الملخّص:
تعرّض الكاتب إلى مسألة مهمّة على المستوى العملي وذلك للحاجّ تمتّعاً وهي: تقديم طواف الحجّ وركعتيه والسعي على الوقوفين للمتمتّع اختياراً،واستعرض في هذه المقالةالقولين في المسألة،وأولهما: منع التقديم، وعليه كلمات العلماء وادّعاء الإجماع والاستفاضة. وثانيهما: هو الجواز كما عن بعضهم، مستدلاً على كلا القولين ومناقشاً ما يمكن مناقشته لينتهي إلى ترجيح القول الأول الذي عليه المشهور.
مقدّمة:
لا إشكال في جواز تقديم طواف الحجّ وركعتيه والسعي للمفرد والقارن اختياراً، ويدلّ على ذلك في المفرد صحيحة حمّاد بن عثمان قال: >سألت أبا عبد اللهg عن مفرد الحجّ، أيعجّل طوافه أو يؤخّره؟ قال: هو والله سواءٌ، عجّله أو أخّره<. وموثّقة زرارة قال: >سألت أبا جعفرg عن المفرد للحجّ يدخل مكّة، يقدّم طوافه أو يؤخّره؟ فقال: سواء<. وموثّقته الأخرى قال: >سألت أبا جعفرg عن مفرد الحجّ، يقدّم طوافه أو يؤخّره؟ قال: يقدّمه..<الحديث. وصحيحة إسحاق بن عمّار- في حديث- قال: >سألت أبا الحسنgعن المفرد للحجّ، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، أيعجّل طواف النساء؟ قال: لا، إنما طواف النساء بعدما يأتي (من) منى<([1]).
وأمّا القارن فيدلّ عليه ما دلّ على تساوى المفرد والقارن إلا في السياق كصحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللهg قال: >إنمّا نسك الذي يقرن بين الصفا والمروة مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلا بسياق الهدى..< الحديث([2]).
كما لا إشكال ولا خلاف في جواز تقديم طواف الحجّ وركعتيه والسعي للمتمتّع لعذر كالشيخ الكبير وخائفة الحيض والمريض والمعلول والخائف، ويدلّ على ذلك صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللهg قال: >لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير والمرأة تخاف الحيض قبل أن تخرج إلى منى<.
وصحيحة إسحاق بن عمّار قال: >سألت أبا الحسنg عن المتمتع إذا كان شيخا كبيرا أو امرأة تخاف الحيض يعجل طواف الحجّ قبل أن يأتي منى؟ فقال: نعم، من كان هكذا يعجّل..<الحديث([3]).
وصحيحة الحسن بن علي، عن أبيه[علي بن يقطين]، قال: >سمعت أبا الحسن الأوّلg يقول:- في حديث- (لا بأس لـ)من خاف أمراً لا يتهيّأ له الانصراف إلى مكّة أن يطوف ويودّع البيت، ثم يمرّ كما هو من منى إذا كان خائفاً<([4]).
محلّ الكلام والأقوال فيه:
ولكن وقع الكلام في جواز تقديم طواف الحجّ وركعتيه والسعي على الوقوفين للمتمتّع اختياراً، فعلى عدم جوازه جمهور الأصحاب، كما في الذخيرة([5])، بل قال في المنتهى: إنّه قول العلماء كافّة([6])، وفي الحدائق: "وقد قطع الأصحاب من غير خلاف يُعرف، بأنّه لا يجوز للمتمتع تقديم طواف الحج والسعي اختياراً، وربما ادّعوا عليه الإجماع"([7])، وفي الجواهر: "بلا خلاف محقّق معتدّ به أجده، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر، بل في محكيّ المعتبر والمنتهى والتذكرة نسبته إلى إجماع العلماء كافة"([8])، وفي المستند: "بالإجماع المحكيّ عن الغنية والمنتهى والمعتبر والتذكرة وفي المدارك"([9]).
ولكنّ بعض متأخّري المتأخّرين ومنهم صاحب المدارك استشكل في ذلك، بل لم يستبعد جواز التقديم([10]).
حجّة القول بعدم جواز التقديم:
وقد استدلّ لعدم جواز التقديم بمجموعة روايات:
منها: صحيحتا الحلبيّ وابن يقطين المتقدّمتان، وتقريب دلالتهما بأحد وجهين:
الأوّل: إنّ الوصف وإن لم يكن له ظهور في المفهوم بالمعنى المصطلح إلا أنّه يدلّ على أنّ موضوع الحكم ليس هو الطبيعيّ على سريانه وسعته، وإلا لعاد التقييد الواقع في المقام لغواً تُنَزّه عنه ساحة المتكلّم الحكيم، إذاً فالوصف بملاك اللغويّة يدلّ على المفهوم الجزئيّ، وبنحو السالبة الجزئية في مورد الموجبة كما فيما نحن فيه، وبنحو الموجبة الجزئية في مورد السالبة.
إذاً فنفس المفهوم الجزئيّ المستفاد من الجملة الوصفيّة، وهو عدم جواز التقديم في الجملة- يكفي لمعاندة ما دلّ على جوازه بنحو الموجبة الكلّيّة وإن تمّت دلالة بعض الروايات على المفهوم بالمعنى المصطلح كما سيجيء إن شاء الله.
الثاني: إنّ لسان الصحيحتين لسان الحكومة والنّظر، فهما ظاهرتان في استثناء الخائف وخائفة الحيض والشيخ الكبير عن حكم ثابت في الشريعة، وهذا الحكم هو عدم جواز تقديم طواف الحجّ والسعي على الموقفين، وإلا لكان الاستثناء فيهما لغواً، فهما إذاً ناظرتان إلى حكم ثابت لمطلق الحاجّ في الشريعة، ومعه فلا ترخيص في التقديم لغير مورد الاستثناء.
ولا يناسب الاستثناء بعدم البأس عرفاً أن يكون الحكم المستثنى منه هو الكراهة والمرجوحيّة غير الأكيدة؛ فإنّ الّذي يناسب نفي البأس في المستثنى عرفاً هو إثباته في المستثنى منه.
على أنّ ذيل صحيحة ابن يقطين مشتمل على الشرطيّة، فيدلّ على المفهوم بالمعنى المصطلح، وهو الانتفاء عند الانتفاء، إلا أنّ لها صدراً، وهو قولهg: >لا بأس بتعجيل طواف الحج وطواف النساء قبل الحج يوم التروية قبل خروجه إلى منى<، وهو ظاهر في الجواز مطلقاً.
ومن روايات عدم جواز التقديم صحيحة ابن عمّار المتقدّمة؛ فإنّ قولهg في تعليل الجواب: >من كان هكذا يعجّل< قضيّة شرطيّة تدلّ على المفهوم، وعلى انتفاء جواز التقديم عند انتفاء العلّة والعذر.
ومنها: ما رواه الكلينيّ بسنده عن إسماعيل بن مرار، عن يونس عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: >قلت (لأبي عبد اللهg) رجل كان متمتّعاً وأهلّ بالحجّ، قال: لا يطوف بالبيت حتى يأتي عرفات، فإن هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علّة فلا يعتدّ بذلك الطواف<([11]).
وهي وإن كانت أصرح الروايات في عدم جواز التقديم إلا أنّها ضعيفة السند بابن مرار؛ إذ لم يتمّ وجهٌ على وثاقته، وأما اشتمال السند على ابن أبي حمزة- وهو البطائنيّ- فلا يعيبه؛ لما ذكرناه غير مرّة من أنّ العبرة بالوثاقة في ظرف الأداء، وابن أبي حمزة وإن صار بالوقف كاذباً فاجراً، إلا أنّه كان ثقةً قبل الوقف، وروايته هذه كانت قبل الوقف، والشاهد على ذلك رواية يونس- وهو ابن عبد الرحمن الجليل القدر-، ومثله من الإجلاء لا يروون عن مثل البطائنيّ في ظرف وقفه؛ كيف وقد نابذت الإماميّة- سيما أجلّائها-الواقفة سيما رؤسائها، فالواقفيّ ممطور في أدبيات الإماميّة، فيُجتنب ويُجانب، فلا سبيل لروايتهم عنه.
وأمّا أمر انجبارها بعمل المشهور فهو مدخول كبرويّاً؛ لعدم الدليل على حجّيّة مثل هذه الشهرة ما لم تفد وثوقاً، وصغرويّاً؛ لعدم إحراز استنادهم إليها، وإفتاؤهم بنفس مضمونها لا يساوق استنادهم إليها، بل هو أعمّ منه، ومعه تكون مؤيّدة.
ومنها: صحيحة الحلبيّ قال: >سألته عن رجل أتى المسجد الحرام وقد أزمع بالحجّ أيطوف بالبيت؟ قال: نعم ما لم يحرم<([12]).
فهي تدلّ على المنع من التقديم فينافيه الترخيص فيه مطلقاً، اللهم إلا أن يكون المراد من الطواف هو المندوب لا طواف الحجّ ولا الأعمّ ولو لأنّه هو المتعيّن قبل الإحرام.
ومنها: معتبرة عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأوّلg قال: >سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحجّ، ثمّ طاف بالبيت بعد إحرامه وهو لا يرى أن ذلك لا ينبغي أينقض طوافه بالبيت إحرامه؟ فقال: لا، ولكن يمضي على إحرامه<([13]).
فقد يستدلّ بها على المنع عن التقديم بضميمة السكوت عنه في كلام الراوي؛ إذ من السكوت يستفاد الإمضاء للمسكوت عنه، ولا قرينة فيها على تعيّن إرادة خصوص الطواف المندوب.
ويلاحظ عليه بأنّها مطلقة، فتتقدّم عليها روايات جواز تقديم الطواف الواجب بالأخصّيّة، هذا من جهة الدلالة.
وأما من جهة السند فإنّ عبد الحميد وإن لم يرد فيه توثيق بالخصوص إلا أنّ الراوي عنه هنا هو صفوان بن يحيى، بل قد قال الشيخ في رجاله: روى عنه صفوان بن يحيى، بل هو راوية كتابه- بحسب فهرست النجاشي- لو كان متّحداً مع عبد الحميد بن سعد، وكبرى وثاقة من روى عنه صفوان أو البزنطيّ أو ابن أبي عمير تامّة على المختار.
حجّة القول بجواز التقديم:
ولكن بإزاء ذلك توجد مجموعة من الروايات تدلّ على الجواز، منها:
ما رواه الصدوقO صحيحاً عن حفص بن البختري عن أبي الحسنg في تعجيل الطواف قبل الخروج إلى منى، فقال: >هما سواء أخّر ذلك أو قدّمه< - يعني للمتمتّع-.
ومنها: ما رواه الصدوق أيضاً موثّقاً عن زرارة عن أبي جعفرg وبإسناده عن جميل عن أبي عبد اللهg>أنّهما سألاهما عن المتمتّع يقدّم طوافه وسعيه في الحجّ، فقالا: هما سيّان قدّمت أو أخّرت<([14]).
ومنها: ما رواه الشيخO صحيحاً عن ابن بكير وجميل جميعاً عن أبي عبد اللهg>أنّهما سألاه عن المتمتّع يقدّم طوافه وسعيه في الحجّ، فقال: هما سّيان قدمت أو أخّرت<.
ومنها: ما رواه الشيخ أيضاً صحيحاً عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: >سألت أبا إبراهيمg عن الرجل يتمتّع ثمّ يهلّ بالحجّ فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى، فقال: لا بأس<.
ومنها: ما رواه الشيخ أيضاً صحيحاً عن موسى بن القاسم عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج عن علي بن يقطين قال:>سألت أبا (الحسن)g عن الرجل المتمتّع يهلّ بالحجّ ثمّ يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى؟ قال: لا بأس به<([15]).
ويظنّ قويّاً وحدة هاتين الروايتين، وذلك لاتحاد متنهما من جهة، واتحاد سندهما من جهة أخرى، فيرويهما صفوان عن ابن الحجّاج، ويرويها ابن الحجّاج عن الكاظمg، وإن كانت روايته عنهg في إحداهما بلا واسطة، وفي الأخرى بواسطة ابن يقطين، ثمّ إنّ كونها في الواقع إما بواسطة وإما بدونها لا يضرّ باعتبارها بعد كون الواسطة من الثقات.
كما يحتمل كون التفسير بـ (يعني للمتمتّع) في صحيحة حفص من الصدوقO لا من حفص، فلا يكون حجّة مع عدم القرينة عليه، فلا تنهض الصحيحة كدليلٍ على جواز التقديم اختياراً.
وجوه الجمع العرفيّ:
ونظراً للاختلاف بين روايات جواز التقديم وروايات المنع منه فقد جمع بينها بوجوه:
[الوجه] الأوّل: التصرّف في عقد الموضوع في روايات جواز التقديم بحمل المتمتّع فيها على خصوص ذي العذر من الخائف وخائفة الحيض والشيخ الكبير، والقرينة على ذلك روايات المنع عن التقديم إلا لذي العذر؛ فإنّها أخصّ مطلقاً من روايات الجواز، كما صنع ذلك الشيخO في التهذيبين في ذيل صحيحة ابن يقطين([16])، وتبعه عليه صاحب الجواهرO([17]).
ويلاحظ عليه أوّلاً: إنّ مثل قولهg في صحيحة حفص: (هما سواء أخّر ذلك أو قدّمه)، أو قولهg في صحيحة جميل وموثّقتي زرارة وابن بكير: (هما سيّان قدّمت أو أخّرت) آبٍ عن الحمل على صورة الخوف أو العذر؛ فإنّ هذه التسوية لا تناسب المعذور.
وما في بعض الكلمات من كون ظهور روايات جواز التقديم ظهوراًإطلاقيّاً ناشئاً من مقدّمات الحكمة، وكون ظهور روايات منع التقديم ناشئاً من أخذ عنوان في موضوع الحكم، ومع تعارض الظهورين يقدّم الثاني على الأوّل؛ لأنّ رفع اليد عن موضوعيّة عنوان للحكم أخفّ بنظر العرف من إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم رأساً([18]).
ففيه إنّه وإن أوجب عدم تقديم الظهور الأوّل على الثاني، ولكنّه لا يؤذن بتقديم الظهور الثاني على الأوّل حتى في فرض قيام القرينة على إرادة الظهور الأول جدّاً، وأنّ عنوان المتمتّع في روايات الجواز مرادٌ جدّاً في فرض عدم العذر، ومعه فلا يتقدّم أحد الظهورين على الآخر.
وثانياً: إنّه من الحمل على الفرد النادر بلا قرينة.
وما في بعض الكلمات من أن المراد من العذر ليس خصوص العقليّ منه حتى يكون نادراً، بل المراد ما يشمل العذر العرفيّ فلا يكون نادراً؛ لكثرة ذوي الأعذار العرفيّة جدّاً، ككثير من النساء لأجل خوف الحيض أو للضعف مع الزحام عن الطواف بعد أعمال يوم العيد، وكذا الضعفاء من الرجال، وهكذا الشيوخ ومن في حكمهم([19]).
ففيه أوّلاً: إنّ ما دلّ جواز التقديم للعذر لم ينهض سنداً لأكثر من جوازه للخائف وخائفة الحيض والشيخ الكبير؛ فإنّ مثل رواية إسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: >لا بأس أن يعجّل الشيخ الكبير والمريض والمرأة والمعلول طواف الحجّ قبل أن يخرج إلى منى<([20]).
وإن كان قد يستفاد من جواز التقديم لمطلق عنوان (المرأة) جوازه لمطلق العذر إلا أنّها ضعيفة بابن مرار الواقع في سندها.
وثانياً: مهما توسّع في العذر فإنّه يلزم من إخراج غير المعذور من تحت إطلاق روايات الجواز إخراج الكثير بل الأكثر، وهو مستهجن عرفاً، وإن بقي تحت الإطلاق الكثير أيضاً.
وبقطع النّظر عن إخراج الكثير أو الأكثر المستهجن عرفاً فإنّ وزان ما نحن فيه- من حيث الاستهجان الّذي هو لبّ المحذور- وزان ما إذا قال: لا تكرم المؤمنين أو في الإبل زكاة، ثمّ أخرج من تحت سعة كلّ واحد منهما أوضح أفرادها، فأخرج من تحت سعة الأوّل غيرَ حليقي اللحية، ومن تحت سعة الثاني الإبلَ ذات السنام الواحد؛ فإنّ المقام والمثالين مشتركة في المحذور المزبور، وكان عليه ابتداءً ألا يستعمل هذا اللفظ بسعته، فيعمد إما إلى استعمال ما هو أضيق منه، وإمّا أن يستعمله مقيّداً بمقيّد متصل وبطريقة تعدّد الدالّ والمدلول.
إذاً فاستعماله لذي السعة مع إرادة غير أوضح أفراده مستهجن عرفاً، ولا يشفع في رفع استهجانه تقييده بمقيّد منفصل.
الوجه الثاني من وجوه الجمع: التصرّف في عقد المحمول في روايات المنع من التقديم بحمل النهي فيها على الكراهة؛ لصراحة روايات جواز التقديم في الجواز، كما صنعه المحقّق النراقيّO([21]).
وفيه أوّلاً: ما أفاده سيّد الأعاظمO من أنّ مقتضى جواز التقديم للخائف ونحوه عدم جوازه لغيرهم، وهو وإن لم يكن نصّاً في الحرمة إلا أنّه لا يقبل الحمل على الكراهة؛ ولذا لو جمع بين مثل التقديم والتأخير سيّان وبين يجوز التقديم للخائف والشيخ الكبير ولا يجوز لغيرهما لعدّه أهل المحاورة من التناقض الواضح، فلا يمكن المصير إلى حمل روايات منع التقديم على الكراهة.
وثانياً: إنّ حمل هذه الروايات على الكراهة إنّما يتمّ لو كان المنع تكليفيّاً مولويّاً، بينما المنع فيها منع وضعيّ؛ لانعقاد ظهور ثانويّ لهذا المنع في الإرشاد إلى البطلان، فلا يقبل المنع حينئذٍ الحمل على الكراهة.
المميّز أو المرجّح:
وبعد التعارض المستقر لا بد من تقديم أحد المتعارضين على الآخر إمّا بالمميّز للحجّة عن اللاحجّة أو بالمرجّح لأحدهما على الآخر.
الترجيح بالشهرة الفتوائيّة:
فبناءً على كون الشهرة من المرجّحات بل أولى المرجّحات في مقبولة عمر بن حنظلة، وأنّها الشهرة الفتوائيّة كما بنى عليه السيّد البروجرديّOوتلامذته- فالترجيح لروايات المنع من التقديم([22]).
ولا شبهة في الصغرى وأنّ هذه الروايات موافقة لشهرة الفتوى، إلا أنّ الكلام في الكبرى وأنّ الشهرة الّتي بموجبها يتمّ التقديم هي الفتوائيّة أو الروائيّة، والمختار في محلّه هي الثانية.
الترجيح بموافقة الكتاب:
ولمّا لم ينهض التقديم بالشهرة إما لمنع الكبرى كما تقدّم، وإما لمنع الصغرى؛ لعدم شهرة أحد المتعارضين على مستوى الرواية دون الآخر- فيصار إلى مرجّحات باب التعارض، وبموجبها تقدّم روايات منع التقديم، ونردّ علم روايات جواز التقديم إلى أهل العلمq، رغم اعتبار أسانيدها أجمع، وقد يقال بترجيح روايات المنع بموافقة الكتاب في قوله سبحانه بعد آية تتحدّث عن الهدي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}([23])؛وذلك لأنّ مقتضى عطف الطواف والتفث وهو الحلق بكلمة (ثمّ) على الذبح المتأخر بطبعه عن الوقوفين- تأخّر الطواف أيضاً عنهما والمنع عن تقديمه([24]).
وجملة من الروايات وإن دلّت على أنّ المراد بالطواف في الآية طواف النساء، ومنها معتبرة أحمد بن محمّد قال: قال أبو الحسنg في قول الله عزّ وجلّ: {وليطّوفوا بالبيت العتيق}قال:>طواف الفريضة طواف النساء<([25]).
ولا يضرّ باعتبارها اشتمال سندها على سهل بن زياد؛ لأنّه مقبول الرواية على المختار، وأحمد بن محمّد هو البزنطيّ؛ لانصرافه إليه دون غيره لعدم معروفيّة الغير، ولتكثّر مثل هذا السند، أعني رواية سهل عن البزنطيّ عن الرضاg.
ولكنّه من باب التطبيق لا التفسير، والقرينة على ذلك رواية قرب الإسناد بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضاg قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: تقليم الأظفار، وطرح الوسخ عنك، والخروج من (عن) الإحرام،{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}طواف الفريضة([26]).
ومنه يعرف ما فيما ذكره أحد الأجلّةO في حاشيته على تقرير أستاذه الإمام الخوئيّO بقوله: "اللهم إلا أن يراد به طواف النساء كما صرح بذلك في بعض روايات أهل البيتi، ولكن أغلبها لولا كلّها ضعيفة السند، وعلى تقدير الصحّة لا مانع من الأخذ بإطلاق الآية الشامل له ولطواف الزيارة إلا أن يثبت أنّ ما جاء في النّصّ إنّماهو من باب التفسير لا مجرد التطبيق"([27]).
نعم، يتوجّه على الترجيح بالآية ما أفادهO من أنّ الآية غير ناظرة إلى حجّ التمتّع لعدم تشريعه إلا في حجّة الوداع، ولما كان من البيّن جواز التقديم في حجّ الإفراد، وهو خارج عن محلّ الكلام وهو التقديم في حجّ التمتّع، فالأمر بالطواف بعد الوقوفين في الآية محمول على الأفضلية([28]).
ثم إنّه قد أفاد سيّد الأعاظمO بأنّ روايات منع التقديم موافقة للسنّة القطعيّة، من النصوص البيانية الواردة في بيان كيفية الحجّ وأقسامه، والحجّ الّذي حجّه آدم، وعلّمه إيّاه جبرئيل([29])، وكالروايات المتضمّنة للزوم تأخّر الطواف عن الرمي والذبح والتقصير([30])، ومحلّها بعد الوقوفين.
ومنها: ما دلّ على أنّ النساء يمضين بعد التقصير إلى مكّة للطواف إن لم يكن عليهن ذبح([31])، ومحلّ الذبح بعد الوقوفين، وكالروايات الواردة لبيان وقت الطواف على اختلاف ألسنتها من كونه يوم النحر أو مع ليلة الحادي عشر أو مع غده أو إلى أيام التشريق أو حتى ما بعدها([32])، وخلصO منها إلى أنّ الظاهر من جميعها بوضوح أنّ تأخير الطواف عن الوقوفين أمر مفروغ عنه مرتكز في الأذهان، وإنّما السؤال في هذه الروايات عن الوقت المحدّد له، وعليه فتكون النّصوص المانعة عن التقديم موافقة للسنّة القطعية، فيجب تقديمها بمقتضى ما ورد في الخبرين المتعارضين من قولهg: >فاعرضوهما على كتاب الله وسنة نبيّهe <([33]).
ويلاحظ على هذه المجموعات الثلاث ما يلي:
أما الروايات البيانية فيأتي عليها- مضافاً إلى ما توجّه على الترجيح بموافقة {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}من عدم كونها ناظرة إلى حجّ التمتّع، ولّما كان من البيّن جواز التقديم في مثل حجّ الإفراد فيكون التأخير من باب الاستحباب- أوّلاً: إنّ لزوم تأخير الطواف إنّما هو بالنسبة إلى أعمال العاشر بمنى، لا بالنسبة إلى الوقوفين، ولا أقلّ من أنّ هذا محتمل، ولذا لو جاز التقديم على الوقوفين فلا يلزم منه جوازه على أعمال العاشر لو لم يتفق التقديم على الوقوفين، نعم ورد ذلك في خائفة الحيض فإنّه كما يجوز لها التقديم على الوقوفين يجوز لها التقديم على أعمال العاشر أو بعضها، كما هو مفاد ذيل موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللهg:>رخّص رسول الله’ للنساء والصبيان أن يفيضوا بليل، وأن يرموا الجمار بليل، وأن يصلّوا الغداة في منازلهم، فإن خفن الحيض مضين إلى مكة ووكّلن من يضحّي عنهن<([34]).
وهذا الدفع آتٍ على المجموعتين الثانية والثالثة أيضاً.
وثانياً: أنّ هذه المجموعة عبارة عن روايتين ضعيفتي السند جدّاً.
وأمّا روايات المجموعة الثانية فيأتي عليها- مضافاً إلى ما تقدّم من الإشكال المشترك على المجموعات الثلاث- أنّ ما دلّ على أنّ النساء يمضين بعد التقصير إلى مكّة للطواف إن لم يكن عليهن ذبح- لا مفهوم لها على ما ذكرناه في محلّه بعد الجمع بينه وبين غيره، وحاصله أنّه لو كان عليهن ذبح فلا يمضين إلى مكّة للطواف إلا بعد التوكيل في الذبح، لا أنّهنّ لا يمضين إلى مكّة مطلقاً.
وأمّا المجموعة الثالثة فيأتي عليها ما تقدّم من الإشكال المشترك على المجموعات الثلاث.
فتحصّل أنّ الترجيح بموافقة السنّة- كما الترجيح بموافقة الكتاب- غير تامّ، هذا.
وجوه دفع روايات التقديم والقول بعدمه:
ولكنّ النّوبة لا تصل بنا إلى استقرار المعارضة وإلى معالجتها بمرجّحات باب التعارض، بل يتعيّن الأخذ بروايات المنع من التقديم، وذلك لوجوه:
الأوّل: إنّ روايات جواز التقديم رغم تعدّدها وصحّة أسانيدها وإن تناولتها أدلّة حجّيّة خبر الواحد بناءً على أنّ ملاك الحجّيّة هو وثاقة الراوي، إلا أنّه لا يسعنا الأخذ بها بناءً على أنّ الملاك فيها هو الوثوق بعد إعراض المشهور عن العمل بها، ولو بنينا على أنّ نقل الصدوق لبعضها لا يساوق إفتاءه بمضمونها سيما مع إيراده المعارض لها وفي ذيلها فلا يسعنا الأخذ بها حتى بناء على كون ملاك حجّيّة الخبر هو الوثاقة؛ إذ لا عامل بها، ومع مثل هذا الهجر العامّ وعدم نقل الكلينيّO لشيء منها يوثق بوجود خلل صدوريّ أو مضموني فيها مع كون دلالتها على جواز التقديم بالصراحة وكون الدالّ على المنع بصورة مباشرة روايةً غير معتبرة، وهي رواية أبي بصير؛بحيث لا يدع مجالاً للقول بأنّ عدم العمل بروايات الجواز لنكتة اجتهادية، وهي ترجيح غيرها عليها.
الثاني: ما أفاده سيّد الأعاظمO من أنّ مسألة جواز تقديم الطواف على الوقوفين من المسائل العامّة البلوى لعموم المسلمين، فلو كان الجواز ثابتاً لصدر ووقع عن أحد المعصومينi أو أصحابهم ولو مرّة واحدة، ولنقل إلينا بطبيعة الحال، ولاشتهر الفتوى به وشاع وذاع وكان من الواضحات، فكيف لم يرد ذلك ولا في رواية واحدة ولم تنسب الفتوى به إلى أحد ما عدا بعض فتاوى المتأخرين حسبما عرفت؟! فهذا بنفسه خير شاهد على عدم الجواز([35]).
الثالث: إنّ عدم جواز التقديم مما لم ينقل الخلاف فيها إلا عن بعض متأخّري المتأخّرين مع كون الجوّ الروائيّ لصالح القول بالجواز؛ لوفرة روايته وصحّتها، مع كون الدالّ على المنع بالمباشرة رواية واحدةً ضعيفة السند، كما عرفت، ومثل هذا الاتفاق- والحال هذه- يكشف إنّاً لا محالة عن وجود ارتكاز متشرّعيّ على عدم الجواز.
فالمتحصّل أنّ ما عليه المشهور من عدم جواز تقديم طواف الحجّ على الموقفين اختياراً للمتمتّع هو المنصور.
([1])وسائل الشيعة١١: ٢٨٢- ٢٨٤ ب١٤ من أبواب أقسام الحجّ ح١- ٤.
([2])وسائل الشيعة١١: ٢١٨ ب٢ من أبواب أقسام الحجّ ح٦.
([3])وسائل الشيعة١١: ٢٨١، ٢٨٢ ب١٣ من أبواب أقسام الحجّ ح٤، ٧.
([4])وسائل الشيعة١٣: ٤١٥ ب٦٤ من أبواب الطواف ح١.
([5])ذخيرة المعاد١ ق٣: ٦٤٣.
([6])منتهى المطلب(الطبع القديم)2: 708.
([7])الحدائق الناضرة١٤: ٣٧٨.
([8])جواهر الكلام١٩: ٣٩١.
([9])مستند الشيعة١٣: ١٣، ولكنً نسبته الإجماع إلى المدارك بناء على بعض نسخه، ففيها:>بل لولا الإجماع المنعقد على المنع من جواز التقديم اختيارا لكان القول به متجها<، ولكن في بعض النسخ بدل (المنعقد) (المدّعى).
([10])مدارك الأحكام٨: ١٨٨ فقدذيّل المسألة- بحسب بعض النسخ- بقوله: "ومع ذلك فالجواز غير بعيد".
([11])وسائل الشيعة١١: ٢٨١ ب١٣ من أبواب أقسام الحجّ ح٥.
([12])وسائل الشيعة13: 447 ب83 من أبواب الطواف ح4.
([13])وسائل الشيعة13: 447 ب83 من أبواب الطواف ح6.
([14])وسائل الشيعة١٣: ٤١٦ ب٦٤ من أبواب الطواف ح٣، ٤.
([15])وسائل الشيعة١١: ٢٨٠، ٢٨١ ب١٣ من أبواب أقسام الحجّ ح1-3.
([16])تهذيب الأحكام٥: ١٣١، الاستبصار٢: ٢٣٠.
([17])جواهر الكلام١٩: ٣٩٢.
([18])انظر: تعاليق مبسوطة على مناسك الحجّ(١٠): ٥٩٥.
([19])كتاب الحجّ٤: ٢٣٩ تقرير بحث السيد محمّد الداماد+ بقلم الشيخ الجواديّ الآمليّB.
([20])وسائل الشيعة١١: ٢٨١ ب١٣ من أبواب أقسام الحجّ ح٦.
([21])انظر: مستند الشيعة١٣: ١٦.
([22])انظر: تفصيل الشريعة٥: ٣٦٧.
([23])سورة الحجّ: ٢٩.
([24])انظر: حاشية مستند الناسك٤: ٢٨٥.
([25])وسائل الشيعة١٣: ٢٩٩ ب٢ من أبواب الطواف ح٤.
([26])وسائل الشيعة١٣: ٢٩٧ ب١ من أبواب الطواف ح١٣.
([27])مستند الناسك٤: ٢٨٥(الحاشية).
([28])انظر: مستند الناسك٤: ٢٨٥(الحاشية).
([29])وسائل الشيعة١١: ٢٢٦- ٢٢٩ ب٢ من أبواب أقسام الحجّ ح٢٠، ٢١.
([30])وسائل الشيعة١٤: ٢١٧ ب٤ من أبواب الحلق والتقصير ح١.
([31])وسائل الشيعة١٤: ٢٨ ب١٧ من أبواب الوقوف بالمشعر ح٢.
([32])وسائل ١٤: ٢٤٣- ٢٤٦ ب١ من أبواب زيارة البيت.
([33])انظر: مستند الناسك٤: ٢٨٤.
([34])وسائل الشيعة١٤: ٢٨،٢٩ ب١٧ من أبواب الوقوف بالمشعر ح٣.
([35])مستند الناسك في شرح المناسك٢: ٢٨٥.
0 التعليق
ارسال التعليق