من الأمور الواضحة التي لا يعتريها الشك أن الركون إلى روايات الراوي من عدمه مرهون بقيام طريق معتبر على توثيق الراوي أو جرحه، فإن قام الطريق المعتبر على وثاقة الراوي أمكن الاستناد إلى رواياته وإلا فلا، إلا أنه قد يتفق كثيراً تعارض الطرق المعتبرة، بأن يدل طريق معتبر ثابت النسبة إلى قائله على تعديل الراوي والآخر كذلك على جرحه، ومن هنا ينبغي التنقيب عن الأسباب التي أدّت إلى حصول هذا التعارض، وبعد ذلك البحث عن الموقف الذي يتحتم علينا اتخاذه تجاه هذا التعارض.
المبحث الأول: منشأ تعارض الجرح والتعديل
المطلب الأول: منشأ تعارض الجرح والتعديل عند السنّة:
اختلاف النقّاد من أهل السنّة في جرح الراوي وتعديله ماثل للعيان وقد بلغ من الكثرة حدّاً يستحيل على العدّ والإحصاء، بل لم يسلم من شرره حتى أئمة الجرح والتعديل أنفسهم، وهو ما أفضى إلى القول بأنه "ما من إمام إلا وطعن فيه طاعنون"(1) فأصبحت مسألة تعارض الجرح والتعديل من السمات البارزة في علم الحديث وتصحيح الأخبار عندهم.
وهذا الاختلاف بينهم أمر متوقع بعد الالتفات إلى أن أحوال الرجال عندهم تدرك بضرب من الحدس والاجتهاد غالباً، فمن الطبيعي جداً أن يختلفوا في الوسائل التي يحكمون بها على الراوي فإن الاجتهاد مظنة الاختلاف، ويشير إلى هذا المعنى قول الحافظ المنذري: "اختلاف هؤلاء كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شُهد عنده بجرح شخص اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا، وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص ونقل إليه فيه جرح اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا"(2).
ويقول الترمذي: "وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال، كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم"(3).
وخالف في ذلك الأمير الصنعاني على حسب مبناه الرافض لكون قبول أقوال النقّاد في الجرح والتعديل من باب الاجتهاد، وإنما هو من باب خبر الثقة، فأرجع منشأ التعارض إلى الاختلاف في النقل حيث قال: "قد تختلف أقوالهم، فإنه قال مالك في ابن إسحاق: "إنه دجّال من الدجاجلة"، وقال فيه شعبة: "إنه أمير المؤمنين في الحديث"، وشعبة إمام لا كلام في ذلك، وإمامة مالك في الدين معلومة لا تحتاج إلى برهان؛ فهذان إمامان كبيران اختلفا في رجل واحد من رواة الأحاديث... فبسبب هذا الاختلاف حصل اختلاف الأئمة في التصحيح والتضعيف؛ المتفرعين عن اختلاف ما بلغهم من حال بعض الرواة، وكل ذلك راجع إلى الرواية لا إلى الدراية، فهو ناشئ عن اختلاف الأخبار، فمن صحّح أو ضعَّف فليس عن رأي ولا استنباط كما لا يخفى؛ بل عمل بالرواية، وكل من المصحِّح والمضعِّف مجتهد عامل برواية عدل، فعرفتَ: أنَّ الاختلاف في ذلك ليس مداره على الرأي!، ولا هو من أدلة أنَّ مسألة التصحيح وضده اجتهاد"(4).
إلا أن هذا الكلام لا يمكن التسليم به عند ملاحظة حجم التعارض الواقع في أقوال أئمة الجرح والتعديل من جهة وملاحظة ديدنهم ومناهجهم المختلفة في طريقة جرح وتعديل الرواة، وينبغي أن يؤخذ في الحسبان أيضاً دور البغض والحسد والأهواء المذهبية والعقائدية في عملية نقد الرواة، ودورها في التسبيب لهذا التعارض.
المطلب الثاني: منشأ تعارض الجرح والتعديل عند الشيعة:
مشكلة تعارض الجرح والتعديل والتوثيق والتضعيف موجودة أيضاً في كتب الشيعة الإمامية، إلا أننا إذا استقرأنا المفردات التي حصل فيها التعارض سنجدها قليلة جداً بالقياس مع الكم الهائل من الرواة الذين اتفقت كلمة علماء الرجال في توثيقهم وتضعيفهم، إضافةً إلى أن هذه الموارد التي حصل فيها التعارض غالبها إن لم نقل جلها من موارد التعارض غير المستقر التي يمكن الجمع بين الأقوال فيها حيث إن كل رجالي ينظر إلى زاوية تختلف عن نظر الآخر، وقد أحصى هذه الموارد الشيخ حسان سويدان العاملي حين قال: "وقد سبرنا الأصول الرجالية الأربعة... فلم نجد ذلك الاختلاف المعتدّ به في الجرح والتعديل إلا في موارد قليلة جدا، ومع ذلك فإن هذه الموارد أو أكثرها مما لا يستقر التنافي فيها، بل نجد كل واحد يشير إلى جهة غير المشار إليها من الآخر... ولم نجد الاختلاف المزعوم أو ما يوهمه إلا في الموارد التالية: جابر بن يزيد الجعفي، جعفر بن محمد بن مالك، الحسن بن الحسين اللؤلؤي، داود بن كثير الرقي، سالم بن مكرم، سعد بن طريف الحنظلي، سهل بن زياد، عبد الله بن محمد البلوي، عبيد الله بن أبي زيد، محمد بن خالد البرقي، محمد بن عيسى بن عبيد، ولا يخفى أن أكثر هؤلاء لم يستقر التنافي فيهم... ثم لا يخفى وقوع الخلاف بين المتأخرين في وثاقة رواة آخرين، كمحمد بن سنان، والمعلى بن خنيس وغيرهما، إلا أن الاختلاف في وثاقة هؤلاء لم ينشأ من التعارض في شهادة أو رواية أصحاب هذه الكتب، بل لوجوه أخرى مسطورة في محلها..."(5).
وأما سبب اختلافهم في الجرح والتعديل، فهو راجع غالبا ًإلى احتمال النسيان والخطأ في نفس خبر العدل، من هنا نجد القلة في معقد التعارض، وهذا لا يخدش في حسّية التوثيق والتضعيف، كما يحصل في اختلاف الأخبار المروية في الأحكام، فالكلام فيها كتعارض الأمارات بالنسبة للأحكام الشرعية.
نعم، نحن لا ننكر أنه في بعض الأحيان يكون منشأ التعارض اجتهادياً، ولذا في الموارد التي يعلم فيها استناد أحد أطراف التعارض إلى منشأ حدسي كرمي الراوي بالغلو مثلاً يسقط قوله عن الحجية، ويبقى قول الآخر سالماً عن المعارض فأصالة الحس جارية في حقه، كما حدث ذلك في المعلى بن خنيس الذي قال في حقه النجاشي: "ضعيف جداً"(6)، وعدّه الشيخ الطوسي من السفراء الممدوحين حين قال: "ومنهم المعلى بن خنيس، وكان من قوام أبي عبد الله (عليه السلام)، وإنما قتله داود بن علي بسببه، وكان محموداً عنده، ومضى على منهاجه وأمره مشهور"(7) وذكرت روايات صحيحة مادحة له(8)، يقول السيد الخوئي: "الرجل جليل القدر ومن خالصي شيعة أبي عبد الله، فإن الروايات في مدحه متضافرة، على أن جملة منها صحاح كما مرّ...، ويؤكد ذلك شهادة الشيخ بأنه كان من السفراء الممدوحين وأنه مضى على منهاج الصادق (عليه السلام). ومع ذلك كلّه لا يعتنى بتضعيف النجاشي، وإن كان هو خرّيت هذه الصناعة، ولعل منشأ تضعيفه -قدّس الله نفسه- هو ما اشتهر من نسبة الغلو إليه..."(9).
والكلام هو الكلام بالنسبة إلى جابر الجعفي، الذي وثّقه المفيد، وضعّفه جماعة ورموه بالغلو، فهنا قد جرح جابر بما لا تعويل لنا على نظر الجارح فيه، لأن منشأ تضعيفه ورميه بالغلو هو تصديقه لنقل الأخبار التي لم يساعد عليها أفهام الكثيرين(10) في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) مع أنها تعد الآن من ضروريات المذهب.
وقلة التعارض بين الجرح والتعديل في كتب الإمامية خير دليل على كون أقوال علماء الرجال في أحوال الرواة ناشئة غالباً من الحس، وإلا لو كان اجتهادياً لرأيت كثرة الخلاف والاختلاف كما في كتب أهل السنّة.
وأكثر التجريحات أو الطعون منقولة عن كتاب الضعفاء لابن الغضائري، وهذه عند من لم تصح عنده نسبة الكتاب لمؤلفه كالسيد الخوئي لا يعدها معارضة، وكذلك من يرى صحة نسبة الكتاب إليه إلا أنه يرى أن جل تضعيفاته مستندة إلى اجتهاداته الشخصية في بعض الاعتقادات، فلا تصلح للمعارضة.
ومن هنا تعرف عدم ورود ما يردده الأخبارية في نفي الحاجة لعلم الرجال بسبب كثرة الاختلاف بين العلماء أنفسهم إذ لا واقع له في الخارج، يقول المحدِّث البحراني: "لاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع والتأويل، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلاً عن غيره. فهذا يقدم الجرح على التعديل، وهذا يقول لا يقدم إلا مع عدم إمكان الجمع، وهذا يقدم النجاشي على الشيخ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل. وبالجملة: فالخائض في الفن يجزم بصحة ما ادعيناه، والبناء من أصله لما كان على غير أساس كثر الانتقاض فيه والالتباس"(11).
المبحث الثاني: حكم تعارض الجرح والتعديل
المطلب الأول: حكم تعارض الجرح والتعديل عند السنّة:
تعارض الأقوال في الراوي تارة يمكن الجمع والتوفيق بين القولين، بحيث يكون التعارض بدوياً، وأخرى لا يمكن الجمع بينهما بالجمع العرفي بأن تكون العبارتان صريحتين فيستقر التعارض بين القولين، فالكلام فعلاً في مقامين:
المقام الأول: التعارض البدوي:
كأن يكون كل منهما واقعاً على موضوع غير الآخر، يقول محمد بن الوزير اليماني: "واعلم أن التعارض بين الجرح والتعديل إنما يكون عند الوقوع في حقيقة التعارض، أما إذا أمكن معرفة ما يرفع ذلك، فلا تعارض البتّة. مثال ذلك: أن يجرح هذا بفسق قد علم وقوعه منه، ولكن علمت توبته أيضاً، والجرح قبلها. أو يجرح بسوء حفظٍ مختص بشيخ أو بطائفة والتوثيق يختص بغيرهم، أو سوء حفظ مختص بآخر عمره لقلة حفظ أو زوال عقل. وقد تختلف أحوال الناس، فكم من عدل في بعض عمره دون بعض. فإذا اطلع على التاريخ فهو مخلص حسن. وقد اطلع عليه في كثير من رجال الصحيح جرحوا بسوء الحفظ بعد الكبر، والصحيح روى عنهم قبل ذلك"(12).
وقال الحافظ البلقيني: "تقديم الجارح مشروط عند الفقهاء بأن يطلق المعدِّل، فإن قال المعدِّل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب وحسنت حالته، فإنه يقدم المعدّل"(13).
المقام الثاني: التعارض المستقر:
أولاً: التعارض بين عالمين فأكثر:
إذا لم يمكن إزالة التعارض بين الجرح والتعديل يستقر التعارض بينهما، وفي ترجيح أحدهما على الآخر أقوال:
القول الأول: تقديم الجرح مطلقاً
أصحاب هذا القول يقدمون الجرح على التعديل مطلقاً لأن الجارح مطلع على أمر باطني قد خفي على المزكّي فيقدم قوله لمزيد اطلاعه، وهذا القول نقله الخطيب عن جمهور العلماء، فقال: "اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد، وعدّله مثل عدد من جرحه، فإن الجرح به أولى، والعلة في ذلك: أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه، ويصدّق المعدّل ويقول: قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها، وتفرّدت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره. وإخبار المعدّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل... وإذا عدّل جماعة رجلا ً، وجرحه أقلّ عددا ً من المعدّلين، فإن الذي عليه جمهور العلماء أن الحكم للجرح والعمل به أولى"(14).
وقال ابن الصلاح: "إن اجتمع في الشخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم، لأن المعدّل يخبر عمّا ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل" ثم قال إن هذا القول هو "الصحيح، والذي عليه الجمهور"(15).
إلا أن التسليم بهذا القول مطلقاً يلزم منه عدم الاعتداد بأغلب الرواة إن لم يكن كلّهم، من هنا يقول تاج الدين السبكي: "لو فتحنا هذا الباب، وأخذنا بتقديم الجرح على إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون"(16).
القول الثاني: التفصيل
كثير من العلماء بالرغم من تبنيهم القول الأول إلا أنهم لم يرتضوه على إطلاقه، بل ذكروا تفصيلات وضوابط في غالب الأحيان لا ترجع إلى سبب وجيه وذلك من أجل التخفيف من غلواء الاختلاف الشديد الحاصل في حال الرواة الذي طال حتى الأئمة النقّاد من العلماء، ويمكن لنا أن نذكر عدة ضوابط ذكروها في المقام:
الضابطة الأولى: تقديم خصوص الجرح المفسّر
فيقدم الجرح إن كان مفسّراً سواء كان التعديل المعارض مجملاً باقٍ على إبهامه أم كان مفسّراً، وإلا فيبقى على تعديل الراوي، بدعوى أنه إذا ثبت التعديل لراوٍ من الرواة، فلا ينبغي أن يعدل عنه إلا بحجة راجحة، والجرح المجمل ليس حجة راجحة، لما قد يعتريها من الصوارف والقرائن المانعة، قال ابن حجر: "إن كان (الجرح) غير مفسَّر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته"(17). وقال السخاوي: "إذا تعارضا (أي الجرح والتعديل) من غير تفسير فالتعديل"(18).أي فيقدم التعديل.
وقال اللكنوي مؤكداً هذا المعنى: "الذي دلّت عليه كلمات الثقاة، وشهدت به جمل الإثبات: هو أنه إن وجد في شأن راوٍ تعديل وجرح مبهمان: قدِّم التعديل. وكذا: إن وجد الجرح مبهما ً والتعديل مفسراً: قدِّم التعديل. وتقديم الجرح إنما هو إذا كان مفسَّراً، سواء كان التعديل مبهماً أو مفسَّراً"(19).
وهذا هو مذهب الحنفية أيضاً، يقول التهاوني: "أم عندنا معشر الحنفية فالترجيح للتعديل إذا كان الجرح غير مفسّر كما لا يخفى على من طالع شرح الهداية لابن همام وشرح البخاري للعيني"(20).
الضابطة الثانية: جرح المشهورين لا يعبأ به
قال تاج الدين السبكي: "الحذر الحذر أن تفهم أن قاعدتهم (الجرح مقدم على التعديل) على إطلاقها، بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكّوه وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون"(21).
الضابطة الثالثة: احتجاج الشيخين أو أحدهما بالراوي
من الأمور التي تمسّكوا بها للتخلّص من كثرة الاختلافات بين الجارحين والمعدلين هو أنهم اعتمدوا على احتجاج الشيخين، أو أحدهما براو ما، وحكموا بتوثيقه وقبول حديثه، وإسقاط ما قيل فيه من تضعيف أو جرح من قبل علماء آخرين، مهما كان شأنهم وخطرهم، فعبّروا عمّن ورد ذكره في الصحيحين أو أحدهما على سبيل الاحتجاج به بأنه جاز القنطرة كناية عن اعتباره وقبوله وتوثيقه، قال ابن حجر: "كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدّمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما. قلت: فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح"(22).
القول الثالث: تقديم التعديل إن زاد عدد المعدلين على الجارحين
فإن كان المعدلون أكثر عدداً من الجارحين، قدّم التعديل على الجرح، لأن كثرتهم تقوي حالهم، وتوجب العمل بخبرهم، وقلة المجرحين تضعف خبرهم.
وقد تعقّب جمهور المحدثين هذا القول وخطّؤوه، وذلك لأن المعدّلين وإن كثروا لا يخبرون بما يرد قول الجارحين، قال الخطيب موهناً لهذا القول: "وهذا خطأ وبعدٌ ممن توهمه، لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدّقون المعدلين في العلم بالظاهر، ويقولون: عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره... لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه، لخرجوا بذلك عن أن يكونوا أهل تعديل أو جرح، لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه، وإن لم يعلموه ثبت ما ذكرناه"(23).
القول الرابع: العمل بالمرجّحات وإلا فالتوقف
إن الجرح والتعديل إذا تعارضا لا يترجّح أحدهما إلا بمرجّح، وهذا القول حكاه ابن الحاجب وغيره عن ابن شعبان بن المالكية(24)، قال الحافظ العراقي: "الثالث -أي من الأقوال- أن يتعارض الجرح والتعديل، فلا يرجّح أحدهما إلا بمرجح، حكاه ابن الحاجب، وكلام الخطيب يقتضي نفي هذا القول... ففي هذه الصورة حكاية الإجماع على تقديم الجرح، خلاف ما حكاه ابن الحاجب"(25).
ويمكن لنا استنتاج عدّة مرجحات ذكرت في كلماتهم، منها:
- الترجيح بالأحفظية: قال الحافظ البلقيني "قيل: يرجّح بالأحفظ"(26).
- الترجيح بمنهج الناقد: من الطرق التي سلكوها لتضييق دائرة الاختلافات بينهم في توثيق الراوي وتضعيفه تصنيف علماء الجرح والتعديل إلى ثلاثة أصناف:
الأول: متشدد ومتعنّت في أحكامه.
فهو متعنِّتٌ في الجرح متثبِّتٌ في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويُلَيِّنُ بذلك حديثه. ومن هؤلاء: شعبة بن الحجاج (ت 160هـ)، ويحيى ابن سعيد القطان (ت 198هـ)، ويحيى بن معين (ت 233هـ)، وأبو حاتم الرازي (ت 277هـ)، والنسائي(ت303هـ(.
الثاني: متساهل.
مثل: أبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي (ت261هـ)، وأبي عيسى الترمذي
(ت 279هـ)، وابن حبّان (ت354هـ) والدارقطني (ت 385هـ) في بعض الأوقات، وأبي عبد الله الحاكم (ت 405هـ)، وأبي بكر البيهقي (ت 458هـ).
الثالث: منصف معتدل.
ومنهم: سفيان الثوري (ت 161هـ)، وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ)، وابن سعد (ت 230هـ)، وابن المديني (ت 234هـ)، والإمام أحمد (ت 241هـ)، والبخاري (ت256هـ)، وأبو زرعة الرازي (ت 264هـ)، وأبو داود (ت 275هـ)، وابن عدي (ت 365هـ)، والدارقطني (ت 385هـ).
فينظر في أقوال الأئمة عند إرادة الحكم على الراوي.
فإذا جاء التوثيق من المتشددين، فإنه يُعضُّ عليه بالنواجذ لشدة تثبُتِهم في التوثيق، وإذا جاء التوثيق من المتساهلين فإنه يُنظر. هل وافقهم أحد من الأئمة الآخرين على ذلك؟.
فإن وافقهم أحد أُخِذَ بقولهم، وإن انفرد أحدهم بذلك التوثيق فإنه لا يُسلَّم له.
وأما المعتدلون المنصفون. فإنه يُعتمد على أقوالهم في الحكم على الرواة جرحاً وتعديلاً ما لم يُعارض توثيقهم بجرح مفسّر خال من التعنّت والتشدد فإنه يقدَّم على التوثيق.
قال السخاوي: "وقد قسّم الذهبي من تكلّم في الرجال... على ثلاثة أقسام أيضاً: قسم منهم متعنت في التوثيق متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، فهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بنواجذك وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجال فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثق ذاك الرجل أحد من الحذاق فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا هو الذي قالوا لا يقبل فيه الجرح إلا مفسرًا... وقسم منهم متسامح كالترمذي والحاكم.... وقسم معتدل كأحمد والدارقطني وابن عدي"(27).
- تقديم قول أهل بلده من النقّاد: قال المعلمي: "الراوي الذي يطعن فيه محدّثو بلده طعنا ً شديدا ً لا يزيده ثناء بعض الغرباء عليه إلا وهنا ً، لأن ذلك يشعر بأنه كان يعتمد التخليط فيتزين لبعض الغرباء، واستقبله بأحاديث مستقيمة، فظن أن ذلك شأنه مطلقا ً، فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حاله"(28).
وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن حماد بن زيد أنه قال: "كان الرجل يقدم علينا من البلاد، ويذكر الرجل، ويحدّث عنه، ويحسن الثناء عليه، فإذا سألنا أهل بلاده وجدناه على غير ما يقول قال: وكان يقول: بلدي الرجل أعرف بالرجل"
قال الخطيب معلّقاً على ذلك: "قلت: لما كان عندهم زيادة علم بخبره على ما علمه الغريب من ظاهر عدالته"(29).
ومثال الترجيح بذلك ما ورد في ترجمة أسد بن عمرو البجلي قاضي واسط، فقد ضعّفه يزيد بن هارون، وعثمان بن أبي شيبة، ووثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي.
قال ابن هاشين: "وليس كلام محمد بن عبد الله بن عمار بتزكيته حجة على قول يزيد بن هارون، لأن يزيد بن هارون وعثمان بن أبي شيبة أعلم بأسد بن عمرو من ابن عمار، لأن ابن عمار موصلي، ويزيد بن هارون واسطي، وعثمان بن أبي شيبة كوفي، فهما أعلم به، ويزيد بن هارون في الطبقة العليا على ابن عمار، وقوله: لابأس به، ليس مثل قول يزيد: لا تحل الرواية عنه"(30).
ثانياً: التعارض في كلام العالم الواحد
قد يجتمع الجرح والتعديل من إمام واحد من أئمة الجرح والتعديل في راوٍ واحد، وقد عرف ذلك عن بعضهم كالإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي حيث يذكر هذا الأخير الراوي مرة في كتابه الثقات وأخرى في كتابه المجروحين فأحصيت هذه المفردات فبلغت 132 ترجمة، قال الذهبي في حق ابن معين: "يحيى بن معين وقد سأله عن الرجال غير واحد من الحفاظ، ومن ثمّ اختلف آراؤه وعباراته في بعض الرجال، كما اختلف اجتهاد الفقهاء، وصارت لهم الأقوال والوجوه، فاجتهدوا في المسائل كما اجتهد ابن معين في الرجال"(31).
وفي المسألة أقوال :
القول الأول: العمل على آخر القولين
إن علم آخر القولين عمل به لأن القول المتأخر ناسخ لقوله المتقدم، وإن لم يعلم فالتوقف، وذهب إليه بدر الدين الزركشي حيث قال: "أما إذا تعارضا من قائل واحد -فلم أر من تعرض له- وهذا يتفق ليحيى بن معين وغيره يروى عنه تضعيف الرجل مرة وتوثيقه أخرى، وكذا ابن حبّان يذكره في الثقات مرة ويدخله في الضعفاء أخرى. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في المدخل (وهذا لأنه قد يخطر على قلب المسؤول عن الرجل من حاله في الحديث وقتاً ما ينكره قلبه فيخرج جوابه على حسب الفكرة التي في قلبه ويخطر له ما يخالفه في وقت آخر فيجيب عما يعرفه في الوقت منه قال وليس ذلك بتناقض ولا إحالة ولكنه صدر عن حالين مختلفين عرض أحدهما في وقت والاخر في غيره) قلت -الكلام للزركشي-: والظاهر في هذه الحالة أنه إن ثبت تأخر أحد القولين عن الأخر فهو المعمول به وإلا وجب التوقف كما سبق "(32).
ومن ذلك قول عباس الدُّوري في ترجمة ثواب بن عتبة: "سمعت يحيى يقول: "شيخ صدق" فإن كُنْتُ كتبتُ عن أبي زكريا (يحيى بن معين) فيه شيئاً، أنه ضعيف، فقد رجع أبو زكريا وهذا هو القول الأخير من قوله"(33).
القول الثاني: تقديم التعديل
فيقدم التعديل ويحمل الجرح على شيء بعينه، وممن ذهب إلى هذا القول ابن حجر، قال في ترجمة هدبة بن خالد القيسي البصري: "قد وثقه الناس، وقرأت بخط الذهبي: قوّاه النسائي مرّة، وضعّفه أخرى. قلت: لعلّه ضعّفه في شيء خاص"(34)
قال التهاوني: "إذا اختلف قول الناقد في رجل، فضعّفه مرة وقوّاه أخرى، فالذي يدلّ عليه صنيع الحافظ ابن حجر أن الترجيح للتعديل، ويحمل الجرح على شيء بعينه"(35).
القول الثالث: العمل بالمرجحات
يقول السخاوي: "فهذا قد لا يكون تناقضا ً، بل نسبياً في أحدهما، أو ناشئاً عن تغير اجتهاده، وحينئذٍ فلا ينضبط بأمر كلي، وإن قال بعض المتأخرين إن الظاهر أن المعمول به المتأخر إن علم، وإلا وجب التوقف"(36).
فإذا لم يمكن الجمع، طُلِب الترجيح بين القولين بالقرائن، كأن يكون بعضُ تلاميذ الإِمام أكثر ملازمة له من بعض، فتقدَّم روايةُ الملازم على رواية غيره، كما هو الشأن في تقديم رواية عباس الدُّوري عن ابن معين لطول ملازمته له، ومن قرائن الترجيح أيضاً كثرة الناقلين لأحد القولين عن الإمام، وكون أحد القولين أصح إسناداً إلى ذلك الإمام من القول الآخر(37).
القول الرابع: التوقف إلا إذا وافقه أحد النقّاد على أحد قوليه
قال ابن معين في ترجمة أبي قتادة الحراني في رواية الدوري عنه "ثقة"، وفي رواية المفضل بن غسان قال عنه أنه "ضعيف". قال ابن شاهين: "وهذا القول في أبي قتادة يوجب التوقف فيه حتى تقع شهادة أخرى على أحد القولين فيعمل بحسب ذلك"(38).
المطلب الثاني: حكم تعارض الجرح والتعديل عند الشيعة:
التوثيق سواء كان خاصا ً أم عاما ً، قد يعارضه تضعيف، وهذا التعارض تارة يكون مجرد تعارض بدوي صوري لا حقيقة له، وأخرى يكون تعارضاً مستقرا ً، والكلام في مقامين:
المقام الأول: التعارض البدوي:
قد يكون الظاهر بدواً التعارض بين أمارات التوثيق والتضعيف في راوٍ معيّن، إلا أنه بالتأمل يزول هذا التعارض، كما حصل في كثير من التراجم، كعلي بن أبي حمزة البطائني، فإن الشيخ الطوسي قد وثّقه وقال "ولأجل ذلك عملت الطائفة بأخباره"(39)، وقال عنه علي بن الحسن بن فضّال أنه "كذّاب متهم"(40)، وهذا التعارض غير مستقر إذ إن كل قول منهما ناظر إلى فترة زمانية معيّنة، فالشيخ الطوسي وثقّه لكونه ثقة حين كان وكيلا ًللإمام الكاظم (عليه السلام)، إلا أنه قد أصبح من أركان الوقف طمعا ًفي حطام الدنيا وأصبح من أشد الخلق عداوة للإمام الرضا (عليه السلام)، فلا إشكال في كذبه وضعفه في هذه الفترة وعليه يحمل تضعيف ابن فضال.
وكذا الحال بالنسبة إلى يحيى بن أبي القاسم أبو بصير الأسدي، الذي هو أحد أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصديقهم(41)، وقال عنه ابن فضال أنه "كان مخلّطاً"(42).
فلا تعارض ولا تنافي في المقام، فإن قول ابن فضّال إنه كان مخلّطاً لا ينافي التوثيق، فإن التخليط معناه أن يروي الرجل ما يعرف وينكر، فلعل بعض روايات أبي بصير كانت منكرة عند ابن فضّال، فقال إنه مخلط(43)، وكون أحاديث الراوي مما يعرف وينكر لا يضر بقوة السند حيث إن هذه الأوصاف ترجع إلى الحديث لا السند(44).
وقد وقع كلام في أنه إذا أمكن الجمع بين الجرح والتعديل بحمل المطلق على المقيد، فهل يصح مثل هذا الجمع؟ بمعنى هل يكون هذا جمعاً عرفياً أو لا؟ كما ورد في كلام النجاشي في ترجمة محمّد بن خالد البرقي أنه "ضعيف في الحديث"(45)، وقال عنه الشيخ الطوسي أنه "ثقة"(46)، فهل يمكن أن يقال بحمل تضعيف النجاشي على أنه يروي كثيرا ًعن الضعفاء ويعتمد المراسيل كما اشتهر عنه، فيبقى توثيق الشيخ سليماً عن المعارضة، فنخلص بنتيجة أن الرجل ثقة في نفسه من غير هذه الجهة، بشاهد جمع قاله ابن الغضائري في حقه بأن: "حديثه يعرف وينكر، ويروي عن الضعفاء كثيراً، ويعتمد المراسيل"(47)!؟
قد يقال بعدم صحة الجمع، لأن الشرط في ذلك هو أن يكون من كلام شخص واحد، وأما إذا كان المطلق في كلام شخص والمقيد في كلام شخص آخر فلا وجه لحمل كلام أحدهما على الآخر بحيث يقال: إن مراد الأوّل أيضاً هو المقيد من جهة إرادة الثاني، لعدم حكم العرف بهذا الجمع، وعدم الربط بين الإرادتين.
وأما الوجه في صحّة حمل المطلق في الأخبار على ما يقيدها ما ثبت أن كلام المعصومين (عليهم السلام) بمنزلة الكلام الواحد.
ويظهر من جمع من الأعلام صحة حمل المطلق على المقيد في أقوال علماء الرجال كما في أخبار المعصومين (عليهم السلام). إذ هو مقتضى الفهم العرفي(48). يقول السيد الخوئي في حق محمد بن خالد البرقي الذي تعارض فيه إطلاق توثيق الشيخ مع تضعيف النجاشي له في خصوص الحديث: "إنما التضعيف يرجع إلى حديثه، لأجل أن محمد بن خالد كان يروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل، كما صرح به ابن الغضائري، وحينئذٍ يبقى توثيق الشيخ بلا معارض"(49).
من هنا يتضح حال التعارض بين التوثيق العام مع التضعيف الخاص، كما إذا قلنا بوثاقة كل من وقع في إسناد كامل الزيارات وتفسير القمي وورد تضعيف من أحد الرجاليين، فقد يقال بتقديم الدليل الخاص القائل بالتضعيف بمعنى أن العام حجة مالم يأت دليل خاص على خلافه، إلا أن هذا الكلام في غير محله وذلك لوقوع التعارض بين الشهادتين، وكون إحدى الشهادتين بالعموم لا يقتضي إعمال قانون التخصيص، وذلك لوضوح اختصاص ذلك بالعام والخاص الواردين من شخص واحد أو من بحكمه على نحو يعلم كون المراد الجدّي واحداً وغير متهافت، ولا يشمل محل الكلام الذي يكون الخاص فيه كاشفاً عن خطأ الشاهد بالعموم واشتباهه، لا عن تعلّق إرادة جدية بالعموم(50)، فلا مناص من الالتزام باستقرار التعارض في حق هذا الراوي فيتساقط قولَي الجارح والمعدّل في حقه، فإن ابن قولويه مثلا ًيلتزم بأنه لا يروي إلا عمن كان ثقة في نظره، فيعود ذلك في الحقيقة إلى شهادة من قبل ابن قولويه بوثاقة من يروي عنه فيعارضه تضعيف الرجالي الآخر.
ولذا نجد السيد الخوئي في ترجمة عمرو بن شمر ذكر أن توثيق علي بن إبراهيم القمي إياه معارض بتضعيف النجاشي فالرجل مجهول الحال(51)، والكلام هو الكلام قد يأتي في صالح بن الحكم النيلي الذي تعارض فيه توثيق ابن قولويه له وتضعيف النجاشي(52).
المقام الثاني: التعارض المستقر:
أولا ً: التعارض بين عالمين فأكثر
في المسألة أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى تسعة(53)، ونكتفي هنا بذكر أهم الأقوال :
القول الأول: تقديم الجرح مطلقاً
وهو القول المشهور بين العلماء، واستدلوا عليه بأن الموثّق للراوي يخبر عمّا يعرفه من ظاهر حاله، والمجرّح يخبر عمّا اطلع عليه من باطن خفي على الموثّق، فالجارح يثبت المعصية بسبب اطّلاعه عليها، وأما الموثّق فلم يطلع عليها، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فمن علم حجة على من لم يعلم.
قال المحقق الحلي: "لو اختلف الشهود في الجرح والتعديل، قال -الشيخ الطوسي- في الخلاف: توقف الحكم، ولو قيل يعمل على الجرح كان حسناً"(54).
وقال أيضاً: "إن جرح بعض، وعدل آخرون قدّم العمل بالجرح، لأنه شهادة بزيادة لم يطلع عليها المعدّل، ولأن العدالة قد يشهد بها على الظاهر، وليس كذلك الجرح"(55).
وقال العلامة: "اختلف قول الشيخ في مسألة الجرح والتعديل، إذا عدل الشاهدان وجرحه اثنان، فقال في المبسوط: يقدّم الجرح على التعديل، وفي الخلاف يتوقف، وابن ادريس، وابن حمزة ذهبا إلى ما قال في المبسوط "(56).
وقال صاحب المعالم: "إذا تعارض الجرح والتعديل فإن أكثر الناس يقدّم الجرح، لأن فيه جمعاً بينهما، إذ غاية قول المعدّل أنه لم يعلم فسقاً، والجارح يقول أنا علمته، فإذا حكمنا بعدالته كان الجارح كاذباً وإذا حكمنا بفسقه كانا صادقين والجمع مهما أمكن أولى"(57).
إلا أن هذا القول يمكن المناقشة فيه، لأن هذا الكلام إنما يكون مستساغاً فيما إذا فسرت العدالة بظاهر الإسلام أو حسن الظاهر، وأما إذا فسّرت بالملكة فترجيح الجرح حينئذٍ محل تأمل، فإن المعدّل أيضاً يخبر عن اتصاف الراوي بتلك الملكة في نفس الأمر، لا محض عدم وجدانه مرتكباً للكبائر غير مصر على الصغائر، ومن هنا قال علاّمة الجواهر ما لفظه: "وأيضاً قد اشتهر بينهم تقديم الجرح على التعديل لعدم حصول التعارض، لكون المعدّل لا يعلم والجارح عالم، ومن لا يعلم ليس حجة على من علم، ولو كان من باب الملكة لكان من باب التعارض، لأن المعدّل يخبر عن الملكة والآخر يخبر عن عدمها، بل عن ملكة الفسق، اللهم إلا أن أهل الملكة ينفون الحكم بمقتضاها بمجرد وقوع الكبيرة مثلا وإن لم تذهب الملكة، فلا يكون تعارضا بينهما، إذ قد يكون الجارح اطلع على فعل كبيرة ولا ينافي ذلك إخبار العدل بحصول الملكة، نعم لو كان الجرح بما يرفع الملكة اتجه التعارض، فتأمل جيدا"(58).
القول الثاني: يقدّم الجرح إلا إذا نفى المعدّل ما أثبته الجارح
بحيث لا يمكن الجمع بينهما، قال العلامة الحلي: "ومع التعارض يقدم الجارح، إلا إذا نفى المعدّل ما أثبته الجارح قطعاً فيتعارضان"(59). فيتوقف حينئذٍ.
وهذ ما يفهم أيضاً من الشهيد الثاني، حيث إنه قيّد تقديم الجرح بصورة إمكان الجمع، وأما إذا لم يمكن الجمع فيتوقف في المسألة مع عدم وجود المرجّح لأحد القولين، كما لو قال الجارح: رأيته في أول الظهر من اليوم الفلاني يشرب الخمر، وقال المعدّل: إني رأيته في ذلك الوقت يصلي، قال (قدِّس سرُّه): "ولو اجتمع في واحد جرح وتعديل، فالجرح مقدّم على التعديل وإن تعدد المعدّل وزاد على عدد الجارح على القول الأصح، لأن المعدّل مخبر عمّا ظهر من حاله، والجارح يشتمل على زيادة الاطلاع، لأنه يخبر عن باطن خفي على المعدّل فإنه لا يعتبر فيه ملازمته في جميع الأحوال، فلعله ارتكب الموجب للجرح في بعض الأحوال التي فارقه فيها. هذا إذا أمكن الجمع بين الجرح والتعديل، كما ذكر. وإلاّ يمكن الجمع، كما إذا شهد الجارح بقتل إنسان في وقت، فقال المعدّل: رأيته بعده حياً أو يقذفه فيه، فقال المعدّل: إنه كان ذلك الوقت نائماً أو ساكتاً. ونحو ذلك. تعارضا ولم يمكن التقديم، ولم يتم التعليل الذي قدّم به الجارح ثمَّ. وطلب الترجيح إن حصل المرجّح بأن يكون أحدهما أضبط، أو أورع، أو أكثر عدداً، ونحو ذلك فيعمل بالراجح ويترك المرجوح. فإن لم يتفق الترجيح وجب التوقف، للتعارض، مع استحالة الترجيح من غير مرجح"(60).
وذكر السيد حسن الصدر أمثلة واقعية لتطبيق هذا القول حين قال: "المشهور تقديم الجارح عند عدم إمكان الجمع بينهما، مثل قول المفيد في محمد بن سنان أنه ثقة، وقول الشيخ أنه ضعيف، فيمكن الجمع بينهما بإمكان اطلاع الشيخ على ما لم يطّلع عليه المفيد، فيقدّم الجارح على المعدّل. وأما مثل قول ابن الغضائري في داود الرقي: إنه كان فاسد المذهب لا يلتفت إليه، وقول غيره إنه ثقة، قال فيه الصادق (عليه السلام): «انزلوه مني منزلة المقداد من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)»، فلا يمكن الجمع بينهما...(61).
القول الثالث: تقديم التعديل مطلقاً
قد ذكره العلامة المامقاني وصرَّح بعدم وقوفه على قائله ولا على دليله(62)، وذكر أن حاصل ما يمكن أن يتصور في توجيهه أن احتمال اطلاع الجارح على ما خفي على المعدّل معارض باحتمال اطلاع المعدّل على ما خفي على الجارح من تجدّد التوبة والملكة، وإذا تعارضا تساقطا، ورجعنا إلى أصالة العدالة في المسلم..
وأشكل (قدِّس سرُّه) عليه:
أولاً: إن أصالة العدالة في المسلم ممنوعة.
ثانياً: إن هذا لا يكون من تقديم التعديل على الجرح، بل هو طرح لهما ورجوع إلى الأصل.
ثانياً: إن قول الجارح نص في ثبوت المعصية الفعلية، فلا محيص عن وروده وحكومته على الأصل الذي هو مناط التعديل.
ويمكن أن يعلّل لهذا القول أيضاً بكثرة التسارع إلى الجرح فيكون موهوناً بخلاف التعديل(63)، إلا أنه عليل أيضاً، لشمول دليل الحجيّة لخبر الجارح وعدم العلم بتسرّعه في هذه المفردة، فالمقتضي موجود لقبول جرحه والمانع مفقود.
القول الرابع: التوقف مطلقاً
كما في الخلاف والقواعد والتهذيب والمختلف والمنية والدروس والمسالك والكفاية، والمحكي في المعالم عن السيد ابن طاووس، بل نسب إلى المشهور بين علماء الإسلام.
قال الشيخ الطوسي: "إذا شهد اثنان بالجرح وآخران بالتعديل وجب على الحاكم أن يتوقف... دليلنا أنه إذا تقابل الشهادات ولا ترجيح لأحد الشاهدين وجب التوقف"(64).
القول الخامس: العمل بالمرجحات إن كانت وإلا فالتوقف
هذا القول يتعامل مع أقوال علماء الرجال كما يتعامل مع الأمارات في حال تعارضها، فلا بد من أن يجتهد في هذه الأقوال بالرجوع إلى المرجحات والقرائن إن وجدت على حسب اجتهاد الفقيه واطمئنانه، وإلا فيحكم بالتساقط والتوقف في حال الراوي، لأن دليل الحجيّة لا يشمل القولين معاً لأن مآله إلى التعبد بالمتنافيين، ولا يمكن الترجيح بلا مرجح.
وممن ذهب إلى ذلك السيد جمال الدين بن طاووس على ما حكاه صاحب المعالم أنه قال: "إن كان مع إحداهما رجحان يحكم التدبر الصحيح باعتباره، فالعمل على الراجح، وإلا وجب التوقف"(65). وتبناه صاحب المعالم بقوله تعليقاً على الكلام الذي ساقة لابن طاووس: "وماقاله هو الوجه"(66)، وهو ما استقرت عليه كلمة المحققين من العلماء.
وقد حاول بعض العلماء ذكر مجموعة من المرجحات على نحو الضابطة العامة، و وقعت محلاً للبحث بينهم، نذكر منها:
- ترجيح المدح والذم الصادر من الإمام (عليه السلام) على قول الرجالي
إذا وردت رواية معتبرة دالة على وثاقة أو ضعف الراوي، وعارضها قول الرجالي، فيرى بعض العلماء ترجيح قول المعصوم (عليه السلام) على أقوال علماء الرجال، سواء كان نص المعصوم عاماً كما روي عن الإمام العسكري (عليه السلام): «خذوا مارووا وذروا مارأوا»(67)، فلا يخرم كلّية المعصوم (عليه السلام) إلا هو(68). أم كان خاصاً كما في تزكية الإمام (عليه السلام) للمعلّى بن خنيس وداود الرقي، وجابر بن يزيد الجعفي، أو جرح الإمام لأبي الخطاب محمد بن مقلاص، لعدم مقاومة قول الرجالي للدليل الواقعي المعصوم(69).
وذهب العلامة المامقاني في قبال ذلك إلى الأخذ بأقواهما إفادة للظن سواء كان الأقوى هو قول الرجالي أم خبر المعصوم (عليه السلام)، لأن المدار في التوثيقات والتراجم على ما يفيد الظن عنده، فيلزم المجتهد تحري أقوى الظنين في الرجل(70).
إلا أن السيد الخوئي لم يرتض كل ذلك، وذهب إلى عدم إمكان الترجيح بينهما، فيكون مآلهما إلى التساقط، لأن الحكم بصدور الكلام من الإمام يتوقف على شمول دليل حجيّة الخبر لهذه الرواية، ولا يمكن ذلك لمعارضته بشمول دليل الحجية نفسه لشهادة الرجالي المعارضة، فيسقط دليل الحجيّة بالمعارضة (71).
- الترجيح بالأكثر عدداً
يقول الشيخ البهائي العاملي: "الأولى التعويل على ما يثمر غلبة الظن، كالأكثر عددا ًأو ورعا ًأو ممارسة"(72).
وقال السيد علي النقوي الهندي: "المختار أنه متى اجتمع جرح وتعديل قاطبة، ولم يمكن الجمع بحمل الثاني على الظاهر، والأول على نفس الأمر مثلا ً، بني على المرجّح من كثرة العدد وغلبة التوّرع، وأمثال ذلك"(73).
إلا أن ترجيح قول الأكثر عدداً وإن كان يقوي احتمال الصدق إلا أنه لا ينفي دليل حجيّة القول الآخر، فيبقى القول الآخر على ما هو عليه من الحجيّة، إلا بناءً على القول بأن الأخذ بأقوال الرجاليين من باب الظن الاجتهادي. اللهم إلا أن تكون الكثرة كاثرة فيحصل الاطمئنان لكثرة المزكين أو الجارحين، فيقال بتقديم الأكثر حينئذٍ، وهذا يختلف باختلاف الموارد والمقامات.
يقول السيد الميرداماد: "والتحقيق أن شيئاً منهما ليس أولى بالتقديم من حيث هو جرح أو تعديل وكثرة الجارح أو المعدّل أيضاً لا اعتداد بها"(74).
- الترجيح بصفات الرجالي
بأن يقدّم قول الإمامي على غير الإمامي، ويرجح بالأعدلية والأفقهية والأورعية المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة(75)، أو يقدّم الأمهر والأدق في علم الرجال.
يقول السيد الميرداماد: "الأحق بالاعتبار في الجارح والمعدّل قوّة التمهر وشدّة التبصّر وتعوّد التمرّن على استقصاء الفحص وإنفاق المجهود"(76).
وطبقوا ذلك على الواقع، وذكروا قواعد، منها:
أولاً: تقديم قول النجاشي على الشيخ الطوسي: وهذا ما يظهر من عبائر الكثير من العلماء، قال الشهيد الثاني: "ظاهر حال النجاشي أنه أضبط الجماعة وأعرفهم بحال الرجال"(77).
وقال السيد بحر العلوم: "وللنجاشي تقدم على الشيخ في هذه المقامات كما يعلم بالممارسة"(78). وقد استشهد السيد بحر العلوم بكلمات كثير من العلماء في هذا الشأن.
يقول السيد حسن الصدر: "رجّح جماعة من أصحابنا حكاية النجاشي في الجرح والتعديل على حكاية الشيخ لتسرّعه، وكثرة تأليفه في العلوم الكثيرة، ولذلك عظم الخلل في كلامه، فتراه يذكر الرجل تارة في رجال الصادق (عليه السلام)، وأخرى في رجال الكاظم (عليه السلام)، وتارة فيمن لم يرو، مع القطع بالاتحاد"(79).
وقال الشيخ جعفر السبحاني: "إذا تعارضت تزكية النجاشي مع جرح الشيخ، فيقدم الأول على الثاني، وما هذا إلا لأن النجاشي كان له إلمام واسع بهذا الفن في حين أن الشيخ مع جلالته، صرف عمره الشريف في علوم شتى"(80).
وعمدة هذه الدعوى وجوه (81):
الأول: تأخر تصنيف رجال النجاشي عن كتابي الشيخ، فهو ناظر إليهما محيط بمحتواهما، ولذلك نجد النجاشي يردّ على ما ذهب إليه الشيخ في موارد عديدة.
الثاني: كثرة انشغال الشيخ الطوسي لتشعب علومه وكثرتها وعدم تمركز فكره في الرجال بخلاف النجاشي.
الثالث: تضلع النجاشي بعلم الأنساب وأخبار القبائل وخصوصياتهم بخلاف الشيخ، وهذا له مدخلية واضحة لمعرفة أحوال الرجال.
الرابع: إن أكثر الرواة من أهل الكوفة وأطرافها، والنجاشي كوفي بل من وجوه أهل الكوفة فهو أخبر بأحوالهم.
الخامس: كثرة صحبة النجاشي للغضائري وهو خرّيت هذا الفن، ولم يتفق ذلك للشيخ.
السادس: تقدّم النجاشي على الشيخ لأنه أكبر سنّاً منه، ولذا أدرك كثيراً من العارفين بفن الرجال والأنساب بخلاف الشيخ.
وسيأتيك مناقشة ذلك عند الرد على أصل دعوى الترجيح بصفات الرجالي، مضافاً إلى إنكار أضبطية وخبروية النجاشي على الشيخ، يقول السيد حسن الصدر: "الشيخ أشدّ مراساً في ذلك من النجاشي"(82).
ثانياً: تقديم قول الكشي على النجاشي: قد جنح الفاضل الخواجوئي إلى تقديم قول الكشي على قول النجاشي نظرا ًإلى أنه أقدم زماناً، وأبصر بأحوال الرجال وحقيقة الحال وذهب إلى ذلك الشيخ البهائي، وفخر الدين الطريحي في مجمع البحرين، وابن داود والسيد التفرشي وغيرهم(83).
وعورض ذلك بأن النجاشي أضبط علماء الرجال كما تقدم، إضافة ًإلى تفطّن النجاشي لأغلاط الكشي، حيث إن النجاشي تعرّض لحال الكشي وقال: "له كتاب الرجال، كثير العلم، وفيه أغلاط كثيرة"(84).
إلا أن الحق الحقيق الذي مال إليه المحققون من العلماء المعاصرين، عدم صحة الترجيح بصفات الرجالي، إلا إذا قلنا أن اعتبار قول الرجالي من باب الظن الاجتهادي، أو قول أهل الخبرة، فيقدم الأعلم و الأكثر خبرةً، أمّا إذا كانت أقوالهم حجّة من باب حجية خبر الثقة أو العلم الحسّي فدليل الحجيّة شامل لكلا القولين، لعدم الدليل على الترجيح بأمثال ذلك في البين، ومقتضى القاعدة هو سقوط كلتا الشهادتين عند التعارض، إلا إذا دلت القرائن المعتبرة أو المورثة للاطمئنان على سقوط كلام أحدهما عن الاعتبار والاعتماد.
وقد ذكر السيد الخوئي أنه يمكن الاعتماد على الأضبطية لو كان الاختلاف بين الرجاليين في مجرد النقل والإخبار، إلا أنه لما كانت أقوال علماء الرجال متضمنة لتبنيه وشهادته بما يخبر به فلا يمكن التعويل على الأضبطية في المقام، فإنه وإن كان قبولنا لأقوالهم من باب خبر الثقة إلا أن هذا الإخبار مشوب بتبنيه واعتقاده بصحة ما يخبر به، يقول السيد الخوئي: "أنك قد عرفت من الشيخ (قدِّس سرُّه) تضعيف عبد الله بن أبي زيد، وعرفت من النجاشي توثيقه، وقد يقال: إن توثيق النجاشي لأضبطيته يتقدم على تضعيف الشيخ، وهذا كلام لا أساس له، فإن الأضبطية لو أفادت فإنما تفيد في مقام الحكاية لا في مقام الشهادة، وبعدما كان كل من الشيخ والنجاشي -قدس سرهما- يعتمد على شهادتهما لا يكون وجه لتقديم أحدهما على الآخر، فهما متعارضان، وبالنتيجة لا يمكن الحكم بوثاقة عبد الله بن أبي زيد فلا يحكم بحجية روايته، والله العالم"(85).
ثانياً: التعارض في كلام العالم الواحد:
يتفق في بعض الأحيان أن يصدر تضعيف لرجل من قبل أحد علماء الجرح والتعديل وقد وثّقه نفس هذا العالم في مبحث أو كتاب آخر، كمحمد بن سنان، حيث قال عنه المفيد: "إنه من خاصة الإمام الكاظم (عليه السلام) وثِقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته"(86)، إلا أنه ضعّفه في رسالته التي ألّفها في كمال شهر رمضان ونقصانه حيث قال بعد نقل رواية دالة على أنه ثلاثون يوماً لا ينقص أبداً: "وهذا حديث شاذ نادر غير معتمد عليه، في طريقه محمد بن سنان وهو مطعون فيه لا يختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لم يعمل عليه في الدين"(87).
وكذا الحال بالنسبة لعمار بن موسى الساباطي، الذي وثقه الشيخ الطوسي في التهذيب حين قال: "غير أنّا لا نطعن عليه بهذه الطريقة، لأنه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه فيه"(88)، وقال في الاستبصار أن عماراً: "ضعيف فاسد المذهب لا يعمل على ما يختص بروايته "(89).
وفي المسألة أقوال:
القول الأول: حمل كلامه على اختلاف الأحوال
ذهب العلامة المامقاني إلى أنه إذا تعارض كلام أحد الرجاليين في راوٍ بعينه، يحمل كلامه على كونه ثقة في حال وضعيف في حال آخر، فإذا ذكر رجلاً في أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) مثلا ًووثقّه، وذكره في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وضعفّه، فيكون الراوي ثقة في نقله عن الإمام الباقر (عليه السلام) وضعيفاً في نقله عن الإمام الصادق (عليه السلام)(90).
القول الثاني: تقديم قوله المتأخر
فيؤخذ بقوله الأخير لاحتمال عدوله عمّا قاله أولاً، فالكلام هنا كفتاوى الفقهاء، فإنه يترك المتقدم منه ويؤخذ بالمتأخر، وذهب إليه جمعٌ منهم الشيخ آصف محسني(91).
القول الثالث: التساقط
وهو مختار أكثر المحققين، ومنهم السيد الخوئي (قدِّس سرُّه) حيث ردّ على دعوى الأخذ بالقول المتأخر بأن قياس قول الرجالي بالفتوى قياس مع الفارق، لأن العبرة بزمان المحكي عنه دون زمن الحكاية، فبين الحكايتين تقع المعارضة لا محالة، وهذا بخلاف الفتوى، فإن العبرة فيها بزمان الفتوى، فيؤخذ بالمتأخر منها(92).
ثالثاً: التعارض الثلاثي المزدوج:
لو تعارض توثيق الرجالي الواحد مع تضعيفه وكان هناك قول لرجالي آخر بالنسبة إلى هذا الراوي، فهل يدخل الرجالي الآخر في دائرة التعارض مع قولَي الرجالي الأول وبالتالي يلزم من ذلك تساقط الأقوال الثلاثة، أم أنه يتساقط قولا الرجالي الأول في رتبة سابقة، فيبقى كلام الشخص الآخر على حاله؟
ويمكن أن يمثل لذلك بسهل بن زياد الآدمي، الذي ضعفه الشيخ الطوسي في الفهرست(93)، ووثقه في الرجال(94)، ويوجد للنجاشي في حقه تضعيف(95).
وتختلف النتيجة باختلاف المبنى المختار في حجيّة قول الرجالي، وذلك لأنه:
- إن قلنا بأن قول الرجالي حجّة من باب حجية قول الخبير، هنا نحن لم نحرز رأي الشيخ حتى يكون معارضاً لرأي النجاشي، نتيجة وجود كلامين للشيخ والحجّة ما يستقر عليه نظر الخبير لا ما يصدر منه وهنا لا يعلم ماهو الذي استقر عليه نظر الشيخ لعدم إحراز التقدم والتأخر في كلاميه، فيبقى كلام النجاشي سالما ًعن المعارضة.
- وإن قلنا أن ملاك الحجية هو الإخبار، فالشيخ له إخباران والنجاشي له إخبار. وإخبار الشيخ بالوثاقة معارض لإخبارين أحدهما منه والآخر من النجاشي إذ العبرة في الإخبار بالمحكي لا بالحاكي فيكون التعارض ثلاثياً، وهذا هو مختار السيد الخوئي(96).
- أمّا إذا قلنا بأن مدرك حجيّة قول الرجالي لا الإخبار بما هو إخبار وإنما العلم الحسّي هنا قد يقال بإختيار شق الترديد الثاني، بمعنى تساقط الكلامين المتعارضين للرجالي الواحد في رتبة سابقة عن الأخذ بقول الرجالي الآخر، فيبقى كلامه سالماً عن المعارضة وذلك لأحد وجهين:
الأول: أن صدور كلامين متنافيين عن شخص واحد يوجب ذلك حملهما على الإخبار الحدسي الاجتهادي، فيسقط كلاهما عن الاعتبار، ويبقى كلام الرجالي الآخر على ظاهر الحس، فيعمل به(97).
الثاني: مادمنا نحتمل أنّ الشيخ أدرك اشتباهه في المنشأ الحسي فوثق أو ضّعف فقد تغيّر علمه الحسّي، فلم نحرز علمين حسيين في كلام الشيخ فلا يمكن أن يقال بأن توثيقه معارض لتضعيفين.
- وأما إن قلنا بمبنى السيد السيستاني، بأن المدار على الكشف العقلائي، فالعقلاء متى تعارض كلام إنسان يقولون صدر منه كلامان إذاً ليس لكلاميه كشف عقلائي، فيبقى تضعيف النجاشي بلا معارض(98).
* الهوامش:
(1) تاج الدين السبكي، قاعدة في الجرح والتعديل ص20.
(2) رسالة في الجرح والتعديل ص47.
(3) علل الحديث ص321.
(4) إرشاد النقّاد ص110.
(5) تنقيح المباني الرجالية ج1 ص44- 45.
(6) رجال النجاشي ص417.
(7) الغيبة ص347.
(8) محمد بن الحسن الطوسي، اختيار معرفة الرجال ج2 ص675.
(9) معجم رجال الحديث ج19 ص268 -269.
(10) محمد حسين الحائري، الفصول الغروية ص302.
(11) الحدائق الناضرة ج1 ص23.
(12) تنقيح الأنظار ج2 ص167.
(13) محاسن الإصلاح ص294.
(14) الكفاية ص107.
(15) علوم الحديث ص109.
(16) قاعدة في الجرح والتعديل ص19.
(17) نزهة النظر ص139.
(18) فتح المغيث ج1 ص309.
(19) الرفع والتكميل ص120.
(20) قواعد في علوم الحديث ص348.
(21) قاعدة في الجرح والتعديل ص19.
(22) هدي الساري ص381.
(23) الكفاية ص107.
(24) جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص365.
(25) فتح المغيث ص161.
(26) محاسن الإصلاح: 294.
(27) فتح المغيث ج3 ص358.
(28) التنكيل ج2 ص15.
(29) الكفاية ص106.
(30) حكاه عنه: الخطيب البغدادي، الكفاية ص41.
(31) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 102.
(32) النكت على مقدمة ابن الصلاح ج3 ص361.
(33) التاريخ ج4 ص272.
(34) هدي الساري ص407.
(35) قواعد في علوم الحديث ص429.
(36) فتح المغيث ج1 ص288.
(37) عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ضوابط الجرح والتعديل ص63.
(38) ذكر من اختلف العلماء ونقّاد الحديث فيه ص 70.
(39) العدة في أصول الفقه ج1 ص381.
(40) محمد بن الحسن الطوسي، اختيار معرفة الرجال ج2 ص705.
(41) المصدر نفسه ج2 ص507.
(42) المصدر نفسه ج1 ص 405.
(43) السيد أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث ج21 ص89.
(44) على أكبر السيفي المازندراني، مقياس الرواة في كليات علم الرجال ص236.
(45) رجال النجاشي ص335.
(46) رجال الطوسي ص363.
(47) رجال ابن الغضائري ص93.
(48) لاحظ: مسلم الداوري، أصول علم الرجال ج1 ص407.
(49) معجم رجال الحديث ج17 ص 73.
(50) ميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي، مشايخ الثقات، الحلقة الأولى ص46، ناسباً ذلك إلى السيد الشهيد محمد باقر الصدر في بعض أبحاثه الفقهية.
(51) السيد أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث ج14 ص116.
(52) المصدر نفسه ج10 ص63.
(53) عبد الهادي الفضلي، أصول علم الرجال ص160.
(54) شرائع الإسلام ج4 ص868.
(55) معارج الأصول ص150.
(56) مختلف الشيعة ج8 ص424.
(57) معالم الأصول ص206.
(58) جواهر الكلام ج13 ص297.
(59) مبادئ الوصول ص211.
(60) الرعاية في علم الدراية ص117.
(61) نهاية الدراية ص379.
(62) مقباس الهداية ج1 ص392.
(63) محمد حسن المازندراني، نتيجة المقال ص 77.
(64) الخلاف ج6 ص 220.
(65) معالم الأصول ص207.
(66) المصدر نفسه.
(67) محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة ص390.
(68) انظر:مهدي الهادوي الطهراني، تحرير المقال ص122.
(69) السيد علي الحسيني الصدر، الفوائد الرجالية ص356.
(70) تنقيح المقال ج2 ص377.
(71) معجم رجال الحديث ج8 ص130.
(72) الوجيزة ص18.
(73) الجوهرة العزيزة في شرح الوجيزة ص438.
(74) الرواشح ص104.
(75) رواها: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج1 ص67. محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام ج6 ص301، ومحمد بن علي بن الحسين الصدوق، من لا يحضره الفقيه ج3 ص8.
(76) الرواشح ص104.
(77) مسالك الأفهام ج7 ص467.
(78) رجال السيد بحر العلوم ج2 ص46.
(79) نهاية الدراية ص382.
(80) دروس موجزة في علمي الرجال والدراية ص195.
(81) انظر: السيد بحر العلوم، رجال السيد بحر العلوم ج2 ص46.
(82) نهاية الدراية ص384.
(83) حكى هذه الأقوال: أبو المعالي الكلباسي، الرسائل الرجالية ج2 ص 300.
(84) رجال النجاشي ص372.
(85) معجم رجال الحديث، ج11 ص98.
(86) الإرشاد ج2 ص248.
(87) جوابات أهل الموصل ص20.
(88) تهذيب الأحكام ج7 ص101.
(89) الاستبصار ج1 ص372.
(90) تنقيح المقال ج1 ص517.
(91) بحوث في علم الرجال ص 112.
(92) انظر: معجم رجال الحديث ج 9 ص357.
(93) الفهرست ص142.
(94) رجال الطوسي ص387.
(95) رجال النجاشي ص 185.
(96) انظر: معجم رجال الحديث ج 9 ص27 و ص357.
(97) انظر: مهدي الهادوي الطهراني، تحرير المقال ص124.
(98) من إفادات سماحة آية الله العلامة السيد منير الخباز في مجلس درس القواعد الفقهية لسنة 1434هـ التطبيق السادس عشر.
0 التعليق
ارسال التعليق