الملخّص:
تعرّض الكاتب في مقالته إلى مسألة تحمّل المسؤليّة، فبعد أن وقف عند مصطلح (المسؤوليّة)، فبيّن معنى المصطلح لغويّاً وفقهيّاً، لفت إلى وجود أصل دينيّ لهذا المصطلح وشموليّته، مبيناً الفارق بين منطلق الإسلام في ذلك وبين منطلق الفكر المقابل، ومستعرضاً الأدلة القرآنية والروائية ومجالات تحمّل المسؤوليّة في الإسلام مع ذكر عدّة تطبيقات عمليّة.
مقدّمة
ورد في النّبويّ المشهور عن رسول اللهe أنّه قال: «كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته».
أقف في هذه المقالة وبشكل مختَصَر على مفهوم (المسؤوليّة) عبر ثلاث نقاط: الأولى: في معنى المسؤوليّة. الثّانية: في بيان النّظرة الإسلاميّة العامّة حول هذا المفهوم، وما تميّزت به. الثّالثة: تنبيهات تخصّ مفهوم المسؤوليّة.
النّقطة الأولى: معنى تحمّل المسؤوليّة
من النّاحية اللغويّة، (المسؤوليّة) مأخوذة من مادّة: (سأل)، واسم المفعول منها هو: (مسؤول)، ومنه يصاغ المصدر الصّناعيّ القياسيّ بإضافة الياء المشدّدة وتاء التّأنيث المربوطة لتصبح الكلمة: (مسؤوليّة)، فتنتقل من معنى النّعت إلى معنى جديد مجرَّد يحوي مجموعة من الصّفات الخاصّة بهذا اللفظ، لم تكن الكلمة تدلُّ عليه سابقاً، وذلك على غرار: الإنسانيّة، والوطنيّة، وغيرها..
وبناء على ذلك، ينبغي أن تحدَّد المعاني الجديدة، المختزلة في كلمة (مسؤوليّة) بعد إضافة تاء النَّقل إليها، ولا شكَّ أنَّ المعاني العامّة المذكورة في هذا الشَّأن متقاربة، ومتداخلة، يعضد بعضها بعضاً، وهي مذكورة بنحو مكرَّر في معاجم اللغة الحديثة، فـ(معجم الوسيط) -مثلاً- عرَّف المسؤوليّة على أنَّها: «حالُ أو صفةُ من يُسأل عن أمر تقع عليه تبعته»، ثمَّ تكلَّم عن هذا المفهوم مضافاً إلى أبعاد ومجالات متعدّدة، مطبّقاً هذا المعنى العامّ عليها، كاصطلاحات بيّن جوهرها بذلك، وهي لا تبتعد عن معاني مثل: (الالتزام، والإصلاح، والتّدارك، والمحافظة على المهامّ).
وفي (معجم الرَّائد): "مسؤوليّة: ما يكون به الإنسان ملزماً ومطالباً بعمل يقوم به".
وعلى نفس النَّمط نجد هذه المعاني متضمَّنة، في مفهوم المسؤوليّة في مجالات أخرى، فهي في بعض معاجم الفقه بمعنى: (الضّمان، وتحمّل التّبعة) كما في (معجم لغة الفقهاء)، وكذا في (معجم ألفاظ الفقه الجعفري)، وفيه أنَّها تأتي أيضاً بمعنى: "الالتزام، والتّعهّد، والعهدة»، وفي (معجم لغة الفقهاء): «المسؤوليّة: من سأل، فهو مسؤول، والاسم: مسؤوليّة. إلزام شخص بضمان الضَّرر الواقع بالغير نتيجة لتصرّف قام به. المسؤوليّة التّعاقديّة: ضمان الضَّرر النّاشئ عن الإخلال بعقد. المسؤوليّة التّقصيريّة: ضمان الضّرر النّاشئ عن الفعل الضّارّ".
ونخلص في النّتيجة -كتحديد لموضوع البحث- إلى أنَّ معنى المسؤوليّة الّتي نريد أن نتحدّث عنها هي: (أن يكون الشَّخص -أو المجتمع، أو الجهة- في مورد المساءلة من قبل شخص أو جهة أخرى، يكون من حقِّها أن تحاسبه عبر هذه المساءلة)، وتحمّل المسؤوليّة بمعنى: (أن يأخذ الشَّخص -أو المجتمع، أو الجهة- على عهدته إنجاز بعض المهام المتعلِّقة بمجالٍ ما، وأن يلتزم بأدائها بالنّحو الكامل أوّلاً، وبتدارك ما قد يقصر فيه ثانياً).
ولا شكَّ في أنَّ المسؤوليّة -وتحمّلها- بهذا المعنى، إنَّما تنشأ وفق عقد ابتدائيّ أو ارتكازيّ، يقوم بإلزام متحمّل المسؤوليّة، وبإعطاء الجهة الأخرى في العقد حقّ المساءلة والمحاسبة، وهذا واضح في المسؤوليّات المناطة بالأشخاص أو الجهات ضمن عقود العمل، أو المعاملات، أو التّعاقدات الاجتماعيّة الضّروريّة المتعارفة، وليس هذا ما نريد أن نتكلَّم عنه بدرجة أولى في هذا البحث، إنَّما أريد الحديث حول المسؤوليّة الاجتماعيّة العامّة تجاه حاجات المجتمع، والّتي تأتي بناءً على التّعهدات الارتكازيّة غير المنصّص عليها، بما يؤدّي في النّتيجة إلى تكامل الأدوار، والتّنسيق العامّ في أداء المهمّات الأخلاقيّة -والإنسانيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة، والدّينيّة- في المجتمع، وذلك من وجهة نظر إسلاميّة..
هذا هو بالضّبط ما نريد الحديث عنه في النّقطتين الآتيتين.
النّقطة الثّانية: التّنظير الدّينيّ العامّ لمفهوم تحمّل المسؤوليّة:
وفي هذه النّقطة يدور الحديث حول أربعة أمور بنحو مختصر:
الأمر الأوّل: هل تحدَّث الإسلام عن (المسؤوليّة) أصلاً؟
من مجموع ما تقدَّم، نفهم أنَّ (المسؤوليّة) مصطلح مبتدع حديثاً، يمكن القول بأنّ النّصوص الدّينيّة لم تتعرَّض إليه بنحو مباشر تنظيراً وتطبيقاً، ولكنَّه -رغم ذلك- يعدُّ مفهوماً يختزل قِيَمًا اجتماعيّةً هامّة وأساسيّة، وعليه: لا بدَّ أنَّ للإسلام تنظيراً حوله، بما يؤدِّي إلى تكوين رؤية إسلاميّة متكاملة ترشد قيمه، وتوضّح ما هو مطلوب في ممارسته، ويمكن تصيّد هذه النّظرة العامّة والتّفصيليّة من خلال أحد ثلاثة طرق:
الأوّل: ملاحظة المصاديق والنّتائج، المسيَّسة بجوهر الفكرة، المذكورة في النّقطة الأولى كتوضيح لمصطلح المسؤوليّة.
ومن تلك المفاهيم: الدّعوة إلى التّكسّب، والإقدام على تطوير الذّات، والتّسلّح بالعلم، والمسارعة في الخيرات، والمبادرة إلى قضاء حاجات المجتمع المؤمن، والتّكافل الاجتماعيّ، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والشّجاعة، والحزم، والوعي، والبصيرة، والحميّة، والغيرة، وغير ذلك.
الثّاني: ملاحظة المفاهيم المضادة لحالة تحمّل المسؤوليّة.
ومن تلك المفاهيم المنهيّ عنها إسلاميّاً: العالة، والبطالة، والجبن، والتّهيّب، والتّلكّؤ، وتضييع العمر، والتّباطؤ، والكسل، والخمول.
الثّالث: يمكن أن نترقّى لنقول: إنَّ الإسلام تعرَّض مباشرة لمفهوم المسؤوليّة، وبنفس مادّة المصطلح تقريباً، وذلك عبر الآيات الّتي تكلّمت عن سؤال الجميع يوم القيامة، حيث جعلتهم في مورد المسؤوليّة العامّة، ولم تستثنِ أحداً من ذلك، وكذلك فعلت بعض الرّوايات، وسنتناول بعضها بعد قليل في الأمر الرّابع القادم.
ولا تنافي بين هذه الطّرق، بل كلُّها تؤكِّد أنَّ الإسلام لم يفوِّت الحديث، حول مفهوم المسؤوليّة بالمعنى المتقدّم، بل إنّه تناوله من جهات عدّة، ممَّا يبيِّن تركيزه عليه، واهتمامه الفائق به.
الأمر الثّاني: مفهوم المسؤوليّة في الحضارات الأخرى
في الاصطلاح الحديث للمسؤوليّة الاجتماعيّة، تُطرح دعوات تحمل المسؤوليّة وفقاً لمنظار المقايضة، خصوصاً فيما يتعلق بوضع المؤسّسات والشّركات، الّتي يلزم من ممارسة نشاطاتها بعض الآثار السّلبيّة على المجتمع، وذلك من الجهات الاقتصاديّة والأخلاقيّة والبيئيّة والاجتماعيّة، فإنّها مطالبة أدبيّة وقانونيّة، بإعادة الموازنة عبر تحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة، وفقاً للالتزامات القانونيّة الحديثة، والّتي وضعت معاييرها ومواصفاتها الدّوليّة المنظّمة الدّوليّة للمعايير، فتلتزم حينئذٍ بتقديم وممارسة نظم، وأنشطة فعّالة تفيد المجتمع، كتكفير عمّا تدخله عليه، من آثار سلبيّة جرّاء طبيعة أعمالها الأساسيّة، وذلك كبرامج مثل: محاربة الفقر، ومكافحة التّلوّث، وخلق فرص عمل، ودعم البنى التّحتيّة، والمساهمة في حلّ الكثير من المشاكل الصّحيّة، والإسكانيّة والخدماتيّة بشكل عامّ.
وعلى نفس هذا الأساس تحدّثت منظّمة الأمم المتّحدة عن فكرة المسؤوليّة الاجتماعيّة، وكذلك مجلس الأعمال العالميّ للتّنمية المستدامة، وأيضاً الغرفة التّجاريّة العالميّة.
والملاحِظ لما كُتب في شأن تاريخ بروز هذا المصطلح، يجد أنَّه بدأ من بُعده الاقتصاديّ الاجتماعيّ، والمبتني -بطبيعة الحال- على الأساس الفكريّ المتداول في الحضارة الغربيّة، حيث برز كمفرز لظروف الحرب وما خلفته من أزمات ماليّة، وقد اقترن بروزه مع كثير من المشاكل الأخلاقيّة، في طرق الإدارة والعمل كمعالج لها، ويمكن إجمال القول بأنّ مصطلح المسؤولية الاجتماعية، قد انطلق كاقتراح علاجيّ للبيئة الاقتصاديّة، الّتي خلقتها الرّأسماليّة العالميّة، محاولاً تدارك الكثير من أزماتها الأخلاقيّة والأدبيّة.
من جانب آخر في المنظار الاقتصاديّ الماليّ المعبَّر عن وجهة نظر فكريّة مغايرة، فإنَّ المسؤوليّة الاجتماعيّة طُرحت أيضاً في الرّؤية الشّيوعيّة كعنوان بديل وحيد، يلغي الفرديّة مطلقاً.
وربما طُرح هذا المصطلح؛ ليستوعب بعض الحاجات الأخرى في المجالات الإنسانيّة الأخرى، إلّا أنّه لم يُطرح بالشّموليّة الّتي تجدها في الإسلام، ومن هنا أنتقل إلى الأمر الثّالث لمقارنة (المسؤوليّة) في النّظرة الإسلاميّة، وممايزتها عن أطروحتها في الحضارات الأخرى.
الأمر الثّالث: النّظرة العامّة لمفهوم المسؤوليّة في الإسلام
وهنا ملاحظات عامّة متسلّسلة سنذكرها تباعاً، وسنخلص من ورائها إلى نتيجة النّظرة العامّة، الّتي يحملها الإسلام حول هذا المفهوم، وهي:
أوّلاً: نلحظ في الإسلام جوهرَ المسؤوليّة الاجتماعيّة، مطروحاً ابتداءً من منطلق معرفيّ متكامل، مع المنظومة المعرفيّة العامّة للإسلام.
ثانياً: هو بذلك يستوعب أبعاد هذا المصطلح على مختلف المجالات، ابتداءً من الفرد والذّات وصناعة الشّخصيّة بمنظار حقيقة العبوديّة لله تعالى، حتّى الأبعاد المعرفيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصادية، والأمنية، والتعليمية، وغيرها من المجالات الإنسانيّة.
ثالثاً: يتّضح من ذلك أنَّ هذا المصطلح لم يُطرح إسلاميّاً، كردّة فعل جزئيّة طالتها التّوسعة، وفق التّجارب البشريّة المختلفة، وهذا فرق جوهريّ وأساسيّ، بين منطلقي تحمل المسؤوليّة الاجتماعيّة لدى أطروحة الإسلام، والأطروحات الأخرى تعطيك انطباعاً عن تكامل هذا المفهوم، من حيث التّنظير والممارسة، من وجهة نظر إسلاميّة تكامل بين جميع الأبعاد.
رابعاً: بل يمكن القول: إنّ المنظومة المعرفيّة الإسلاميّة العامّة، كلّها مبتنية على أساس مصطلح: تحمّل المسؤوليّة؛ ذلك أنّ الغاية من خلق الإنسان هو أن يكون مسؤولاً يوم القيامة، بقدر ما يحمل من طاقات، ومواهب، وفهم، وملكات، فتحمّل المسؤوليّة هو أساس المحاسبة يوم القيامة، وهو أساس صياغة الشّخصيّة المسلمة والمؤمنة في عالم الدّنيا.
خامساً: هناك مظاهر لدعوة الإسلام لتحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة، تؤكد شموليّة وأساسيّة هذا المفهوم، حتَّى طال جميع الأبعاد والحاجات الإنسانيّة بحسب التّنظير الإسلاميّ، بل إنَّ نظامَ الإسلام كلَّه قائمٌ على تحمّل المسؤوليّة في مختلف المجالات، ومن تلك المظاهر:
الدّعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالاته، فهو من مصاديق تحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة عقائديّاً.
نظام التّكافل الاجتماعيّ اقتصاديّاً.
فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سياسيّاً واجتماعيّاً.
وغير ذلك..
سادساً: بذرة هذا الاهتمام تبدأ بالفرد، على المستوى الشّخصيّ، وتربطه بالتّوحيد والعبوديّة أوّلاً، وترشده بالهدي المعصوم ثانياً، وتضمن نتائجه وتَعِدُ وتتوعَّد فيه بالمعاد ثالثاً، فالمسؤوليّة الاجتماعيّة في الإسلام ليست ترقيعاً للرّؤية الذّاتيّة، كما أنَّها ليست أساساً يلغي الفرديّة، بل هي منطلق للامتدادات الاجتماعيّة لهذا المفهوم، يوازن بين الحاجتين.
قال بعض المحقّقين في (دور العقيدة في بناء الإنسان): "وكنظرة مقارنة، نجد أنَّ المذاهب الاجتماعيّة الوضعيّة، بنيت على أساس المسؤوليّة الفرديّة في هذه الحياة فحسب، وتأييدها بمؤيّدات قانونيّة كحجز الحرّيّة، أو التّعذيب، أو التّغريم الماليّ أو العزل عن الوظيفة، أو التّسريح عن العمل، أو المكافأة بالمال أو التّرقية في الوظيفة، وما إلى ذلك، وبمؤيّدات اجتماعيّة كالثّقة أو حجبها والتّقدير أو التّحقير، أمّا المذهب الإسلاميّ، فلا يقتصر على مسؤوليّة الفرد أمام المجتمع، الّذي يعيش بين ظهرانيه في هذه الحياة، وإنّما ينمّي في الفرد المسؤوليّة العظمى أمام الخالق العظيم في حياة أخرى، وحينئذٍ يدفعه إلى التّحديد الذّاتيّ أو الطّوعيّ لرغباته، والشّعور الاجتماعيّ نحو غيره، بغض النّظر عن القانون أو العرف أو الضّمير؛ لأنَّ الضَّمير قد يعجز عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقيدة الدّينيّة، كما أنَّه ليس من الميسور توفير الرّقابة الاجتماعيّة في كلّ مكان، وبصورة دائمة، وعليه فإنَّ هذه الرَّقابة الدّاخليّة لا توجد في غير العقيدة الدّينيّة".
وبمجموع ما تقدَّم، تتَّضح أسس وامتدادات وشموليّة مفهوم المسؤوليّة في النّظرة الدّينيّة؛ إذ ترتبط في أوَّل أمرها بمفهوم التّوحيد، فالعبوديّة، فالفرديّة، ثمّ المجتمعيّة على كافّة الأصعدة الإنسانيّة، ويبقى -بعد هذا البيان العامّ- إثبات هذه الرّؤية بمستنداتها، من النّصوص الدّينيّة نفسها.
الأمر الرّابع: مستندات النّظرة الدّينيّة لمفهوم المسؤوليّة
وهي كثيرة، نذكر منها ما يلي:
قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب: 72)، وقد عبّرت الآية عن الولاية الإلهيّة، بالأمانة الّتي تُحمل كمسؤوليّة على عاتق الإنسان، وتلحظ هنا أنّ المسؤوليّة تبدأ من الفرد أوّلاً، ومن بوابة العبوديّة؛ ليتحمّل أمانة التّكليف، فيكون معتمداً أمام نفسه أوّلاً، ثمّ يتأهّل للاندماج المؤثّر إيجاباً في المجتمع.
قال في الأمثل: "ويمكن أن نعبِّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول: إنِّها التّعهّد والالتزام وقبول المسؤوليّة..، ومن هنا تتّضح كيفيّة حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهيّة؛ لأنَّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤوليّة والقيام بها، وأن يتقبّل ولاية الله، ويسير في طريق العبوديّة والكمال ويتّجه نحو المعبود الدّائم، وأن يطوي هذا الطّريق بقدمه وإرادته، وبالاستعانة بربّه".
قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(سورة الحجر: 91)، لا مجال للعبث، ولا مجال للتّملّص، كلّ إنسان مسؤول عن نفسه، وعن مجتمعه، وفي معنى هذه الآيات المباركة آيات عديدة، منها: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}(سورة الإسراء: 34)، ومنها: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(سورة الأنبياء: 23)، ومنها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(سورة العنكبوت: 12)، ومنها: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(سورة الزخرف: 43)، ومنها: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(سورة الإسراء: 36)، ومنها: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}(سورة الصافات: 24) وغيرها..
ولاحظ من مجموع هذه الآيات ابتداء المسؤوليّة من أين، وبعده العقَديّ التّوحيديّ، وانتهاءه بيوم المعاد، وهو بذلك يشمل ما بينهما، من تنظيم للحياة حسب الأطروحة الدّينيّة الاجتماعية الشّاملة بلا شكّ، ويؤكّد ذلك ما عن الأميرg: «أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون، وإليه تصيرون، فإن الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدثر:38)، ويقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}(آل عمران:28)، ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (92) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الحجر:92-93)».
ما ورد عن رسول اللهe: «كلٌّكم راع، وكلٌّكم مسؤول عن رعيّته، الإمام راع ومسؤول عن رعيّته، والرّجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيّتها، والخادم راع في مال سيّده ومسؤول عن رعيّته». لاحظ التّعميم، ولاحظ الأمثلة وتفاوتها الاجتماعيّ، وفي معناه ما ورد عنهe: «إني مسؤول، وإنكم مسؤولون»، كذلك: «إنَّ الله تعالى سائل كل راع عمّا استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتّى يسأل الرّجل عن أهل بيته».
وممّا يوضِّح امتداد المسؤوليّة في الأبعاد المختلفة: ما ورد عنهe: «إنَّ الله يسأل المرء عن جاهه كما يسأل عن ماله، يقول: جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوماً؟! أو قمعت به ظالماً؟! أو أعنت به مكروباً؟!»، ومن ذلك ما ورد عن الأميرg: «اتّقوا الله في عباده وبلاده؛ فإنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله، ولا تعصوه»، فالتّقوى والعبوديّة منطلق لتحمّل المسؤوليّة، والّتي تمتدّ لتصل حتّى إلى البيئة (البقاع والبهائم)!، فضلاً عن المجالات الإنسانيّة المباشرة.
أكتفي بهذا المقدار لأنتقل إلى النّقطة الأخيرة.
النقطة الثّالثة: تنبيهات تخصّ مفهوم المسؤوليّة
انطلاقاً من الرّؤية السّابقة، يمكن لنا أن نضع اليد، على جملة من الأمور كتنبيهات، لها علاقة بطريقة سير مفهوم المسؤوليّة في المجتمع، أذكر منها أربعة تنبيهات:
التّنبيه الأوّل: المسؤوليّة والتّربية
وهنا بداية الإخفاق، فكثير من الآباء والأمّهات لا يربُّون أطفالهم على تحمّل المسؤوليّة بما يتناسب وأعمارهم، بما تكون نتيجته تهيئة الشّخصية منذ الصِّغر على تحمّل الأعباء، والشّعور بالمسؤوليّة، والتّحرّك نحو سدّها في مساحاتها المختلفة، والنّتيجة: شخصيّات مهزوزة، بليدة، لا تجد نفسهاً مطالبة أصلاً بأيّ مبادرة تجاه المجتمع، وسدّ حاجيّاته المختلفة، بل لو رأت المجتمع من حولها منقلباً رأساً على عقب، تبقى تنتظر غيرها ينتشلها، ويستنقذها، كما اعتاد ذلك دائماً، بل يرى لنفسه الحقّ أن يبرِّر تقاعسه، ويحمّل الآخرين مسؤوليّة أيّ إخفاق في حياته الخاصّة، فضلاً عن حياة المجتمع ككلّ، ولا تبرز لديه أصلاً فكرة المساهمة، أو المسارعة إلى إضافة لمسة، وترك بصمة..
ولا يخفى ما يرشد إليه التّربويّون، من ضرورة تعويد الأطفال منذ الصغر، على مفهوم تحمّل المسؤوليّة بما يتناسب مع طاقاتهم، والإشراف على تنمية ذلك وفقاً لمتطلّبات العمر، والظّروف المحيطة، ولا تخفى تنبيهاتهم الصّريحة، على الاشتباه الكبير الّذي تمارسه أنماط التّربية السّلبيّة، حين تحاول أن تتحمّل كلّ المسؤوليّة عن الطّفل وفي كلّ شيء.
التّنبيه الثّاني: المسؤوليّة وتطوير الذّات، وتنمية المهارات
ومن الواضح أن تحمّل المسؤوليّة، لا يكون منتجاً بالنّحو الكبير، أو سائراً في مساره التّكامليّ النّافع، إلّا إذا سار متوازياً مع قناعة راسخة بضرورة تطوير الذّات، وتنمية مهاراتها، وتوسعة طاقاتها، ممّا ستكون نتيجته: تحسين الأداء بنحو تصاعديّ مستمرّ؛ فإنَّ كثيراً من الأشخاص لا يستعدّ أن يتحمّل المسؤوليّات الصّغار -فضلاً عن العظام-؛ لأنَّه لا يرى نفسه مؤهّلاً لذلك، ولا يرى نفسه معنيّاً بسدّ هذا الخلل كمقدّمة لتحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة.
ومن الأخطاء المكرّرة على هذا الصّعيد: تواضع الطّموح والهدف لدى كثيرين، أو التّباعد الكبير بين الهدف وطبيعته وبين القدرات، أو عدم اكتشاف الطّاقة والقدرة من الأساس، وكلّ ذلك يرتبط بالوضع المتأخّر لدى بعض الطّاقات الكامنة، الّتي تحتاج إلى استخراج لسدّ ثغرات المسؤوليّات الكثيرة.
ينبغي التأمّل في الرّوايات الآتية: عن أمير المؤمنينg: «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»، وعنهg: «من بذل جهد طاقته، بلغ كنه إرادته»، وعن النّبيe -في وصف المؤمن-: «يطلب من الأمور أعلاها، ومن الأخلاق أسناها».
نحن بحاجة إلى طاقات قد بنت نفسها ذاتاً على مختلف المجالات، لا تعتمد على غيرك في صناعة نفسك، وفي إعطائك التّسهيلات، من وصلوا اعتمدوا على أنفسهم، ليس ذلك في المجالات الّتي تصبّ في خدمة الجانب الدّينيّ بشكل مباشر فقط، بل اهتمّ الإسلام بذلك حتّى في المجالات النّفعيّة المادّيّة الّتي تعود بقيمتها على نفس الإنسان، ومنه تعمّ الفائدة على المجتمع عامةً، ولذا نلاحظ ذلك في الرّوايات الّتي تحثّ على الكدّ، والتّكسّب، والاهتمام بذلك، عن النّبيّe: «إنَّ الله يحبّ أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال»، وفي الكافي: «عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد اللهg: «ما فعل عمر بن مسلم؟»قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التّجارة فقال: «ويحه، أما علم أنَّ تارك الطّلب لا يستجاب له، إنَّ قوماً من أصحاب رسول اللهe لمّا نزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:2-3)، أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة، وقالوا: قد كُفينا فبلغ ذلك النّبيّe فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطّلب»، العبادة ليست مبرّراً للفرار من مسؤوليّة التّكسّب، والكدّ على العيال، وإصلاح حال النّفس، وتحسين المستوى المعيشيّ، فكيف بغيرها من الشَّواغل؟!
عن أبي الوليد قال: «كنت جالساً عند أبي عبد اللهg، فسأله ناجية أبو حبيب فقال له: جعلني الله فداك إنّ لي رحى أطحن فيها، فربّما قمت في ساعة من الليل، فأعرف من الرّحى أنّ الغلام قد نام، فأضرب الحائط لأوقظه؟ قال: «نعم، أنت في طاعة اللهa تطلب رزقه»، نلاحظ: أنَّه في وقت له أن يصلّي الليل، ولا مانع من حثّه الشّابَّ على طلب رزقه، بل هو في طاعة الله!
وقال رجل لأبي عبد اللهg أوصني. قال: «أعدّ جهازك، وقدّم زادك، وكن وصيّ نفسك، لا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك».
التّنبيه الثّالث: المسؤوليّة ونصرة الدّين
نصرة الدّين على مختلف المستويات، وكافّة أصعدة المشاريع الدّينيّة، لدينا مساجد لها حاجاتها، لدينا مآتم وحسينيات لها متطلّباتها، لدينا جمعيّات خيريّة واجتماعيّة، لدينا مشاريع تعليم دينيّة، لدينا مساحات إلكترونيّة مفتوحة، وأنشطة اجتماعيّة ميدانيّة ممتدّة، كلّ ذلك يحتاج إلى كوادر، تحمل:
1) فهماً، ومخزوناً، وثقافة دينيّة محكمة. 2) بصيرةً ووعياً مميّزاً. 3) عوراً بالمسؤوليّة يدعوها إلى المبادرة.
اقتطع من وقتك جزءاً للعمل الدّينيّ، والخيريّ، مارس دورك الاجتماعيّ والمعرفيّ في نصرة دين الله، كلّ بحسبه، ومن خلال موقعه، تابع ما يدور من تحدّيات، صدّر الوعي لأهلك، لأبنائك، لجيرانك، احمل المسؤوليّة، وتكاتف مع الآخرين.
ورد عن الأميرg: «لا يقولنّ أحدكم إنَّ أحداً أولى بفعل الخير منّي، فيكون -والله- كذلك، إنَّ للخير والشّرّ أهلاً، فمهما تركتموه كفاكموه أهله». لماذا نفوّت على أنفسنا فرصاً متاحة؟! وبكلّ سهولة!! ماذا عليّ لو نشرت مقالاً يردّ شبهة؟ ماذا سأخسر لو دعمت الحسابات العاملة بالمتابعة والإعجاب والتّعليق والتّشجيع؟ ماذا عليّ لو دعوت الآخرين لذلك؟ ماذا عليّ لو تواصلت مع إدارات المساجد والمآتم والمشاريع الدّينيّة والتّعليميّة لأتحسّس نواقصهم، فأدعمهم مالاً، أو إدارةً، أو خبرةً، أو بأيّ شيء متاح.
لاحظ قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}(النجم: 39)، قال في الأمثل: "يضيف القرآن قائلاً: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، (السّعي) في الأصل معناه: السّير السّريع الّذي لا يصل مرحلة الرّكض، إلّا أنّه يُستعمل غالباً في الجدّ والمثابرة..، والّذي يسترعي الانتباه أنَّ القرآن لا يقول: وأن ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل. بل يقول: إلّا ما سعى، وهذا التّعبير إشارة إلى أنَّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر، فذلك هو المطلوب منه، وإن لم يصل إلى هدفه، فالعبرة بالنّيّة".
نحن بحاجة إلى السّعي، وليس السّعي إلّا بعد الشّعور بالمسؤوليّة، والتّفكير في المتاح.
التّنبيه الرّابع: المسؤوليّة والثّقة الاجتماعيّة
نحن بحاجة إلى بناء الثّقة، بين أنفسنا انطلاقاً من قاعدة الثّقة، وبهذا نتمكّن من تحمّل المسؤوليّة بنحو متكاتف متّكامل، هناك أخطاء تصدر من أشخاص، بل ربّما من جهات، ولكن ذلك ليس مبرّراً لعدم تحمّل المسؤوليّة، بل ربّما وقعت كثير من هذه الأخطاء لعدم تحمّل كثير ين مسؤوليّتهم ما داموا مؤهّلين للتّصدّي، ولكنّهم لا يتصدّون، وينتقدون فقط، هم مبتعدون، يترصّدون الأخطاء فقط! أنت مؤهّل، لم لا تنزل إلى السّاحة لتتحمّل مسؤوليّتك، من يعمل ويخطئ، أفضل ممّن لا يعمل فلا يخطئ..
بناء الثّقة الاجتماعيّة أمر أساسيّ؛ لدفع عجلة تحمّل المسؤوليّة، ومنطلق هذه الثّقة الاجتماعيّة هو الثّقة بالنّفس أوّلاً، وهذا ما يحقّق الاستقرار الاجتماعيّ الّذي يمكّن الجميع من تحمّل مسؤوليّته، وهكذا أرادنا الإسلام، عن رسول اللهe: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضاً»، وعنهe: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى»، وعنهe: «خير النّاس أنفعهم للنّاس»، ولا يكون ذلك كلّه إلّا ببناء الثّقة المتبادلة، منطلقة من الثّقة بالنّفس كما ذكرنا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته المعصومين المنتجبين
0 التعليق
ارسال التعليق