(توضيح لما أفاده التفتازاني في كتابه المختصر)
بسم الله الرحمن الرحيم
من أهم مقومات بلاغة الكلام والمتكلم كون المفردات التي يستخدمها المتكلم فصيحة، والفصاحة في اللغة لها استعمالات كثيرة، يجمعها معنىً واحد، هو الظهور والإبانة(1). قال تعالى {وَأَخِيْ هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}(2) أي : أبين(3).
وفي الاصطلاح يتصف بها ثلاثة أمور : المفرد والكلام والمتكلم.
والكلام إن شاء الله يقع في فصاحة المفرد. وبالتحديد في تنافر حروفه، حيث أن الفصاحة في المفرد تتحقق بسلامته من التنافر والغرابة ومخالفة القياس(4).
والتنافر : وصف من الأوصاف التي تتصف بها الكلمة ويوجب هذا الوصف ثقلاً في النطق بالكلمة. مثل كلمة : (هعخع)(5) فهي كلمة ثقيلة على اللسان.
فإذا ثقلت الكلمة على اللسان يقال أنها متنافرة الحروف.
ومُثّل على الكلمة المتنافرة بكلمة (مستشزرات) من قول امرئ القيس(6):
غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقاص في مثنى ومرسل
المعنى : الشاعر هنا يصف غزارة شعر شخص، فيقول : إنه لكثرة شعره بعضه مرفوع، وبعضه مثني، وبعضه مرسل، وبعضه معقوص ملوي بين المثني والمرسل(7).
وموضع الشاهد على التنافر هنا هو لفظة (مستشزرات ) بمعنى (مرتفعات) فهي لفظة مستكرهة لثقلها على اللسان وعسر النطق بها، فتنافر الحروف فيها أدى إلى ثقلها وصعوبة التلفظ بها.
ولكن ما هي الضابطة لمعرفة الثقل والصعوبة في اللفظ لكي نميز الكلمة المتنافرة عن غيرها؟ أو بالأحرى ما هو منشأ التنافر؟
ذُكر لذلك ضوابط ثلاث :
الضابطة الأولى : ما عليه ابن الأثير(8)في كتابه اللغوي المثل السائر. وتبعه على ذلك التفتازاني(9). فقال : الضابطة هي الذوق السليم المكتسب بطول النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم، وهو قوة يدرك بها لطائف الكلام ووجوه تحسينه، فكل ما عده الذوق ثقيلاً متعسر النطق به كان ثقيلاً متنافر الحروف.
الضابطة الثانية : ما اختاره الخلخالي(10): فذهب إلى أن الضابطة في كون الكلمة متنافرة أو غير متنافرة. يرجع إلى أوصاف الحروف، فإذا اتصف الحرف بوصفين، بوصف خالف ما قبله وبوصف آخر خالف ما بعده، فتكون الكلمة المتضمنة لهذا الشيء متنافرة.
فللحروف عدة أوصاف ولها تقسيمات متعددة باعتبار أوصافها.
تنقسم الحروف باعتبار الجهر والهمس إلى قسمين :
1- الحروف المهموسة : جمعت في (فحثه شخص سكت ) وسميت حروف مهموسة لأن النفس معها يختفي فأصبح الكلام والنطق بها كالهمس(11).
2- الحروف المجهورة : مأخوذة من الجهر وإعلاء الصوت، وسميت مجهورة، لأن الجهر في اللغة الإظهار، وهذه الحروف في الكلام يقوى الاعتماد عليها، وهي غير الحروف المهموسة. فلا نحتاج إلى جمعها في جملة لأن الأشياء تعرف بأضدادها.
وهناك تقسيم آخر للحروف باعتبار الشدة والرخاوة، فقسمت الحروف إلى ثلاثة أقسام :
1- الحروف الشديدة : وسميت بذلك لشدة وثقل مخرجها، وهي ثمانية جمعت في قوله (أجد قط بكت)
2- الحروف المتوسطة بين الشدة والرخاوة : وجمعت في قوله (لن عمر )
3- الحروف الرخوة : وسميت بذلك لأنها تلين عند النطق بها، وهي ثلاثة عشر حرفا، وهي غير حروف (أجد قط بكت) وغير حروف (لن عمر )
يقول الخلخالي : إذا طبَّقنا أوصاف الحروف على كلمة مستشزرات، نجد أنه يوجد قبل حرف الشين حرف التاء وبعد حرف الشين حرف الزاي.
الشين : في القسمة الأولى من الحروف المهموسة، وفي القسمة الثانية هي من الرخوة.
التاء : في القسمة الأولى من الحروف المهموسة، وفي الثانية هي من الشديدة.
أما الزاي : ففي القسمة الأولى من الحروف المجهورة، وفي الثانية من الرخوة.
فنلاحظ أن الشين التي توسطت بين التاء والزاي وافقت التاء في الهمس وخالفتها في الشدة، وقد وافقت الزاي في الرخاوة وخالفتها الجهر.
ومن الخلاف صارت الكلمة ثقيلة، فسبب ثقل مستشزرات، أن الشين اتصفت بوصفين من أوصاف الحروف بأحد الوصفين خالفت ما قبلها وبالوصف الآخر خالفت ما بعدها فلذا صارت ثقيلةً.
لذا يقول الخلخالي أنه لو غيرنا هذه الكلمة وقلنا (مستشرف) لزال التنافر، لأن الشين لم تتوسط بين التاء والزاي بل توسطت بين التاء والراء.
رد التفتازاني على هذه الضابطة :
يقول التفتازاني أن هذه النظرية غير صحيحة، والسبب في ذلك أن نفس الخلخالي يعترف بأن مستشزر متنافرة أما مستشرف فهي غير متنافرة. مع أن الضابطة التي ذكرها الخلخالي تنطبق على مستشرف أيضاً. ولابد في الضابطة أن تكون مطردةً، فينطبق في كل الأمثلة المتنافرة ولا ينطبق على الأمثلة غير المتنافرة. ولكن نجد أن ما ذكره من قاعدة يصدق على مستشرف، فالراء في مستشرف من الحروف المجهورة فاختلفت مع الشين في الهمس فما زال الخلاف موجوداً فينبغي أن تكون مستشرف متنافرة، مع أن الخلخالي بنفسه يعترف أن مستشرف غير متنافرة وغير ثقيلة على اللسان(12).
الضابطة الثالثة : ما اختاره الزوزني(13)، قال أن الضابطة هي قرب المخارج، فإذا كانت مخارج الحروف متقاربة تكون الكلمة ثقيلةً وإذا لم تكن المخارج متقاربةً بل متباعدةً تكون الكلمة سَلِسَةً فلا تكون متنافرةً.
ثم إن الزوزني أشكل على نفسه : قال : لقائل أن يقول أنه يلزم بهذه الضابطة الإخلال بفصاحة القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم فيه كلمة {أَعْهَدْ}(14) فكلمة أعهد مخارج حروفها متقاربة، فيلزم أن تكون أعهد غير فصيحة فيكون القرآن الكريم قد اشتمل على كلمة غير فصيحة وبالنتيجة يكون القرآن غير فصيح مع أن معجزة القرآن هي في فصاحته واللازم(15)باطل فالملزوم(16)مثله في البطلان.
ثم دفع الزوزني هذا الإشكال الذي قد يوجه إليه فقال : نسلم أن كلمة أعهد غير فصيحة (متنافرة) ولكن لا يترتب على ذلك اللازم والتالي الفاسد وهو عدم فصاحة القرآن، لأن كلمة واحدة في ضمن كلام طويل لا يمنع من اتصاف الكلام الطويل بالفصاحة، وعليه فإن كلمة واحدة غير فصيحة في القرآن الكريم لا يلزم منه أن يكون القرآن الكريم غير فصيح. وهناك نظير لذلك، فالقرآن الكريم عربي بنص الآية قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}(17)، مع أن القرآن الكريم يشتمل على كلمات غير عربية (18). فكما أن وجود الكلمات غير العربية في القرآن لم تمنع من اتصاف القرآن الكريم بالعربية، كذلك وجود كلمة أو كلمات غير فصيحة في القرآن لا تمنع من اتصاف القرآن بالفصاحة.
رد الشارح التفتازاني على هذه الضابطة :
التفتازاني لا يرتضي أيضا هذه النظرية ويقول أنه يلزم منها الإخلال بفصاحة القرآن الكريم يقول :
أولاً : لا نسلم أن القرآن الكريم يشتمل على كلمات غير عربية، فمجرد التوافق في اللغات لا يجعل هذه الكلمة من لغة أخرى، ففي كثير من الأحيان اللغات تشترك في لفظة من الألفاظ، فمجرد كون هذه اللفظة موجودة في لغة غير اللغة العربية، لا يجعل اللفظة غير عربية.
ثانياً : قياس فصاحة القرآن على عربيته قياس مع الفارق، لأن عربية القرآن بلحاظ هيئته (19)لا بلحاظ ألفاظه، أما فصاحة القرآن بلحاظ فصاحة الكلام، والكلام لا يكون فصيحاً إلا إذا كانت كلماته فصيحة بلا فرق بين القليل والكثير، فبمجرد اشتمال الكلام على كلمة واحدة غير فصيحة تخرجه عن كونه فصيحاً.(20)
ثالثاً : أنه لو التزمنا نحن بهذه النظرية لكان الأمر سهلاً، لكن إذا التزمت أنت أيها الزوزني بهذه النظرية فالأمر عليك صعب، لأنك قد أدخلت المركب الناقص في الكلام، بينما نحن أدخلناه في المفرد، فإذا أدخلت المركب الناقص في الكلام فعليك أن تجيب عن قسمين، عن المركب التام وعن المركب الناقص إذا كانت واحدة من كلماتهما غير فصيحة، لأن فصاحة الكلمات شرط في فصاحة الكلام اتفاقاً بينما نحن علينا أن نجيب عن المركب التام فقط إذا كانت واحدة من كلماته غير فصيحة بينما المركب الناقص نحن أدخلناه في المفرد. فإذا كانت إحدى كلماته غير فصيحة صح أن يقال أنه فصيح لأننا أدخلناه في المفرد لا في الكلام ولم نشترط فصاحة الكلمات في المفرد.
رابعاً : قلت أيها الزوزني أن وجود كلمة غير فصيحة في القرآن لا تضر بفصاحة القرآن، فنحن نسأل ههنا : الله يعلم أن هذه الكلمة غير فصيحة أو لا يعلم؟
إن قلت لا يعلم فيلزم منه نسبة الجهل لله سبحانه وتعالى.
وإن قلت يعلم، نسأل : هل هو قادر على تبديلها بكلمة فصيحة أو غير قادر؟
إن قلت غير قادر فيلزم نسبة العجز إليه تعالى.
وإن قلت قادر، نسأل : هل يعلم أن الفصيح أولى من غير الفصيح أو لا يعلم؟
إن قلت لا يعلم فيلزم منه نسبة الجهل لله سبحانه وتعالى.
وإن قلت يعلم، نسأل : لِمَ لَمْ يبدل الكلمة غير الفصيحة بالفصيحة؟
فيلزم منه اللغو والعبث، والعبث قبيح، وهو لا يصدر عن الحكيم سبحانه وتعالى.
إذن وجود كلمة غير فصيحة في القرآن الكريم يلزم منه والعياذ بالله، إما أن يكون الله جاهلا أو عاجزاً أو غير حكيم، وكلها منفية في حقه سبحانه وتعالى، فلما كان اللازم باطل فالملزوم مثله في البطلان.فتبطل نظرية الزوزني لأن لازم نظرية الزوزني أن تكون كلمة أعهد غير فصيحة.
فيبقى أن منشأ التنافر هو الذوق السليم الناشئ من ممارسة كلام العرب كما اختاره ابن الأثير وتبعه على ذلك التفتازاني.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلِّ يا ربِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
* الهوامش:
(1)دروس في البلاغة، لسماحة الشيخ الأستاذ معين دقيق العاملي، ص 19
(2)سورة القصص، الآية 34.
(3)دروس في البلاغة ص19.
(4)مختصر السعد، لسعد الدين التفتازاني ص19.
(5)في قول أعرابي سئل عن ناقته (تركتها ترعى الهعخع) أي نبتاً أسوداً. حاشية الدسوقي ج1 ص254، ولا مانع من أنت تكون الكلمة متنافرة وغريبة في نفس الوقت، فالهعخع من الكلمات التي تتصف بالغرابة أيضاً فإنها كلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال.
(6)هو امرؤ القيس بن حجر بن حارث الكندي، من بني آكل المرار، من أشهر شعراء العرب، مات نحو80 قبل الهجرة.
(7)من كتاب في البلاغة العربية (علم المعاني ) للدكتور عبد العزيز عتيق ص18.
(8)ضياء الدين أبو الفتح نصر الله، المعروف بضياء الدين ابن الأثير، الكاتب الأديب، أتقن صنعة الكتابة، واشتهر بها بجودة أسلوبه وجمال بيانه، التحق بخدمة صلاح الدين وأبنائه في حلب ودمشق، وترك مصنفات أدبية قيّمة، أشهر)لمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر(، وهو من أهم الكتب التي تعالج فن الكتابة وطرق التعبير، وتوفي سنة 637هـ= 1239م.
(9)هو مسعود بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني، العالم بالعلوم العربية والكلام والأصول والمنطق، وكان في لسانه حبسة، توفي سنة 792 للهجرة. حاشية الدسوقي ج1 ص5.
(10)محمد بن مظفر الخطيبي الخلخالي - شمس الدين - عالم بالأدب من مصنفاته (شرح المصابيح) و(شرح المختصر) و(شرح المفتاح ) و(شرح تلخيص المفتاح )توفي نحو سنة 745 للهجرة.حاشية الدسوقي ج1 ص 269.
(11)الهمس لغة الخفاء.
(12)ويمكن ذكر مثال آخر وهو(علم وملع ) فإن الأولى خفيفة على اللسان بخلاف الثانية، مع اتحاد حروفهما فلو كانت القاعدة التي ذكرها الخلخالي مطردة لكانت كل من الكلمتين غير فصيح.
(13)قال السيوطي بترجمته في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1 (ص) 531 : « الحسين بن أحمد الزوزني القاضي، أبو عبـد الله، قال عبـد الغافر : إمام عصره في النحو واللّغة والعربية. مات سنة 486 هـ.
(14)في قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} سورة يس(ص)، الآية 60.
(15)وهو الإخلال بفصاحة القرآن.
(16)وهو كون هذه الضابطة صحيحة.
(17)سورة يوسف(ع)، الآية 2.
(18)مثل كلمة قسطاس في قوله {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ} سورة الإسراء، الآية 35. فإن كلمة قسطاس رومية، ومثل كلمة السجل في قوله تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} سورة الأنبياء(ع)، الآية 104. فإن كلمة السجل فارسية، ومثل كلمة المشكاة في قوله تعالى {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... } سورة النور، الآية 35. فإن كلمة مشكاة هندية. حاشية الدسوقي ج1 ص255.
(19) فاللغة العربية لها هيئة خاصة، مختصة بها دون باقي اللغات، كتقديم الموصوف على الصفة وتقديم المضاف على المضاف إليه أما في اللغة الإنجليزية العكس مثلاً.
(20) لأن فصاحة الكلام (خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها)
0 التعليق
ارسال التعليق