يعتبر موضوع تربية الطفل والمراهق من المواضيع المهمة والمعقدة والتي ألفت فيها البحوث وكتبت فيها الكتب الموسعة، وأهميتها نابعة من الحاجة الملحة لذلك النشء الذي سيصوغ المجتمع في يوم من الأيام وسيقود ركب السفينة التي يراد لها أن تبحر في فلك الإسلام العظيم وتنشر ثقافته ومبادئه، وأما تعقيدها فهو لا يربتط بحال من الأحوال في بعده النظري، إذ أن جانب التطبيق دائماً ما يكون عقبة كؤود في إسقاط النظريات على الواقع العملي نظراً لما يمتاز به كل طفل من خصوصيات وتمتاز به كل بيئة وما تحتاجه التربية من جهد وصبر قد يطول..
ولعل الجدل القائم في المطولات في تأثير العوامل الوراثية أو البيئية في تنشأة الطفل لا يهمنا -بشكل أساسي- هنا، إلا أن مجموعة من الأسئلة التي كثيراً ما ترتبط بواقعنا محتاجة لإجابات برؤية إسلامية واضحة تكفينا عناء البحث والتأمل في الكتب والموسوعات المتخصصة التي قد لا نصادف الإجابات فيها بنحو صريح.. لذا كان لقاءنا هذا مع شخصية متخصصة في مجال التربية وقد أمضى فترة طويلة في إهتمامه بالقضايا المرتبطة بهكذا موضوع...
ولهذا انطلق اللقاء مع سماحة الشيخ حبيب الكاظمي:
■ ما أهم وسائل تربية البعد المعنوي في الطفل في بداية عمره، مع مراعاة إعطائه الحرية للعب؟
● إن تربية الطفل - في بعده الروحي - تبدأ من المراحل الأولى حتى قبل الزواج، وذلك من خلال اختيار المنبت الصالح لتربية الولد، فقد ثبت تجريبيا وشرعيا بأن الصفات الوراثية تنتقل من خلال البنية الجينية للأبوين، ومن بعد ذلك يأتي دور الآداب الشرعية للحمل، وما تراعيه الأم في هذه الفترة الحاسمة من التكوين المادي والروحي للطفل، ثم مرحلة الرضاع والتي لا نشك أنه مع كونه حركة تغذية مادية إلا أن الأمر يتعدى إلى نقل الشحنات العاطفية من الأم إلى الطفل، وبعد ذلك تأتي مرحلة التربية الأساسية في السنوات الأولى من عمره.. والمعروف في هذا المجال أن السنوات الست الأولى لها دورها الحاسم في تحديد المستقبل النفسي والفكري والعاطفي للطفل.
■ ما معنى ما روي عن النبي الأكرم(ص): «عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره»(1)؟ وهل هذا مختص بالذكر فحسب دون الأنثى؟
● قد يكون الملاك أعم من الذكر والأنثى، فإن سرعة التحرك والتقلب لدى الطفل إذا لم تصل إلى حد المشاكسة وإيذاء الغير، فان هذا قد يكون دليلا على سلامة البنية العصبية والجسمية للطفل، وهذا أيضا لا يعني إهمال الطفل وعدم وضعه في الجهة الصحيحة التي فيها يفرغ شحناته الباطنية بشكل يجمع بين عدم كبت قابلياته ووضع الحدود اللازمة لعدم التعدي على حقوق الغير.
■ كيف يستطيع الأبوان أن يكون لهما الصبر الكافي لتحمل مشاكسة الطفل وتصرفاته المزعجة لهما؟
● إن الأمر يحتاج إلى عناصر متعددة في هذا المجال، فمنها المعرفة النظرية بأساليب التربية الحديثة وكيفية مواجهة التقلبات النفسية للطفل بحسب المراحل التي يمر فيها.. أضف إلى ذلك ضرورة التنسيق بين الأبوين وعدم وجود الخلاف في التعامل مع الطفل كزيادة للدلال من احدهما، ونقصا منه في الآخر.. وتذكُّر أنَّ الطفل أمانة إلهية يُسألُ عنها العبدُ يوم القيامة.
وليكن معلوما أن تقصير الأبوين في تربية الطفل -لو أدى إلى تحقق بعض الأزمات في كبره- فمن الممكن أن يحمَّلَ الوزرُ للأبوين يوم القيامة من جهة أن «من سنَّ سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها»(2)، ومن الممكن أن نعتبر أنَّ تربية الطفل سلبا أو إيجابا من مصاديق جعل السنة الواقعية التي تسري على الطفل وأحفاده إلى يوم القيامة والتي قد تصل إلى الآلاف في بعض الحالات.
وأخيرا ينبغي أن لا ننكر دور الدعاء في استنزال المدد الإلهي في هذا المجال، فقد ورد في القرآن الطلب من الله تعالى أن يهب الله تعالى للإنسان قرة عين(3)، بل أن يكون من ذرية الإنسان من هو إمام للمتقين(4) لا من المتقين فحسب، وهذا غاية الطموح في العبد المؤمن.
■ كيف يستطيع الأبوان أن يؤسسا علاقة مع ولدهما بحيث يلجأ لهما عند حدوث المشاكل، ويصارحهما عند وقوعه في المآزق، حتى لا يلجأ لمن لا يؤمن منه عليه؟
● قد لا يكون الأمر متيسرا في السنوات الأولى للتربية، ولكن من الواضح أن الأمر يتأكد في سنوات ما قبل البلوغ، حيث الفورة الخطيرة الداخلية والتي إذا لم تقع تحت السيطرة فمن الممكن أن يدمر الكيان النفسي له.. ومن هنا نؤكد على ضرورة تحاشي الأبوين أي مظهر من مظاهر الخلاف والتنفير عن الأبوين حتى في السنوات المبكرة، لأن هذا من شانه أن يجعل إحساسا باطنيا -ولو في اللاشعور- حبّا أو كرها سينعكس يوما ما في تعامل الأولاد مع الأبوين وفي موقفهم النفسي منهما.
■ ما هي الفوارق التربوية التي ينبغي للأبوين مراعاتها بين الذكر والأنثى؟
● لا شك أن الأنثى تحتاج إلى شحنة عاطفية مضاعفة كما يفهم من قوله تعالى {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}(5)، والذَكَر في المقابل يحتاج إلى تمرين عملي في ساحة الحياة كاصطحاب الطفل إلى الأماكن العامة كالمساجد وغيرها، طبعا كل ذلك في جو عدم إثارة الغيرة الباطلة بين الأولاد، فلا ينبغي إثارة الذكور مثلا من خلال التمييز العاطفي للإناث، ولا إثارة الإناث من خلال إتاحة فرصة أكبر للذكور للتحرك الخارجي.
■ ما هو السن المناسب لتعويد الطفلة على لبس الحجاب الإسلامي، وما هي الطريقة المناسبة لذلك؟ وهل حدد الشارع ذلك؟
● إن الواجب -كما هو معلوم- الالتزام بالحجاب في سن البلوغ ولكن مقتضى الاحتياط الشرعي هو الالتزام قبل ذلك، بل إننا ننصح الآباء بوضع ولو قطعه قماش صغيرة على رأس الفتاة حتى في السنوات المبكرة، لتتعود على جو الحجاب الشرعي فإن هذه الشعارات ينبغي ترسيخها في نفوس الناشئة التي باتت هذه الأيام تفهم الكثير من المعاني السلبية والإيجابية فإن مستوى الاستيعاب هذه الأيام لهذا الجيل أصبح أرقى من الأجيال في الأزمنة السابقة.
■ ما هو السن المناسب لتعويد الفتاة على تجنب الحديث مع الأجنبي إلا للضرورة، ومراعاة آداب العفة التي تجب على المرأة أو تستحب لها؟
● ليست هناك قاعدة ثابتة في هذا المجال، فالأمر قد يرتبط بنباهة الفتاة وتأثرها بالعوامل الخارجية، وكذا البيئة التي تعيش فيها، والقاعدة العامة في هذا المجال هو تجنيب الفتاة من كل مثير، ولو ظهر تأثيره مستقبلا فإن دفع الضرر المحتمل واجب كما هو معلوم.
■ كثير من ألعاب الأطفال تحتوي على موسيقى محللة من الجهة الشرعية، ولكن السؤال هل من المحبوب تجنبها؟ وهل لها آثارها التكوينية السلبية على الطفل؟
● إن النصيحة العامة في هذا المجال هي أن من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيها، ولا شك أن حمى الله تعالى حدوده القاطعة، فعليه نقول إن تعويد الأُذن على الموسيقى المشتبهة من الممكن أن يرفع قوة التمييز لاحقا في تحديد الحلال والحرام في هذا المجال.
■ ما رأيكم في مسألة الاحتفال بعيد ميلاد الطفل؟
● إذا لم يكن بنحو التشريع الاستحبابي فلا مانع منه، وأما رجحانه فيتوقف على وجود أثر تربوي لهذا الأمر بعيدا عن ترف المسرفين، ودلال الطفل المضر، أو إثارة الحسد والأحقاد، كما لو أقيم ذلك في وسط فقير بما قد يثير جوا سلبيا لدى أولاد الآخرين مثلا.. فالنبي يعقوب(ع) منع ابنه من قص الرؤيا لئلا يكون ذلك سببا للكيد، وهذه قاعدة عامة مفادها أن العاقل يتحاشى في أي مجال ما قد يثير له الضرر ولو كان أصل الفعل مباحا.. ونحن نرى أن الأنفع من حفل الميلاد هو (حفل التكليف) لما في ذلك من دعم لمسيرة الالتزام والتقوى.
■ كثير من الآباء يهتم بولده في الجانب الدراسي، وكذلك يهتم كثير بصحته ومستقبله الدنيوي، ولكنه يتعامل مع تربيته الدينية بشكل هامشي فماذا تقدم لهم من نصائح في هذا المجال؟
● إن من الواضح أن الباقي مقدم على الفاني، فإذا كانت الدراسة الدنيوية المتحددة أثارها بسنوات هذه الحياة الدنيا بهذه المثابة من الأهمية، فكيف بما يبقى أثره إلى أبد الآبدين؟!
وهذه ملاحظة نسجلها حقا، إن اهتمام الآباء بما يتعلق بالدين لا يقاس أبدا بما يتعلق بالدراسة، وهذا من موجبات تحميل المسؤولية للأبوين وخاصة إذا أدى إلى خلل في التقصير في الجانب الفقهي لمعرفة التكاليف الشرعية الأولية، ومن الممكن أن يعاتب الولد في المستقبل أبواه، فيما لو اكتشف خللا في عبادته يقتضي الإعادة المرهقة، وكان من الممكن تدارك ذلك من خلال التنبيه على ذلك.
■ كثير من أفلام الأطفال الكارتونية تعرض مواقف العنف والقتل والتقاتل، وكذلك مواقف علاقة المحبة بين الذكر والأنثى الأجنبيين، فهل لمشاهدة الطفل لها آثار سلبية؟
● لا شك أن ذلك مما لا رجحان فيه، فإن الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الطفل من الممكن أن تتأثر بمثل هذه المناظر السلبية، وتحول الطفل الوديع إلى موجود هجومي يضر الآخرين بفعله.
■ بماذا تنصح الآباء فيما يرتبط باستفادة الأبوين من التلفاز لتربية أولاده تربية صالحة؟
● كما نعلم فإن هذا الجهاز سلاح ذو حدين، شأنه شأن أي آلة مضرة في المنزل، والتي عادة نصرُّ على تجنيب الأطفال عنها.. ومن هنا نقول: إنه لا بد من السيطره على الأمر، ولا معنى أبدا لجعل هذا الجهاز يعمل على مدار الساعة من دون رقيب وحسيب، وخاصة في سنوات المراهقة.
وتبلغ المصيبة مداها عندما يتيح الأبوان فرص الدخول على القنوات المحرمة، فإننا نعتقد أنها من موجبات مصادرة جهود سنوات من التربية، وذلك في مشاهدة واحدة في ليلة مظلمة، فان الأمر لا يخلو مع الأيام من تحقق حالة من الإدمان على الحرام كما اعترف أصحابها بذلك، حتى بعد سنوات الزواج وتكوين الأسرة.
■ ما هو الحل لمشكلة عدم رغبة بعض الأطفال في الدراسة؟
● لا بد من دراسة الخلفيات الحقيقة لذلك، فقد يكون المنشأ في كثير من الأحيان، حالة الشرود الذهني والذي سببه هو الاضطراب الباطني، والذي يعود بدوره إلى الأبوين من خلال القسوة غير المبررة، أو إظهار الخلاف الزوجي أمام الأطفال.
وقد يكون من المناشئ الجو المدرسي غير المشجع، ومن هنا نؤكد على أنه يرجح الصرف الزائد في هذا المجال إذا كان ذلك في اتجاه تجنيب الطفل من بيئة المنكر والفساد.
■ كيف يتعامل الوالدان مع الطفل عندما يكون مشاكسا بصورة كبيرة جدا، كأن يتعدى على الغير بالضرب، ويتصرف في أموال الآخرين، وأمثال ذلك ولا يسمع لأحد أبدا، بل يصرُّ على العناد مهما عاقباه؟
● اعتقد أن هذا الحالة المتقدمة في السوء لها مناشئ، إذ الولد يولد على الفطرة(6)، فالأمر إما أن يعود إلى الأبوين، أو البيئة الأسرية، أو المدرسية.. وأما مع تفاقم الأمر وعدم سيطرة الأبوين على الأمر، فإنه يرجح مراجعة الأخصائي النفسي، وهذا كله لا ينافي الاستعانة ببعض المأثورات في هذا المجال والموجبة لتهدئة من أصيب بمثل هذا الاضطراب.
■ كثير من الناس يستخدم كلمة (شيطان) للتعبير عن مشاكسة الطفل، فما رأيكم بهذا الاستعمال لهذه الكلمة؟
● لا شك أن سياسة التعنيف والتقريع والتهميز سياسة مرفوضة في عالم الطفل وغيره، بل قد توجب حالة من التباعد النفسي مع الطرف المقابل، بل مما قد يوجب حالة النفور والعناد فيرتكب الطفل ما هو خطأ حتى باعتقاده لمجرد إغاظة الطرف الآخر، وهذه مرحلة خطيرة جدا في عالم التعامل مع الأولاد.
■ يسأل الطفل أحيانا عن بعض العقائد التي من المتعسر عليه أن يفهم جوابها لقصور عقله عن ذلك، كأن يسأن عن مكان الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يفهم معنى أنه لا مكان له، وأمثال ذلك من الأسئلة، فكيف يتعامل المجيب مع أسئلة الطفل هذه؟
● نفضل في هذا المجال صرف الطفل عن هذا الجو بمختلف الأساليب التربوية، فان الإجابة الصحيحة على مثل هذه التساؤلات تحتاج إلى مقدمات فلسفية ليست في مستوى الطفل بل حتى البالغين منهم.
■ هل المشاكل بين الزوجين التي تسبب حالة نفسية سلبية على الأم لها تأثير سلبي على جنينها إذا كانت حاملا؟
● لا شك في ذلك، فإنه كما ينتقل الدم إلى جسد الطفل من خلال المشيمة، فان الحالات الروحية أيضا تنتقل إلى الطفل، وهذا مما لا ينكره حتى الأطباء، ومن هنا نقول للزوجين المتخالفين إنه يرجح ولو مؤقتا إيقاف التنازع في هذه المرحلة حفاظا على الجنين، والذي ستكون سلامته من موجبات راحتهما في مقتبل العمر، أضف إلى ما هو أهم من ذلك ألا وهو رضى الله تعالى عنهما حيث أحسنا تربية الأمانة.
■ كيف يحبب الطفل في دراسة العلوم الدينية من مفاهيم وأخلاق وأحكام وعقائد؟
● أعتقد أن مشاهدتهما لسلوك أهل العلم وإظهار عطفهم عليه من موجبات غرس هذا المعنى اللاشعوري في قلب الطفل، ومن هنا نؤكد على حقيقة الاحتياط التام للأب إذا كان من أهل العلم من أجل أن لا يرى الطفل ما يوجب له التنفير من الدين، كما لو رأى تعاملا سلبيا مع أمه مثلا، فإنه من الممكن أن يغرس في نفسه حالة من التخلخل الداخلي بما يجعله ينصرف عن هذا المجال ولو كان راجحا في أصله عنده.
* الهوامش:
(1) ميزان الحكمة: ج3 ص1614.
(2) مكارم الأخلاق: 454، مستدرك الوسائل 12: 229.
(3) سورة الفرقان: 74.
(4) سورة البقرة: 124.
(5) سورة الزخرف: 18.
(6) الكافي2: 417، وعلل الشرائع 2: 376.
0 التعليق
ارسال التعليق