من ضمن ما راج طرحه مؤخراً ودخل في مسرح الموضى الفكرية -إن صح التعبير- عنوان (التعارض بين العلم والدين)، فهل أن الدين يتعارض مع العلم أم لا؟!
بعضهم يقول بأن الفترة التي ساد فيها الدين، وسيطر فيها الدين وكان متمثلاً في المسيحية، في هذه الفترة أقصي العقل وسيطر الدين، وقتل المكتشفون الجدد أمثال جاليليو، وفي الفترة التي ساد فيها العلم والعقل أقصي الدين وانتهت صلاحيته، فهذه الفترة إذن هي فترة العلم والعقل والتعقل!!
وجواب هذه الشبهة: أنَّا لا نسلم بوجود تعارض بين العلم والدين، وبين العقل والدين، ولا أقل فإن الإنسان المؤمن والمعتقد بوجود الله سبحانه وتعالى، والذي تكون لديه رؤية كونية إلهية، هذا الإنسان لا ينبغي أن يكون لديه اعتقاد بوجود هذا التعارض بين العقل والدين، لأن الذي خلق العقل وألهم العقل وعلم الإنسان وهيَّأ سبل العلم هو الله سبحانه وتعالى، ولأن الذي أوحى الوحي وأنزل الكتب السماوية هو الله سبحانه وتعالى، إذن فالعلم والعقل إضافةً إلى الوحي والدين كلاهما يداران من قبل الله سبحانه وتعالى، من قبل واحد نعتقد فيه بأنه عالم، حكيم، مدبر لكل هذه الأمور، فإذا كنا نعتقد في الله سبحانه وتعالى مثل هذا الاعتقاد فلا يمكننا أن نسلم بوجود هكذا تعارض بين العلم وبين الدين، ولهذا يكون ما يتوصل إليه عالم الدين في الحوزة حجةً شرعيةً، وما يتوصل إليه عالم الطبيعة، عالم الفيزياء، عالم الكيمياء، عالم الرياضيات، ما يتوصل إليه في حقل تجربته، من المختبر أو في غيره من ميادين عمله يكون حجةً شرعيةً، يحتج به المولى على العبد، والعبد على المولى، يكون منجزاً ومعذراً بالتعبير الأصولي، فهذا الذي يتوصل إليه العلم يكون صغرى لحكم شرعي، فإنا لا ندعي أن العلوم الطبيعية وكل ما سمي بحكم العقل يكون طريقاً من طرق استنباط الحكم الشرعي، وإنما لاستنباط الحكم الشرعي طرقه المذكورة في محلها، ولكنا نقول بأن العقل له مسرح يتحرك فيه في ما ليس للوحي فيه نص مباشر، فإذا توصل العلم إلى نتيجة قطعية شكلت هذه النتيجة صغرى لحكم شرعي قد تم استنباطه من قبل أهل التخصص، وبناءً على هذا تكون مخالفة هذا العلم مستتبعةً لمخالفة ذلك الحكم العام المنصب على هذه الصغرى (هذا المورد المندرج تحت ذلك الحكم الكلي).
ودور العقل (العلم) يكون في كثير من الأمور الحياتية من قبيل إدارة البلاد، الزراعة، الصناعة، إذا حكم العقل بحكم معين في هذه الأمور يكون حجة شرعية ويجب على العالم الذي توصل إلى هذا الحكم أن يلتزم به، وكذلك فإنه يكون مأثوماً على مخالفته، ويكون محاسباً من قبل الله سبحانه وتعالى؛ فمثلاً إذا توصل العلم إلى أن إعمار البلد الفلاني لا يكون إلا بالنحو الكذائي فيجب عليه أن لا يخالف هذا الحكم الذي توصل إليه، ولو توصل العقل إلى أن بناء هذه الجسور المدمرة، وبناء السدود مثلاً يكون بالنحو الفلاني؛ أنك إذا بنيتها ـ مثلاً ــ بالتراب فإنها ستنهار وستتسبب في هدر مال الدولة وتلف الأرواح البشرية يكون هذا إسرافاً ويكون هذا الشخص مخالفاً لحكم العقل، الصغرى لتلك الحجة الشرعية فيؤثم. إذن فحكم العقل بهذا النحو حجة شرعية، كما أن حكم الشرع حجة. عالم الدين يقول: هكذا قال الله، وأما العالم في الجامعات الأكاديمية فينبغي له أن يقول: هكذا فعل الله في خلقه، وبهذا تكون هذه الجامعة إسلامية، وتكون علومها إسلامية، رياضيات إسلامية، فيزياء إسلامي، فإن معيار إسلامية الجامعة أن تكون المناهج مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، أنه هو الخالق، أن هذه الموجودات هي مخلوقات لله سبحانه وتعالى وليست أموراً طبيعيةً وجدت بالصدفة، أن نربطها بالمعاد واليوم الآخر.
فإذن لكل عالم دوره، لعالم الحوزة دوره، ولعالم الطبيعة دوره، فلا يوجد تعارض بين العلم والدين، ويكون كل منهما مكملاً للآخر، يعضد الآخر ويسانده، ولا يحق له أن ينفي ما يتوصل إليه الآخر، وعلى هذا نضرب بعض الأمثلة:
الأول: في عام وفاة الشيخ الكليني(ره) صاحب كتاب الكافي، وغيره من العلماء حصل في هذا العام تناثر في النجوم (نزول شهب من السماء)(1)، عالم الدين يقول: بسبب وفاة هؤلاء العلماء، وبسبب موت هؤلاء الأوتاد حصل هذا التناثر في النجوم ونزول هذه الشهب. بينما يقول عالم الطبيعة إن القوانين الطبيعية هي التي أحدثت هذا التناثر في النجوم. ولكن يمكن الجمع بين الأمرين ولا يحق لأحدهما أن ينفي دور الآخر.
الثاني: في قضية الزلزلة، عالم الدين إذا قرأ في الروايات أن المعاصي سبب لحصول هذه الزلازل(2)، فإنه لا يحق له نفي الدور الطبيعي والسنن الطبيعية التي يتوصل إليها عالم الطبيعة، فمن حق عالم الطبيعة يقول إن سبب هذه الزلازل هو تحرك طبقات الأرض، ولا تنافي بينهما، فلكل منهما أن يعتمد على ما يتوصل إليه فيكون مكملاً للآخر، ولا يحق لأحد منهما أن ينفي الآخر، بل لا يحق لأحدهما أن يرفع يده عن ما توصل إليه من قطع (علم)، لا يحق لعالم الطبيعة أن يقول: لا أؤمن بالغيب فإني سأرفع يدي عن ما توصلت إليه من علم بقوانين الطبيعة، هذا غير صحيح، فعالم الطبيعة لا بد وأن يلتزم بما توصل إليه على وفق القوانين الطبيعية، وكذلك عالم الدين لا بد له من التسليم بما صح عن طريق الوحي والسنة. ولهذا فإن السيد القائد (حفظه الله) لما حصل الزلزال في مدينة بم لم يقل: قضاء وقدر وانتهى الأمر، بل قال: لا بد من العمل وتطوير البناء، فإن اليابان تصيبها أمثال هذه الزلازل ولا تتهدم بيوتها لأن بناءها كان محكماً، أما أن لا يتقن البناء ويقال إن ذلك قضاءٌ وقدرٌ فهذا غير مقبول.
فلا بد لنا من أخذ السنن الطبيعية والقوانين الطبيعية وأن نعضدها بالسنن الغيبية، فيكون الغيب والوحي والعلم الديني مكملاً للعقل وما يتوصل إليه في العلوم الطبيعية، ولا تعارض بينهما.
الثالث: نزول المطر، عالم الطبيعة يقول بأن لسقوطه قوانين طبيعية تتمثل في هبوب النسيم على سطح مياه البحر والأنهار والمحيطات فيأخذ البخار المتكون على سطح البحر ويصعد به إلى طبقات الجو العليا، وبعد ذلك وبفعل البرودة تسقط الأمطار أو الثلوج، هذا أقصى ما يمكن أن يدعيه عالم الطبيعة، فله أن يثبت أن هذه الدائرة تحقق سقوط المطر، ولكن ليس له أن ينفي الدور الغيبي، بل يقول: هذا ما توصلت إليه وفقط، فالتجربة لسانها إثباتي، تقول: هذا موجود، إذا توفرت الشرائط المعينة فإن المطر يهطل، وليس لها لسان نفي، لا تقول أنه لا يوجد طريق آخر لسقوط المطر، فإن عالم الدين هنا له الحق أن يجهر بأعلى صوته قائلاً: إذا قام المصلي وأتى بصلاة الاستسقاء(3) وتهيأت الشروط المعينة فإن المطر يهطل أيضاً.
الرابع: حادثة طبس، لما جاءت الطائرات الأمريكية للإغارة على إيران، ما جاؤوا بها اعتباطاً بل جاؤوا عن دراسة واستطلاع جوي، والذي كان يؤكد بأن الجو سيكون صحواً، ولكن هذه قوانين طبيعة لا يمكن لها نفي دور الغيب، فلما وصلوا إلى ذلك الموقع تحرك الغيب فهبت عاصفة أسقطت الطائرات الأمريكية على صحراء طبس فتدمرت.
فتحصل مما تقدم أنه لا يصح لنا أن نفسر كل الأمور من منطلق فيزيائي محض، ولا أن نفسرها من منطلق غيبي (ميتافيزيقي) محض، بل لا بد من الجمع بين الأمرين، وعلى هذا فلا يوجد هناك تعارض بين العلم والدين.
* الهوامش:
(1) (وقد نقل الشيخ يوسف البحراني تعليلاً لتسمية تناثر النجوم والكواكب بقوله: وذكر بعض أصحابنا في علة تسمية تلك السنة بسنة تناثر النجوم، هو أنه رأى الناس فيها تساقط شهب كثيرة من السماء، وفسر ذلك بموت العلماء، وقد كان ذلك فإنه مات في تلك السنة جملة من العلماء، منهم الشيخ المذكور (الصدوق الأول)، ومنهم الشيخ الكليني...، وعلي بن محمد السمري - آخر السفراء - وغيرهم [لؤلؤة البحرين ص 384 س 5. 3 ]. كما ورد خبر تناثر النجوم في كتاب (تاريخ أخبار البشر) الذي هو من مصنفات إخواننا الجمهور، وقد ذكر وفاة جملة من العلماء ومنهم السمري والكليني. وأخيراً: فسنة الوفاة 329 ه. ق)، (الإمامة والتبصرة - ابن بابويه القمي - ص 30ترجمة المؤلف ).
(2) عن الصادق(ع)قال : إذا فشت أربعة ظهرت أربعة : إذا فشا الزنا كثرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نصر المشركون على المسلمين ( وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 8- ص 13).
(3) (عن الحسن بن علي العسكري عن أبيه علي بن محمد، عن أبيه محمد بن علي‘ إن الرضا علي بن موسى‘ لما جعله المأمون ولي عهده احتبس المطر، فجعل بعض حاشية المأمون والمتعصبين على الرضا يقولون انظروا لما جاءنا علي بن موسى (ع) وصار ولي عهدنا فحبس الله عنا المطر واتصل بالمأمون فاشتد عليه فقال للرضا(ع): قد احتبس المطر، فلو دعوت الله عز وجل أن يمطر الناس فقال الرضا(ع): نعم، قال : فمتى تفعل ذلك؟ وكان ذلك يوم الجمعة، قال: يوم الاثنين فإن رسول الله | أتاني البارحة في منامي ومعه أمير المؤمنين علي(ع)وقال : يا بني انتظر يوم الاثنين فابرز إلى الصحراء واستسق، فإن الله تعالى سيسقيهم وأخبرهم بما يريك الله مما لا يعلمون من حالهم ليزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربك عز وجل، فلما كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء وخرج الخلائق ينظرون فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم يا رب أنت عظمت حقنا أهل البيت فتوسلوا بنا كما أمرت وأملوا فضلك ورحمتك وتوقعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً عاماً غير رايث ولا ضائر وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم قال : فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت وتحرك الناس كأنهم يريدون التنحي عن المطر فقال الرضا(ع): على رسلكم أيها الناس فليس هذا الغيم لكم، إنما هو لأهل بلد كذا فمضت السحابة وعبرت ثم جاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق فتحركوا فقال : على رسلكم فما هذه لكم، إنما هي لأهل بلد كذا، فما زالت حتى جاءت عشر سحابة وعبرت ويقول علي بن موسى الرضا(ع): في كل واحدة : على رسلكم ليست هذه لكم إنما هي لأهل بلد كذا ثم أقبلت سحابة حادية عشر فقال : أيها الناس هذه سحابة بعثها الله عز وجل لكم فاشكروا الله على تفضله عليكم وقوموا إلى مقاركم ومنازلكم فإنها مسامة لكم ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله ونزل من على المنبر وانصرف الناس فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم ثم جاءت بوابل المطر فملئت الأودية والحياض والغدران والفلوات، فجعل الناس يقولون: هنيئاً لولد رسول الله| كرامات الله عز وجل ثم برز إليهم الرضا(ع) وحضرت الجماعة الكثيرة منهم فقال: يا أيها الناس اتقوا الله في نعم الله عليكم فلا تنفروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه واعلموا أنكم لا تشكرون الله بشيء بعد الإيمان بالله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول الله| أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم إلى جنان ربهم فان من فعل ذلك كان من خاصة الله تبارك وتعالى...) < عيون أخبار الرضا(ع) - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 179 – 180>.
0 التعليق
ارسال التعليق