ثقافة البكاء

ثقافة البكاء

كثيرة هي تلك الثقافات الإسلامية التي حثَّ عليها الشرع المقدس، وسعى الأئمة(ع) لنشرها بين الناس باعتبار أنها تمثل حصناً تحقق الهدف المقدس الذي خلق من أجله الإنسان من خلال ربطه بمعبوده الأوحد وتثبيته على عقيدته الحقة، ومن هذه الثقافات هي ثقافة البكاء.

وعندما نعبر عن البكاء بأنه ثقافة نريد بذلك أن البكاء يجب أن يتحول إلى حالة عامة بين الناس، لا أن يكون بين فئة أو مجموعة خاصة.

ومن أهم أنواع البكاء في الشريعة المقدسة هو البكاء على مصائب أهل البيت(ع) وفيه عدة نقاط:

النقطة الأولى: ما ورد في الحثّ على البكاء:

1 – قول الإمام الرضا(ع):

«يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش»(1)

2 – وقوله(ع) أيضاً:

«فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون»(2)

3 – عن الإمام الصادق(ع):

«من ذَكَرنا أو ذُكِرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد الحجر»(3)

النقطة الثانية: سيرة أهل البيت في البكاء:

إن أهل البيت(ع) لم يكتفوا بإصدار الروايات في الحث على البكاء فقط، وإنما كانت سيرتهم كذلك أيضاً، فإن ذلك قد عرف عنهم بدءاً بالرسول الأعظم(ص) وبكاءه على سبطه قبل ذبحه ومقتله، بل في يوم مولده الميمون، مروراً بأمير المؤمنين(ع) عندما مر بأرض كربلاء، وبالزهراء البتول(ع) التي بكته حينما أخبرها الرسول(ص) بمقتله، وانتهاءً بآخر الحجج والأولياء الإمام الحجة#.

فمن باب المثال لا الحصر، ما جاء عن الإمام الرضا(ع) – بعد حديث ذكره في مصيبة الحسين(ع) أنه قال:

«كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم مصيبته وحزنه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلى الله عليه»(4).

بل هناك روايات تذكر بكاء كثير من الأنبياء(ع) على الإمام الحسين(ع) أي قبل مجيئه إلى الدنيا، بل بمجرد سماع ما سيجري عليه، فكيف الحال بعد وقوع تلك الفاجعة العظيمة.

بل حتى الملائكة المقربون يبكون على الإمام الشهيد(ع)، فقد ورد في حديث أن الإمام الصادق(ع) قال لأحد الشعراء اسمه جعفر بن عفان: «بلغني أنك تقول الشعر في الحسين وتجيد، فقال له: نعم جعلني الله فداك، قال(ع): قل! فأنشده صلى الله عليه فبكى ومن حوله، حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته. ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدت ملائكة الله المقربون ها هنا يسمعون قولك في الحسين(ع) ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنة بأسرها، وغفر الله عنك»(5)

النقطة الثالثة: هل للبكاء ثواب؟

تجيبنا الروايات على هذا السؤال، وتقرر عدة فوائد أخروية.

أولاً: أن ثواب الباكي الجنة:

فعن الإمام الصادق(ع) في حديث: «ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة».(6)

ثانياً: مرافقة أهل البيت(ع) في الجنان والأمن يوم القيامة عن الإمام الرضا(ع). «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذُكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ يوم تبكي العيون»(7)

ثالثاً: تحريم وجهه على النار:

فعن الإمام الصادق(ع): «من ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه حرَّم الله وجهه على النار».(8)

رابعاً: استغفار الإمام الحسين(ع) للباكي عليه:

ففي ضمن حديث عن الإمام الصادق(ع): «... وأنه (الإمام الحسين(ع)) ليرى من يبكيه فيستغفر له ويسأل آباءه(ع) أن يستغفروا»(9)

النقطة الرابعة:

بعد أن عرفنا شيئاً من أهمية البكاء على مصائب أهل البيت(ع)، والثواب الجزيل على ذلك، نأتي إلى واقعنا المعاش ونسأل هل أن ثقافة البكاء منتشرة بين الناس بالشكل الذي سعى له أهل البيت(ع) وأرادوه، أم أنها ليست بالمستوى المطلوب؟

فنحن لو تجولنا في مآتم البلد، مآتم النساء والرجال، لرأينا أن هذه الثقافة وإن كانت موجودة ولكنها في فئة خاصة عادة، وهي فئة كبار السن، نعم في بعض المناطق يشهد لهم ذلك، بينما لو ذهبنا إلى الجمهورية الإسلامية مثلاً لوجدنا أن ثقافة البكاء منتشرة بشكل واضح جداً، بين الصغار والكبار والنساء والرجال، بل وحتى بين غير الملتزمين أيضاً، وأستطيع أن أدعي بأنه إحدى أهم مقومات انتصار الثورة الإسلامية في إيران هي أن الشعب الإيراني شعبٌ بكاء.

فإن البكاء لو لم يكن له تأثير في حياة الفرد والمجتمع ولم تكن فيه مصلحة للمؤمنين لما حثَّ عليه الأئمة المعصومون(ع)، ولما جعل الله له هذا الثواب الجزيل، فإن كل الأحكام الشرعية المقدسة إنما تجعل بلحاظ ما فيها من مصالح ومفاسد.

إذن لابد من التفكير الجدي في كيفية نشر هذه الثقافة المقدسة في هذا البلد الطيب.

وقد يُسأل ما هي الأسباب التي تمنع من انتشار هذه الثقافة مجتمعنا مع كونه من المجتمعات المؤمنة والمعروفة بالولاء واتقاد العاطفة تجاه أئمة أهل البيت(ع)، بل هو من المجتمعات المتميزة في هذا الجانب كما يشهد له كثير من العلماء.

ومع ملاحظة أيضاً أن الأحداث التي جرت على أئمة أهل البيت(ع)، لا يحتاج فيها الإنسان أن يكون ذا عاطفة جياشة حتى يتفاعل معها، بل إن التعاطف معها شبيه بالأمر الفطري، ففي الحديث عن الإمام الحسن(ع): «أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى»(10).

نستطيع أن نقول بأن أهم تلك الأسباب لعدم انتشار هذه الثقافة مع ملاحظة ما ذكر هي سببان:

السبب الأول: الخجل: فإن الأمر الذي لا يكون منتشراً بين الناس، يخجل الإنسان عادة من الإتيان به، ولا فرق في ذلك بين الأمور الحسنة أو السيئة، فمثلاً بالنسبة للأمور السيئة بعض الألبسة التي لم تكن مألوفة في أوساط الفتيات وكانت الفتاة تخجل من لبسها حتى ولو لم تكن ملتزمة، ولكن عندما انتشرت هذه الألبسة في أوساط الفتيات، أصبحت الفتيات حتى الملتزمة منهن لا تخجل من لبسها حتى وإن رآها جميع الناس.

وكذلك الحال فيما نحن فيه، فإن هناك كثيراً من الشباب المؤمن ربما يريد أن يبكي أو يتباكى حزناً على أئمته المظلومين(ع) لما في البكاء من اللذة الروحية والمعنوية، إلا أنه يمتنع عن ذلك خجلاً من الآخرين.

وليس للخجل علاج أفضل من المداومة على الشيء حتى يصبح عند الشخص أمراً اعتيادياً، ومن ثم يذهب الخجل تدريجياً، ثم إنه لا داعي للخجل ما دام العمل عمل طاعة، فيه رضا الله عز وجل ومواساة للمعصومين(ع)، وله ذلك الثواب العظيم، وهو عمل يختصر لك الطريق للفوز بالجنان كما تقدم من أحاديث.

ثم إن كان عندي خجل، فيجب أن يكون من نفسي وقسوة قلبي، وكيف أدعي الولاء والمودة لأهل بيت النبوة والرسالة(ع) ثم لا أواسيهم بأبسط الأشياء وهو البكاء وذرف الدموع الذي لا يكلفني شيء؟؟

فقد روى «أنه لما أخبر النبي(ص) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت: يا أبت متى يكون ذلك؟

قال: في زمان خالٍ مني ومنك ومن علي، فاشتد بكاؤها وقالت: يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.

يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة، إلا عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة(11).

إذن ففي البكاء إدخال للسرور على قلب الزهراء(ع)، وكفى بذلك مانعاً من حصول الخجل.

السبب الثاني: قد يقال بأن البكاء أمر غير اختياري، فليس بيدي أن أبكي أو لا أبكي، فمن توفرت فيه دواعي البكاء قد لا يستطيع أن يمسك نفسه عن البكاء، ومن لم تتوفر فيه دواعي البكاء قد لا يستطيع أن يبكي.

فلربما كان هناك من المؤمنين من يقول بأني لا أخجل من البكاء، ولكن الدمعة لا تطاوعني فماذا أصنع؟

والجواب على هذا الأمر: أن البكاء وأن كان في بعض الأحيان غير اختياري ولكنه في كثير من الأحيان يكون اختيارياً، وإلا لو لم يكن اختيارياً فما معنى حث الروايات للمؤمنين على البكاء، فإن الإنسان بالممارسة يستطيع أن يملك زمام أمره في البكاء.

وهناك طريق آخر أيضاً لتعويد النفس على البكاء ألا وهو التباكي، ولا شك أنه أمرٌ اختياري، وهذا قد أشار له حديث الإمام الصادق(ع) في قوله: «إن لم يجبك البكاء فتباك، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخٍ بخٍ»(12) إذن من لم يستطع البكاء فليتباكى وله أيضاً ثواب الباكين فقد ورد عنهم(ع): 0ومن تباكى فله الجنة»(13)

ثم إن المداومة على التباكي يولد في الإنسان البكاء كما هو مجرب. فلو أن كل واحد منا بكى أو تباكى لانتشر البكاء في وسطنا ولأصبح ثقافة إسلامية عامة، كما أراد أهل البيت(ع).

دور الخطباء:

ثم إن للخطباء والرواديد وقراء الزيارات الدور الفاعل والبناء في نشر هذه الثقافة بين الناس، ويتحملون مسئولية كبيرة ومهمة، باعتبار أنهم يمتلكون القنوات الرئيسية لنشر هذه الظاهرة والثقافة، وأن من يسعى لنشر هذه الثقافة يصدق عليه قوله تعالى: «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب»(14)فإنه كما ورد الحث من الروايات الشريفة على البكاء والتباكي، فإنه ورد أيضاً ما يحث على الإبكاء.

فقد روى أبو عمارة المنشد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال له: «يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى قال: فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار.

فقال(ع): يا أبا عمارة من أنشد في الحسين شعراً. فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً، فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة.(15)

فينبغي لنا ترسيخ ثقافة البكاء، فلا نقتصر فيه على أيام محرم فقط، وإن كان طلبها في أيام محرم آكد وأرسخ.

الأنواع الأخرى للبكاء:

نذكر هنا اختصاراً بعض المواضع الأخرى التي يستحب ويتأكد فيها البكاء أيضاً:

الأول: البكاء من خشية الله تعالى:

1 – عن النبي(ص): «طوبى لصورة نظر الله إليها تبكي على ذنب من خشية الله عز وجل، لم يطلع على ذلك الذنب غيره»(16)

2 – عن الإمام الصادق(ع): «إن الرجل ليكون بينه وبين الجنة أكثر مما بين الثرى إلى العرش، لكثرة ذنوبه، فما هو إلا أن يبكي من خشية الله عز وجل، ندماً عليها حتى يصير بينه وبينها أقرب من جفنته إلى مقلته.(17)

الثاني: البكاء في حال الصلاة:

البكاء في الصلاة إذا كان لأمر من أمور الدنيا يبطل الصلاة كما في كلمات الفقهاء، ولكن كيف إذا كان لأمر من أمور الآخرة؟ تجيبنا الروايات على ذلك:

1 – قال سعيد بياع السابري: قلت لأبي عبد الله(ع): أيتباكى الرجل في الصلاة، قال: بخٍ بخٍ ولو مثل رأس الذباب».(18)

2 – وسُئِل الإمام الصادق(ع) أيضاً عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتى يبكي قال: «قرة عين والله» وقال: «إذا كان ذلك فاذكرني عنده»(19).

الثالث: البكاء عند قراءة القرآن:

1 – عن النبي(ص): اقرؤوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»(20).

2 – وعنه أيضاً(ص): ما من عين فاضت من قراءة القرآن إلا قرت يوم القيامة»(21)

الرابع: البكاء على النفس:

1 – فيما أوحى الله إلى موسى(ع): «ابكِ على نفسك ما دمت في الدنيا، وتخوف العطب والمهالك، ولا تغرنك زينة الحياة الدنيا وزهوتها».(22)

2 – وجاء في ضمن دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع): وأعني بالبكاء على نفسي فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري»

وفي الختام ننقل هذه الرواية عن أمير المؤمنين(ع): «ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب».(23)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 * الهوامش:

(1) البحار، ج 44، ص 610.

(2) نفس المصدر، ص 609.

(3) نفس المصدر، ص 605.

(4) نفس المصدر، ص 609.

(5) نفس المصدر.

(6) نفس المصدر، ص 608.

(7) نفس المصدر، ص 605.

(8) نفس المصدر، ص 610.

(9) نفس المصدر، ص 607.

(10) نفس المصدر، ص 606.

(11) نفس المصدر، ص 615.

(12) ميزان الحكمة، ج 1، ص 285، وكلمة (بخٍ بخٍ) تقال عند تعظيم الإنسان، وعند التعجب من الشيء، وعند المدح والرضا بالشيء.

راجع لسان العرب، مادة (بخخ).

(13) نفس المصدر، ص 612.

(14) سورة الحج، الآية 32.

(15) نفس المصدر، ص 608.

(16) ميزان الحكمة، ج 1، ص 284.

(17) البحار، ج 90، ص 124.

(18) الوسائل، ج 7، ص 247 – 248.

(19) الوسائل، ج 7، ص 247 – 248.

(20) ميزان الحكمة، ج 6، ص 2528.

(21) ميزان الحكمة، ج 6، ص 2528.

(22) ميزان الحكمة، ج 1، ص 285.

(23) ميزان الحكمة، ج 1، ص 285.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا