ثقافة الحياة.. واقعية متكاملة

ثقافة الحياة.. واقعية متكاملة

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

أهمية مسألة الحياة في الفكر الإسلامي

تكتسب مسألة الحياة أهميتها من جهة حجم الدعوة إليها في النصوص الشرعية، ومن مدى توغلها في الفطرة الإنسانية وفي أعماق الخليقة، ومن الآثار الملموسة لهذه المسـألة فـي حيـاة المجتمـعـات وعلى أرض الواقع، وهذا مايسوقنا إلى مسألة مهمّة وهي واقعية مسألة الحياة ووجودها الحقيقي الذي يصاحبه آثار كبيرة على مستوى الفكر والسلوك.

الحياة في فلكها الديني

إذا ما أردنا أن ندرس مسألة الحياة في الدين؛ في الدعوات الشرعية، وفي الثوابت الاعتقادية، وفي التعليمات الأخلاقية فإنا نجدها في منظومة متكاملة من المفاهيم الدينية الأخرى التي تصب في نفس الجدول، وتوصل إلى نفس النهاية، هناك حيث مفاهيم القلب والعقل والعلم والفقاهة تجد مسألة الحياة، وذلك ببساطة لأن طريقها المرسوم لها هو طريق واحد وغرض واحد وهو أن يكون الحق هو الحاكم لا الباطل وأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا، وهو الحي العليم الرحمن الرحيم. يمكننا أن نتوقف مع قرناء هذه النجمة في منظومة الحق:

أولا:- الفقاهة:

في مسألة الفقاهة ترى الروايات أن هناك معيارا آخر للفقيه وللفقاهة، فليست تعرّف الفقيه بما درج عليه الناس من كونه هو الشخص القادر على الاستنباط واستنطاق المرادات الشرعية، وإن كان لذلك فضله وتسنُّمه، إلا أنه ليس هو المعيار التام، بل تضع الروايات معياراً آخر للفقيه، فتقول الرواية عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا، فقال: «يا ويحك وهل رأيت فقيهاً قط؟! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنّة النبي  (صلّى الله عليه وآله)»(1).

فهذا الفقيه هو الذي تشده الحياة الآخرة إليها، وهي الحياة الواقعية، قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(2).

وفي رواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر»(3). وهذ الرواية كذلك تسوقنا إلى التدبر وهو سبب للاستفادة من العبر في الحياة، وكذلك هو العلم مع الفهم، وإلا فإن العلم الخالي من الفهم؛ أي مجموعة المعلومات المهملة والمتكوِّمة فلا يستفاد منها ولا يمكن أن تعطي نتيجة ما لم يقف الإنسان على ثناياها ويتمكن من تفعيلها وقت الحاجة إليها.

ثانيا:- العلم:

وأما مسألة العلم فرواياتها واضحة جلية في ربطها بمسألة الحياة، وكما تقول بعض الروايات عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «لأن العلم حياة القلوب»(4). وسيأتي الحديث حول العلم.

ثالثا:- القلب:

في مسألة القلب نرى التركيز على الحياة بشكل مباشر وكأن القلب هو محط الحياة، فإن مات ماتت، وإن حافظنا على القلب فقد حافظنا على الحياة، سواء بالمعنى المادي للقلب فهو يحفظ نحوا من أنحاء الحياة، أو المعنى المعنوي للقلب وهو يحفظ حياة أوسع من الحياة الجسدية.

تقول الرواية المنسوبة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء»(5).

وعنه (صلّى الله عليه وآله): «القلب يتحمل الحكمة عند خلو البطن، القلب يمج الحكمة عند امتلاء البطن»(6). وفي هذا الحديث إشارة إلى مسألة الحكمة حيث إن طريق السلوك الحكيم العالم هو القلب، فإن تحمل العلم تجلت آثاره على سلوكه، فلا سبيل لتحمل الحكمة والعلم إلا من خلال القلب، فالعلم والقلب يكمل أحدهما الآخر، ويهيئ أحدهما للآخر ليسلكان بالإنسان سلوك الحياة ويرفعانه إلى حيث السمو والدوام.

وقد ورد فيما ناجى الله (سبحانه وتعالى) به موسى (عليه السلام): «يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقاسي القلب مني بعيد»(7). وإذا ما علمنا أن الله هو الحي وأن لا حياة إلا من رشحات حياته تعالى، سنعلم حينها أن الابتعاد عن الله يعني الموت والتحجر والتصلب، أو بعبارة أخرى فالابتعاد عنه تعالى يعني الهُوِيّ في وادي العدم، وهذا ينسجم مع ما أشارت الآية السالفة الذكر إليه من أن {الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(8). فمن طال أمله وتشبث بأوهام هذه الدنيا ابتعد عن دار الحياة وقسا قلبه.

رابعا:- العقل:

وختام هذه الإطلالة على التناسب التام والاتساق البديع لآيات الله نتناول العقل، حيث تلمح الآيات إلى أن القلب هو العاقل والمدرك، يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(9). وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}(10)، وفي الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «إن الله يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} يعني العقل، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الفهم والعقل»(11)، وأما العقل فهو أكثر الأشياء جذباً نحو الحياة والدار الآخرة، فهو يشد الإنسان لذلك ويدفع عنه كل ما يصرفه، وفي الرواية عن مولى الموحدين (عليه السلام): «من عقل تيقظ من غفلته، وتأهب لرحلته، وعمر دار إقامته»(12)، وعنه (عليه السلام): «ما العاقل إلا من عقل عن الله وعمل للدار الآخرة»(13)، إذن من هذه الروايات يتبين أن محور الحياة هو الحق تعالى وهو الحي المفيض الحياة، وأنه تعالى تفضل على الإنسان بالعقل ليتوسل به إلى الحياة، ودعاه إلى الدار الآخرة وهي دار الحياة الخالدة.

واقعية مسألة الحياة وواقعية آثارها

حينما نتناول مسألة الحياة كثقافة فإننا لا نتحدث عن أمور اعتبارية، ولا نخوض في ترف فكري لا واقعية له ولا أرضية، ولسنا في هذا المضمار شعراء نتفنن في القوافي والتنغيمات، بل نحن نتعامل مع مسألة واقعية تمثل دعوات جادة بصوت عال على مستوى الثقافة والشريعة والعقيدة والسلوك، هي حياة مرتبطة بعالم آخر وهو عالم أشبه بالنبع إلى هذه الحياة، هو عالم حياته أشد ظهوراً ووضوحاً من حياة هذا العالم، ولذلك كانت الدعوة من الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(14).

هي حياة لها منشأ وهو المفيض للحياة صاحب الخزائن المترامية الأطراف؛ من علمه وقدرته وحياته وقيُّومِيَّته، الذي لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرما، هو الخالق الذي أراد للإنسان أن يسلك في طريق الحياة، ولم يتركه متخبطا بل أخذ بيده شيئا فشيئا وعلمه وأشفق في تعليمه حتى دعاه دعوة رفيق مشفق إلى ما يحييه، لتكون ثقافته وعقيدته وسلوكه مظهراً لهذه الحياة.

نعم لقد انبثقت الحياة من دعوة الله تعالى للاستجابة له ولرسوله، وبرزت آثارها ومظاهرها الواقعية الملموسة على الأرض، لذلك ترى من آمن بالله وأخذ بما جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقبِل به فإن سلوكه وتعاطيه العملي في الخارج هو سلوك حياة، وثقافته ثقافة إحياء، من أخذ عن هذه المدرسة تراه يحيي الأرض، يحيي الناس، يشيِّد ويبني، وهو ما نراه في المجتمعات المتدينة بالدين النبوي. وأما المدارس الأخرى التي لم تأخذ من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولم تستجب لدعوته، واكتفت بطرقها المبتكرة الخاصة في صياغة التعاليم فإنك تراها تشد الرحال من أدنى الأرض إلى أقصاها لتعيث فيها الفساد، ولتسلك سلوك القتل والإفناء والإماتة والإهلاك.

الشهيد الفقيه العالم صاحب القلب الحي

بناءً على ما تقدم فإنه يمكن الإشارة إلى مثال تجمعت فيه خصال الفقاهة والعلم والبصيرة والوعي فكان حياً في حياته وحياً بعد وفاته، وتوج هذه الحياة بحياة الشهادة بعد استشهاده وهو الشهيد المطهري (رحمه الله)، وكما تقول الرواية المنسوبة إلى الأمير (عليه السلام) في حق العلماء بعد وفاتهم: «والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»، وعنه (عليه السلام): «العلماء باقون ما بقي الليل والنهار»، وعنه (عليه السلام): «العالم حي وإن كان ميتا، الجاهل ميت وإن كان حيا»(15).

إن شخصية المطهري (رحمه الله) ليست الشخصية الوحيدة أو الفريدة فكثيرة هي الشخصيات الربانيّة، ولكن لا بأس بأن تكون مثالاً للعالم الحي، شخصية تشع في حياتها وبعد مماتها، لأن الشهيد يبقى حيا، ولأن العالم حي بأثره وآثاره، أثره في حياة المجتمعات، وآثاره العلمية التي لا زالت تتحدث وتفيض بالعلم.

تنبع أهمية دراسة حياة الشهيد المطهري كمثال لمسألة الحياة من باب تمكنه من النزول إلى الناس والأخذ بأيديهم نحو الهداية، ولذلك كانت كلمات الإمام الخميني (رحمه الله) في حقه كلمات خاصة تميزه عن غيره، فالفقاهة بنظر أهل البيت (عليهم السلام) ليست القدرة على الاستنباط وحسب -كما تقدم- بل الفقيه هو الذي لا يصيب قلوب الناس باليأس والقنوط من رحمة الله، بل يقودهم نحو الله مترفقاً بهم حتى الوصول مهما كلفه ذلك من مشقة، بل مهما كلفه من التضحية بشخصيته، فهذا نحو من أنحاء التخلق بأخلاق الله حيث يتنزل -إن صح التعبير- إلى الناس، فيضرب لهم من الأمثلة بما يناسب مستواهم المتواضع، وهكذا كان النبي (صلّى الله عليه وآله) حيث أنه لم يكلم أحدا بكنه عقله كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما كلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط»(16)، وهنا تكمن أهمية شخصية الشهيد (رحمه الله) حيث نرى التفاف جيل الشباب به، وتنزله من مستواه وهو الفقيه إلى درجة أن يشتغل بكتابة كتابه (قصص الأبرار)، وهذا هو وصف العلم النابض بالحياة؛ أن يمازج الأشياء ويحييها ويأخذ بأيدي الناس نحو الحياة.

خطاب الإمام الخميني في شهادة المطهري

نقف قليلاً مع كلمات هذا الخطاب لنرى أهمية العلم والفقاهة بالمعنى المطروح في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، يقول الإمام الخميني (رحمه الله): "بسم الله الرحمن الرحيم‏، إنا لله وإنا إليه راجعون‏.. إنني أعزي وأبارك للإسلام وأوليائه العظام وللأمة الإسلامية لا سيما الشعب الإيراني المجاهد، الحادثة المؤسفة لفقدان الشهيد العظيم والمفكر الفيلسوف والفقيه الكبير المرحوم الحاج الشيخ مرتضى مطهري (قدّس سرّه).. أعزي بشهادة شخصية أمضت عمرها الشريف والثمين على طريق الأهداف الإسلامية المقدسة، وحاربت بضراوة الاعوجاجات والانحرافات. العزاء في شهادة رجل قلَّ نظيره في إحاطته بالإسلام والعلوم الإسلامية وفنون القرآن الكريم. لقد فقدت ابناً عزيزاً للغاية وجلست للعزاء بإحدى الشخصيات التي تعد ثمرة عمري. فبشهادة هذا الابن البار والعالم الخالد ثلم الإسلام العزيز ثلمة لا يسدها شي‏ء.

وأبارك وجود هذه الشخصيات المضحية التي تشع بضيائها في حياتها وبعد مماتها.. إنني أبارك للإسلام العظيم مربي الإنسان، وللأمة الإسلامية، تربية أمثال هؤلاء الأبناء الذين يحيون الأموات بضياء أشعتهم ويملؤون الظلمات نوراً.. إنني وإن فقدت ابناً عزيزاً كان بضعة مني، ولكنني فخور بوجود أمثال هؤلاء الأبناء المضحين في الإسلام.

مطهري، الذي قل نظيره في طهارة الروح وقوة الإيمان وقدرة البيان، رحل عنا والتحق بالرفيق الأعلى، ولكن، ليعلم الأشرار أنه بذهابه لا تنتهي شخصيته الإسلامية والعلمية والفلسفية.. إلخ"(17).

من أبرز ما أشار له هذا الخطاب هو استهلاله بالعزاء والتبريك، فهو طريقة مخالفة لسلوك الناس غير المؤمنين بالمعاد والشهادة والحياة الآخرة، نعم هو تبريك بحياة حقيقية واسعة ذات خصوصيات ومميزات أعلى وأرقى من هذه الحياة، وقد أخذت هذه الثقافة في الانتشار والتفشي في المجتمعات الإسلامية المختلفة لتسمع التبريكات لعوائل الشهداء بدل التعازي.

وأما قوله: "العزاء في شهادة رجل قلَّ نظيره في إحاطته بالإسلام والعلوم الإسلامية وفنون القرآن الكريم" فإن شهادة هذا العالم لا ينبغي أن تفهم على أنها شهادة حول الطريقة الآلية في الاستنباط، فإن الكافر لو قدر له الدراسة وتوفر على الذكاء والفطنة لكان فقيها قادرا على حل المعضلات الأصولية واستنطاق الأدلة الشرعية، ولكنه الفقه بالمعنى المتقدم في الروايات، والإحاطة بالإسلام بالنحو الأسمى، النحو الذي يستشعر فيه الفقيه رسالة الأنبياء بين جوانحه، ويتحرك بحركة الأنبياء طبيباً دواراً بطبه، وإلا فإن المطهري هو واحد من الفقهاء المشتغلين بالعلوم الإسلامية.

وأما الخاصيّة التي نبحث عنها في بحث الحياة فهي قوله (رحمه الله): "هؤلاء الأبناء الذين يحيون الأموات بضياء أشعتهم ويملؤون الظلمات نوراً".

مقومات وروافد الحياة

بعد ما تقدم نرى أن هناك أكثر من سبب لرفد الحياة بالفاعلية والاستمرار، من أهمها:

العلم:

وقد تقدمت الإشارة إلى الرواية: «لأن العلم حياة القلوب».. الرواية تتكلم عن مواصفات العلم وخصائصه، ولكن السؤال المهم لكل طالب علم قضى شوطاً في هذا الطريق: بعد هذه السنوات من الدراسة هل توفرت على هذه الخصائص أم لا؟ ليس مما يحط من شخص العالم وقدره أن يبعث رسالة أبوية بسيطة التركيب إلى أبنائه المتعلمين، بل إن روايات العلم تتحدث عن العلم الذي يأخذ باليد، وكذلك روايات القلب والعقل، وأما العلوم البعيدة عن ذلك فإنها ستكون الخطر والوبال الأكبر على الإنسان، ولذلك قيل فيها أنها الحجاب الأكبر، لذلك كان الإنسان الناجح هو الإنسان القادر على تقييم نفسه ومعرفة موقعه من الإعراب، ومدى توفره على الخصائص المذكورة للعلماء في الآيات والروايات، وتلك الروايات من أمثال الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه»(18)، ومعرفة الإنسان لنفسه ليست متوقفة على بلوغ ذلك المستوى العلمي، وليست متوقفة على الفقاهة، بل الكثير الكثير من عوام الناس يعرفون أحجامهم بدقة، وهناك من حملة العلوم من لا يتوفر على الدقة في التمييز، وإن البصيرة هبة من الهبات لا نمانع من تأثرها طرديا بالعلوم والمعارف.

ومن ضمن خصائص العلم كما في الرواية عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «بالعلم يطاع الله ويعبد، وبالعلم يعرف الله ويوحد»(19)، وإن عبادة الله وطاعته وتوحيده أسباب لنوع خاص من الحياة، فإن الله ما خلق الخلق للفناء كما في الروايات بل خلقهم للبقاء -وقد أشرنا إلى هذه المسألة في بحثنا حول الخلود في الحياة الآخرة(20)- نعم حياة العلماء في الآخرة ليست كحياة غيرهم، هي حياة من نوع خاص سامية راقية، وأما أهل النار فإنهم لا يموتون، بل إنهم يتمنون الموت وينادون به ولكنه يأتيهم من كل مكان وما هم بميتين.

الولاية وعين الحياة

ورد في الروايات في جزاء المتقين يوم القيامة أنهم يشربون من عيون الجنة، وأنهم يغتسلون في عين الحياة فلا يموتون أبدا، فما هي عين الحياة وكيف للإنسان أن يهيئ لنفسه لكي يرتبط بها؟! فإذا ارتبط بها بقي يوم القيامة حيا لا يموت!

ينبغي للإنسان أن يتحلى في هذه الدنيا بأخلاق الحياة وأن يرجع إلى نبع الحياة ومصدر الحياة، فلا تكون أخلاقه أخلاق الإهلاك والإفناء.

يمكن أن يؤول ذلك العالم (عين الحياة) بأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) كما فعلت بعض الروايات، وهم الأحق والأجدر بصفة الحياة، لأنهم ارتبطوا بالله الحي ولم ينفصلوا عنه، ولم يوجد على وجه الأرض من ارتبط بالله (سبحانه وتعالى) كما ارتبطوا هم، لذلك كانت أخلاقهم أخلاق حياة، وسلوكهم سلوك حياة، من أخذ عنهم صار حيا، ومن خالفهم صار ميتا، وكما تعبّر بعض خطب الأمير (عليه السلام): «فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان.... فذلك ميت الأحياء»(21)، وذلك لأنه لم يأخذ من عين الحياة التي تمد الناس بالحياة، فهو وإن لم يزل في الدنيا إلا أنه ميت، ولذلك يخاطب الله (سبحانه وتعالى) عباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(22).

إن دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) هي دعوة حياة، وهي دعوة إبراهيم الخليل (عليه السلام) ودين إبراهيم، إسلام النبي (صلّى الله عليه وآله) هو إسلام إبراهيم (عليه السلام) وهو إسلام الحياة، ولا يوجد إسلام هو إسلام الموت(23)، فمن زعم أن رسالة الإسلام هي رسالة الموت وقطع القارات من أجل الإماتة فهو جاهل، فالإسلام إسلام واحد وهو الاسم الذي اختاره إبراهيم (عليه السلام): {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}(24)، وعلى هذا الأساس فإن المجتمعات المتدينة والتي أخذت ثقافتها عن أهل بيت الوحي كانت لها ثقافتها وأخلاقياتها، وإن سلوكها هو سلوك الحياة، بخلاف من ابتعد عن الصراط، ولم يأت البيوت من أبوابها بل اجتهد بنفسه مبتدعاً إسلاماً محدوداً برؤيته الخاصة الضيقة، فلم يستجب للرسول إذ دعاه لما يحييه، نتيجة كل ذلك فإن هذا النوع من الناس لا محالة سيسلكون طريق الموت والإماتة والهلاك والإهلاك.

تقول الرواية عن الفضل: تحدثنا عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فذكرنا عين الحياة فقال (عليه السلام): «أتدرون ما عين الحياة؟ قلنا: الله وابن رسوله أعلم. قال: نحن عين الحياة، فمن عرفنا وتولانا فقد شرب عين الحياة، وأحياه الله الحياة الدائمة في الجنة وأنجاه من النار»(25). ولا توجد منافاة بين هذه الرواية والروايات التي تشير إلى أنها عين يغتسل فيها أهل الجنة، فلعل هذا هو التأويل الوحيد لها، فيكون الغسل فيها بمعنى غسل الذنوب وقبول الأعمال بولاية أهل البيت (عليهم السلام)، أو أن يكون لها أكثر من مصداق واحد، وأكثر من نشأة، فعين الحياة في النشأة الدنيا مثلا هو اتِّباع النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وعين الحياة في الآخرة هي عين بصفة معينة يغتسل فيها المتقون بوصف خاص، والله العالم.

تقييم أداء القلب وتناسبه مع العلم

بعد كل هذا لا بد أن يطرح أهل العلم على أنفسهم هذا السؤال: هل صار لدينا بعد هذه السنوات المديدة من معايشة العلم اعتقاد جازم بأن الآخرة هي دار الحيوان؟! هل نتقبل الموت في ساحة الشهادة؟ هل نعتقد بأن الموت قنطرة تعبر بنا إلى حيث الحياة الدائمة الواسعة؟

إن الإجابة الصادقة على هذه التساؤلات تجعلنا نعيد حساباتنا وتسمياتنا للعلوم، فإما أن تكون علوما، فسوف تولد تلقائيا حالة الاطمئنان والركون إلى الحياة الآخرة، وإلا فإنها ليست بعلوم.

وخير ما نمثل به في اليقين بالآخرة وأنها دار البقاء والحياة الدائمة ما روي في وصف حال الحسين (عليه السلام): ولما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنهم إذا اشتد بهم الأمر تغيرت ألوانهم، وارتعدت فرائصهم، ووجلت قلوبهم، ووجبت جنوبهم. وكان الحسين (عليه السلام) وبعض من معه من خواصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا إليه لا يبالي بالموت. فقال له الحسين (عليه السلام): «صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضر إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب أليم: إن أبي حدثني عن رسول الله: إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت»(26).

أقول: لعل قوله (عليه السلام): «وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل» إشارة إلى فارق بين الفريقين؛ وهو أن المؤمنين وكما هو معروف وكما تشير ذيل الرواية مسجونون في هذه الحياة الدنيا، وأن انتقالهم إلى الآخرة هو واقعا وحقيقة انتقال من السجن إلى القصر، ولذلك قال: «فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر»، وأما الكفار فليسوا في قصر واقعا، بل يتخيل إليهم ذلك، ولذلك قال: «كمن ينتقل من قصر إلى سجن» وإلا فواقع حالهم هو النار، خصوصا على نظرية تجسم الأعمال، فإنهم إذا أكلوا أموال اليتامى فإنهم واقعا وفعلا يأكلون في بطونهم نارا، وهم واقعاً وحقيقة أموات تحيط بهم النار، ويكشف عن بصرهم يوم القيامة ليروا الحقيقة المؤلمة.

نعم هو احتمال في معنى العبارة، ولعلها لا تشير إلى ذلك وليست في مقام التفصيل من هذه الناحية.

والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) الكافي، الكليني، ج1، ص70، ح8.

(2) العنكبوت: 64.

(3) الكافي، ج1، ص36، ح3.

(4) تحف العقول، ص28.

(5) ميزان الحكمة، ج1، ص88.

(6) ن.م، ص88.

(7) ن.م، ص104.

(8) العنكبوت: 64.

(9) الحج: 46.

(10) الأعراف: 179.

(11) ميزان الحكمة، ج3، ص2032.

(12) ن.م، ص2045.

(13) ن.م، ص2045.

(14) الأنفال : 24.

(15) راجع الروايات الثلاث في ميزان الحكمة، ج3، ص2068.

(16) بحار الأنوار، ج1، ص85، 7.

(17) صحيفة الإمام، ج7، ص136.

(18) مشكاة الأنوار، علي الطبرسي، ص430.

(19) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص28.

(20) راجع رسالة القلم، العدد 27.

(21) نهج البلاغة، ج1، ص153.

(22) الأنفال: 24.

(23) نعم لا يتصور أننا بذلك ننكر أحكام الإسلام الجزائية والعقوبات والقصاص، بل الإسلام كذلك هو إسلام الحياة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 179.

(24) الحج: 78.

(25) شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج3، ص494.

(26) الاعتقادات في دين الإمامية، الشيخ الصدوق، ص52.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا