مقدّمة
تحدَّثت الرّوايات الكثيرة عن فضل زيارة الإمام الحسينg، وقد رتّبت على زيارته الثّواب الجزيل والأجر العظيم، ممّا يكشف عن عظمة هذا العمل، وفي بعض الرّوايات إشارة إلى أنّ ثواب زيارة الإمام الحسينg لا يعلمه النّاس؛ وذلك لعظمته، كما في قول الصّادقg: >لو يعلم النّاس ما في زيارة الحسينg من الفضل لماتوا شوقاً، وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات<.
هذا بشكل عامّ، وأمّا بالنّسبة إلى زيارة عاشوراء بالخصوص فهي تعتبر من أهمّ وأجلّ الزّيارات، ولذلك صارت محطّ نظر علمائنا الأعلام، الّذين اهتمّوا بهذه الزّيارة اهتماماً بالغاً، وراحوا يواظبون عليها، وكتبوا الكتب وألّفوا المؤلّفات شرحاً لها وتعليقاً عليها، ممّا يدعونا للوقوف على هذه الزّيارة وقفة تأمّل وتدقيق.
ومن هنا ولأجل كثرة التّساؤلات الّتي تطرح على هذه الزّيارة العظيمة، والّتي إن تُركت بلا جواب فقد تؤدّي إلى التّقليل من شأن هذه الزّيارة في نفوس النّاس، أحببنا أن نستقصي بعض هذه التّساؤلات؛ محاولين الإجابة عليها بما يسعه المقام، مستفيدين في ذلك من كلمات العلماء والأساتذة.
وسوف نقوم بطرح كلّ تساؤل وبعده الجواب عنه، والتّساؤلات هي التّالي:
التّساؤل الأوّل: حول سند زيارة عاشوراء
يطرح بعضٌ إشكالاً حول زيارة عاشوراء مفاده: أنّ زيارة عاشوراء ضعيفة سنداً، فلماذا يتمّ التمسّك بهذه الزّيارة الضّعيفة والإصرار عليها ولا يتمّ التّمسّك بالزّيارات الصّحيحة والأعمال الثّابتة والمأثورة؟!
وللجواب عن هذا الإشكال نذكر مجموعة من الأمور:
الأمر الأول: إنّ لزيارة عاشوراء وفضلها خمسة طرق وأسانيد، وقد بحثها العلماء -كآية الله الشّيخ مسلم الدّاوريB- حتى توصّلوا إمّا إلى اعتبار جميع هذه الطّرق، وإمّا إلى اعتبار بعض هذه الطّرق. فالإشكال على السّند لا يرد.
وإليك توضيح هذه الطّرق والأسناد الخمسة، مع التّعليق على رجالها مختصراً:
السّند الأوّل: سند رواية ذكرها الشّيخ الطّوسيN في فضل زيارة عاشوراء والثّواب المترتّب عليها، وهو كالتّالي: الشّيخ الطّوسي (مصباح المتهجّد)، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن أبيه، عن أبي جعفرg.
السّند الثّاني: قال الشّيخ الطوسيO: قال صالح بن عقبة وسيف بن عميرة، قال علقمة بن محمّد الحضرمي: قلت لأبي جعفرg: علّمني دعاء أدعو به، إلى آخر الزّيارة.
السّند الثّالث: سند للدّعاء بعد الزّيارة، الشّيخ الطّوسيO بإسناده عن محمّد بن خالد الطّيالسي، عن سيف بن عميرة، قال خرجت مع صفوان بن مهران الجمّّال وجماعة من أصحابنا إلى الغريّ، إلى آخره.
السّند الرّابع: ابن قولويه (كامل الزّيارات)، حدّثني حكيم بن داود بن حكيم وغيره، عن محمّد بن موسى الهمدانيّ، عن محمّد بن خالد الطّيالسي، عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة جميعاً، عن علقمة بن محمّد الحضرميّ.
السّند الخامس: هو لابن قولويه أيضاً، حيث قال: ومحمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن مالك الجهنيّ، عن أبي جعفر الباقرg.
هذا فيما يرتبط بالأمر الأوّل من الجواب.
الأمر الثّاني: إنّ كثيراً من العلماء قالوا بأنَّ المضامين الواردة في زيارة عاشوراء تجعلنا نقطع بصدورها عن المعصومg، وبالتّالي لا حاجة للبحث عن السّند. ومن هؤلاء الأعلام: الشّيخ بهجتO في كتاب الرّحمة الواسعة، وكما ذكر ذلك مفصّلاً الشّيخ مسلم الدّاوريB في كتاب زيارة عاشوراء تحفة من السّماء.
الأمر الثّالث: لنا أن نسأل هذا الشّخص المستشكل: لماذا كلّ هذا الاهتمام الكبير منك بسند زيارة عاشوراء؟! يوجد احتمالان:
الاحتمال الأوّل: أنَّ هذا الاهتمام هو من أجل إثبات المضامين الّتي اشتملت عليها الزّيارة.
فنقول: المضامين الواردة في زيارة عاشوراء ما هي؟ هي عبارة عن موالاة أهل البيتi، والبراءة من أعدائهم، والدّعاء على كلّ من أسّس الظّلم والطّغيان، وهذه المضامين قد دلّت عليها الأدلّة القطعيّة من الكتاب والسّنة، فلا حاجة لتجشّم عناء البحث عن صحة السّند من أجل ذلك.
الاحتمال الثّاني: أنّ هذا الاهتمام هو من أجل ترتّب الثّواب على قراءة هذه الزّيارة بألفاظها الخاصّة المرويّة.
فنقول: لدينا قاعدة التّسامح في أدلّة السّنن، وهي تغنينا عن ذلك، والّتي مفادها -على المشهور- ترتّب الثّواب على العمل الّذي بلغ أنّ فيه الثواب، وإن لم يثبت وروده عن المعصومg، وبالتّالي حتّى لو سلّمنا بضعف سند الزّيارة إلّا أنّه لا مانع من الإتيان بها برجاء المطلوبيّة، ومع ذلك يترتّب الثّواب عليها إن شاء الله.
التّساؤل الثّاني: حول اللعن الوارد في الزّيارة
قد يتساءل بعض: بأنَّ هذه الزّيارة تركّز كثيراً على عنصر اللعن، واللعن يعتبر من الأمور المنفّرة عن المذهب، وهو يؤجّج الطّائفيّة والصّراع، فلماذا لا نتخلّى عن اللعن؟!
والجواب: بأنّ الولاية والبراءة من الأسس العقديّة المهمّة، ولكلٍّ منها مظاهر متعدِّدة، ومن مظاهر البراءة هو لعن الأعداء والظّالمين، وهذا المنهج لا يراد منه تأجيج الصّراع والتّحامل بين أبناء المجتمع، وإنّما هو منهج يربّي الإنسان على ثقافة الثّبات على الحقّ ورفض الباطل والظّلم، وهو أمر مطلوب، وقد أسّس قواعده القرآنُ الكريم في العديد من الآيات المباركة، منها:
1-قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88).
2-قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النّساء: 93).
3-قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 44).
وغيرها كثير من الآيات القرآنيّة، وبالتّالي فمع وجود كلّ هذه الآيات كيف نُطالب بتغيير هذه الثّقافة وإلغاء اللعن الّذي هو مظهر من مظاهر البراءة من الظّالمين؟!
هذا بالإضافة إلى ما ورد في سيرة النّبيe في لعن العديد من الأشخاص، كالحكم بن العاص وغيره، وكانe يقول: >جهّزوا جيش أسامة، لعن الله المتخلّف عنه<، حتّى قالها ثلاثاً، وغيرها العديد من المواقف الّتي لسنا في وارد تفصيلها الآن، فكيف مع كلّ هذا يقال بأنّ علينا إلغاء ثقافة اللعن.
التّساؤل الثّالث: حول تعميم اللعن الوارد في الزّيارة (اللهم العن بني أميّة قاطبة)
قد يتساءل بعض: كيف يمكن لعن بني أميّة جميعاً والحال أنَّه قد يكون فيهم من هم من المؤمنين، من أمثال سعيد بن العاص الذي هو من أوائل الصّحابة إسلاماً، وكان قد وقف مع أمير المؤمنينg في مسألة الخلافة، ومثل أمامة بنت أبي العاص الّتي تزوّجها أمير المؤمنينg بعد إستشهاد الصدّيقة فاطمة الزّهراءj بوصيّة منها، ومثل سعد بن عبد الملك -من ولد عبد العزيز بن مروان- الذي كان الإمام الباقرg يسمّيه سعد الخير، وغيرهم، فكيف يُلعن جميع بني أميّة بما فيهم هؤلاء المؤمنون، والحال أنّ القرآن يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}؟!
ويمكن الجواب عن هذا التّساؤل من خلال الأمور التّالية:
الأمر الأوّل: يمكن الجواب بما أجاب به الإمام الباقرg، حيث دخل عليه سعد بن عبد الملك (سعد الخير) فبينا ينشج كما تنشج النّساء، فقال له الإمامg: >ما يبكيك يا سعد؟< قال: وكيف لا أبكي وأنا من الشّجرة الملعونة في القرآن! فقال الإمامg: >لستَ منهم، أنت أمويّ منّا أهل البيت، أمَا سمعت قول اللهa يحكي عن إبراهيم {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}<.
إذاً، فهنا يشير الإمامg إلى أنّ المقصود من (بني أميّة) هو كلّ الطّغاة والفاسدين من بني أميّة، وكذلك من يسلك مسلكهم في عداء أهل البيتi، فالّذي يسلك مسلكهم يكون معدوداً منهم، وأمّا من كان لا يرضى بفعلهم وكان ممّن يوالي أهل البيتi فهو ليس منهم، فليست القضيّة راجعة إلى النَّسَب فقط، بل إلى سلوكهم وأفعالهم، وإلّا فإنّ ابن نوح قد نفى الله عنه الرّابطة الّتي بينه وبين النّبي نوحg بسبب سوء أفعاله، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46).
ومن هنا نفهم الجواب أيضاً على الإشكال الّذي يُطرح على شعار (يا لثارات الحسين) الّذي سيحمله الإمام المهديّl، حيث يقال: كيف يمكن أن ينتقم الإمام المهديّg من ذراري قتلة الإمام الحسينg والحال أنّهم لم يقوموا بقتل الإمام الحسينg؟ ألم يقل الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}؟!
فيمكن أن يُجاب بما جاء في الرّواية عن الإمام الرّضاg، حيث قال ردّاً على هذا السّؤال: >صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراريّ قتلة الحسينg يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنّ رجلاً قُتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الرّاضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائمg إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم<.
الأمر الثّاني: يمكن أن يقال بأنّه توجد قرينة عقليّة على عدم شمول اللعن للمؤمنين من بني أميّة، فيوجد قيد عقليّ في المقام يمنع من الإطلاق في الرّواية، فالعقل يقيّد هذه العبارة، وكأنّ الإمامg قال: (اللهم العن بني أميّة قاطبة إلّا المؤمن والصّالح والمواليّ)، وبالتّالي فمع وجود القرينة العقليّة على التّقييد فلا نحتاج إلى قيد لفظيّ يستثني المؤمن والصّالح والمواليّ.
التّساؤل الرّابع: حول كيفيّة تكرار اللعن الوارد (100 مرّة) في الزّيارة
قد يقول بعض: بأنّ تكرار اللعن كاملاً بحسب ما هو مذكور في الخبر يستغرق وقتاً طويلاً، ونحن لا نريد خسارة الثّواب المترتّب على هذه الكيفيّة، فهل هناك طريقة أخرى أسهل؟
نقول: أوّلاً: الطّريقة المعروفة لتكرار اللعن في زيارة عاشوراء هي أن يكرّر اللعن المذكور كاملاً مائة مرّة، ولكن هناك كيفيّة أسهل لتكرار اللعن، وهي منقولة عن محدّثي البحرين؛ من الشّيخ حسين العصفورO وآبائه، عن الإمام الهاديّg أنه قال: "من قرأ لعن زيارة عاشوراء المشهورة مرّة واحدة، ثمّ قال: اللهمّ العنهم جميعاً تسعاً وتسعين مرّة، كان كمن قرأه مائة، ومن قرأ سلامها مرّة واحدة، ثمّ قال: السّلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين تسعاً وتسعين مرّة، كان كم قرأه مائة تامّة من أوّلهما إلى آخرهما". فيمكن الإتيان بهذه الطّريقة برجاء المطلوبيّة.
ثانياً: يقول الميرزا النّائينيّS في هذا الشّأن: "الظّاهر أنّ اللعن مائة مرّة، وكذلك السّلام مائة مرّة، وكذا دعاء «اللهمّ خصَّ .. الخ»، وكذلك السّجدة بعد الدّعاء، وإن كان جميع ذلك جزءاً للعمل، لكن ليست الزّيارة ارتباطيّة كالصّلاة كي يكون عدم الإتيان ببعض أجزائها مبطلاً لما أتى به، فلو اقتصر على متن الزّيارة من قوله: «السّلام عليك يا أبا عبدالله» إلى قوله: «وبالموالاة لنبيّك وآل نبيّك عليه وعليهم السّلام» ولم يأتِ بشيء ممّا بعد ذلك -حتّى صلاة الزّيارة- فقد زار الحسينg بأفضل الزّيارات..".
التّساؤل الخامس: حول حكم التّغيير في عبائر الزّيارة
كما في مثل تغيير عبارة: (اللهم إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أمية) إلى (اللهمّ إنّ يوم عاشوراء يوم تبرّكت به بنو أمية).
هذا التّساؤل يرجع لبحث كبرويّ وهو: هل يجوز تغيير الزّيارات والأدعية إذا اقتضى المقام ذلك، أو لا يجوز؟ ويندرج تحت هذه المسألة الكبرويّة تغيير هذه العبارة من زيارة عاشوراء.
فنقول: يوجد هناك رأيان:
الرّأي الأوّل: هو جواز التّغيير، وبالتّالي يجوز تغيير هذه العبارة من الزّيارة، بل الأفضل هو إبدال العبارة هنا؛ وذلك للأمور التّالية:
أوّلاً: لا مانع شرعاً من تغيير بعض العبائر إذا كان المعنى صحيحاً ومن دون نسبة ذلك إلى المعصومg.
ثانياً: أنَّه لا يُشار إلى يوم آخر بأنّه اليوم الّذي تبرّكت به بنو أميّة، بل شخص يوم عاشوراء هو الّذي تبرّكت به وفرحت به بنو أميّة.
ثالثاً: إنّ الإبدال هنا هو محافظة على حقيقة نصّ الزّيارة، فحقيقة نصّ الزّيارة هو الإشارة إلى يوم عاشوراء نفسه، لا اليوم الّذي تُقرأ فيه الزّيارة.
رابعاً: إنّ القول بعدم التّغيير مطلقاً لا يمكن الالتزام به؛ لأنّه يلزم منه حرمان النّساء ومنعهنّ عن الزّيارة والدّعاء في بعض المواطن الّتي جاءت بالصِّيغ المذكّرة!! وهذا لا يمكن الالتزام به، فلا بدَّ من مراعاة الحال والمقام، والزّمان والمكان.
خامساً: أنه قد ورد التّصريح في بعض الرّوايات بتبديل بعض العبائر، فمّما ورد عن التّهذيب عن ابن أبي عمير عمّن رواه قال: قال أبو عبداللهg: >.. ويُسلّم على الأئمّة من بعيد كما يُسلّم عليهم من قريب، غير أنّك لا يصحّ أن تقول: أتيتك زائراً، بل تقول في موضعه: قصدتك بقلبي زائراً<. وورد في حاشية المصباح للكفعميّ: "إن كانت الزّيارة من بُعد فقُل: قصدتكما بقلبي زائراً، وإن كانت من قُرب فقل: أتيتكما زائراً، قاله المفيد في مزاره".
الرّأي الثّاني: أنّه لا يصحّ تغيير عبارات الزّيارات والأدعية؛ فنحن نتعبّد بما ورد عنهمi، وبالتّالي لا يصحّ تغيير هذه العبارة من زيارة عاشوراء.
وذلك للأمور التّالية:
الأمر الأوّل: ما رواه الصّدوق بسنده عن عبدالله بن سنان قال: قال أبو عبداللهg: >سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَى، وَلَا إِمَام هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الْغَرِيقِ<. قُلْتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الْغَرِيقِ؟ قَالَ: >يَقُولُ: يَا اللهُ، يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ< فَقُلْتُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك.َ قَالَ: >إِنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك<. فهنا كأنَّ الإمامg يقول له: «نحن أعرف باستعمال الألفاظ الّتي تصبّ في قضاء الحاجة المرجوّة، فلا تزد في الدعاء ممّا لم يكن مأثوراً».
الأمر الثّاني: إنَّ القدر المتيقّن للحصول على الفائدة المرجوّة هو الاقتصار على ما ورد عنهمi، فالزّيادة والنّقيصة قد لا يتحصّل منها الفائدة المرجوّة، فكلماتهمi كوصفة الدّواء الّتي ينبغي الاعتناء بها بدقّة حتّى نصل للعلاج.
الأمر الثّالث: أنّ تغيير العبائر في الأدعية والزّيارات بما يناسب الحال والمقام هي من المسائل العامّة البلوى للنّاس، ومع ذلك لم يصلنا شيء عن أصحاب الأئمّة أنّهم قد سألوا واستفسروا عن هذه القضيّة، فلو كان لبان. وما ورد في التّهذيب من تغيير عبارة >أتيتكما زائراً< إلى >قصدتكما بقلبي زائراً< فهو ليس من كلام الإمامg، بل هو من كلام الشّيخ الطّوسيّ، بقرينة أنّ الشّيخ الكلينيّ في الكافي، وابن قولويه في كامل الزّيارات قد رويا هذه الرّواية من دون هذه الزّيادة.
الأمر الرّابع: وهو يرتبط بنفس زيارة عاشوراء؛ حيث إنّ الإمامg بعد أن ذكر الزّيارة بكاملها قال لعلقمة: >يَا عَلْقَمَةُ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَزُورَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِهَذِهِ الزّيارة مِنْ دَهْرِكَ (أو من دارك) فَافْعَلْ؛ فَلَكَ ثَوَابُ جَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى<، فالإمامg قال: >بهذه الزّيارة< إشارة إلى نفس الزّيارة الّتي ذكرها، وبنفس ألفاظها، ولم يُشر إلى التّغيير فيها.
الأمر الخامس: الظَّاهر من الرّواية أنّ الزّيارة قد صدرت من الإمامg في غير يوم عاشوراء، ولم يغيّر هذه العبارة ولم يبدلها؛ حيث إنّ الظّاهر بأنّ هذه الزّيارة صدرت أيّام إشخاص الإمامg إلى العراق، فقد ورد في الرّواية: عن سيف بن عميرة قال: خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال وجماعة من أصحابنا إلى الغريّ بعدما خرج أبو عبداللهg، فسْرنا من الحيرة إلى المدينة، فلمّا فرغنا من الزّيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبداللهg، فقال لنا: >تزورون الحسينg من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنينg من هاهنا< أومأ إليه أبوعبداللهg وأنا معه.. إلى آخر الرّواية.
فإذا ثبت أنّ هذه الزّيارة قد صدرت من الإمامg في غير يوم عاشوراء انتفى الإشكال من الأساس.
الأمر السّادس: أنّ التّغيير لا حاجة إليه في هذه العبارة من الزّيارة أصلاً، فإنّ التّغيير إنّما نلجأ إليه في فرض الحاجة والضّرورة، والحال أنّ في هذه العبارة قرينة سياقيّة على أنّه ليس المراد من اليوم في قولهg: >اللهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أميّة< هو اليوم الذي أقرأ فيه الزّيارة، بل المراد من (هذا اليوم) هو الإشارة إلى يوم عاشوراء الّذي وقع فيه قتل المولى الحسينg.
التّساؤل السّادس: حول الجزاء الكبير المترتّب على زيارة عاشوراء
ورد في رواية زيارة عاشوراء أنّ من زار بها فإنّ له أجراً كبيراً وعظيماً، كألف ألف حجّة وعمرة، وألف ألف غزوة كلّها مع رسول الله، وله ثواب مصيبة كلّ نبي ورسول ووصي وصدّيق وشهيد، وغير ذلك من الثَّواب.
فقد يقال: بأنَّ هذا غير معقول وغير متصوّر، فكيف لهذا العمل اليسير أن يترتَّب عليه هذا الثَّواب الكبير؟! بالإضافة إلى أنَّ هذا يؤدّي إلى مساواة أهل البيتi بغيرهم من سائر النّاس؛ حيث إنّ الزائر يعطى ثواب مصيبة رسول اللهe، فلو قرأ الزّائر هذه الزّيارة في كلّ يوم للزم أن يكون أفضل منهمi بعدد أيامه الّتي يقرأ الزّيارة فيها!! وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أبداً.
ويمكن الجواب عن ذلك بعدّة أمور:
الأمر الأول: لا يمكن قياس المعايير البشريّة على المعايير الإلهيّة، فاللهa له معايير في إثابة النّاس تختلف عن معاييرنا، ولذا يقول سبحانه: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}(البقرة: 245)، فالله هو الجواد الكريم، {إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(آل عمران: 37).
الأمر الثّاني: نقضاً، فإنَّ أمثال هذه الرّوايات كثيرة في المقام، ولا تختصّ بزيارة عاشوراء، ويمكن للمتتبّع أن يجدها في الكتب الحديثيّة، فهل نلغي كلّ هذه الرّوايات الكثيرة بحجّة أنَّ عقلي قاصر عن تصوّرها؟!
الأمر الثّالث: قلتم بأنَّ هذا الثواب غير معقول، فنسأل: أيّ عقل هذا الّذي يقول بعدم التّناسب بين مقدار العمل ومقدار الجزاء؟ إذا كان عقلاً قطعيّاً فنسلّم لك بذلك، ولكنّه ليس عقلاً قطعياً -يرجع إلى الاستحالة العقليّة- حتّى نسلّم به، وإنّما هو عقل ظنّي، فهو مجرّد ظنون واستحسانات لا قيمة لها، وإلّا فالعقل -أصلاً- لا يرفض هذا الأمر، ولا يرى فيه قبحاً، وإلّا فأنت تسلّم أنّك لمجرّد الطّاعة في هذه الدّنيا لمدّة ستّين أو سبعين سنة فإنّك سوف تُخلّد في الجنّة، فأين التّناسب بين هذا العمل وهذا الجزاء؟
الأمر الرّابع: إذا عرفنا الهدف من البكاء على الحسينg، وعرفنا حقيقة البكاء الحسينيّ، أمكننا فهم مقدار هذا الجزاء الكبير المترتّب عليه وعلى زيارته.
فالغاية من البكاء على الإمام الحسينg وزيارته هي الارتباط الوثيق بأئمّة أهل البيتi، فالأئمّةi إذا أمرونا بالبكاء على الحسينi فهم قد أمرونا بزيادة الارتباط بهم، فالبكاء والزّيارة سبب يؤدّي إلى زيادة الارتباط؛ إذ من الواضح أنّه إذا كان هناك برنامج منظّم للبكاء في كلّ عامّ فإنّ علاقتنا بالحسينg سوف تزداد، سوف لن تُنسى، وأما لو بكينا على فقيدٍ لمدّة ثلاثة أيام، ثمّ تركنا ذلك، فمن الطّبيعيّ أننّا سوف ننساه مع مرور الزّمن.
الأمر الخامس: أنّه لا تلزم المساواة بين الزّائر وبين أهل البيتi كما قال المستشكل؛ لأنَّ معنى الرّواية أنّه يعطى للزّائر ثواب مصائبهم، وليس جميع مثوباتهم المختصّة بهم في غير المصائب؛ كأجر الرّسالة والإمامة الّتي قام بها كلّ منهم، وغيرها من الأمور.
وإعطاء زائر الحسينg كلّ هذا الأجر العظيم ليس فيه أيّ بُعد؛ فإنّ الحسينg أعطى لله كلّ ما كان في يده؛ من نفسه وأولاده وإخوانه وأقاربه وأصحابه، وحتّى أخواته ونساءه اللاتي سُبينَ وجرى عليهنّ ما جرى.
هذا ما أمكننا جمعه من تساؤلات وإثارات حول زيارة الإمام الحسينg في يوم عاشوراء، وأسأل الله أن أكون قد وفّقت في جمع الأجوبة وبيانها على أكمل وجه، وأسأله أن يتقبّل هذا العمل اليسير بأفضل القبول.
والسّلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
والحمد لله ربّ العالمين.
0 التعليق
ارسال التعليق