تساؤلاتٌ عاشورائيّة في حوارٍ مع حجّة الإسلام والمسلمين سماحة العلاّمة الشيخ نجم الدين الطبسيّ (حفظه الله)

تساؤلاتٌ عاشورائيّة في حوارٍ مع حجّة الإسلام والمسلمين سماحة العلاّمة الشيخ نجم الدين الطبسيّ (حفظه الله)

تحتلّ الثورة الحسينيّة المباركة من الأهمّيّة، والأصالة، وقوّة التأثير مكانةً جعلتها فريدةً من نوعها، وإنّ لها أبعاداً عميقةً قد تخفى على أيّ إنسانٍ، ومواقفَ غامضةً لها دلالاتٍ قد يُغفل عنها، أو لا يُلتفت إليها، ولكنّ المدقّق وممعن النظر قد ينظر إلى أمور لا يراها إلا من كان في مكانه، وللوصول إلى إدراك بعضٍ من محتوى الثورة الحسينيّة، ننظر إليها بمنظار العالم، المدقّق، الباحث في التاريخ، سماحة حجّة الإسلام والمسلمين، الشيخ نجم الدين الطبسيّ، سائلين الله (عزَّ وجلَّ) أن يرزقه خير الدنيا والآخرة.

وقد وجَّه سماحة الشيخ - في مفتتح الحوار - نداء شكرٍ وتقديرٍ، فقال: (قبل أن أبدأ أودّ أن أشكركم، وأشكر الإخوة الأجلاء، السادة العلماء، أصحاب الفضيلة، أرباب القلم، الّذين وقفوا أنفسهم للدفاع عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولإيصال الحقائق إلى الأجيال، سيّما في هذا العصر الّذي بدأتْ الأقلام المأجورة تقلِّب الحقائق، وتُبدي الضغينة والأحقاد البدريّة والخيبريّة، وبعضها عادتْ تعلن حربها من جديدٍ على آل بيت الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، من خلال بعض الفضائيّات، وبعض الصحف، وبعض المجلاّت، وبعض الأفراد المشبوهين؛ ففي هذه الفترة والبرهة من الزمن، تتجلى أهمّيّة المجلاّت والمقالات النزيهة، والأقلام الّتي وقفتْ نفسها لخدمة دين الإسلام، وآل بيت الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فهنيئاً لكم، ونسأل الله أن لا يحرمكم في الدنيا والآخرة زيارتهم، وشفاعتهم).

■ هل أنّ حاجز البُعد الزمانيّ بيننا وبين الإمام الحسين (عليه السلام) عذرٌ كافٍ لعدم النُصرة؟ أم أنّنا ما زلنا مكلّفين شرعاً بالنصرة؟ وكيف يمكننا أداء هذا التكليف ونحن في هذا العصر؟

● لو اطّلعنا على أهداف الإمام الحسين (عليه السلام) - سيّما تلك الأهداف الّتي أعلنها في بدء الرفض لسلطة يزيد، ومن جانبٍ آخر لو وقفنا على نوايا الحكم الأمويّ وسياساته اللاإسلاميّة، والظالمة بشأن الأمّة الإسلاميّة، ومواقفه العدائيّة تجاه الإسلام، والرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ طبّقنا الأمرين على الوضع الراهن، ودرسنا الأوضاع من هذا المنظار - لوجدنا أن الثورة الحسينيّة لا زالتْ قائمةً، والمعسكر الحسينيّ لا زال قائماً على قدمٍ وساقٍ، والمعسكرات المناوئة أيضاً تعمل، وبكلّ ما لديها من طاقةٍ.

فنحن لسنا في زمنٍ بعيدٍ حتّى نبحث عن البعد الزمنيّ، بل نحن في زمن الامتداد للمعسكر الحسينيّ، وصرخة الإمام الحسين (عليه السلام): «هل من ناصر ينصرني؟» لا زالتْ تدوّي في الأسماع، فلعلّ هذا السؤال غير صحيحٍ؛ إذ لا يوجد بُعْدٌ في الزمن حتّى نتحدّث عن الحاجز، وعن العذر، بل نحن في نفس العصر والزمن، أمّا الشعارات والأهداف الّتي أعلنها الحسين (عليه السلام):

1) (وإنمّا خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي (صلَّى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين)(1).

2) وقوله (عليه السلام): (أيّها الناس، إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد قال في حياته: «من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعلٍ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسـول الله -صلَّى الله عليه وآله-)(2).

3) وقوله للفرزدق: (أنا أولى من قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا)(3).

4) وفي رسالته لأهل البصرة: (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله، وسنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله)؛ فإنَّ السنّة قد أميتتْ، و إنَّ البدعة قد أحييتْ، وإنْ تسمعوا قولي، وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد)(4).

وعشرات من نظائر هذه الكلمات العطرة القيّمة الصادرة من فم سيّد شباب أهل الجنة (عليه السلام)، ممّا ينبئ ويدلّ على عمق الفاجعة في المجتمع الإسلاميّ، والمحاولات المستمرّة من قبل السلطة لإماتة السنّة، وإحياء البدعة.

هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر إننا ننظر إلى أهداف السلطة، وتصرفاتها الظالمة، كقول بعضٍ ممّن كان يترأّس السلطةَ الأمويّة مخاطباً أهلَ الكوفة: (أترونني قاتلتكم على الصلاة، والزكاة، والحجّ...؟! لكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وآلي رقابكم)(5)، وقوله:(أنا أوّل الملوك)، بعد أن نقيس هذا الكلام إلى كلام الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، حيث قال: (فإذا تحوّل الحكم إلى ملكٍ عضوضٍ يرثه فاجرٌ عن فاجرٍ)، وكقوله(معاوية): (برأتْ الذمّة ممّن روى شيئاً في فضائل أبي تراب، وأهل بيته)، والعشرات من هذه التصريحات الخطرة الّتي هي - بعبارةٍ أخرى- إعلان حربٍ مفتوحةٍ ضدّ الإسلام، والنبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله)، وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).

والحاصل: طالما أنّ أهداف الثورة الحسينيّة هي نصرة الدين، وإعزاز الشرع، وقطع أيدي المتآمرين على الدين و المسلمين باسم الدين، فـ«البعد الزمني» - إن صحّ هذا التعبير - غير مانعٍ، ولا عذر عن الوقوف إلى جانب هذا المعسكر - أعني المعسكر الحسيني -؛ لأنّ هذا الوقوف يُعدّ نصرةً لهذه القيم، وجهاداً ضدّ من هو شارب الخمور، لاعب الفجور، فالثورة الحسينيّة ثورةٌ حيّةٌ على مرّ العصور، وتعطي الحيويّة، والزخم، والاتجّاه الصحيح لمن يريد الدفاع عن الحقّ والحقيقة، فلم تبلَ بمرور الزمن، بل هي مع الزمن، والقضيّة قضيّة الساعة والساحة، فالدفاع عنها ـ والوقوف إلى جانبها ـ هو التكليف الشرعيّ، وأمّا الاعتزال عنها فهو اعتزالٌ عن أداء الواجب، وانخراطٌ في سلك المعسكر الثاني، نعوذ بالله أن نكون من الخوالف الّذين قعدوا عن الجهاد.

■ كيف نوفّق بين موقف مناشدة الإمام العدوَّ أن يعطيه فرصةً للتوجّه إلى أيّ بلدٍ شاء، ولا يبتلي بدمه الطاهر، وبين قوله: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد..)، وخروجه لإيصال مراده بالشهادة؟

● بعد أن عرفنا أهداف الحسين (عليه السلام) من الثورة، وأنّها هي إماتة البدعة، وإحياء السنّة، والصدّ بوجه الظالمين بلغ الأمر ما بلغ، وإن كلّفه الأمرُ نفسَه الطاهرة، وأنّه من المستحيل أن يركع للعدوّ ويصافحه - كما قال: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد) -، فبعد هذه الشفافية، والوضوح، والصراحة في أهداف الثورة الحسينيّة، كل نصٍّ يتعارض مع هذا الموقف فلا اعتبار له، ولا نقيم له وزناً إن لم يمكن توجيهه بما لا ينافي الموقف الصريح له.

وأمّا بالنسبة إلى هذه العبارة الّتي نقلتموها، لعلَّ البعض يسجّله موقفاً آخر مغايراً للموقف الأوّل للحسين (عليه السلام)، ولعلَّ فيه نوعٌ -إن صحّ التعبير- من التراجع، أو نوعٌ من المماشاة، أو المسايرة مع السلطة، فإن كان معنى العبارة هو الّذي فهمناه، رفضنا العبارة، وضربنا بها عرض الجدار، سيّما أن رواتها إنمّا هم المؤرخون، ولم ترد بسندٍ صحيحٍ من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حتّى نقوم بتأويلها، وتوجيهها.

نعم، إنّ البعض قام بتأويل هذه العبارة: بأنّ الإمام (عليه السلام) أراد إلقاء الحجّة على السلطة؛ كي يسلب من أيديهم وإعلامهم المضلّل كلّ النقاط الّتي يمكن أن يشنّوا منها حملةً إعلاميّةً على الإمام، بحيث يتظاهرون بأنّهم أخذوا جانب اللينّ، وفسحوا المجال للإمام الحسين (عليه السلام)، ولكنّه هو الذي بدأ، كما أنّهم قاموا بهذا التضليل الإعلاميّ: قاموا بالتعبير عن الإمام الحسين (عليه السلام) بالخارجيّ.

أمّا تاريخيّاً فهذا النصّ قد ورد في تاريخ الطبريّ، وهنا عندي ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: الإشارة إلى نصٍّ عن عقبة بن سمعان، الّذي كان مصاحباً للإمام (عليه السلام) من المدينة إلى العراق، إذ روى هذا النصّ، ولعلَّه يُروى عن غيره أيضاً، لكن مرسلاً، أو أخذا من عقبة، وإليك النصّ، قال عقبة: «صحبتُ حسيناً، فخرجتُ معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمةٌ بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتُها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس، وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب إلى هذه الأرض العريضة، حتّى ننظر ما يصير أمر الناس»(6)، والملاحظ أنّ السلطة بدأتْ تعمل من خلال أيادٍ خبيثةٍ، وأقلامٍ فاسدةٍ مأجورةٍ، ببثّ ما يشين، وما لا يليق بمقام الحسين (عليه السلام)، ممّا يشير إلى - نعوذ بالله - الذلّ بالنسبة إلى مقام الحسين (عليه السلام)، فترى ابن سمعان ينكر هذا النوع من الإشاعات الّتي وراءها السلطة الفاسدة، فتراه يركّز على مسألة الذهاب إلى الأرض العريضة.

ونحن نأخذ من هذه الرواية، ونردّ الذيل بقرينة الصدر، فنقول: إن كان هذا القول - (دعوني فلأذهب إلى هذه الأرض العريضة) - لا يتناسب مع مقام الإمام (عليه السلام)، وأهداف ثورته، وقيمه العالية، فهو مردودٌ؛ لأنّه مصداقٌ لما يتذاكر الناس، وما يزعمون على حدّ قول ابن سمعان.

والملاحظة الثانية: بالنسبة إلى تاريخ الطبريّ الّذي قد يُقال فيه: إنّه من أمتن التواريخ، وأدقّها، والمعروف بتاريخ الأمم والملوك، فإنّه وإن أطْرَوهُ لكنّه - أي الطبريّ- مؤرّخٌ في غاية العصبيّة، إن لم نقل إنّه - تاريخ الطبريّ- تأليفٌ لصالح السلطة، لا أقلّ إنّه لم يكتب لصالح الحقّ، وللدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام).

إن لم نقل: إنّه كان يماشي، ويساير، ويطلب رضا السلطة، لا نستطيع أن نقول: إنّه كان يُكتب لرضا الله، ولرضا نبيّه (صلَّى الله عليه وآله)، ورضا أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وعندي شواهد على ذلك، فالرجل وإن قالوا: إنّه كان دقيقاً في النقل، ولكنّه كان سيّئاً في انتقاء النقل والأقوال، ولم تكن له سليقةٌ سليمةٌ في اختيار النقل، هذا ما قالوه، ولكنّي أراه سيِّئاً في الرأي قبل أن يكون سيّئاً في اختيار النصوص، فمثلاً:

المورد الأول: في أسباب مسير المصريّين في مخالفتهم مع حكومة المدينة، لم يذكر رأي المخالف، ولم يذكر رأي الطرفين، بل اكتفى برأي العاذرين معاوية، فيقول: (روى الآخرون أموراً شنيعةً كرهتُ ذكرها)، فلم يذكر رأي الآخرين، ولكنّه يقول: (أمّا العاذرون معاوية)، فيذكر رأيهم في أمر أبي ذرّ الغفاريّ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام(7).

المورد الثاني: في رواية ابن عبّاسٍ يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! مع أنّ الواقديّ أورد الرواية في طبقاته، والبخاريّ أوردها مع تصريحه بمن منع الدواة والكتف، لكنّ الطبريّ يحذف اسم من منع، فقال: (إنّ الرجل ليهجر).

في مورد ثالث: يملأ كتابه من أخبارٍ قطعيَّة الكذب، وخلاف تواتر السِّيَر، وهي أخبارٌ عن السريّ، عن شعيب، عن سيف بن عمر، الّذين رماهم كلّ علماء الرجال من العامّة بالكذب، والضعف، وكذلك شعيب، ولكنّ الطبريّ حشّى كتابه من أكاذيبهم، مثلاً يقول راوياً عن سيف: (إنّ أبا بكرٍ بويع يوم أن مات النبيّ، ولم يخالف عليه أحدٌ إلا مرتدّ، ومن كاد أن يرتدّ، وإنَّ عليّاً كان في بيته، إذ أُتيَ فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج بقميصٍ ما عليه إزارٌ ولا رداءٌ، - عجباً، يعني خرج بسرعةٍ - كراهيةَ أن يُبطئ عنها، حتّى بايعه)(8)، مع أنّ الواقع غير هذا، كما صرّح به البخاريّ وغيره.

وكتب أيضاً أنّ سعد بن عبادة بايع أبا بكرٍ، وأنّ مخالفته أوّلاً كانت فلتةً كفلتات الجاهليّة، مع أنّ الواقع غير هذا، فإنّه خرج إلى الشام، ولم يبايعْ، فلاحقته السلطة، واغتالته، ثمّ أشاعتْ بأنّه قتيل الجنّ، كما صرّح بذلك القرطبيّ في العقد الفريد(9).

المورد الرابع: ينقل عن سيف الكذّاب، أنّ أبا ذرّ طلب بنفسه من عثمان الخروج إلى الربذة، وأنّ عثمان أقطعه صرمةً من الإبل، ومملوكين، وأرسل إليه أن يعاهد المدينة حتّى لا يرتدّ أعرابيّاً، وكره عثمان لأبي ذرّ تعربه بعد الهجرة، فالقضيّة ليست قضيّة تسفيرٍ، وإبعادٍ، وتهجيرٍ لأبي ذرّ إلى الربذة، بل قضيّة الخروج بنفسه مع عدم رضى السلطة(10).

المورد الخامس: يروي أنّ الوليد بن عقبة افتروا عليه بشربه الخمر، وأنّ عثمان قال له: يا أخي، نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر(11). يعني: أنّ سيفاً يبرِّئ الوليد بن عقبة.

المورد السادس: يروي عن سيف خبر: «كلاب الحوأب»، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قالها في أمّ زمل، لا في عائشة(12). إلى غير ذلك.

فمن يروي في كتابه هذه القضايا، الظاهر عليها الكذب، وقلب الحقائق، ومن يعتمد في كتابه على أمثال سيفٍ الّذي قال فيه يحيى بن معين: (فلسٌ خيرٌ منه)، فمن الطبيعيّ – والمُسلَّم، والأكيد - ألاّ يؤخذ بما يرويه من خدشٍ بشأن أهل البيت (عليهم السلام)، وأكرّر، وأعيد: إنّ هذه العبارة الّتي يرويها الطبري - (دعوني فلأذهب إلى هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس) - لو كان يلوح منها أمارات الذلّ، والضعف، والانعطاف نحو السلطة الأمويّة الدمويّة، فهي بعيدةٌ كلّ البعد عن أبي الأحرار الشهيد، وهي من دسائس السلطة، إن لم يمكن توجيهها بنحوٍ آخر.

■ لماذا نبكي على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو الّذي سعى إليها لأنّها هي الفوز، والحياة؟ أليس من الأولى أن نفتخر بالإمام (عليه السلام)؛ لأنّه نال الشهادة، وحقّق مراده، ونفرح بانتصار الدم على السيف؟

● سأعطيكم جوابين، أحدهما نقضيٌّ، والآخر حلِّيٌّ:

1) أما النقضيّ: فقد استشهد الكثيرون في عهد الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في الحروب، ونالوا الشهادة، كما في بدرٍ، وأحدٍ، وفي البعثات الّتي بعثها الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) إلى التبليغ، ثم قُتِلَ المبعوثون، كما في قصّة رجيع وبئر معونة، وقد نالوا الشهادة، حمزة أيضاً نال الشهادة، وجعفر فاز فوزاً عظيماً، لكنَّ النبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله) بكى عليهم، فقد قال في حمزة: (أمّا حمزة عمّي لا بواكي له)، وفي جعفر: (فعلى مثل جعفر فلتبكِ البواكي)، وبكاؤه وتألمّه على سعد بن ربيع، حيث دمعت عينا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونظائره، أيضاً يمكن أن ننقض على ذلك ببكاء أمير المؤمنين (عليه السلام) على مالك الأشتر، مع أنّه فاز بالشهادة، فالفوز ونيل الدرجة العالية لا يمنعان العينَ من الدمع والقلبَ من التألم.

أعطيكم مثالاً: إنّ الأمّ المفقود ولدها إذا أُرجع لها ولدها بعد فترةٍ نراها تبكي، فهل هذا البكاء في محلّه؟! هل يحقّ لأحدٍ أن يمنعها من البكاء فيقول لها: (اضحكي، وافرحي)؟! وهل هذا منطقٌ مقبولٌ؟! إنّ بكاءها ليس بكاء العجز، بل بكاء عاطفة، إنّ البكاء على الحسين (عليه السلام) لم يكن بكاء العجز والضعف حتّى يلام الباكي على بكائه، بل بكاء عاطفةٍ، إنّ ما بين الجوانح ليس حجراً حتّى يكون قاسياً، بل هو قلبٌ يتصدّع، يتألمّ، يتحسّس حينما يسمع ما جرى على آل الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، لا أنسى كلام أبي ريحان البيرونيّ في الآثار الباقية حيث قال: (في اليوم العاشر، اتّفق فيه قتل الحسين، وفُعل به – وبهم - ما لم يُفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق، من القتل، والعطش، والسيف، والإحراق، وصلب الرؤوس، وإجراء الخيول على الأجساد)(13).

فيا ترى هل أنّ القلب - حينما يقف أمام هذه الحقائق المرة - يبتهج ويفرح؟! فإن ابتهج فهو مصداق الآية: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(14)، كيف وقد بكى الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، وعليّ بن أبي طالب، وفاطمة، وأصحاب الرسول على الحسين قبل الحادثة بمجرّد أن أشار النبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله) إلى مشهدٍ من مأساة كربلاء، ويكفيك كتاب: «سير أعلام النبلاء للذهبي، الجزء الثالث»، فإنّه مليءٌ بروايات بكاء النبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله) على الحسين، حينما نزل جبرئيل (عليه السلام) وأخبره بما يجري، وكذلك بكاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) على الحسين مدّة حياته بعد كربلاء، حتّى عُدَّ من البكائين الخمسة، وبكاء الإمام الباقر (عليه السلام)، حتّى أنّه أوصى بإقامة المأتم بعده في منى لمدّة عشر سنواتٍ، وبكاء الإمام الصادق (عليه السلام)، سيّما يوم عاشوراء، كما عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولا ننسى كلام الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأورثنا الحزن إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون»، وبكاء الإمام المهدي (عليه السلام) صباحاً ومساءً كما في زيارة الناحية، الّتي حقّقنا صحّتها في أبحاثنا في الحوزة العلميّة، ونشر تقرير بحثنا في بعض المجلاّت التخصّصيّة.

■ كيف كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي العنصر الّذي أبقى الإسلام؟

● إنّ من يراجع التاريخ وسياسة الحكم الأمويّ - سيّما بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى يوم تسلُّمِ يزيد الخلافة، وتسلّطه على رقاب الناس - يتبادر إلى ذهنه حديث الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أنّه لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فترى المظاهر الإسلاميّة من إقامة صلاة الجمعة و الجماعة، ولكنّ السلطة وأياديها هم المتآمرون على الدين، وهم أبعد الناس عن القيم الإسلاميّة؛ فتراهم يزاولون المنكرات، ويبتعدون عن المعروف، ويروّجون للمنكر، إلى حدٍّ التبس على الناس أمرهم، وظنّوا أنّ هذا هو الإسلام جملةً وتفصيلاً، فلو لا الثورة الحسينيّة، ورفضها لهذه المظاهر والسياسة العدائيّة، وإعلان الوقوف بوجهها بقيادة سيد شباب أهل الجنّة، الّذي لا يشكّ أحدٌ في سموّ مقامه وجلالته، ولو لا هذه الثورة - وبقيادة هذه الشخصيّة - لالْتبس الأمر، ولضاعتْ الحقائق، ولمُوّه على الناس، والْتبس عليهم، وظنّوا أنّ الإسلام هو هذا الّذي يُشِيعُه الأمويّون، فالحسين (عليه السلام) بثورته ونهضته أعلن للعالم أنّ هناك إسلاماً آخر غير ما يذيعه ويشيعه الآخرون، وهو إسلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وإسلام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو الإسلام الّذي قال عنه الله (عزَّ وجلَّ) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ}(15)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرين}(16)، فالحسين (عليه السلام) بثورته حاول الحفاظ على هذه القيم، وهذا النوع من الإسلام، بلغ الأمر ما بلغ، وإن كلّفه الأمر نفسَه.

■ في زيارة الناحية يقول الإمام الحجّة (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف): (فَلَمَّا رَأَيْنَ النِّسَاءُ جَوَادَكَ مَخْزِيّاً، وَنَظَرْنَ سَرْجَكَ عَلَيهِ مَلْوِيّاً، بَرَزْنَ مِنَ الخُدُورِ، نَاشِرَاتِ الشُّعُور،ِ عَلى الخُدُودِ لاطِمَاتُ الوُجُوه السَافِرَات، وبالعَوِيلِ دَاعِيَات، وبَعْدَ العِزِّ مُذَلَّلاَت، وإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَات). كيف لبنات الطهر والعفاف فعل هذه الأمور وهم على هذه الحالة يخرجن إلى مصرع الإمام الحسين (عليه السلام)؟

● أوّلاً - في رأيي القاصر - لا شبهة في اعتبار «زيارة الناحية»، وصدورها من الناحية المقدسة، وقد بحثنا في ذلك من خلال أبحاثنا التخصّصيّة في مركز الأبحاث التخصّصيّة في المهدويّة من الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة، وأنّ هذه الزيارة يرويها ابن مشهديّ، ويصرّح في مقدّمة كتابه أنّ ما في هذا الكتاب يرويه عن الثقات عن المعصومين (عليهم السلام).

هذا من ناحية السند، وأمّا العبارة هذه فلقد سألتُ أستاذي بالنسبة إليها، وأجاب بأنّه ليس من الضروريّ أن يكون نشر الشعر بنحوٍ مكشوفٍ، بل من وراء الحجاب والستار - كما هو عادة نساء العرب من نشر شعورهنّ حين عروض المصيبة، ولكن تحت الستر والحجاب -، وهذا ما نتبناه نحن، أضف إلى ذلك أنّ الخدور والخيم لم يكن فيها رجالٌ إلاّ وقد استشهدوا غير الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والّذي كان في الخيمة، وهذه الصورة تُنقل عند مجيء الفرس، لا أنّهنّ خرجن إلى المصرع بهذا الزيّ، وهذه الطريقة، فالواقع أنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يرسم عمق الفاجعة، فهذه الحالات والمواصفات ترتبط بظرفٍ خاصٍّ، وهو حين مجيء الفرس، ومشاهدة النساء الجواد مخزيّاً، وليستْ هذه مرتبطة بقوله: (وإلى مصرعك مبادرات)، وعلى فرض ظهور العبارة فلا بدّ من التأويل، كيف وهنّ بنات الوحي والرسالة، وهنّ أحقّ وأولى من غيرهنّ بمراعاة حدود الشرع والشريعة الّتي هي هدفٌ من أهداف ثورة الحسين (عليه السلام).

■ قامت على مدى التاريخ ــ البعيد والقريب ــ ثوراتٌ، ومن المعلوم أنّ لكلّ ثورةٍ رسالةً تريد إيصالها، ولكنْ لماذا اختصّتْ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بإيصال رسالتها إلى مدى بعيدٍ جاوز الأزمان والأجيال؟ وما هي هذه الرسالة الّتي أرسلها الإمام الحسين (عليه السلام) إلينا؟

● رسالة الحسين (عليه السلام) عنوانها واضحٌ، وهو: «هيهات منّا الذلّة»، فحينما خيَّروه بين السلّة والذلّة قال: «ألا وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة»، وعنوان رسالة الحسين (عليه السلام) هو: «لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»، والحسين صمد تحقيقاً لهذا العنوان بلغ الأمر ما بلغ، كما نسب إلى الإمام (عليه السلام):

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكَ

                        وأيتمتُ العيالَ لكي أراكَ

 

فلو قطّعتني بالحبّ إرباً

                        لما مال الفؤاد إلى سواكَ

 

هذه هي رسالة الحسين (عليه السلام)، والّتي هي امتدادٌ لخطّ جدّه الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله).

وخطّ الحسين ونهجه هو: المحافظة على بقاء هذا الخطّ، وألاّ تناله يد التحريف والتزييف كما هو شأن الأمويّين، سيّما في فترة ما بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الثورة الحسينيّة؛ حيث قاموا باجتثاث جذور الإسلام، وشنّوا حرباً واسعةً على المؤمنين، بحيث لم يبق مؤمنٌ إلا وهو خائفٌ، أو طريدٌ، أو مسجونٌ، كما في احتجاج الطبرسيّ: أنّه لمّا استشهد الحسن (عليه السلام) ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق وليٌّ إلا خائفٌ على نفسه، أو مقتولٌ، أو طريدٌ، أو شريدٌ، فالرسالة الحسينيّة، والثورة الكربلائيّة هي إعادةٌ لعزّة المسلمين، وكرامتهم، وضعضعةٌ لأركان الظلم، وعروش الظالمين، وبما أنّ الإسلام دينٌ أبديٌّ، فالّذي يحاول ويجاهد - وبكلّ ما لديه - لإحياء هذا الدين، وإبقائه، وإنقاذه من براثن المتآمرين، تبقى ثورته خالدةً مشرقةً على مرّ العصور، وهذا هو سرّ خلود الثورة الحسينيّة، وتجدّدها على مرّ الزمن؛ لأنّها ثورةٌ تمسّ الصميم، ثورةٌ لإحياء المبادئ، والقيم الإسلاميّة الّتي هي مع الفطرة السليمة، وهي في الواقع ثورةٌ متعاطفةٌ مع فطرة الناس، الّتي فُطر الناسُ عليها، وهذا ما يوجب خلودها؛ لأنّ الإسلام «محمّديُّ الحدوث، و حسينيُّ البقاء»، ولو لا الثورة الحسينيّة لما بقي أثرٌ من الإسلام المحمّديّ؛ لأنّ الأمويّين كانوا يروّجون إسلاماً متناسباً مع أهوائهم، ومصالحهم، ونواياهم، فكيف نطلق على ما يروّجون اسمَ إسلام النبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله)؟! وقد كان يسبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) - الّذي قال فيه:(عليٌّ منّي، وأنا منه)(17) - على المنابر علناً، بينما كان مدحه وذكر فضائله تعدّ جريمةً وذنباً لا يغفر! هذا هو رمز بقاء الثورة الحسينيّة، والثورات الّتي تعقّبت هذه النهضة إذا كانت في نفس الاتجاه وبنفس الأهداف، فهي مستمدّةٌ من كربلاء، وكان لها الأثر في تجديد خواطر النهضة الحسينيّة، وتأثيرها على ضعضعة أركان حكم الظالمين، وفضحهم، وتشهيرهم.

■ لماذا كلّ هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء الحسينيّ، وللبكاء، ولذرف الدموع، حتّى على مستوى دمعةٍ واحدةٍ، بل حتّى على مستوى التباكي؟

● (من بكى أو تباكى أو أبكى)، وإن لم يرد حديثٌ بهذا النصّ، لكنْ ورد بهذا المضمون، ونقله علماء الفريقين، ولعلَّ المقصود أنّه يؤدّي إلى الفوز، والنجاة، والتوبة، وحسن العاقبة، وبالتالي يموت نقيّ الثوب، طاهر السريرة، ومن الطبيعيّ أنّ من لقي الله على هذه الحالة فعاقبته الجنّة.

إنّ البكاء - أو التباكي، أو الإبكاء، أو كلّ ما يكون من هذا المقال أو المقولة- عبارةٌ عن التعاطف مع الأجواء الحسينيّة، وأهداف النهضة، والانقياد لقائدها، ولقيم النهضة ومبادئها، بل أكثر من ذلك، فهو عبارةٌ عن التواجد في المعسكر الحسينيّ، وإعلان الانقياد، والجهاد تحت رايته، ومن كانت هذه نيّته، وهذا كلّ ما في سريرته، وهذا عمله، فهو لا زال في عبادة الله (عزَّ وجلَّ)، وطاعته، «نَفَسُ المهموم لحزننا عبادة»(18)، فمن كان في عبادة الله، قام لله، جاهد في سبيل الله، {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى‏ وَفُرادى‏}(19)، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(20)، فإذا كان البكاء تعبيراً آخر عن هذا الموقف الجهاديّ، ودعماً وتأييداً للنهضة الحسينيّة، وإظهاراً للتبرّي ممّا ارتكب في شأنه، وفي حقّه، وحقّ أولاده، وحقّ أصحابه، فلا شكّ أنّها عبادةٌ، ومن أفضلها، وهذا الشخص - بهذه المواصفات - يستحقّ الجنّة؛ لأنّه في عبادة الله (عزَّ وجلَّ)، ورضاه، فمسكنه رياض الجنّة، ورضوان الله، وهنيئاً له جوار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).

■ ورد في مقتل الخوارزميّ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قال لعبيد الله بن الحر: قد سمعتُ جدّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: (من سمع بواعية أهل بيتي ثمّ لم ينصرهم على حقّهم، أكبّه الله على وجهه في نار جهنم)، وفي ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق (قدِّس سرُّه) قال عمر بن قيس المشرقيّ: (دخلت على الحسين أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أبا عبدالله، هذا خضابٌ أو شعرك؟

فقال (عليه السلام): خضابٌ، والشيب إلينا ــ بني هاشم ــ يعجل.

ثمّ أقبل علينا، فقال: جئتما لنصرتي؟

فقلتُ: إنّي رجلٌ كبير السنّ، كثير الدَّيْن، كثير العيال، وفي أيدينا بضائع الناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيّع أمانتي. وقال ابن عمّي مثل ذلك.

قال لنا: فانطلِقا، فلا تسمعا لي واعيةً، ولا تريا لي سواداً، فإنّه من سمع واعيتنا، أو رأى سوادنا، فلم يجبنا، ولم يُعِنَّا، كان حقّاً على الله (عزَّ وجلَّ) أن يكبّه على منخريه في النار). ما هي هذه الواعية؟

● قالها الإمام الحسين (عليه السلام) إتماماً للحجّة، وإلقاءً لها، كي لا يحتجّ أحدٌ يوم القيامة بأنّي لم أسمع بخروج الحسين، ومقصده، وهدفه، ومأربه، والحسين (عليه السلام) - في احتجاجه مع عمر بن قيس، وغيره - أتى بهذه الكلمة أو بمضمونها، كما قالها ـ كلمة الواعية ـ لهرثمة بن سليم على ما في وقعة صفّين لنصر بن مزاحم (متوفىّ 212هـ)، يقول: غزونا مع عليٍّ (صفين)، فلمّا نزلنا بكربلاء صلّى بنا صلاةً، ولمّا سلّم رفع إليه من تربتها، فشمّها، ثمّ قال: واهاً لكِ أيّتها التربة، ليُحْشَرَنّ منكِ قومٌ يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، فلمّا رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته، وكانت شيعةً لعليٍّ، فقال لها هرثمة: ألا أعجبك من أبي الحسن، لمّا نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها، فشمّها، وقال: «واهاً لكِ أيّتها التربة...»، وما علمه بالغيب؟! فقالتْ: دعنا منك أيّها الرجل، فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلاّ حقّاً. فلمّا بعث عبيد الله بن زياد البعث الّذي بعثه إلى الحسين وأصحابه، قال: كنتُ فيهم، وفي الخيل الّذي بُعث إليه، فلمّا انتهيتُ إلى القوم، والحسين، وأصحابه، عرفتُ المنزل الّذي نزل بنا عليٌّ فيه، والبقعة الّتي رفع إليه من ترابها، والقول الّذي قاله، فكرهتُ مسيري، فأقبلتُ على فرسي، حتّى وقفتُ على الحسين، فسلّمتُ عليه، وحدّثتُه بالّذي سمعتُ من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: معنا أنت أو علينا؟ فقلتُ: يا بن رسول الله، لا معك ولا عليك، تركتُ أهلي وولدي، أخاف عليهم من ابن زيادٍ. فقال الحسين: فولِّ هرباً؛ حتّى لا ترى لنا مقتلاً، فوالّذي نفس محمّدٍ بيده، لا يرى مقتلَنا اليوم رجلٌ ولا يغيثنا - في بعض النسخ: لا يعيننا - إلا أدخله الله النار، قال: فأقبلتُ في الأرض هارباً، حتّى خفي عليّ مقتله(21)، بهذا المضمون، وقوله (عليه السلام) لعمر بن قيس: «من سمع واعية أهل بيتي....» بمعنى واحدٍ؛ لأنّ الواعية في اللغة - كما في النهاية لابن الأثير، ومجمع البحرين للطريحيّ – هي: الصراخ على الميت، أو النعي، ولا يبنى منه فعلٌ. وقيل: الوعى: كالوغى، الصوت الشديد.

فالمراد بالواعية هنا هو صراخ أهل البيت، وبكاء زينب، «وهي المخدّرة الّتي كانت إذا أرادتْ زيارة قبر الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) - كما رواه يحيى المازنيّ، الّذي كان جارها في المدينة على ما في كتاب الشيخ جعفر التستريّ - كانت تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين قدّامها، فإذا اقتربوا من الحرم الشريف، يأمر أمير المؤمنين الإمام الحسن بإطفاء السراج، ويقول: لا أريد أن يقع نظر أحدٍ إلى شخص زينب»، فمن كانتْ بهذه المثابة والدرجة، فإذا بها - وبسائر نساء بني هاشم، بنات الرسول - يصرخن، ويندبن، كما في زيارة الناحية: (فبالعويل نادبات)، فمن يرى هذه الحالة المأساويّة، المقرحة للقلوب، والجفون، ولم يهتمّ بالذبِّ والدفاع عن أهل البيت، ونصرتهم، من الأكيد أنّه من أهل النار، كيف وقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «من سمع رجلاً ينادى: يا للمسلمين. فلم يجبه، فليس بمسلمٍ»؟! فكيف والنادبات الصارخات المستغيثات هنّ من آل الرسول، وبنات فاطمة وعليّ؟! والمصيبة والفاجعة العظمى هي مصيبة استشهاد مَنْ هو مِنَ الرسول، والرسول مِنه، «حسينٌ منّي وأنا من حسينٍ»، وكما قالتْ زينب: «ويلكم يا أهل الكوفة، أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأيّ دمٍ له سفكتم؟!»، هذه الواعية الّتي من لم يلبِّ طلبها، ولم ينصرها، فهو مسلوب الإيمان، والعقيدة، ومسلوب الإنسانيّة، ومن كان هكذا، من المعلوم أنَّ مصيره إلى النار، كما قال الحسين (عليه السلام): «أن يكبّه على منخريه في النار».

■ إلى ماذا يرمي الإمام الحسين (عليه السلام) من الاستنصار، والاستغاثة، ومن الترخيص لأصحابه، والإذن بالانصراف؟

● أوّلاً: إنَّ أصحاب الحسين الّذين نصروه إلى آخر قطرة دمٍ، هم من خير الأصحاب، ولا يُقاس بهم أحدٌ، كما صرّح بذلك الحسين بن عليّ (صلَّى الله عليه وآله): «إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى - ولا أبرّ - من أصحابي»، فالترخيص والإذن بالانصراف لهؤلاء ليس إلاّ تأييداً لما قاله، من أنّهم من خير الأصحاب، وأبرّهم، لكي تنتقل - وتتناقل - الصورة إلى الأجيال، كيف أنّهم صمدوا، ووقفوا، وجاهدوا دفاعاً عن الحقّ والحقيقة، وكيف هو عزْمُهُم على التضحية في سبيل الإسلام، والدفاع عن آل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إلى أن فازوا بالشهادة.

ثانياً: إنّ الاستغاثة والاستنصار بهم كان بعد استشهادهم كما في التواريخ، ولمّا نظر إلى مَنْ حوله وهم مجزّرين، قتلى، صرعى، ناداهم: «مالي أناديكم فلا تجيبون؟! وأدعوكم فلا تسمعون؟! أأنتم نيامٌ؟! أم ذهبت حميّتكم؟!» فتحرّكت الأجساد، هذا شاهدٌ ثانٍ على وفائهم، وصلابتهم، وما يقال في رجوع البعض ليلة عاشوراء والانصراف فإنّه لم يثبتْ، كما أنّ وصف الإمام الحسين (عليه السلام): «إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى - ولا أبرّ - من أصحابي» - وما ورد في الروايات عنهم، وأنّهم من أجلِّ الأصحاب، وأعلاهم درجةً يوم القيامة - لا ينسجم مع ترديده في النصرة، فكيف بعزمه على الرجوع وترك الانتصار؟!! والنتيجة: أنّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يلقي الحجّة، ولكي لا يبقى أيّ مستمسكٍ لأحدٍ لأنْ يتفوّه بكلمةٍ غير مدروسةٍ في أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فيقول: إنّهم شاركوا جبراً، أو حياءً، وعالجوا الموت بأسيافهم، وأمثال هذا الكلام الفارغ الّذي كان يشيعه عملاء الأمويّين بالأمس، وأذنابهم في هذا اليوم.

كيف يكونون متردّدين في نصرة الحسين وقد فدّاهم الإمام الصادق (عليه السلام) بنفسه، وأبيه، حين وقف أمام ضريحهم المقدّس، وقال: «بأبي أنتم، ونفسي»؟! نسأل الله (عزَّ وجلَّ) أن ينورِّ قلوبنا بنور معرفته، والاهتداء بهداهم، واتِّباع سبيلهم، والحشر معهم، والنيل من شفاعتهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

* الهوامش:

(1) البحار، ج44، ص 329 ـ 330.

(2) البحار. ج 44، ص 382/ الطبريّ، باختلافٍ يسيرٍ، ج 4، ص302.

(3) تذكرة الخواصّ، الطبعة الجديدة، ج1، ص216.

(4) الطبريّ، ج 4، ص266.

(5) صلح الحسن (عليه السلام)، ص285.

(6) الطبريّ، ج4، ص313.

(7) تاريخ الطبريّ، ج4، ص283.

(8) تاريخ الطبريّ، ج3، ص207.

(9) العقد الفريد، ج4، ص260.

(10) تاريخ الطبريّ، ج4، ص284.

(11) تاريخ الطبريّ، ج4، ص247.

(12) تاريخ الطبريّ، ج3، ص263.

(13) الآثار الباقية، ص292.

(14) البقرة: 74.

(15) آل عمران: 19.

(16) آل عمران: 85.

(17) رواه البخاريّ ج3، ص368، بلفظ: «أنت منّي، وأنا منك».

(18) ورد في الكافي، ج2، ص226، عن الإمام الصادق (عليه السلام) بلفظ: «نفس المهموم لنا – المغتم لظلمنا – تسبيحٌ، وهمّه لأمرنا عبادةٌ، وكتمانه لسرّنا جهادٌ في سبيل الله»، وفي غير الكافي بألفاظ أخرى.

(19) سبأ: 46.

(20) الصفّ: 10-11.

(21) وقعة صفّين ص140.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا