بسم الله الرحمن الرحيم، و الصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله آل الله، وعلى بقيّة الله، روحي وأرواح العالمين له الفداء...
تمهيد
التاريخ البشري قد شهد ما لا يُحصى من الثورات والانتفاضات ضد الظلم والظالمين، فالإنسان بطبعه باحث عن العدالة، باحث عن الحريّة، باحث عن التحرر من قيود الأهواء والأطماع الجشعة، باحث عن التحرر من قيود الأنفس التي بالدنيا مولعة، ولكن لم يبقَ ذكر لكثير منها، فالثورات التي اعتمدت على الشعارات الوقتيّة الزائفة لكي تجذب بها قلوب الشعوب المستضعفة، ما إن تظفر بالحكم فإذا بها ترمي بكلّ تلك الشعارات وراء ظهرها، فتراها تستعبد الشعوب، وتحطّم القلوب، وتغدو غدّة سرطانية في جسد الأمة. بينما وجدت في التاريخ ثورات ونهضات بُنيت على الأسس الإلهيّة القويمة، والرؤى السماويّة الرّشيدة، وأعظم ثورة من بين هذه الثورات هي تلك الثورة الحسينيّة الخالدة، التي بقيَ الدّهر لوقائعها ذاكراً، ولمبادئها حافظاً، كيف لا، وهي التي جعلت كلّ ثورة جاءت بعدها مطأطأة الرأس لها، خاضعة لدروسها، وحكمها.
وكما هي العادة جارية منذ القدم، فإنَّ كلَّ حركة نهضوية تعطي المجتمع الروح، والإرادة، والعزيمة، تواجه بسيل عارم من المشكّكات في مصداقيتها، وبالكثير من الخرافات التي تنسب إليها؛ لتهبط قيمتها، ويقلّ في المجتمعات أثرها، لكنَّ الثورة الحسينيّة ظلّت صامدة في وجه كلّ ذلك، ولم تؤثر فيها الفتن، ولا أباطيل الزمن.
ولو أردنا الوقوف على عامل خلود النهضة الحسينيّة، فالعامل الأساسي هو الألطاف الإلهية، والعناية الملكوتية، ومن هذه الألطاف هو وجود العلماء الربّانيين، والفقهاء الصالحين، الذين بهم يُحفظ قوام الدّين، وتردّ بهم شبهات المنكرين. على هذا الأساس تلتقي مجلة رسالة القلم مع سماحة آية الله السيد علي الميلاني(حفظه الله) لتبحث معه بعضاً من التساؤلات التي يطرحها البعض حول عاشوراء.
■ سماحة السيد..هناك تساؤل يدور في أذهان المؤمنين عادة، وذلك حينما يسمعون بغدر أهل الكوفة بالإمام الحسين(عليه السلام) بعد أن أعطوه العهود والمواثيق، فهم يتساءلون عن حقيقة أهل الكوفة، فهل كان الذين كتبوا للإمام(عليه السلام) شيعة، أم أنّ بعضهم شيعة والبعض الآخر ليس كذلك، أم لم يكن بينهم شعية أصلاً؟!
● الإمام الحسين(عليه السلام) كان في ريب من تلك الكتب التي وصلته من أهل الكوفة، فقد صرّح بأنّ أصحابها سوف يقتلونه، جاء ذلك في ما رواه يزيد الرشك عمّن رآه الإمام في الطريق، وفي رواية أخرى -رواها البلاذري- قال(عليه السلام): «ما كانت كُتب من كتب إليَّ في ما أظنّ إلا مكيدة لي، وتقرّباً إلى ابن معاوية بي»(1).
وإذا أردنا أن نتعرّف على أصحاب هذه الكتب نقول: إنّ أوّل كتاب ذُكرت أسماء أصحابه فيه -فيما نعلم- هو الكتاب الذي أرسله: سليمان بن صرد، المسيّب بن نجبة، رفاعة بن شدّاد، حبيب بن مظاهر.
ومن الذين كتبوا إليه(عليه السلام) جماعة ناشدهم الإمام(عليه السلام) في يوم عاشواء، وهم: (شبث بن ربعي، حجّار بن أبجر، قيس بن الأشعث، يزيد بن الحارث)، حيث قال لهم الإمام(عليه السلام) في يوم عاشوراء:«ألم تكتبوا إليّ؟»، فقالوا:لم نفعل(2). وقد كذبوا -عليهم لعنة الله-، فقد جاء في الأخبار أنّه بعد أن استشهد الإمام(عليه السلام)، قال ابن سعد لشبث بن ربعي: «انزل فجئني برأسه! فقال: أنا بايعته ثمّ غدرتُ به، ثمّ أنزل فأحتزّ رأسه؟! لا والله لا أفعل ذلك. قال: إذاً أكتب إلى ابن زياد، قال: اكتب له!»(3).
ومنهم: عمر بن الحجاج الزبيدي، وهو أبو زوجة هاني بن عروة، وهو الذي قاد العسكر لاحتلال الفرات، وقطع الماء عن أهل البيت ومعسكر الإمام. ومنهم: عزرة بن قيس الأحمسي، وهو الذي أراد ابن سعد أن يبعثه رسولاً إلى الإمام (عليه السلام) فأبى؛ لأنَّه كان ممّن كتب إليه بالقدوم. ومنهم: محمد بن عمر التميمي. ولدى التحقيق يتبيّن أنّ الذين كتبوا إليه ينقسمون إلى قسمين:
1- قسم كانوا شيعة للإمام(عليه السلام)، وهم: سليمان بن صرد وجماعته، وفراس بن جعدة.
2- قسم لم يكونوا شيعة للإمام(عليه السلام)، وهؤلاء على قسمين:
أ- الخوارج، أمثال «شبث بن ربعي».
ب- حزب بني أميّة، أمثال «حجّار بن أبجر».
■ يزيد بن معاوية شخصيّة تسالم علماؤنا على كفرها وخروجها عن الدّين والملّة، فهل هذا الأمر مختص بالطائفة، أم أنّ هناك من أهل السنّة من قد أفتى بذلك أيضاً؟!
● هناك الكثير من علماء أهل السنّة ممّن قد أفتوا بكفر يزيد وجواز لعنه، وفي المقام نذكر كلاماً لبعض من علماءهم:
* قال ابن الجوزيّ الحنبلي: «سألني سائل في بعض مجالس الوعظ عن يزيد بن معاوية وما فعل في حقِّ الحسين صلوات الله عليه، وما أمر به من نهب المدينة، فقال لي: أيجوز أن يُلعن؟ فقلت: يكفيه ما فيه، والسكوت أصلح. فقال: قد علمتُ أنّ السكوت أصلح، ولكن هل تجوز لعنته؟ فقلت: قد أجازها العلماء الورعون، منهم: أحمد بن حنبل»(4).
* قال شهاب الدين الآلوسي البغدادي بتفسير قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(5) ما ملخصه: «واستدلّ بها أيضاً على جواز لعن يزيد -عليه من الله تعالى ما يستحق-: نقل البزرنجي في الإشاعة، والهيثميّ في الصواعق، أنّ الإمام أحمد لمّا سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال: كيف لا يُلعن من لعنه الله تعالى في كتابه؟! فقال عبد الله: قد قرأت كتاب الله(عزّ وجلّ) فلم أجد فيه لعن يزيد؟! فقال الإمام: إنّ الله تعالى يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، وأي فساد وقطيعة أشدّ ممّا فعله يزيد؟! انتهى. وعلى هذا القول، لا توقف في لعن يزيد؛ لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكليفه، ويكفي ما فعله في استيلائه بأهل المدينة ومكّة، فقد روى الطبراني بسندٍ حسن: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل. والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت، ورضاه بقتل الحسين على جدّه وعليه الصلاة والسلام، واستبشاره بذلك وإهانته بيته ممّا تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحاداً.
وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم: الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقف في شأنه، بل في إيمانه، لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه».
* والشيخ محمّد عبده يمجّد بمولانا أبي عبد الله(عليه السلام) ووصف يزيد بأنّه: «إمام الجور والبغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوّة والمنكر، يزيد بن معاوية، خذله الله وخذل من انتصر له من الكرّامية والنواصب»(6).
■ في الآونة الأخيرة نلاحظ أنّ بعض أهل النصب والنّفاق بدؤوا بطرح الإشكالات والتشكيكات التي عفى عليها الدّهر وشرب، خصوصاً فيما يتعلّق بالتغيّرات السماوية والحوادث الكونيّة التي حصلت بعد استشهاد مولانا أبي عبد الله(عليه السلام)، فما هو ردّكم على مثل هذه التشكيكات؟
● التشكيكات في هذه الأمور تعتبر من التشكيكات التي أثبت عدمَ واقيعتها نفسُ كتب القوم، فإنّ الأخبار في كتب القوم المشهورة المعتمدة، في أنّ السماء صارت تمطر دماً بعد استشهاد الإمام وأصحابه، وأنّه ما رفع حجر من الأرض إلا وتحته دم، وأنّه ما ذُبح جزور إلا وكان كلّه دماً، وأنّ الشمس انكسفت، وأنّ من شارك في قتله ابتلي بعاهة... هذه الأخبار كثيرة، تجدها في: «دلائل النبوّة» للبيهقي، و«معرفة الصحابة» لأبي نُعيم، و«سير أعلام النبلاء» للذهبي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«مجمع الزوائد» للهيثميّ، و«تاريخ الخلفاء» للسيوطي، وفي غير هذه الكتب. ونحن نكتفي بإيراد بعض ما نصّ الحافظ الهيثمي -وهو من نقدة الحديث عندهم- على صحته أو حسنه سنداً:
* قال الهيثمي: «عن أمّ حكيم، قالت: قُتل الحسين وأنا يومئذٍ جويرية، فمكثت السماء أيّاماً مثل العلقة»(7)، وفيه: «عن أبي قبيل، قال: لمّا قتل الحسين بن عليّ انكسفت الشمس كسفة حتّى بدت الكواكب نصف النهار، حتّى ظننّا أنّها هي»(8). قال: «وعن الزهري، قال: ما رُفع بالشام حجر يوم قُتل الحسين بن علي إلا عن دم»(9). وفيه: «عن دويد الجعفي، عن أبيه، قال: لمّا قُتل الحسين انتُهبت جزورٌ من عسكره، فلمّا طبخت إذا هي دم»(10).
■ من الأمور التي تجعل المؤمن الموالي أكثر ارتباطاً بأهل البيت(عليهم السلام)، وعلى الخصوص بسيّد الشهداء(عليه السلام)، هو الحزن والبكاء على عظيم مصابهم، وأليم رزيّتهم، هذا ما يدعونا له علماؤنا الأعلام، ولكن هل دلّت النصوص الواردة عن النبيّ الأعظم(صلّى الله عليه وآله) وعن أهل بيته(عليهم السلام) على هذا الأمر، وإذا كانت هناك نصوص قد وردت فهل نقلها أهل السنّة، أم هي مختصّة بما ورد في الكتب الروائيّة الشيعيّة؟
● الحزن والبكاء على مصاب سيّد الشهداء(عليه السلام) من الأمور التي لم تختص بطائفة دون أخرى، فكثير من المصادر السنيّة قد نقلت الروايات التي يُستفاد منها الحثّ على البكاء على مصابهم(عليهم السلام)، ويمكن لنا أن نقسّم الروايات الواردة إلى قسمين:
القسم الأوّل: في أصل البكاء عليه: * أخرج أحمد، «عن نجيّ، أنّه سار مع عليّ(رضي الله عنه)، وكان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين، فنادى عليّ(رضي الله عنه): اصبر أبا عبد الله! اصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات! قلت: وماذا؟! قال: دخلتُ على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) ذات يوم وعيناه تفيضان...»(11).
* أخرج الطبراني «عن أمّ سلمة، قالت: كان رسول الله جالساً ذات يومٍ في بيتي، فقال: لا يدخل عليّ أحد! فانتظرت، فدخل الحسين(رضي الله عنه)، فسمعت نشيج رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يبكي، فاطّلعت فإذا الحسين في حجره والنبيّ يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل. فقال: إنّ جبرئيل كان معنا في البيت، فقال: تحبّه؟ قلت: أمّا من الدنيا فنعم. قال: إنّ أمتك ستقتل هذا بأرضٍ يُقال لها: كربلاء. فتناول جبريل من تربتها فأراها النبيّ...»(12).
القسم الثاني: في تكرار البكاء عليه واستمراره: قال الإمام السجاد زين العابدين(عليه السلام) لمّا سئل عن كثرة بكائه على أبيه واستمراره على ذلك، في ما رواه الحافظ أبو نُعيم: «لا تلوموني! فإنّ يعقوب فقد سبطاً من ولده، فبكى حتّى ابيضّت عيناه ولم يعلم أنّه مات؛ وقد نظرتُ إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي في غزاة واحدة، أفترون حزنهم يذهب من قلبي»(13).
فالإمام(عليه السلام) استشهد بقصّة يعقوب، وكثرة بكائه واستمراره على ذلك كلّما ذكره...كما في القرآن الكريم...حتّى ابيضّت عيناه... والنبي(صلّى الله عليه وآله) لمّا أمر بالبكاء على سيّدنا حمزة(عليه السلام)، جعل النّاس يبكون حمزة كلّما أرادوا البكاء على قتلاهم أو موتاهم، والنبي‘ يُقرّهم على ذلك...قالوا: فكانت هذه سنّة عند المسلمين في المدينة المنوّرة، وكانت عادة باقية مستمرّة لقرون كثيرة، قال الحاكم: «وإلى يومنا هذا»(14).
■ ما هو حكم النياحة والجزع على مولانا سيّد الشهداء(عليه السلام)؟
● لقد أفتى فقهاؤنا بجواز النياحة والجزع على كلّ ميّت من المسلمين، قال السيّد اليزدي في «العروة الوثقى»: «يجوز النوح على الميّت بالنظم والنثر ما لم يتضمّن الكذب...»(15). قال: «وأمّا البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر، فجائز ما لم يكن مقروناً بعدم الرّضا بقضاء الله؛ نعم، يوجب حبط الأجر، ولا يبعد كراهته»(16).
هذا وقد ورد في خصوص الجزع على سيّد الشهداء(عليه السلام) ما يدل على عدم الكراهيّة، فقد روى الشيخ عن المفيد، بإسناده عن أبي عبد الله(عليه السلام): «كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين(عليه السلام)»(17).
* الهوامش:
(1) أنساب الأشراف،ج3،ص393.
(2) البداية والنهاية 8/143.
(3) الدر النظيم، ص551.
(4) الردّ على المتعصّب العنيد، ص6.
(5) سورة محمد، آية:22.
(6) المنار في تفسير القرآن، ج12، ص183.
(7) مجمع الزوائد، ج9، ص196.
(8) مجمع الزوائد، ج9، ص197.
(9). مجمع الزوائد،ج9، ص196.
(10) مجمع الزوائد، ج9، ص196.
(11) مسند أحمد، ج1، ص75.
(12) المستدرك على الصحيحين، ج3، ص194، ح4818.
(13) حلية الأولياء، ج3، ص138.
(14) المستدرك على الصحيحين، ج1، ص537، ح1407.
(15) العروة الوثقى، ج1، ص537، م1.
(16) العروة الوثقى، ج1، ص537، م2.
(17) الأمالي -الشيخ الطوسي-، ص162، ح268.
0 التعليق
ارسال التعليق