تساؤلات حول بعض القضايا الاجتماعية.. حوار مع الشيخ عبدالرؤوف حسن الربيع (حغظه الله)

تساؤلات حول بعض القضايا  الاجتماعية.. حوار مع الشيخ عبدالرؤوف حسن الربيع (حغظه الله)

حاوره: الشيخ عزيز حسن الخضران

هناك مسائل كثيرة مهمَّة يحتاج المجتمع المؤمن إلى طرحها، منها ما يتعلَّق ببعض المسؤوليات الاجتماعية، ومنها ما يتعلَّق ببعض المشاكل الاجتماعية التي تحتاج إلى تداول للمساهمة في حلها، وتوعية الناس بها، ومن هنا كان هذا الحوار مع المشرف العام لمجلة (رسالة القلم) سماحة الشيخ عبد الرؤوف الربيعB[*]، فإليكم نص الحوار:

المسؤولية الاجتماعية:

* في بداية هذا الحوار نتشرَّف بكم ونشكركم سماحة الشيخ العزيز لقبولكم إجراء هذا الحوار حول عنوان القضايا الاجتماعية، ونبدأ بهذا السؤال المتعلق بمسؤولية المؤمن الاجتماعية، نسمع دائماً بأنَّ الإنسانَ المؤمن مسؤولٌ عن مجتمعه، ولا ينبغي له الانكفاء والتهرُّب من المسؤولية، ما هو الدليل على وجوب أنْ يتحمَّل المؤمنُ مسوؤليةً غير مسوؤليته الشخصية عن نفسه وعن أهله وعياله؟

* أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وأفضل الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

في البداية أتقدّم لكم بالشكر الجزيل على هذه الفرصة وأتمنّى لكم التوفيق والمزيد من العطاء.

المؤمن يشعر بالمسؤولية الدائمة تجاه مجتمعه، وهو ناتج من اعتقاده بأصل التكليف والهادفية في الحياة، وبأنه عبدٌ خلقه الله سبحانه لعمران الأرض وخلافتها وتحقيق الكمالات العالية فيها، إذ أن من الواضح أن ذلك لا يحصل إلا بالانخراط في أوساط المجتمع والتعامل الإيجابي مع مؤسّساته وبرامجه، بل لو لاحظ الفرد منا نفسه وأراد الحفاظ عليها وتوفير فرص السلامة والخير لها هل يمكنه ذلك بمعزلٍ عن الاحتكاك بالآخرين؟ فهو يعيش مع المجتمع ويتعامل ويدرس ويبني العلاقات مع سائر الناس في المجتمع، وجزء كبير من احتياجاته المادية والنفسيّة يتلقّاها من الأوساط العامّة فكيف يتسنّى له التنصّل عن دوره في المجتمع والحال أنه جزء منه وينعكس عليه كلّ ما يجري على غيره؟!

والحاصل أنَّ الإنسان حتى يحافظ على نفسه فإنه لن يستطيع إلا عبر المحافظة على الدائرة الأوسع لأنّه جزءٌ منها، وإذا صار المجتمع صالحاً فإنّه بالتبع يكون صالحاً، ويمكننا التعبير عن المجتمع بالمَرْكَب الذي يشترك فيه الجميع ليبحروا في أمواج الحياة المتلاطمة بحيث لا يتحرّك ويصل إلى المقصد المطلوب إلا بقيام أفراده بمسؤوليّاتهم وواجباتهم، وأنّ أيّ تقصير في هذه الوظيفة المشتركة ستؤثّر سلباً على الكلّ.

وعليه فحرص الشخص على سلامة نفسه هو الذي يدعوه من جانبٍ آخر إلى الحرص على سلامة نفوس الآخرين وإيصالهم إلى الجنّة، فيصبح اهتمامه بمصالح الناس والمجتمع من صلب اهتمامه بنفسه، وهذا هو هدف مجتمع التوحيد.

مداخلة: عفواً شيخنا: يمكن القول بأنّ هذا الكلام هو دليل عقلائي على أنّه لا بدَّ للإنسان أنْ يشترك في المجتمع ويتحمّل المسؤولية، فهل هناك أدلّة يمكننا استفادتها من القرآن أو الروايات مثلا تحثُّ على المسؤولية تجاه المجتمع؟

طبعاً موجود وكثير؛ ويمكن تلمّس ذلك من الإطلاقات في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[1]، أو {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[2]، ومن طائفة الآيات التي تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثالها من التكاليف الاجتماعيّة أو التي تحث على الوحدة والتكاتف بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[3] وغيرها.

ومن السنّة الروايات التي تؤكّد على المسؤوليّة الجماعيّة كالتي تروى عن الأميرg: >كلّ امرئٍ مسؤول عمّا ملكت يمينه وعياله<[4]، أو التي تصف المؤمنين بالجسد الواحد كما عن إمامنا الصادقg: >المؤمنون في تبارّهم، وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمَّى<[5] وأمثالها، وهذه المسألة في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى مزيد من البيان، وسيرة المؤمنين وروح الإسلام وتكاليفه الجماعيّة والاجتماعية -كصلاة الجمعة والجماعة والحج والزكاة الخ- شاهدة عليها.

نعم تتفاوت هذه المسؤوليّة من حيث الشدّة والضعف والأهميّة، فقد تكون إلزاميّة وواجبة في بعض الحالات وقد تكون دون ذلك.

هل تختص المسؤولية بطالب العلم؟

* هل المسوؤلية الاجتماعية تختص بطالب العلم فقط كما يتصور بعض الناس، أم تشمل غيره من المؤمنين؟ وما هي طبيعة هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقه إن وجدت؟

المسؤولية لا تقف على شخص دون آخر، ولا ترتبط بكون هذا الفرد طالب علم أو غيره... فهي مسؤولية كلِّ مؤمن وإنسان يدّعي أنَّ لديه اتِّباعٌ لله ولشرعه، وأنَّه غيورٌ على دينه وأهداف الدين ولا يوجد استثناء، وإنّما صار التركيز على طالب العلم في بعض الجنبات من ناحية موقعه وصدارته في المجتمع وكونه المتحدّث الأوّل عن الدين والتكاليف والشرع، وإلا إذا قلنا أن المسؤولية التربويّة في الأسرة والبيت هي على عاتق الأبوين فهل ننتظر أن يأتي طالب العلم لكي يحلّ بدلاً عنهما في أداء وظيفتهما!!، ولو اتفق أن نشأت مشكلة بين طالب ومدرسته أو بين جار وجاره أو زوج وزوجة أو تفشت ظاهرة سيّئة وما شابه ذلك فهل تتوقّع أن الجميع يجلس يتفرّج وتنحصر المسؤوليّة في العلاج على طالب العلم، فهذا غير ممكن ولن يسعه تغطية كلّ هذه المشاكل، فالكلّ مسؤول بقدره وبحجم تأثيره وموقعه، نعم أأكّد أن دور طالب العلم يكون في الطليعة بلحاظ موقعيته وتأثيره على الناس ولا يعني انحصار المسؤولية به.

ولو أردنا أن نذكر ظاهرةً واقعيّة كمسألة الحجاب أو العفّة للفتاة مثلاً فلطالب العلم أن يحثّ المجتمع على رعاية هذا التكليف ويتابع مع أولياء الأمور الأسلوب الناجح لإقناع فتياتهم ولكن إذا لم يتعاون معه نفس المجتمع في ترسيخ هذه الفكرة وإذا لم يتجاوب معه الآباء في إيصال صوته ورسالته بالتأكيد لن يتمكّن من فعل المطلوب، كما أن الأدلّة السابقة التي تتحدّث عن مسؤوليّة الناس في المجتمع لم تفرّق بين طالب العلم وغيره من أفراد المجتمع.

* كثيرٌ من طلبة العلم نراهم مبتعدين عن المجتمع، وفي المقابل هناك نماذج مشرِّفة طولَ التاريخ، بماذا تجيب بعض الناس الذين ينتقدون طلبة العلم كافة لوجود بعضٍ منهم بعيدٍ عن المسؤولية؟ وماذا تقول لمن يتَّخذُ ذلك ذريعةً للهروب من المسؤولية؟

هذه المسألة لا بدَّ أن نلتفت إليها من عدّة زوايا:

أولاً: اتهام طالب العلم بالتقصير إذا كان ناتجاً من تخيّل انحصار التكليف وأداء المسؤوليات به وتبرئة ساحة غيره عنها فهو بالتأكيد مجافٍ للصحّة لأنه ناجمٌ من تصّوّر خاطئ بالأساس.

ثانياً: وإذا كان ناتجاً من كثرة القضايا والتحدّيات التي هي فوق طاقة ووسع وقدرة طالب العلم فلا بدَّ أن ننصفه ولا نحمّله ما لا يحتمل؛ إذ لا ينشأ الخلل من تقصيره حينئذٍ.

إلا أن السؤال يبدو أنه لا يتحدّث عن هذين الأمرين فيتركّز ذكرهما للتنويه فقط.

ثالثاً: تقاعس بعض طلبة العلم عن أداء واجبهم الاجتماعي لا ينبغي أن يسحب ويمرّر على الجميع فهذا من الظلم، وهذا التقصير موجود في كلّ الفئات الأخرى، فينبغي أن نخصَّ الانتقاد للفئة المقصّرة منهم فقط؛ وإلا فهم تحمّلوا على مدى التاريخ صنوفاً من المشاق والمتاعب وضحّوا بأنفسهم في سبيل خدمة الدين وأهله حتى حافظوا على شعلة الإيمان وهّاجة وحيّة في نفوسنا إلى يومنا هذا ولا زالوا يقدّمون، ولولا جهاد المخلصين منهم لاندرست الشريعة.

رابعاً: ابتعاد بعض طلبة العلم عن ساحة العمل الاجتماعي عملٌ غير مبرّر وهو غريب عن مفهوم التكليف والمسؤوليّة المتلقّاة من الشرع وتعاليم أهل بيت العصمة والطهارةi، فلم نسمع بإمامٍ معصومٍ أو عالم حقيقيّ مخلص ينتمي إلى هذه المدرسة الأصيلة قد انكفأ في بيته وعزف عن قضاء حاجات الناس وحلّ مشاكلهم، بل المعروف عن حقيقة دور طالب العلم أنَّه نسخة مصغّرة عن دور الأنبياء والأولياءi، فهو على الدوام يراقب ويواكب ما يجري في المجتمع ويتحسّس ما يجري فيه ويتفقّد آلام وأحاسيس الناس ويدخل في عمق ما يبتلون به يوميّاً؛ فيسعى في تخفيف آهاتهم، وامتصاص همومهم، وفضّ نزاعاتهم بتهدئة الأطراف والبحث عن الشيء النَصَف، وهذا ما ينتظره المجتمع منه ويأمله فيه، وبالذات في المساحة التي لا حظّ لهم فيها وتفتقر إلى تشخيص التكليف.

وبالتالي فالمطلوب من الطلبة -وأنا أقلُّهم- الاهتمام بهذه المساحة وهذا الدور العظيم؛ لأنَّها هي جزءٌ من الغاية الكبرى التي على أساسها كان انطلاقنا إلى طلب العلم.

خامساً: إنَّ أداء التكليف والنهوض بالواجب هو بالأصالة تعاملٌ مع الله تعالى وليس مع الناس، والمنطلق فيه يجب أن يكون الحبّ والطاعة للمولى والإخلاص والتفاني في نيل رضاه، وهذا هو ما تعلّمناه من سادتنا وقادتنا الإلهيّين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}[6]، وبالتالي لا حجّة لمن تعذّر عن أداء دوره بداعي تذمّر الناس وذمّهم فهذا نوع من الهروب عن المسؤوليّة.

طالب العلم المبتدئ:

* لا زال المجتمع المؤمن بشكل إجمالي -ولله الحمد- يكنٌّ احتراماً خاصاً لطالب العلم خصوصاً للعالم العامل، السؤال يتعلَّق بطالب العلم المبتدئ، كيف يجب عليه أن يتصرَّف مع هذا العنوان الجديد الذي تلبَّس به، سواء كان له حضور سابق في المجتمع أم لا؟ وكيف يجب على المؤمنين التصرف معه؟ يقدمونه في كلّ شيء؟ أم يختبرونه أولاً؟ أم ماذا؟

أمَّا بخصوص القسم الأول من السؤال:

أتصوّر بأنَّه لا ينبغي لطالب العلم المبتدئ أنْ يستعجل ويدخل للمجتمع في كلِّ أبوابه -وهذه نقطة مهمّة-، بل لا يدخل إلا في الباب الذي قد صار وارداً فيه كالتعليم المسجدي ودروس الأطفال فهذا المقدار من المفترض أن يكون متمكناً منه.

أمَّا أنْ يدخل في كل القضايا الاجتماعية ويتصدّى للجماعة أو يقرِّر القرارات المصيريّة -التي تتطلب المستوى الرفيع من العلم والتجربة والخبرة والتي قد يحتاج في بعضها إلى تشخيص فقيه- فهذا التصرُّف يضرُّ أكثر من أن ينفع، فأقل ما يقال إليه أنّه لم يصل إلى مرحلة يقدر بها أن يفرِّق بين الصالح وغيره، ولكن بدارسته الحوزوية وتقدّمه في سلّم الدرس واحتكاكه مع أهل العلم سيتوفّر على الأهليّة بالتدريج وستنفتح عليه الكثير من الآفاق بعد ذلك.

وهنا نقطة جديرة بالتأمّل، وهي أنَّ المجتمع قد يقوم برفع شخص سريعاً بأبسط مزية ولو لنفس الشروع في طلب العلم ولكنه أيضاً قد ينزله سريعاً لأدنى خلل، فإذا استعجل طالب العلم في تولّي المسؤوليّات فمن الطبيعي جداً أنه سيواجه التحدّيات الصعبة، فلو تلكّأَ في واحدة منها فربما يسقطه الناس من أعينهم مباشرةً ولا يسعفه كونه طالباً في تلك اللحظة، فالذي يرتفع سريعاً يهوي سريعاً أيضاً وهذه سنّة الحياة، خاصة إذا لاحظنا أن الطالب يكون مرصوداً ومراقباً في عامّة سلوكيّاته وتصرّفاته.

أما الشقُّ الثاني من السؤال وهو المرتبط بطبيعة تعاطي المجتمع مع طالب العلم المبتدئ فهو كذلك ينبغي عليه أن لا يستعجل، ولا تقوده ثقلُ الحاجة الاجتماعيّة إلى التوسّل بأيّ شخص في سدّها ولو كان عبر المبتدئ، إذ اللجوء إلى الطالب الحدث مفيدٌ في تسيير بعض الأمور والمشاريع بصورة عاجلة أحياناً إلا أنّه مع مرور الوقت فقد يكون ضرره بالغاً؛ باعتبار أنَّ المجتمع قد يتعرّض إلى منعطفات خطيرة تحتاج إلى موقف وتشخيص دقيق وإلى شخص ذي بصيرة وخبرة كافية وهذا ما يفتقده المبتدئ عادةً، أو يضطر المؤمنون أحياناً إلى إزواء هذا الطالب وتجاهله بعد أن ساهموا هم أنفسهم في إبرازه وإعطائه هالة مميّزة وهذا ما لا يكونُ مناسباً.

ثمّ إنّ هنا توصية من الضرورة أنْ يعيَها المجتمع، وهي أن لا يطلب من طالب العلم فوق مستواه؛ فلا بدَّ من التفريق بين من استغرق مثلاً عشرين عاماً في الحوزة وقد أثبت جدارته وأصبح عالماً ثقيلاً وبين من كان مبتدئاً في أيام دراسته الأولى، فلا ينبغي تحميل الثاني كما يحمّل الأول، بل يؤخذُ منه بقدر المستوى الواصل إليه، وأتصوّر بأنّ المجتمع يحتوي على مقدار من الوعي في ذلك لا بأس به، وإن كان يحتاج إلى مقدار منه أكبر.

نعم، لا ننكر وجود الاستثناءات، ففي بعض الأحيان يوجد فردٌ مبتدئ لكنَّه صاحب ملكاتٍ خاصّةٍ ومعروفٌةٍ يشهد بها الجميع، فلا يعد تقديمه بما يناسب ملكاته حينئذٍ مجانبٍ للصواب.

الحضور في المجتمع: 

* من الملاحظ في عصرنا الحاضر عند فئة غير قليلة من الناس أنّهم يكونون حاضرين وبشكل فعَّال في وسائل التواصل الاجتماعي -خصوصاً الواتساب- ولكنَّك لا تجدهم في المجتمع على أرض الواقع، بل ربما تمرُّ شهور والشخص مخفي عن الناس، ما تقييمك لهذه الظاهرة؟ وما هي أسبابها؟

لا يوجد في الأساس مشكلة فيما إذا تخصَّص شخصٌ ما في بعض المجالات والطرق في إيصال الهداية إلى الناس، فإذا كان هو مبدعاً في العالم الافتراضي فلا عيب في ذلك لو اقتصر على هذا الجانب في التبليغ دون غيره ولكن شريطة أن يوجد من يغطّي عنه -من الآخرين- سائر الجوانب الأخرى، فإذا كان من باب تنظيم وتوزيع الأدوار فلا توجد مشكلةٌ، فكلّما تخصَّصَ الفردُ في جنبة معيّنة فإنَّ النفع يكون أكبر.

إلا أنَّ المشكلة تقع فيما إذا تحوّل الدور الرئيسي للمؤمن في انعزال الناس والاكتفاء في التواصل معهم بالرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي، فهنا يقضى على دوره الفعّال والحيّ ويستعاض بدلاً عنه بدورٍ باهتٍ وضعيف لا يعكس إلا مقدارٍ يسير من فوائد وغايات تواصله المباشر.

فوسائل التواصل الاجتماعي بالرغم من كونها مفيدة وتختصر المسافات وتسهم في السرعة في انتشار الخبر والمعلومة إلى الناس إلا أنّ لها مضاراً أيضاً لا أحد ينكرها؛ لأنّها تجعل من الشخص لا يواجه المجتمع بالصراحة، ولا يتلمّس حاجاته بالمخالطة، بل يكتفي بالشاشات ولوحات التحكُّم فهذه في بعض الأحيان يكون فيها الفردُ سلبياً -لا سيَّما في بعض المواضع كما في حالة المرض-؛ فإنّه فرقٌ كبيرٌ على مستوى المشاعر وتدفّق الأحاسيس بين الزيارة المباشرة للمريض والحضور الشخصي له وبين الاقتصار على إرسال رسالة مواساة عابرة عبر وسائل التواصل، فبالتالي نقول بأنّ مثل هذه الوسائل مهمّة في حدّ ذاتها إلا أنَّ الحاصل في المجتمع أنّها تجعل هي الأساس والمعتمد فتسطو على بقية الحقوق والواجبات باعتبارها البديل المريح عنها، وتفاقم هذه الحالة يعني بقاء نِسَبٍ كبيرة من المشاكل والضغوط النفسيّة والقضايا الاجتماعية بدون حل.

والإنسان خُلق لكي يتعارف ويجتمع مع الآخرين، فإذا غطّت الرسالة أو الصورة عبر الوسائل الحديثة مقداراً من هذا الاجتماع والتعارف فإنها لا تسدّ وتغطّي حاجة المقدار الآخر -الذي هو أكبر وأهم-.

* مداخلة: أحسنتم شيخنا، لكن أليست القضية أوسع من مجرد مسألة حلِّ المشاكل؟ أليس نفس حضور الشخص في المجتمع من خلال المسجد أو المأتم أو بين المؤمنين أصل هذا الوجود .. ألا يكون شبه تكليف اجتماعي إن صحّ التعبير..

نعم، لا بدَّ من الحفاظ على المظاهر الاجتماعية؛ لأنّها هي مصدر الراحة والصحّة النفسية للمجتمع، وهذه البيئة الصالحة هي التي ينمو فيها الإنسان المؤمن نموّاً صحيحاً، وبالتالي فإنّ أيَّ خروج عن هذه الدائرة سيسبّب نوعاً من النقص، ووسائل التواصل لا تغطّي إلا مقداراً يسيراً جدّاً من الواجبات الاجتماعية، بل هي عاجزة عن تلبية جملة من الحاجات الخارجية للمؤمن أحياناً، فكم من عقدة نفسيّة لا تعالج إلا بالحضور المباشر وكم من فعّالية وعبادة لا تؤدّى إلا بصورة الاجتماع الواقعي كما هو الحال في العبادات الجماعيّة كصلاة الجماعة ومجالس الإحياء والذكر، ناهيك عن أن نفس الحضور والتجمّع في هذه المحافل يمثّل مظهراً للوحدة والتآلف ومصدراً للسعادة والاطمئنان وراحة البال، ويشكّل رعباً للأعداء الذين يرهبون مثل هذه الاجتماعات ويخشونها ولذا هي أوّل ما يسعون لمحاربته.

دور التزاور والاجتماعات العبادية في تقوية العلاقات الاجتماعية:

* التزاور بين المؤمنين من العبادات المهمَّة التي وردت فيها كثيرٍ من الروايات، ما هي الآثار الإيجابية لهذه العبادة الاجتماعية -إن صحَّ التعبير-؟ وكيف نحافظ عليها عن الضعف والضياع؟

قبل أن نسأل عن كيفية المحافظة عليها فلا بدَّ من الإشارة إلى حجم الخطورة من تركها، فالمجتمع لحمةٌ واحدة، فإذا صار تقصيرٌ في جنبة من جنباته كترك التزاور وأدى ذلك إلى زيادة التوتّر والضغط النفسي عبر أفراده، سيسبب متاعبَ من جهات أخرى تنشأ من هذه الزيادة، فيصير المجتمع بؤرة لتركّز الكثير من العقد والمشاكل التي تتصاعد، والفرد إذا بقي لوحده وأصابته الهموم والغموم وبقيت في صدره ولم تخرج فإنّ هذا الفرد سيكون -مع مرور الوقت- معرّضاً للانفجار أو الانهيار في أي وقت ممّا يؤدي إلى قلّةِ حيويّته وابتسامته واشتداد أعصابه، مما ينعكس على أهله وأولاده، وعلى المراجعين إن كان موظفاً مثلاً، وسينعكس على أيِّ تصرُّفٍ يصدر من الآخرين.. وهذا ما يولّد مشاكل إضافية على ما عنده من مشاكل.

لكن لو عملنا بالمجرى الطبيعي لعلاج هذه المظاهر كالتزاور الذي يساهم في تخفيف الضغط والتعب الموجود في النفس فلا شكّ أن المبتلى بهذه المسائل سيكون أكثر حيويّة واستعداد للتفاعل مع الآخرين والتجاوب معهم بأريحيّة.

وقنوات التواصل المذكورة لو أمكن استغلالها في الترويج للتزاور بدلاً أن تأخذ مكانه لكان بالتأكيد أفضل وأكرم وأبهج للمزور.

* نلاحظ أن بعض العبادات الشرعية قد ركّز الشارع المقدُّس عليها كثيراً وفيها جنبة اجتماعية كصلاة الجمعة أو الجماعة مثلاً، لماذا اهتمام الشارع بذلك؟ ولماذا يستغلُّ الشارعُ العبادة في تقوية الجانب الاجتماعي؟

باعتبار أنّ من أهمّ عناصر القوّة في الدين هو كونه مجتمعاً متماسكاً، وبدون إيجاد هذه العبادات الجماعية فقد لا نتوجّه إلى أهميّة التجمع وضرورة كون أيدينا واحدة وأن في العبادة المشتركة التي تؤدى في زمان ومكان واحد مضامين وبركات عالية.

فهي أولاً: رسالة إلى أعداء الدين بأنّ المؤمنين بينهم حالة اتحاد بتماسكهم، وأنَّ نفس التجمّع هو استناد وتآزر، وأن المنتمي لهذه الجماعة لا يستشعر بالاستفراد والضعف، بخلاف من يعيش لوحده؛ فإنَّه سرعان ما ينكسر ويُسيطر عليه، فاستقواء الجماعة ببعضها يكون متبادلاً، فهذا يستقوي بذاك والآخر كذلك، فيكون من مظاهر العزَّة والكرامة.

ثانياً: إنَّ هذه التجمعات مفيدة للتعرّف عن كثب وبتلمّس واقعي عن أحوال الناس وقضاياهم المثارة، والتحليلات الموجودة حولها، وهذه المعلومات نافعة جداً وقد لا تنال بغير هذه الطريقة.

ثالثاً: هذه العبادات الجماعية هي وقاية للإنسان من الوقوع في الانحراف؛ لأنَّ الإنسان إذا عاش في أوساط جماعية فهو يحسُّ بوجود أكثر من عينٍ رقيبةٍ عليه، فإذا صدر منه خللٌ فإنَّ غيرَه ينبِّهه على ذلك مما يعزِّز حالة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهذا يظهر أيضاً في حالات الأزمات والنكبات؛ فإنَّ هذه المظاهر الجماعية تعين على شدّ العضد والأزر والحثّ على التحمّل والصبر ومواجهة كلّ التحدّيات وإن عظمت -وما أكثر الأزمات التي يبتلي بها المؤمن-، والخلاصة: أن وجود مثل هذه العبادات هو نوع من الحصانة وتفريغ الهموم والشحنات والأتعاب.

رابعاً: إن هذه العبادات تتأثّر إيجاباً بزيادة العدد، إمَّا من ناحية الثواب كمضاعفة ثواب المصلين في صلاة الجماعة كلّما ازدادوا، وإمّا من ناحية الجوّ الروحي الذي يبرزه نفس التفاعل المشترك وهيبة الاجتماع وبركة أنفاس المؤمنين.

* كانت ولا زالت بشكلٍ وآخر ما يسمَّى (الرحلات الجماعية) لأهل القرية أو للمجموعات الشبابية بأن يذهبوا لمخيم مثلاً أو بركة سباحة أو حديقة عامة، هل تؤيدون مثل هذه الرحلات؟ وهل تحثُّون كبار السنِّ في المشاركة فيها؟ ولماذا؟

أمّا بخصوص أصل هذه الرحلات فهي مطلوبة في حدّ ذاتها؛ فهي باب واسع للتنفيس بالنسبة للمؤمنين، وهي باب واسع للتعرُّف على الآخرين؛ لأنّ في مثل هذه الرحلات تُرفعُ بعض الحواجز بين الإخوان، ممَّا يساهم في تقاربهم وتآلفهم، ويعطى الفردُ فرصةً أكبرُ لاكتشاف الآخر، وأنت في المجتمع تحتاج إلى التعرُّف على طرق التعامل مع الآخرين، ومثل هذه الرحلات تساعد على هذا الأمر، وقد تتعرَّف من خلالها أيضاً على الطريقة المناسبة للتعامل مع هذا أو ذاك.

وكذلك فإنَّ هذه الرحلات بابٌ لحلِّ بعض القضايا الاجتماعية؛ ففي مثل هذه الأوقات تأنسُ فيها النفوس وتكون مستعدّة لتقبل الآخر وتقبل التغاضي عن زلّات الآخرين، كما أنَّها تساعد في إيصال بعض المفاهيم الصحيحة، وإعانة من يحتاج إلى ذلك للأخذ بيده إلى سبيل الهداية.

كما أنَّ هناك أشخاصٌ قليلو الكلام، ولا يبثّون ما بهم من هموم بسهولة، فمن خلال هذه الأجواء من الممكن أن تدخلَ الراحةُ على نفوسهم وتحفّزهم على التعبير عمّا يجول في خواطرهم فتغدو فرصة لحلّ مشاكلهم.

أمّا أنَّه هل ينبغي لكبار السنّ أن يشاركوا فيها فما المانع من ذلك طالما أنه لا يوجد محذور معيّن قد ينشأ لبعض الحيثيّات، ولا ينبغي أن يعزف الكبار عن رحلات الشباب إن أمكن؛ لأنَّ وجودهم أشبه ما يكون بالضامن؛ فهم أصحابُ خبرة وسنين من التجربة، فهذه فرصة لنقل تجاربهم إلى الآخرين.

وكذا للحفاظ على الرسالة الصحيحة لهذه الرحلات من الانفلات، وحتى لا تكون هناك تجاوزات وتنشأ بعض المحذورات، فوجود الحكيم القادر على التصرّف بشكل لائق مهم في مثل هذه الاجتماعات العامة.

دور الأسرة:

* يبدأ المجتمع القوي من الأسرة القوية، ما هي الأمور التي يمكن أنْ يزرعها الأبوان في نفوس الأبناء والبنات لكي يكون لهم دورٌ مستقبلي في المجتمع؟ وما هو السنُّ الذي تبدأ التربية الاجتماعية معهم؟

أجيب أولا عن الشق الثاني من السؤال:

التربية تبدأ من تربية الأب نفسه قبل أن يقدم على الزواج، ثم عندما يبدأ التفكير في الزوجة من جهة اعتبارها الحضن الذي سيضم الأبناء ويربّيهم.

ثمّ يأتي بعد ذلك التفكير والتخطيط الصحيح لعقد النطفة، فلا بدَّ من رعاية نشوئها من مال حلال ومن أكلٍ حلال، ثم يتدرّج الحال بعد ذلك في بناء البيئة الأولى للأبناء وهي محيط الأسرة الذي يلزم أن يكون هادئاً ومبنيّاً على التفاهم والابتعاد عن التشنّجات العائلية والمشاحنات، فإنَّ ذلك يساعدُ في هدوء النفسية مما يعين ذلك على التربية، وقد سُئل بعضُ الأشخاص الذين أبناؤهم من حفّاظ القرآن الكريم عن بداية تنشئتهم على تعلّم القرآن وحفظه فقالوا بأنَّ البداية كانت في مدّة الحمل حيث يكونُ صوتُ القرآن قريباً من الأم في غالب الأوقات، ولم ينقطع صوت القرآن عنه؛ فكان أثر ذلك بعد حين؛ حيث صار عند الأولاد قابلية كبيرة على فهم القرآن وحفظه، وكان كثير ممَّا كان يحفظه هو استذكارٌ وتثبيتٌ لما اعتاد على استماعه.

أمَّا مسألةُ التعليم فهذا متوقِّفٌ على توفُّر الاستعداد عند الأولاد لذلك، فيرسلهم إلى جهة معينة أو يقوم هو بذلك.

وأما عن الشق الأول من السؤال فهو واسعٌ وأذكر جملة من الأمور المتعلّقه به ممّا تُطلبُ داخل البيت أو خارجه:

منها ما يرتبط بمسألة الأمن والأمان، فمن الخطأ أن يعيش الطفل حالة فقد الأمان، ويعيش الخوف والإرهاب عبر الضرب والتوعيد والصراخ، والعقاب السلبي الذي فيه التشفّي والإهانة والحرمان الذي هو فوق كاهل الطفل، أو أن يتحوَّل البيتُ إلى ساحةِ شجار بين الأبوين فينشأ الطفل مضطرباً ومرتبكاً يعيش القلق والخوف باستمرار.

فالمأمول من الأسرة أن تكون سكناً فيه المودّة والرحمة المتبادلة لا سيّما بين الزوجين، فإذا لم يكن أحدهما يحترم الآخر فإنّه يحفِّز الأولاد على عدم الاحترام لأبويهما, وكذا في مسألة الاختلاف فيما بينهما لا ينبغي أن يكون بمنظر الأبناء ويلزم أن يكون بعيداً عنهم حتى لا يتأثروا منه وتتطبّع فيهم العقد.

ومنها ما يرتبط بطبيعة النظافة والنظام، فإدارة المنزل من خلال ترتيبه ونظامه وجمال هيئته فإنْ كان مليئاً بالفوضى فإنّه يعين على عدم تنشئة الطفل على النظام والترتيب والاحساس بالمسؤوليّة، وقد يؤدي إلى حدوث نوعٍ من النقص في استقامة الحالة النفسيّة والتعامل الطبيعي مع الناس، إذ أن عدم ترتيب البيت وحسن إدارته قد تسبّب في عدم استقبال الضيوف والأصدقاء للأولاد فيصابوا بالخيبة وضعف الشخصيّة مثلاً.

ومنها ما يرتبط بلباس الأبوين المحتشم، فالأمُّ وإن كانت في بيتها لها الجانب الواسع والحريّة في ارتداء ما تشاء إلا أنّ هذا لا يعني أنّها تلبس ما فيه إبراز ما لا يليق إبرازه أمام الأطفال -ذكوراً أو إناثاً- فعواقبه جداً سلبيّة في بروز وتحفيز عناصر الشهوة على نفوسهم، وكذلك الحال بالنسبة إلى لباس الرجل وهيأته، فإذا كان ممّن يستهوي اللبس الذي لا يدل على الرجولة أو يهوى التسريحات الغير مناسبة مثلاً فلا غرو من انعكاسه على روحيّة وفكر أبنائه.

وأما ما يتعلَّقُ بمسألة تغيير الجوّ وإضفاء حالة التنفيس في البيت فإنَّه لا ينبغي أن يعيش الأبوان حالة الجدّية التامة مع الأبناء، فإنَّ ذلك يساهم في إيجاد حالة الضغط عليهم، فقد يطلب من الطفل أن يعيش الجو الدراسي بعد رجوعه من المدرسة بصورة مبالغ فيها، فيكون في حالة جادّة من خلال الدرس من الصباح إلى قبيل النوم وهكذا، بينما الطفل بطبيعته يحتاج إلى اللعب، وإلى أن يمضي وقتاً مع الأطفال، ويحتاج إلى التحدّث مع الآخرين، وكذا ممارسة الهوايات واللعب مع الأقران.

ثمّ هنا نقطة مهمّةٌ في تعليم الأطفال، وهي أن زيادة الحرص السلبي والمبالغ فيه على سلامة الطفل قد يسلبه الحصول على الكثير من المهارات والوظائف؛ فينشأ من دون أن يحمل خبرة عملية، فضلاً عن انعدام الثقة في النفس، فالفتاة قد تصل إلى عمر العشرين عاماً وهي لا تحسن الطبخ، ذلك لخوف أمّها عليها من نار الموقد مثلاً، أو أنَّ صبيّاً يكبر وهو فاقد للثقة في نفسه لأنه لم يفسحْ له المجالُ يوماً في إمساك مطرقة أو مفك أو إنجاز بعض الوظائف اليسيرة يدوياً، فلا بدَّ إذن من فسح المجال إلى الأبناء لاكتساب هذه المهارات الذاتية ليتعلّم من خلالها كيفيّة التعامل مع المحيط واكتساب الخبرة.

وأمَّا ما يرتبط باختلاط الأبناء مع الأطفال الآخرين والاختلاف معهم أحياناً أو حصول حالة التشاجر فهو من الأمور الطبيعيّة والتي ليس بالضرورة يكون ناشئاً عن خبث سريرة، فلا ينبغي أن يتعامل مع هذا الأمر كما يُتعامل مع الكبار، ومن الخطأ الفادح أن يحرم الأبناء من مشاركة أقرانهم بحجج أنّهم تعاركوا فيما بينهم سابقاً، ويغفل عن أنهم لو تركوا يتفاهموا فيما بينهم لرجعوا بعد مدّة قصيرة إلى إتمام اللعب وكأن أي شيء لم يحصل.

ومن الأمور المهمّة أيضاً في التربية هو ضرورة إعطاء الطفل مساحة للتعبير عمّا يحبُّ من أشياء وعدم جبره على نمط معيّن، إلا أن يتم ذلك مع المراقبة المعقولة؛ لأنَّ الكل يريد أنْ يتلقّفه من أصحاب السوء وغيرهم، فهم مستهدفون من قبل أعداء الدين، فالجميع مستهدف ولا سيّما مع هذه الأجهزة الالكترونية، وهنا يحسن التأكيد على أنَّه لا ينبغي ترك الأبناء منفردين مع هذه الأجهزة لساعات ولوحدهم من دون رقابة، ويمكن جعل مثل جهاز الكمبيوتر في وسط المنزل مثلاً حتى يحدّ من ظاهرة سوء الاستفادة منه بأقصى ما يمكن، وكذا لا ينبغي الاستعجال في شراء الأجهزة، وإذا صار اضطرار إلى ذلك فلا بدَّ من متابعة المادّة الموجودة في هذا الهاتف ولكن بصورة صحيحة غير هدّامة وسلبيّة، والأفضل أن يحاول زرع الثقة في نفس الطفل بأن تكون له حصانة ذاتية من داخله وعدم كسره بكيل الاتهامات إليه.

فالطريقيةُ الدينيةُ المثلى في مثل هذه الموارد هو أن يفهّم الطفل ويعلّم كيفيّة أن يتحاشى مادة الحرام وأنه لو حصل وأن أخطأ فباب التوبة والرجوع إلى الجادّة السليمة مفتوح من أوسع أبوابه، فهذا أسلوب جيِّد للتعامل مع الأولاد، فمع المراقبة والنصح لا بدَّ من فتح الأبواب له للرجوع والتصحيح.

أمَّا من جهة خارجية فلا بدَّ من أن يكون الالتفات إلى أنَّ الطفل خارج البيت له حصّة من التربية ولا تنحصر في بيئة البيت والأسرة، وبالتالي لا يحرم منها، ولكن لكون الخارج مليء بالتوجّهات المتعدّدة فحريّ أن يساعده على اختيار البيئة النظيفة والأجواء المناسبة، شريطة أن لا يصادر عليه حرّية اختياره.

ولا بدَّ من جعل الطفل عنصراً فاعلاً في المستقبل، فيشجّع على البرامج النافعة الدينيّة وغيرها التي تصبُّ في صالح الطفل، كالدورات الصحية والرياضية لكي لا يعيش حالة السأم والملل، شريطة أن يُدفعَ الطفلُ إلى الأيدي الأمينة، وكذا من الضروري اكتشاف الملكات الحميدة عنده ويحاول إبرازها في المجتمع، فإنْ كان صاحب صوت جميل مثلاً دُفِعَ في مجالات الإنشاد وما شاكل، وإن كانت عنده قدرة على الحفظ يُدفع للاشتراك في مسابقات الحفظ وغيرها من البرامج المفيدة، وهكذا.

* المراهقة من أصعب المراحل التي يمرُّ بها الشاب، وهي في الوقت التي تكون فيه مهمة، فهي خطيرة جداً، وما يحصل فيها ربما يحدِّد مصير الشاب، كيف نحافظ على شبابنا المراهقين خصوصاً في ظلِّ انتشار أسباب الانحراف وسهولتها، وكونها في متناول الأطفال فضلاً عن المراهقين؟

 مرحلة المراهقة من المراحل المهمَّة جداً في الحياة فقبل كلِّ شيء ينبغي لمن يريد التعامل معها من تفهُّمها جيداً، ففيها يكون الشاب يميل إلى الاستقلالية، وتبرز له احتياجاتٌ خاصّةٌ به، فمعرفة ما هي شروط هذه المرحلة واحتياجاتها وطبيعة انعكاساتها على الشاب أمر مهم جداً؛ وذلك لكي نستطيع من خلالها أن نوجد حلقة التفاهم والوصل، فبعض الآباء في تعاملهم في مثل هذا المرحلة من عمر الشاب إمَّا أن يتساهل أو يتشدد من دون الاطلاع الكافي على الاحتياجات الخاصة للمراهق؛ مما يؤدّي إلى عدم القبول أو الانزعاج والنفور من قبل الشاب قبالَ نصائح وتعامل الأبوين معه.

ثمَّ إنَّ هذه المرحلة قد نتعامل معها من جهة وقائية، وذلك عندما نريد تحصين المراهق من الوقوع في الانحراف، وأخرى نتعامل معها من ناحية علاجية، وذلك فيما لو بدر منه انحراف وأردنا علاجه.

* أما فيما يرتبط بالمرحلة الأولى (الوقاية):

فالشاب في هذا السن يحتاج إلى مراعاة جملة من الأمور من بينها الجانب النفسي والأمني والذي يكون حساساً جداً، فالمراهق الذي لم يجد بيته آمناً بالنسبة إليه فإنِّه فسيمارس طاقاته وهواياته خارج البيت، وفي الحال الذي لا يكون منزله مكاناً للراحة النفسية ومحلاً لتبادل المشاعر الصادقة والحب والوئام سيلجأ مباشرة إلى البحث عن البديل من الخارج، وأغلب المراهقين الذين يقضون الساعات الطوال خارج البيت هو بسبب فقدانهم لما يروي غليلهم من هذه الناحية داخل البيت.

كما أنَّ المراهقَ يحتاج إلى أنْ يستشعر رجولته، وأنّه صار مُعتَمداً عليه، فمن اللازم المعاملة معه كوزير، فهو إذا قسّمنا مراحل التربية -كما في مضمون الرواية إلى ثلاث[7]- يكون سيداً في السبع سنوات الأولى، وعبداً مطيعاً في السبع الثانية ووزيراً في السبع الثالثة -وهذه هي التي تكون عادة في سن المراهقة- يكون في مرحلة الاستشارة والتهيئة لتحمّل المسؤولية، فيستحسن في هذه المرحلة بأن يكثّف من الاعتماد عليه حتى يحسّ بأنَّ له مكانة مرموقة في البيت، وأنَّ له دوراً أساسيّاً؛ لأنَّ أيَّ خللٍ فإنَّه سيسبب له نفوراً، وسيحاول أن يُبرزَ شخصيّته خارج البيت، وإذا انفلت من البيت صَعُبَ التحكُّم فيه أو إرشاده، والشاب في هذه المرحلة يحتاج إلى تهيئة سابقة كما ذكرنا سابقاً بحيث يبدأ الإعداد من حين اختيار الزوجة وما شاكل.

  والمراهق في هذه المرحلة في حاجة إلى أنْ يُحسنَ الظنُّ به؛ فالإنسان خطّاء، ومرحلة المراهقة فيها نوع من الطاقة القويّة جداً والحركة التي لا بدَّ أن تفرّغ، وبطبيعة الحال في هذا السن يكون الشابُ قليل التجربة، ووقوعه في بعض الأخطاء أمرٌ اعتيادي، فليس من الصحيح أن نسيء الظنَّ به في كلِّ موقف يصدرُ منه وننسى حالة الاضطراب وقلة التجربة والعجلة التي تغلب سلوكه وطبعه، فالصحيح هو إعطائه الفسحة في التصحيح والتقويم.

وأيضاً يحتاج إلى توفير البيئة الحاضنة له والتعليم المناسب له، خاصة فيما يرتبط بمسائل التكليف والبلوغ وأنه أصبح رجلاً فيحاسب كالكبار في جميع أحكام الشرع المقدّس؛ وذلك كي لا يقع في ابتلاءات لا يحمد عقباها، فقد يتسبب الجهل بذلك بانتكاسات مستقبليّة.

أما من ناحية الطريقة المثلى لعلاج حالة المراهق لو تحقّق منه الوقوع في الانحراف (العلاج):

هذه المرحلة مرحلة حسّاسة فيستحسن أن يكون الذي يتعامل معه صاحب خبرة، فإذا افتقد كلا الأبوين أو أحدهما الخبرة الكافية فليس عيباً أن يستعينا بالماهر الخبير من عالم أو غيره من المؤمنين.

فالبعض يُقصي هذا المراهق أو يعاقبه معاقبة شديدة أو يحرمه من أمر أساسيّ بالنسبة إليه، وهذا ما يسبِّبُ نوعاً من ردَّات الفعل القويّة، وحيث يكون الشابُّ أقوى من أبويه من الناحية الجسديّة ويكون أكثر منهما حيويّة وتحمّلاً في بعض المسائل فالتعامل الشديد معه يسبب زيادةً في التمادي والانفلات والضياع من قبله.

والحكمة والحذر والتأني والصبر الكبير هي من عناصر الفلاح والنجاح في إنقاذ هذا المراهق من الانحراف.

ومن الجّيد التأكيد مرة أخرى أنه على طول الطريق للمراهق يفضّل تعزيز الرقابة الذاتيّة بداخله عبر زرع الثقة في نفسه وتهيئة الأرضية الإيمانيّة المخبوءة فيه للبروز، بحيث يسعى هذا المراهق إلى الابتعاد عن المواد الفاسدة والعلاقات المحرمة من تلقاء نفسه.

والذي يعين في هذا الأمر أنّ في هذا السن يبرز عند المراهق حسُّ التدين بقوّة، فيحفّزه إلى تغذية هذا الحسّ بالعبادة والرجوع إلى الله وحسن طاعته، فتكون عنده حالة من التعادل، ففي الوقت الذي ينفتح عنده جانب الغريزة يكون بإزائه حسُّ التديّن موازياً وبارزاً، فتخفَّف الكثيرُ من المشاكل وتذلَّل بنسب عالية إن شاء الله تعالى.

الزواج وبعض معوقاته:

* يشتكي بعض الشباب الراغبين في الزواج عدم دعم الأب له، إمَّا بعدم قبول الأب أصل زواجه لصغره أو لكونه لا يعمل، وإما بعدم الاهتمام بذلك وكأنَّ الأب لا يهمه ذلك، ما هي المسوؤلية الشرعية للأب حول هذه المسألة؟ وبماذا تنصحونه؟

دور الأب بالنسبة للشاب المقبل على الزواج دورٌ ثقيلٌ وكبيرٌ جداً، فيقع على عاتقه مثلاً:

التثقيف: أن يثقِّف ابنَه فيما يتعلَّق بمسألة الزواج، وأنَّه خيرُ علاج لهدوء واستقرار وسكن النفس، فيعلّمه أنّ الإنسان يسير بصورة طبيعية عندما يتزوّج ويأخذ دوره في الحياة.

الإعانة: أن يعين الأبُ ابنَه حتى لو كان هذا الابن يعمل، فمسؤولية الأب تجاه الابن لا تنتهي ببلوغ الابن، فهو وإن كان له نحو من الاستقلالية لكن إذا رجعنا إلى الشارع المقدّس نجده في هذا الجانب يحكم بأنَّ الغني منهما عليه أن يعين الفقير، فإنْ كان الأب هو الفقير لزم على الابن إعانته، وكذا العكس، ولا يقف هذا على مدّة معيّنة، هذا على مستوى الوجوب، وأما على مستوى الندب والاستحباب فمجالها أوسع، فيكون من المندوب للأب أن يعين ابنه على قضاء حاجياته التي من أهمّها الزواج، وما يرتبط بها من متطلّبات، ولعلَّ الجانب المادّي يشكّل ضغطاً كبيراً في الغالب، فليس من الصحيح ترك الأب لابنه في هذا المنعطف الحسّاس والأساسي الذي يتمنّاه كلّ ابن من أبيه.

ثمّ إنّه يشاهد أحياناً وجود نوعٍ من التدخّل السلبي للأب أو من الأبوين عموماً، وهو أنّ الأب والأم في بعض الأحيان يقدمان اختيارهما على اختيار ابنهما في اختيار الزوجة أو التدخّل في اختيار الزوج، وكأنَّ الأبوين هما من يودّان الدخول في مشروع الزواج لا الأبناء، وهذا ممَّا لا شكَّ أنَّه يفسد حالة التفاهم والوئام بين الزوجين فمسائل الحب ممّا لا تقبل الإكراه والإجبار.

ولو ترك الأب مسؤوليته لعذر كما لو كان فقيراً، فقد يكون معذوراً ولكن هذا لا يخلِّي مسؤوليته عن باقي الوظائف، أما مع يساره فلا يكون معذوراً بلا شك.

* مداخلة: أحسنتم شيخنا الجليل، لقد رأينا بعض الآباء وللأسف الشديد يقف سدّاً مانعاً عن زواج الابن، فماذا تنصح هذا الأب لا سيّما مع حاجة الابن للزواج ومعرفة الأب بذلك.

هذه ثقافة خاطئة جدّاً ومردوداتها سلبيّة لما لها من تأثير على نفسية الابن بشكل كبير؛ لأنّه في الوقت الذي يحتاج فيه إلى الزواج وهدوء النفس سيُمنع، وهذا يعني أنّه سيلجأ إلى البدائل التي قد لا تكون صالحة، وهذا يعني أنَّ الأب قد ساهم في انحراف الابن، أو على الأقل ساهم في عدم استقراره، أو تسبب في  تعذيبه بدون مبرر، وحتى التبرير بالدراسة (فيما لو كان الشاب طالباً في الجامعة مثلا) حيث لا يوجد تناف بين الزواج والدراسة أو العمل، بل على العكس من ذلك فإنَّ الشاب إذا أحسّ بالمسؤولية فكثير من سلوكياته ستقوّم، وإذا أراد أن يُفرغَ ما عنده من مشاعر وعواطف فإنّه يجد من يتلقّفها بشكل شرعي.

فمنع الشاب من الزواج يعني أنّه ممنوع عن تفريغ هذه المشاعر الطبيعية، وهذا أكبر باب للانحراف، لأنَّ الكثير من العلاقات المحرّمة إنما هي بسبب الحاجة إلى التفريغ النفسي -وليس بالضرورة أن يكون ذلك لوجود رغبة في الانحراف- فقد يكون الشاب أو الشابة يعيشان حالة من الضغط النفسي، وكلّ منهما يلقي بالضغط الذي في نفسه على الآخر فتنشأ حالة من الألفة والراحة النفسية فتتبعها العلاقات غير الشرعية.

* الزواج هو أحد الحصون للإنسان من الانزلاق في المعصية، ولكن الملاحظ في أكثر مجتمعاتنا صعوبة الزواج، كيف يمكن تذليل صعوبات الزواج؟ وعلى من تقع المسوؤلية؟

من ناحية من المسؤول، فإنَّ المسؤولية تقع على الجميع؛ لأنَّ هذه الأفكار من الذي يخلقها في المجتمع؟! أليس من يتبانى عليها هم نفس أبناء المجتمع؟!! فهم عبر نظرهم وتقليدهم لبعض يخلقون هذه العادات والصعوبات، وبالتالي فالجميع معنيّ بهذا الأمر.

وإذا استقرأنا المتزوجين الذين كان البذل في زواجهم مبالغ فيه -بعد مرور فترة من زواجهم- عن رأيهم فيما صرفوه في المهر والحفل ومقدّمات الزواج لوجدنا أن جوابهم سلبيٌ وأنهم نادمون على ذلك، ثم يعيبون على المجتمع الذي أوجد هذه الحالة، ولم يوجد لهم التثقيف اللازم، هذا ناهيك عن ورود الروايات الحاثّة على تسهيل أمر الزواج التي عادة ما تكون مغفولة، كما روي: >أنَّ من بركة المرأة قلة مهرها، ومن شؤمها كثرة مهرها<[8].

وقد تتسبَّب هذه الحالة من الإسراف إلى إيجاد الكثير من المشاكل وتولِّد ضغطاً نفسياً على الزوج وقد تتحوَّل إلى حالة انتقام!

* مداخلة: هل يمكننا أن نقول بأنَّ المسؤولية الأولى تقع على عاتق الفتاة في هذا الأمر؟

الفتاة لها نصيب في هذا الشأن بلا شكّ، كما أنّ الأهل لهم نصيب من المسؤولية أيضاً؛ لأنّ الفتاة إذا كانت جريئة وواعية فمن الممكن أن تعين زوجها، وتجابه العادات الجارية التي قد تسبِّب حالات اضطراب في حياتهم الزوجية المستقبليّة، ولا سيَّما أنَّ الكثير من الأمور كالحفلات بكيفيات خاصة وأماكن معيّنة ليس لها المردود الإيجابي عليها ولا على زوجها.

ولا أعلم أنّ من لم يقم بهذه المظاهر الباذخة هل نقصَ من حياتهم شيء، أو تخلخل وجودهم الاجتماعي أو ما شاكل؟!!!، المظنون هو العكس.

وإن وجدت مشاكل فهي مشاكل بسبب التحسُّس من نظرات الناس، وهذا ليس مقياساً، فنظرةُ عامَّة الناس لا تكون مبنيّةً إلا على الظاهر وليس على الأسباب الواقعيّة والرئيسيّة، وبالتالي فإنَّ المقدَّم هو كلّ ما يبعث على الراحة على الزوجين.

* مداخلة: ولهنّ في الزهراء قدوة.

نعم، إن كانت هناك امرأة لها الحق في أن تطلب وتشترط فالأحق هي  الزهراءj؛ لأنّها امرأة عظيمة الشأن لا يستحقّها شخص إلا من طراز الأنبياء والأوصياءi.

وأهل البيتi هم قدوتنا ولم يكن الفعل الصادر عنهم ذوقياً، وإنّما كلّ فعل يصدر منهم هو مصدرٌ لإرشادنا إلى الطريقة الأنفع والأصلح للاستقرار بين الزوجين، وبالتالي فإنَّ هذه المسؤولية تقعُ على أهل الحل والعقد والشأن في المجتمع بأن يتصدّوا لكلّ حالة من هذا النوع.

وبالإضافة إلى التثقيف لا بدَّ من أنْ يكون الجانبُ العملي بارزاً كما هو الحال في مثل الزواجات الجماعية حيث يكون فيها المهر ومراسم الفرح معقولاً، بحيث يحفظ الشاب فيه وضعه النفسي والاقتصادي.

وهنا (في الزواج) قد يضطرُّ الشابُّ إلى اقتراض المال الكثير لكي يصرفه على حفل الزواج الذي لا يتجاوز الليلة الواحدة، وبعد ذلك يعيش فترة طويلة من التعب والنكد، فمن المستفيد من هذا؟! حتى الزوجة نفسها لا تستفيد شيئاً، بخلاف الزوجة الذكيّة العاقلة، فهي التي تقتصد على المصاريف المعقولة حال الزواج، حتى لو كان حفلها ومتعلّقاته أقل من غيرها بل حتى لو بلغ بها الأمر إلى أن تهب زوجها مهرها، وفي مضمون الرواية أنّه يستحب للزوجة أن تهب مهرها للزوج[9]، -والفرض أنّها لم تقبل إلا بالمؤمن المأمون- وهذا ليس خفّةً في العقل، بل لأنَّ مردود كلِّ ذلك يعود عليها بالنفع بالدرجة الأساس؛ فإذا اعتدل شأن زوجها ولم يتضعضع ساهم في التوسعة عليها في المنزل والملبس والترفيه أيضاً.

* الطلاقُ أمرٌ طبيعيٌ ويحصل في كلِّ المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، ولا يمكن منع حدوثه حتى في مجتمع المتدينين، ولكن لا شكَّ في إمكان التخفيف منه، بماذا تنصح الشاب المقبل على الزواج ليتجنَّب الوقوع في أبغض الحلال عند الله تعالى؟

سؤال ممتاز، بخصوص الشاب فهو عادة تتقاذفه الأحاسيس والمشاعر فلا ينطلق إلى الزواج إلا من باب الفراغ والحاجة، والحاجة في الوقت الذي تدفع الشاب دفعاً قوياً إلى الزواج فقد تسبِّب له نوعاً من الاستعجال وتقديم المشاعر على التعقّل فيستعجل في اختيار الزوجة المناسبة، لأنّه إذا كان محتاجاً قد يقبل بأقل نوع من الاستجابة من الطرف الآخر، فيقف عقله وتتحرّك مشاعره فيعجب بالطرف المقابل من جهة عاطفية فقط ويعمى عن الأمور الأساسيّة في الحياة الزوجيّة الدائمة، وعندما يقدم على الزواج فإنّه يصطدم بسلوكيّاتها فيقع الشجار واللجوء إلى الانفصال.

وباب آخر هو مسألة شياع العلاقات المحرّمة، وهذه تفتت الكثير من الثقة بين الزوجين، فإذا علمت الفتاة بأنّ زوجها يتحدّث مع النساء بلا ضوابط فهذا يساهم في زلزلة ثقتها به، ونفس الأمر بالنسبة إلى الزوج، وما أكثر حالات الطلاق جرّاء هذا الوباء الفتّاك.

ووجود وسائل التواصل حيث يكون التبادل للرسائل بين غير المحارم هو من هذا الإطار أيضاً وله نفس النتائج الوخيمة.

وأمر آخر هو مسألة عدم الثقافة السلوكية داخل البيت، فكثير من الأحيان يكون الزوجان كلّ منهما إنسان صالح في حدّ نفسه لكن عدم تثقفهما بما هو المطلوب في الحياة الزوجيّة والإدارة الجيّدة والصحيحة داخل البيت الزوجي يؤدي بهما إلى عدم التفاهم، فالزوج مثلا عندما يقبل من العمل ويدخل بيت الزوجة فإنّه يتوقع من الزوجة أن تتفرّغ له وتعدّ له حاجاته الضرورية فإذا تعذّرت بالانشغال أو الأولاد بنحوٍ مستمرّ ويوميّ يضجّ منها، وفي فترة المساء مثلاً قد يحدث العكس، بأن تكون الزوجة بحاجة إلى أن تتحدّث مع زوجها وتناقشه وما شاكل وهو يقابلها بشعوره بالتعب أو برغبته في الخروج من المنزل مع أصدقائه فتشعر بالامتعاض والإحباط.

فهنا تنشأ المشاكل ونوع من القطيعة حيث كلّ منهما يرى بأنّ الآخر لا يلبّي هذه الاحتياجات العادية البسيطة، ومع مرور الوقت تنشأ قناعة من الزوجين على وجود الصعوبة في التفاهم ويزداد هذا ويتفاقم حتى يسعى كلّ منهما إلى اللجوء إلى تلبية حاجته من خارج البيت حتى تصل النوبة إلى الطلاق.

وتوجد أسباب أخرى أيضاً إلا أنّ هذه أهمّها.

* في العصر الحاضر وفي أغلب المجتمعات أصبح دخول الجامعة شبه ضروري في نظر أغلب الناس ومن الجنسين، كيف يحافظ الشاب والشابة على تدينهما في الوسط الجامعي المختلط والمنفتح وربما المتفسِّخ أخلاقياً؟ هل يتزوّج مثلاً لتحصين نفسه؟ أم يصبح انعزالياً مثلاً منعاً من الوقوع في الشبهات؟ أم ماذا يصنع؟

لا نستطيع أن ننكر ضرورة الدراسة ولسنا ضد العلم وطلبه، ولكن لمواجهة هذه التحدّيات قد تقع أموراً في اليد من الممكن أن تخفِّف مثل هذه الحالة، فمثلاً لو كان هناك عدّة خيارات وبعضها نسبة الضرر والانحراف فيها أقل فمن الممكن الذهاب إلى الأوساط التي تكون هي أقل، ومن أمكن أن يتحصّن بالزواج فهو المطلوب ولا سيّما في هذا السن.

كما أنَّ بالإمكان الاستعانة من الثلّة المؤمنة الصالحة، فالتحرُّز بترك الوحدة والانفراد والتحصّن بالمؤمنين هو أعظم حصانة من بعد الله تعالى، وفي ظل هذه التحدّيات لا بدَّ أن تكون الاحتياطات الدينيّة أكبر والعبادة تحتاج إلى مضاعفة؛ إذ من يستشعر بوجود العدوّ أمامه فإنّ تحصيناته في حاجة إلى تقوية كي لا يقع فريسة سائغة له، وذلك باجتناب الأمور التي تجذب الطرف الآخر كالعطور وما شاكل مما تدخل في عنوان اللامبالاة فإنّ التقليل منها يساهم في مسألة التحصين.

إلا أنَّ أقوى وقاية وتحصُّن هو المداومة على المساجد والمآتم والجلوس في مجالس المؤمنين والاستعانة برقابتهم، وهذا بحسب التجربة وهو مضمون مجموع جملة من الروايات الشريفة، فأفضل ضمان في هذه المرحلة هي الجماعة الصالحة وهي جماعة المسجد، جماعة المأتم، جماعة المؤمنين، فإن صلحت هذه الجماعة صعب اختراقها من الشيطان ومكائده لأنّ كلّ فرد من هذه الجماعة يذكّر الآخر.

فالجماعة التي تستنكر اللباس الشاذّ إذا صدر من أحد أفرادها مثلاً ستكون خير معين على عدم التجرّؤ للبس هذا اللباس وهكذا، وهو ما يمكن التعبير عنه بالرقابة الاجتماعية التي هي باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* من المشاكل الاجتماعية ما يخلِّفُه الفراغ من انحرافات وأمراض نفسية، وأهمُّ أسبابه البطالة وترك الزواج؛ حيث لا مسؤولية ولا شيء يلتهي به، كيف يمكن حفظ الشباب من هذا الفراغ؟ وماذا يجب على الشاب المبتلى بذلك ليقي نفسه من سلبيات الفراغ؟

هناك شيءٌ مبالغٌ فيه لدى بعض الشباب في هذه المسألة، وهو أنّه لا يوجد عمل في المجتمع، طبعاً لا أدعي سهولته ولكن بنفس الوقت ليس من الصحيح القول بأنَّه لا يمكن إيجاد شيء يقبل العمل، فهذا لا يخلو من تقاعس، وليس عيباً أن يعمل الإنسان بأيّ نحو من أنواع العمل، نعم يبقى المطلوب أن يسعى الشاب للحصول على العمل اللائق ولكن مع عدم الحصول عليه ابتداء ليس من المسوّغ القول بعدم وجود العمل ولو بالمستوى الأقل من الطموح، وطبيعة النجاح والتقدّم يكون بنحو التدرّج والابتداء بالقناعة والقليل، ومن لا يطلب إلا المستويات الراقية فقد لا يصل.

الأمر الآخر لو قلنا بأنّه في فترة من الفترات ولتكن فترة البحث عن العمل لم يجد الشاب ما يقوم به من عمل فمن الخطأ جدّاً أن يلجأ للانعزال لما له من تعزيز لحالة الإحباط والفراغ عنده، ويكون باباً واسعاً لتغلغل الشيطان في امنياته وخيالاته التي تفسد نفسيته، فمن اللازم تقليص حالة الانعزال.

وحينها لن يكون أنجع وأفضل من الاستعانة بالجماعة المؤمنة كما تم بيان ذلك في بعض الأسئلة السابقة، أو يحاول الشاب شغل وقته بالمفيد الذي يقضي على الفراغ بقدر الإمكان، كممارسة بعض الهوايات والرياضات مثلاً، أو تعلّم بعض المهارات ... المهم أن لا يقضي أوقات الفراغ بصورة سلبية بالانعزال عن الآخرين فضلاً عن ملئه بما كان مفسداً له ولمن حوله.

أما المجتمع فهو مسؤول عن توفير فرص العمل والتعليم إلى أمثال هذه الطاقات ويستثمرها فإن لم يبدأ الشاب بالبحث والطلب للعمل فعلى المجتمع المساهمة الفاعلة في تذليل هذا الأمر ولو من خلال إيجاد فرص للعمل في الأنشطة الاجتماعية والتبرّعية.

* كلمة أخيرة سماحة الشيخ نختم بها هذا الحوار:

لا يسع في الختام إلا إعادة توجيه الشكر لكم على فسح المجال لهذه المشاركة متمنّياً لكم التوفيق والسداد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ونشر تعاليمه وسنن دينه، كما أسأل الله تعالى أن يحفظ بلاد المسلمين والمجتمع المؤمن من كلّ آفة وضلال وأن يجنّب شبابها الطاهر من الوقوع في الزلات والانحرافات ويهيّئ الجميع للطلعة البهيّة والغرّة الحميدة لصاحب الأمر والزمان أرواحنا فداه، وأن يجعل ذلك قريباً، ليعمّ الخير والصلاح والهدى جميع أرجاء الأرض وهي تنعم في رغدٍ ورخاء، إن الله على كلّ شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سادة خلقه الطيّبين الطاهرين المنتجبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هو سماحة الشيخ عبد الرؤوف حسن الربيع، من علماء البحرين المقيمين في قم المقدسة، والحاصل على درجة الماجستير في الفقه والمعارف الإسلامية في رسالته تحت عنوان (نظرية تعويض الأسانيد، المفهوم، الحجية، الحدود)، يشتغل الآن بدرجة الدكتوراه في (علوم القرآن)، وله مزيد من النشاطات التبليغية في البحرين والإرشاد في الحج، وكذلك في قم المقدسة، وله عدة كتابات نشر بعضها في هذه المجلة (رسالة القلم) والذي يشغل فيها منصب المشرف العام.

 

[1] سورة الحجر: 92.

[2] سورة الصافات: 24.

[3] سورة الحجرات: 10.

[4] غرر الحكم، الآمدي، ح7254.

[5] كتاب المؤمن، الحسين بن سعيد الكوفي، ص39، وعنه في مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج12، ص424.

[6] سورة الإنسان: 9.

[7] كما عن النبيe: >الولد سيد سبع سنين وعبد سبع سنين ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لاحدى وعشرين وإلا فاضرب على جنبه فقد أعذرت إلى الله تعالى< مكارم الأخلاق، ص222.

[8] كتاب من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص387.

[9] عقد الحر العاملي بابا في الوسائل تحت عنوان استحباب تصدق الزوجة على زوجها بمهرها وغيره قبل الدخول وبعده، وذكر عدة روايات منها: عن النبيe: >أيما امرأة تصدَّقت على زوجها بمهرها قبل أن يدخل بها إلا كتب الله لها بكل دينار عتق رقبة<، قيل: يا رسول الله فكيف بالهبة بعد الدخول؟ قال: >إنما ذلك من المودة والألفة<. وعن ورام بن أبي فراس في كتابه قال: قالg: >أيما امرأة وهبت مهرها لبعلها فلها بكل مثقال ذهب كأجر عتق رقبة<. قالg: >ثلاث من النساء يرفع الله عنهن عذاب القبر، ويكون محشرهن مع فاطمة بنت محمدe: امرأة صبرت على غيرة زوجها، وامرأة صبرت على سوء خلق زوجها، وامرأة وهبت صداقها لزوجها، يعطي الله كل واحدة منهن ثواب ألف شهيد، ويكتب لكل واحدة منهن عبادة سنه< وسائل الشيعة، الباب26 من أبواب المهور، ج21،ص284-285.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا