابه من جهة لا ينافي الامتنان من جهة أخرى.
ثمّ إنّ القول بامتنانيّة (لا تعاد) بناء على أنّها تعالج عالم الجعل دون عالم الامتثال، وفرض الكلام أنّ التّصرف في عالم الامتثال[59].
الدّليل الثّالث: مقتضى امتنانيّة (لا تعاد) عدم شمولها للجاهل المقصّر
مقتضى ورود (لا تعاد) مورد الامتنان -الموجب لرفع وجوب الإعادة- اختصاصها بفرض الإخلال عن عذر، وعدم شمولها للإخلال العمديّ، والإخلال عن جهل تقصيريّ مصداق للإخلال العمديّ -كما تقدّم بيانه-، فلا تشمله (لا تعاد).
وإن شئت قلت: إنّ حديث لا تعاد وإن كان مطلقاً لمطلق الجاهل، إلّا أنّه محفوف بارتكاز عقلائيّ وهو عدم معذّريّة الجاهل المقصّر، فهو ليس مورداً للامتنان فلا تشمله (لا تعاد)[60].
وأشكل بأنّ الظّاهر من الحديث هو الحكم الوضعيّ لا التّكليفيّ، والمرتكز المذكور ناظر إلى نفي العذر في حالة ترك الجاهل المقصّر والعامد الحكمَ التّكليفيّ، أمّا الحكم الوضعيّ -الصّحّة- فيبقى المقصّر مشمولاً للحديث بلحاظه[61].
الدّليل الرّابع: خروج الجاهل المقصّر بمقتضى التّفريق بين الفريضة والسّنّة
المستفاد من مجموع أحاديث نفي الإعادة ومن التعابير فيها أنّ الميزان في عدم لزوم الإعادة هو عدم تعمّد ترك السّنّة ومخالفتها، فيشمل حديث (لا تعاد) بإطلاقه حالة الجهل التّقصيريّ؛ وذلك استناداً إلى ما يفهمه العرف من فقراتها، من أنّ ترك جزء غير ركنيّ لا يوجب الإعادة إذا كان معذوراً، فيشمل العذر النّاسي والسّاهيّ والجاهل القاصر غير متعمّد التّقصير، أمّا العامد والجاهل المقصّر فخارج عن مساقها، فـ "نفس التّعبير بالسّنّة في قبال الفريضة أيضاً بحسب المناسبة والمتفاهم العرفيّ ظاهر في التّخفيف من حيث المرتبة والأهميّة"[62]، وممّا يشهد على ذلك: صحيحة زرارة عن أبي جعفرg أنّه قال: >لا تعاد الصّلاة إلا من خمسة: الطّهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود< ثمّ قال g: >القراءة سنّة، والتّشهّد سنّة، والتّكبير سنّة، ولا تنقض السّنّة الفريضة<[63]، حيث إنّ المستفاد من ذيلها كونه قرينة على أنّ المدار في الإعادة أو عدمها كون الجزء مما فرضه الله تعالى أو سنّة.
وكذلك صحيحة زرارة عن أحدهماi قال: >إنّ الله تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سُنّةٌ –فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصلاة- ومن نسي فلا شيء عليه<[64]، حيث إنّ الإمامg قسّم الأجزاء إلى فرض وسنّة، ثمّ فرّع عليه أنّ القراءة لا يجب إعادتها، بمعنى أنّ المناط في عدم وجوب الإعادة كونها من السّنّة لا من الفريضة.
وكذلك صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهماi، في الرّجل يفرغ من صلاته وقد نسي التّشهّد حتى ينصرف، فقالg: >إن كان قريباً رجع إلى مكانه فتشهّد، وإلا طلب مكاناً نظيفاً فتشهّد فيه، وقال: إنمّا التّشهّد سنّة في الصّلاة<[65].
وغيرهما من الرّوايات الواردة في مقام التّمييز بين ما فرضه الله تعالى وبين ما سنّه النّبيّ|، حيث يظهر منها ببركة التّعليل كبرى كلّيّة مفادها: لا تجب إعادة الصّلاة عند الخلل في جزء أو شرط أو مانع ثبت بالسّنّة ما لم يكن متعمّداً.
المبحث الثّاني: استثناءان من حكم القاعدة
تقدّم أنّ القاعدة غير شاملة للجاهل المقصّر، ولكن يوجد موردان تشملهما القاعدة وإن كان من الجاهل المقصِّر، لورود النّصوص الخاصّة في ذلك.
المطلب الأوّل: الجهر والإخفات
لو جهر في موضع الإخفات أو العكس جاهلاً قاصراً أو مقصّراً صحّت صلاته، ومن النّصوص الدّالّة على ذلك:
صحيحة زرارة: عن أبي جعفرg في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: >أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً، أو ساهياً، أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته<[66].
المطلب الثّاني: القصر والتّمام
صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، قالا: قلنا لأبي جعفرg: رجل صلّى في السّفر أربعاً، أيعيد أم لا؟ >قال: إن كان قُرئت عليه آية التّقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم ٍيكن قرئت عليه، ولم يعلمها فلا إعادة عليه<[67]. والرّوايتان واضحتان في المطلوب.
النّتيجة:
بعد بيان الفصول الثّلاثة بمباحثها، يتّضح التّالي:
1- إنّ للسّنّة إطلاقات متعدّدة في الاصطلاح، والمقصود منها هنا ما تصدّى رسول اللهe لاعتباره وإيجابه.
2- محلّ النّزاع المتمثّل في شمول القاعدة للجاهل المقصّرمن عدمه، حيث ذهب بعض الأعلام كالميرزا النّائينيّ+ إلى عدم الشّمول، بينما ذهب المشهور إلى شمولها للجاهل القاصر دون المقصّر.
3- عدم ظهور عنوان العمد- كفاية الإتيان بالفعل عن قصد ملتفتاً إلى عنوانه دون حكمه- في صحيحة زرارة لكي يشمل الجاهل، فلا يتمّ الاستدلال بها على عدم شمول القاعدة للجاهل بالحكم.
4- المفهوم المدّعى -للاستدلال بالرّواية- في معتبرة منصور بن حازم مسوق لبيان تحقّق الموضوع، فضلاً عن الإجمال في كلمة (ناسياً) الّتي يتوقّف الاستدلال على كونها قيداً احترازياً.
5- حكومة حديث (لا تعاد) على ما دلّ على الأجزاء والشّرائط من الرّوايات، ومع تسليم المعارضة بين الطّائفتين يرجع إلى البراءة.
6- بالتّمسّك بإطلاق ذيل صحيحة زرارة (ولا تنقض السّنّة الفريضة) المقتضي لصحّة صلاة الجاهل المخلّ في صلاته ما لم يكن الإخلال في الخمسة المذكورة.
7- بالتّمسّك بصدر الصّحيحة، يمكن القول بأنّ (لا تعاد) حكم إرشادي يضيّق دائرة الجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة فيما عدا الخمسة، فيحكم بعدم جزئيّتها وشرطيّتها ومانعيتها عند الإخلال بها عن عذر.
8- لا تشمل القاعدة الجاهل المقصّر غير الملتفت فضلاً عن الملتفت؛ بقرينة الإجماع القطعيّ ولزوم حمل أدلّة الأجزاء والشّرائط غير الرّكنيّة على الفرد النّادر.
9- مقتضى ورود (لا تعاد) مورد الامتنان اختصاصها بفرض الإخلال عن عذر، والجاهل المقصّر ليس كذلك كما تمّ بيانه، فلا تشمله القاعدة.
10- الميزان المستفاد من ملاحظة مجموع أحاديث نفي الإعادة هو عدم تعمّد ترك السّنّة ومخالفتها، فتختصّ القاعدة بموارد العذر في تركها سواء كان لنسيان أو سهو أو جهل بالموضوع أو الحكم، وأمّا المقصّر فغير معذور فلا تشمله القاعدة.
11- هناك موردان تشملهما القاعدة وإن كان الجاهل مقصّراً؛ لورود النّصوص الخاصّة في ذلك وهما: الجهر والإخفات، القصر والتّمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشّيعة، العاملي، ج6، ص91، باب29 من أبواب الصلاة، ح5.
[2] لسان العرب،ج1، ص687.
[3] منطق المظفّر، ج1، ص7.
[4] المصدر السّابق.
[5] توضيح القواعد الفقهيّة، ج1، ص114.
[6] لسان العرب، ج11، ص160.
[7] الصّحاح، ج3، ص921.
[8] سورة المائدة: 6.
[9] المستند، ج13، ص244.
[10] بحوث فقهية، ص157.
[11] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[12] لسان العرب، ج13، ص224.
[13] تاج العروس، ج13، ص344.
[14] المعجم الأصولي، ج2، ص175.
[15] المصدر السّابق.
[16] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص317-318، المشيخة.
[17] القواعد الفقهيّة، ج1، ص79.
[18] وسائل الشّيعة,ج4، ص983.
[19] وسائل الشّيعة، ج6، ص87.
[20] الخلل في الصّلاة، ص34، وهذا الوجه ذكره المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار، ج3، ص434.
[21] المصدر السّابق، ص90.
[22] انظر: مستند العروة، ج8، ص22.
[23] وسائل الشّيعة 5 :448.
[24] انظر: مستند العروة، ج18، ص19.
[25] مستند العروة، ج18، ص17.
[26] المستند، ج18، ص14.
[27] كتاب الصّلاة، ص316.
[28] السّيّد الإمام في كتاب (الخلل، ص34).
[29] سورة النّساء: 93.
[30] وسائل الشّيعة، ج6، ص86.
[31] مستند العروة، ج18، ص24.
[32] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[33] مستند العروة، ج18، ص19.
[34] مستند العروة، ج18، ص17.
[35] المستند، ج12، ص207.
[36] المستند، ج18، ص17.
[37] تقرير الصّلاة، ج2، ص287.
[38] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[39] مستند العروة، ج3، 19.
[40] وسائل الشّيعة، ج6، 86.
[41] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[42] لباس المصلّي ومكان المصلّي، ص64.
[43] المصدر السّابق.
[44] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[45] المصدر السّابق.
[46] مستند العروة، ج18، ص25.
[47] وهو مضمون ما رواه المفيد في أماليه 6: 227 عن مسعدة، قال: "سمعت جعفر ابن محمّدh وقد سئل عن قوله تعالى {فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ} فقال: إنّ اللَّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال :نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت. وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه وذلك الحجّة البالغة".
[48] مستند العروة، ج18، ص26.
[49] المصدر السّابق.
[50] مستفاد من الأستاذ الشّيخ جعفر آل طوق.
[51] السّيّد محمود الشّاهروديّ، قاعدة (لا تعاد)، فقه أهل البيتi،19، السنة الخامسة،1421هـ،23.
[52] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[53] المصدر السّابق.
[54] السّيّد محمود الشّاهروديّ، قاعدة (لا تعاد)، فقه أهل البيتi،19،السنة الخامسة،1421هـ،24.
[55] المصدر السّابق.
[56] الخلل في الصّلاة 67.
[57] المصدر السّابق.
[58] نظرة مستوعبة في حديث لا تعاد، ص43.
[59] السّيّد محمود الشّاهروديّ، قاعدة (لا تعاد)، فقه أهل البيتi،19،السنة الخامسة،1421هـ،19.
[60] دروس في الفقه للعلّامة السّيّد منير الخبّاز.
[61] المصدر السّابق.
[62] السّيّد محمود الشّاهروديّ، قاعدة (لا تعاد)، فقه أهل البيتi،19، السنة الخامسة،1421هـ،19.
[63] وسائل الشيعة، ج6، ص401.
[64] المصدر السابق، ج6، ص87.
[65] المصدر السابق، ج6، ص402.
[66] وسائل الشّيعة، ج6، ص86.
[67] المصدر السّابق، 8 :506.
0 التعليق
ارسال التعليق