هناك ثقافتان مختلفتان؛ لا تجتمعان في العادة، ثقافة التكفير، وثقافة التحرير. أما ثقافة التكفير التي لا تكف عن التشهير، فهي موظفة لدى أجهزة الطائفية، وظيفتها الوجودية التي خلقت من أجلها هي أن تثير النعرات الطائفية والمذهبية، ثم تلقي بها في ساحة السنة والشيعة، وكأن المشكلة من عندهما، والحال أنها مشكلتها هي، بل وجودها لم يكن إلا لغرض المشكلة والفتنة.
أما ثقافة التحرير فهي تعرف العدو، وتشخصه على جميع المستويات، وتدرك أن الاختلاف مهما عظم ومهما كان جوهريا، فإنه لا يبرر الفتنة، ولا يسوّغ التناحر.
هي ثقافة واضحة وصريحة وجريئة، أثبتت نزاهتها، وإيمانها، وتدينها، وعقلانيتها، وقدرتها على التغيير، وتطهير البلاد الإسلامية من دنس الكفر المتمثل في الصهيونية، وقد أحرجت أتباع الصهاينة وأخذت بخناقهم؛ لذلك أجبرت هذه الثقافة (ثقافة التحرير) وجدان البشر على الاعتقاد بآيات الله ودلائله، فصار الناس - أعم من المسلمين - يأنسون بقوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}، و{حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
هذه الثقافة أزاحت غمامة قاتمة كانت تعترض بصيرة الإنسان، وعلى مدى عقود متمادية من الزمن، حينها ذهب الاستيحاش عن قبول الإسلام، وأصبح الباب مشرعا للدين، كما يقول(سبحانه وتعالى): {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً}.
وأما إذا عدنا إلى ثقافة التكفير فهي وإن كانت لَهِجَةً بالقرآن، إلا أنها كلما لهِجَتْ صدّت عن ذكر الله، فهي لا ترى إلا الكفر، والتهمة، والطرد عن الرحمة؛ لذلك فقد اصطبغت بهذه الصبغة؛ وأصبحت طاردة صادّة عن ذكر الله. فلذلك امتهنت السباب والقذف في أعراض المسلمين؛ كالشيعة الأبرار، أبناء الخفرات وجارّات الذيول.
لقد أمست نغمة التكفير قديمة مملّةً، فلا شأن لها إلا بتكفير أبي طالب (صلوات الله عليه)، والدعوة لقطع الرؤوس، وتكفير من يسجد لربّه ممرغا جبروته الموهوم بالترب، كما كان يفعل رسول الله(صلّى الله عليه وآله) على ما نقله جميع المسلمين في أمهات مصادرهم.
هذه الثقافة الخاوية هي الأبعد عن المواطنة، وهي الأكثر خيانة للأرض، فهي لا ترى في حبّ الأرض انتماءً، بل ترى حب الأرض والإخلاص لتراب الوطن شركا، أو كفرا بالله(سبحانه وتعالى).
نعم، إن ثقافة التحرير ليست الثقافة المغلوبة على أمرها، بل هي ثقافة الرسل والأنبياء؛ التي تدرك الأمور، وتضعها في نصابها الصحيح، ولقد أثبتت أنها الأكثر إيمانا، وإخلاصا، ووفاءً للوطن، والأكثر تعلقا بتراب الوطن، لا لعنوان التراب، وإلا فإنه سوف يتبرأ من ذويه، ويلقيهم من بطنه {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، ولكنها مع هذا تدرك أمورا يقصر عنها التكفيريون، تدرك الحياة في هذا التراب {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، فترتبط بهذه التربة، وتعتصم معها بحبل الهداية والتوحيد، فهناك صراط واسع للحياة، والمحبة، والعاطفة، والتوحيد، وغيرها من الروابط بين الإنسان، وبين الوطن والتراب، لا بمعنى الخنوع للتراب وجعله حاكما، بل بمعنى عدم التفريط في هذه التربة أن لا يسودها ويحكمها (لا إله إلا الله) قولا وعملا، وبالدعوة الرحيمة لا الفظّة، على غرار قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وقد كان الرسول(صلّى الله عليه وآله) يتألم لفراق وطنه، ويقول بأنه لم يحب فراقها لولا أن طرده أهلها منها.
والمتحصل أن من يريد الدعوة إلى الله فقد ميّز له التاريخ السبلَ، ووضّح الفرق بين طريق الدعوة الحسنة الآسرة للقلوب، وبين الصدّ عن ذكر الله، وإخراج الناس من دين الله أفواجا.
0 التعليق
ارسال التعليق