تعالوا نتَولَّ المؤمنين فهماً للقيادة

تعالوا نتَولَّ المؤمنين فهماً للقيادة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين...

ربما ألقت بعض الاختلافات بظلالها على فهم المبادئ الأساسية فيما يرتبط بمسألة القيادة والانقياد، فتجد الانقياد عند أحدنا منفصلاً عن رعاية حقوق المؤمنين، وهذا يرجع إلى خلل في فهم معنى الانقياد، أو لنعبر عنه بالاصطلاح القرآني (التولِّي).

ما هو معنى الولاية والتولِّي؟

الولاية بأيّ معنى فسرناها لها قدر مشترك فيما بينها وهو الارتباط، فلو فسرناها بالاتباع والانقياد، أو فسرناها بالمحبة أو غير ذلك لوجدنا أنّ كل هذه المعاني لا تخلو من الارتباط، ارتباط المتولي بمن يتولاه، وهذا المقدار لوحده غير كافٍ في فهم معنى الولاية والقيادة والانقياد بالمعنى الشرعيّ، فلا بدّ من بحث معنى الولاية شرعاً وتحديده من بين جميع هذه المعاني؛ إذ لا يكفي القدر المشترك لوحده لأنّه لا يتوفر على بقية الخصوصيات التي تكون لكل معنى على حدة.

ربما ساعدتنا الاستعمالات اللغوية على الاستئناس بحقيقة معنى الولاية، ونستعرض مثالين من العرف العام في المقام:

المثال الأول: إنّ أهل اللغة يقولون لخرز السبحة بأنها متوالية، وهذا المعنى مع إشارته إلى الارتباط يشير أيضاً إلى التتابع، فهي متوالية تتوفر على الاقتراب من بعضها البعض والترابط فيما بينها، وتتوفر كذلك على التابعية والمتبوعية، ولا بدّ لها من شرط أساسيّ حتى تحقّق معنى التوالي وهو وجود خيط ينظم هذه السبحة ويجمع خرزها.

المثال الثاني: يقال أيضاً للمشتغلين برياضة تسلّق الجبال حال تسلقهم معا بأنّهم متوالون؛ يوالي ويلي بعضهم البعض الآخر، وهم عادة ما يستعينون على ذلك بحزام يربطونه حولهم، ينظمهم مع بعضهم بحيث يشدّ بعضهم البعض الآخر ويحفظه من السقوط.

الولاية والانقياد

أمّا إذا ما جئنا إلى المعنى الاصطلاحي فنرى أنّ النتيجة التي يعتمدها الفقهاء في هذا المقام هي كون الولي قائداً، فالولاية بحسب هذا المعنى الفقهي تعني القيادة والحكومة، والتولي هو الانقياد: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1).

وهناك معنى آخر للولاية فقد فسرت الولاية بالنصرة، وهذا ما نلحظه في الآيات التي تتحدث حول المؤمنين، فكأنّما تريد بيان أهمية مسألة الترابط فيما بينهم ورعاية حقوقهم والواجبات المفروضة من قبل الشارع في حقهم... قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}(2). والسؤال المهم في المقام:

لماذا يجب علينا تولي المؤمنين؟ وما هي العلاقة بين تولي المؤمنين وبين تولي القائد؟

إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد؛ أي أنّه لا يعقل أن يشرِّع المشرّع حكماً من دون مصلحة، فإنّ هذا الفعل قبيح إذ لا يخلو من نسبة الجهل أو العبث إلى الله (سبحانه وتعالى)، فتحصل أن الله (سبحانه وتعالى) حينما يأمرنا باتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو ولي الأمر، فهو إنما يأمرنا باتباعهم وتوليهم لوجود مصالح وملاكات خاصة يتوفرون عليها دون غيرهم، وإلا لما رجَّحهم على غيرهم.

وأمّا تولي المؤمنين فهو لا يخلو من التابعيّة والمتبوعيّة، حتى وإن فسرناه بالنصرة، فالولاية مهما كان معناها لا تخلو من التابعيّة والمتبوعيّة ولو بمستوى من المستويات: القلبيّة، العمليّة، أو غير ذلك، غاية الأمر أنّها تابعيّة ومتبوعيّة بدرجة أقل منها مع القائد والولي.

ألا ترى في المسائل الفقهية عنوان تولي عدول المؤمنين؟ هناك يتحدثون عن بعض الأمثلة التي يفقد فيها الولي على هذا الطفل مثلاً، ويفقد الحاكم الشرعي والفقيه القادر على تولي أمر هذا الصغير، فحينها يرجع أمر تولي هذا الطفل الصغير إلى عدول المؤمنين، فهو-العدل من المؤمنين- من يتولى أمره، والصبي يكون تابعاً له، وهذا يكشف عن أن الشريعة أخذت الدين والعدالة وما يقاربها من مصالح ومواصفات بنظر الاعتبار.

والخلاصة أنّ تولي المؤمنين لبعضهم البعض راجع لوجود المصالح والملاكات الخاصة لديهم، غاية الأمر ومن خلال التفريق في الحكمين: حكم تولي القائد، وحكم تولي المؤمنين، ندرك أن هناك تفاوتاً في درجة تلك المصالح بين هذين الصنفين، إذ المصالح والملاكات الأولى كانت بدرجة توجب الاتباع لهذا القائد، والمصالح والملاكات الثانية كانت بدرجة أقل من الاتباع؛ فكانت بدرجة توجب النصرة والتأييد ورعاية الحقوق الواجبة لهؤلاء المؤمنين.

وأما عصارة البحث فتتمثل في هذا السؤال:

هل يمكن التفكيك بين تولي القائد وبين تولي المؤمنين؟

والجواب هو بالنفي القاطع، فلا يمكن لشخص أن يدعي التولي للقائد وهو في الحال عينه يتبرأ من المؤمنين، وقد ورد أن عمار بن أبي الأحوص قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «إن عندنا قوماً يتولّون بأمير المؤمنين (عليه السلام) ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولاهم؟ فقال لي: نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما ليس عندنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم إن الله وضع الإسلام على سبعة أسهم: على الصبر، والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل، ثم قسم لبعض الناس السَّهم، ولبعضهم السَّهمين، ولبعض الثلاثة الأسهم ولبعض الأربعة الأسهم، ولبعض الخمسة الأسهم، ولبعض الستة الأسهم، ولبعض السبعة الأسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم فتثقلوهم وتنفروهم، ولكن ترفَّقوا بهم وسهّلوا لهم المدخل»(3).

وفي هذا السياق يأتي تحريم البراءة من المؤمنين، وتأتي حرمة لعنهم، فإنّ من حقوق الإيمان عدم البراءة منهم وقد انتسبوا إلى الطاهرين وتولوهم وأخذوا عنهم، وكانوا خلقاً من فاضل طينتهم، يحزنهم ما يحزنهم ويسوؤهم ما يسوؤهم ويفرحون لفرحهم، فهذا التولي للمؤمنين نابع من التولي للقيادة الشرعية المتمثلة في الله جل وعلا، ثم في الرسول (صلّى الله عليه وآله) ثم في الإمام المعصوم (عليه السلام) وهو ما يفهم من الآيات والروايات، ومن بعدهم يأتي دور الفقيه العادل الذي جعله المعصومون (عليهم السلام) حاكماً وقاضياً وولياً على المؤمنين لما يتوفر عليه من خصوصيات العلم والعدالة والتقوى، فهو أقرب الناس إلى أخلاق المعصوم، وهو أشبه الناس بأخلاق الرسل لذلك كان وارثاً لهم، والحديث طبعاً فيمن يتوفّر حقيقة على هذه الخصائص دون من يدّعيها.

وهنا نخلص إلى النتيجة التالية:

أولاً: بعد أن عرَفنا أنّ الولاية تبتني على مجموعة من الأغراض والمصالح التي شُرّعت الولاية بسببها، فمتى ما توفرت تلك المصالح فلا بدّ أن توجد الولاية، ولا بدّ أن يطرح مفهوم الانقياد والتولي.

ثانياً: علمنا سابقاً أن تلك المصالح المتمثلة في العلم والتقوى والورع والإيمان والتصديق والعفّة هي مصالح متفاوتة، فقد توجد كاملة لدى بعضهم، وقد يتوفّر الآخرون على بعضها، وقد يوجد من يملكها ويزيد عليها غيرها كأن يكون متوفّراً على العصمة أيضاً، لذلك صارت درجات الولاية والتولي مختلفة؛ فمن يتوفّر على العصمة وبقيّة المصالح فهو الإمام الذي يجب طاعته طاعة مطلقة.

ومن يتوفر على أهم تلك المصالح والملاكات ولكنّه يفتقد العصمة فهو قائد وولي لكنّه ليس في مستوى الإمام المعصوم.

وأما من يتوفّر على القدر المجزي من هذه المصالح فهو ببركتها يدخل في حريم الإيمان، وتجب له حقوق المؤمن على المؤمن، فتجب له الولاية بدرجة أقل من تلك الدرجات، ولتفسّر الولاية حينها بالنصرة.

التولي الأحادي الجانب

بعد كل ما تقدم هل يصحّ للإنسان أن يتولى المؤمنين ولا يتولى القيادة؟ والجواب بوضوح: أنّ ذلك غير ممكن، كما لا يمكن أيضاً تولي القيادة وقطع الولاية بين الإنسان وبين إخوته المؤمنين.

ولترسيخ الفكرة نوضّح محلّ الاستدلال فنقول: الولاية صارت واجبة بدرجتها العالية (تولّي المعصوم واتباعه بشكل مطلق) لوجود مصالح يتوفّر عليها المعصوم (عليه السلام)، وكذلك صار التولي والانقياد للقيادة الشرعيّة واجباً بسبب وجود تلك المصالح لكن بدرجة أقلّ، وأقلّ تلك الدرجات هي ما كان في تولّي المؤمنين لبعضهم البعض، فالنتيجة أنّ التولي والانقياد إنما هو انقياد واتباع لتلك المواصفات ولتلك المصالح، وليس التولي لهذا القائد لكونه فلان بن فلان، وإنما لكونه مؤمناً عالماً ورعاً، فأنا حينما أتولى القائد فإنما أتولى فيه العلم والورع والتقوى والحكمة، وحينما أتولّى المؤمنين فإنما أتولاهم لوجود بعض هذه المبررات والملاكات ككونهم بدرجة من العلم والتصديق والورع، وإن لم تصل إلى مستوى تلك المصالح والملاكات لدى القائد، وعلى هذا فلا يصح أن يدّعي مدعٍّ أنّه يتولى القيادة وهو يقطع الولاية بينه وبين المؤمنين، فترك التولي للمؤمنين هو إعراض عن موجبات التولّي، وهو إعراض عن الورع والعفّة والعلم الموجود لديهم، فالمتحصل أنّ هذا السلوك يستدعي الأخذ بهذه الخصوصيات والمصالح والموجبات وتركها في الوقت نفسه، وهذا ما لا يصح بحال من الأحوال، فمردّه إلى ادّعاء اجتماع النقيضين: الأخذ والرد.

وبهذا ندرك أنّه لا يصحّ التقصير في حقوق الإيمان وأداء واجبات الأخوة، فضلاً عن القطيعة والتبري.

 الموقف من المؤمنين لا يحتمل الحياد، ولا يحتمل النأي بالنفس، فهي حقوق مفروضة من قبل الله، وأيّ إنسان يدّعي التولّي للقيادة ولكنه لا يولي شأن المؤمنين الأهمية المفترضة في الشريعة فإمّا أن يكون كاذباً، وإمّا أن يكون جاهلاً بحقيقة التولّي والانقياد.

ومن المناسب جداً أن يطّلع الإنسان المؤمن على روايات أهل البيت (عليهم السلام) وما ورد في شأن المؤمنين وحقوقهم، لا شك أننا سنصاب بالدهشة عند قراءتها؛ فقد بالغت أشدّ المبالغة في رعاية حقوق المؤمنين وتولّيهم، وهذا يكشف عن طبيعة هذه الشريعة الغرّاء الكفيلة بصياغة مجتمع مترابط متراحم يشكّل صفّاً واحداً، صفاً عصيّاً على الاختراق والتمزّق، محصّناً عن كل محاولات السياسة الرامية إلى طحن الجميع، وهو كذلك بطبيعته الأصليّة بعيداً عن أي حسابات سياسيّة أو مكاسب آنية.

 

* الهوامش:

(1) المائدة: 55.

(2) التوبة: 71.

(3) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي ج 61 ص 164


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا