في أيامنا هذه نراقب العالَم كيف تُحرَّفُ فيه الحقائق لصالح حثالة مصيرهم التعفّن في مزابل التاريخ فيغطّون عفن حاضرهم بتزييف الحقائق، بل قد يتطوّر الأمر إلى تقليب الحقائق فتصبح الشاة هي من افترس الذئب، ويصير الغزال هو من تعدّى على التمساح فدافع التمساح المسكين عن نفسه فقتلها، والجاموس هو من بقر بطن الضباع وأكل منها حيّةً لتطلبَ الثأر من الجواميس على مرّ التاريخ!!!
وفي الماضي القريب كنّا ندرس تاريخاً عرفنا -بعد ذلك- مقدار ما فيه من التزييف والتحريف والكذب على الأفراد وعلى الشعوب. فنشأت عندنا حقيقة مفادها ضرورة التثبّت في التاريخ لما في ذلك من أثر على الحاضر والمستقبل.
وتتكشّف هذه الحقيقة كلّما طالعنا كتب التاريخ بدقّة ورويّة وأخضعناها للموازين المعتبرة، وسنرى كيف أنّ شعوباً ستتعرّى من إنجازات وأوصاف أسندت إليها بعد سرقتها من آخرين، وتظهر الحقائق أكثر ويتّضح كيف تسلّطت بعض الشعوب على الأخرى... إلا أنّ الكثير منّا يبقى غارقاً في لعبة قراءة التاريخ التي لا يحسن قراءتها إلا البعض الذين يكون مصيرهم -غالباً- الإقصاء والطرد من دائرة هذه اللعبة.
وبين هذا كلّه يتطلّب منّا البحث والتنقيب جدٌّ ودقّةُ نظرٍ وموضوعية وموسوعية في ذلك كلّه علّنا نصل إلى شيء من صورة تقلّ فيها الشوائب عن جملة من الأحداث التاريخية، ولذا يجب على كلّ من يدخل في هذا المجال عدم الجزم السريع إلا بعد إعمال النظر الذي يستحقّه الموضوع المبحوث عنه لا سيّما إذا كان للحدث التاريخي انعكاسات على المستوى الديني، وأيّ مجال آخر يلقي بظلاله على فكر وسلوك المجتمع.
تأكيدٌ بعد تأكيد
وأودّ التأكيد على أمر مهمّ جداً وهو أنّ التاريخ أُسّ اعتماده على النقل لا العقل فلا تحاكم الأحداث التاريخية بالعقل بالتذرّع بعدم قبول العقل لها وحسب! أو أنّ البرهان العقلي لا يقوم عليها، فما عسانا نرفض أمراً قد وقع ولا يقبله العقل!! وكم هي الأحداث في زماننا هذا لا يمكن للعقول تصديقها إلا أنّ عدسة الكامرا تثبتها...!!! والأمثلة على هذا كثيرة منها وصول مسيرة السبايا إلى كربلاء في العشرين من صفر وغيرها من الأمثلة... والأمثلة على ذلك كثيرة لو أفردت مع التدليل على وقوعها مع استبعاد العقل لها لكانت كتاباً ضخماً، فما لنا وعقلك إن رفض ما كان قد وقع.
وهذا لا يعني أنّ المقياس هو التساهل في النقل فالسِّيَر يضاف إليها حبّاً كالرغبة في إبراز المكانة لصاحب الحدث مثلاً كونه ذا مكانة ويراد رفعها أكثر عند الناس.. وغيرها من المستحسنات عند الناس، أو يضاف إليها بغضاً لحرف الأهداف أو لإضعاف الشخصيات أو ما شاكل.. كما أنّ احتمال الحذف وارد لما ذكر ولغيره من الأسباب كخوف الكاتب من نقل الحق، ومثل هذا واضح في سيرة ابن هشام حيث حذف من سيرة ابن إسحاق الكثير مما يسوء البعض ذكره[1] وهو المؤرخ لأقدم كتاب وصل إلينا[2]. وهذا ما يدفع الباحث للبحث بجدّ وموضوعية وموسوعية، لا سيّما في النقولات التي تتعارض مع عصمة المعصوم وتستلزم الكذب عليه، فهذا مقياس مهمّ لا يمكن التغاضي عنه لمن يؤمن بأمر العصمة للنبيّe وآلهi.
نقل تاريخ الطف كيف يكون؟
إذا نظرنا إلى التاريخ فإنّا نجد الاختلاف بيّناً في قراءته -وأخصّ بالذكر تاريخ واقعة الطف وما حفّ بها من أحداث قد تكون متناقضة إذا ما راجعنا ناقليها فيمكن لنا بالاعتماد على مثل المقاييس المذكورة أخيراً[3] أن نصل إلى ترجيح هذا النقل دون ذاك على أن يكون الترجيح معتبراً.
لكن يرد علينا سؤال مهم وهو:
أين موقع روايات المعصومينi من هذه الأحداث ألم ينقلوها؟ فإن نقلوها فلِمَ نصير إلى قراءة كتب التاريخ مع وجود الروايات الناقلة؟
أقول: أضيف على هذا التساؤل أنّ التاريخ ما كُتِب إلا متأخراً -ما يزيد على المائة سنة من ارتحال النبي|- وبعد وجود الكثير من المشاحنات السياسية، وبعد أن كانت القصص واختلاق الأحداث عادة يستخدمها من أراد الغلبة على الآخرين -وهو ما يعبّر عنه اليوم بالحرب الإعلاميّة-... وهذا وغيره لا يعني إلغاء التاريخ وذلك لوجود الكثير من الحقائق التي ثبتت بالتواتر وحقائق أخرى ثبتت بالإسناد وحقائق ثبتت بالنقل المدعوم بالشواهد والقرائن وهذا هو الغالب فيما يروى في كتب التاريخ مما يستدعي عدم القبول من دون فحص وتدقيق.
فالتاريخ مليء بالحقائق لكن تحتاج إلى اقتناص من المنصف من أهل الفنّ.
أما ما ورد من الروايات المسندة -بغض النظر عن اعتبار أسانيدها- فهل وردت تحكي أحداث التاريخ أم لا؟ حتى يقال أنّا أعرضنا عنها من عدمه!
الهمّ الأكبر كان من المعصومين هو بيان الدين وأحكامه وعقائده وما يتعلّق بها، فلم يكونواi مؤرّخين أو قصّاصين حتى يُطلب منهم رواية التاريخ وأحداث كربلاء بالخصوص، فليس من الصحيح التعويل على ذلك لا سيّما أنّ التاريخ بُدء في كتابته في زمن الإمام الصادقg تقريباً مما يعني أنّ الناس تنبّهت إلى كتابة التاريخ وبدأ الحضر عن الكتابة يرتفع فكان التأليف من أمثال ابن إسحاق (م153هـ) وأبي مخنف (م157هـ) -وكلاهما من العراق- فنقلا الكثير الكثير ولا يخفى هذا عن الأئمّةi وإن لم أجد نصّاً من المعصومين يؤيّد أو يذمّ إلا أنّ النصوص الواردة منهمg في هذا الشأن كانت على سبيل التقويم والغربلة وفي بعضها رواية لبعض مجملات أحداث الوقائع وفي البعض القليل فيها شيء من التفصيل لبعض الأحداث... فهذه بحدّ ذاتها يمكن جمعها لتكون مستندات تاريخية تنفع منضمّة إلى الكتب التاريخيّة المختلفة وفي حال التعارض فيما بينها لا بد من تقديم كلام المعصوم بلا شك وإن لم يكن من حاضري كربلاء أو أيّ حدثٍ ينقله.
وهنا أصرّ على ضرورة قراءة نصوص المعصومينi (التاريخية) وعدم الاستعجال في نفي ونقض أيّ حدثٍ وتكذيبه؛ وعلى سبيل المثال أذكر رواية واحدة عن محمّد بن مسلم قال: سألت الصادق جعفر بن محمّدh عن خاتم الحسين بن عليh إلى من صار؟ وذكرت له إنّي سمعت أنّه أُخذ فيما أُخذ، قالg: >ليس كما قالوا، إنّ الحسينg أوصى إلى ابنه عليّ بن الحسينg وجعل خاتمه في إصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول اللهe بأمير المؤمنينg وفعله أمير المؤمنين بالحسنh وفعله الحسن بالحسينh ثمّ صار إليّ فهو عندي ألبسه كلّ جمعةٍ وأُصلّي فيه<. قال محمد بن مسلم فدخلت إليه يومَ الجمعة وهو يصلّي، فلمّا فرغ من الصلاة مدّ إليّ يده فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه لا إله إلا الله عدة للقاء الله، فقال: >هذا خاتم جدّي أبي عبد الله الحسينg<[4].
هذا نموذج من الروايات يعكس مقدار عناية الإمام في ضرورة تنقيح التاريخ وغربلته ويظهر هذا من خلال ردّهg الجازم، وتربّصه يوم الجمعة بمحمّد بن مسلم كي يثبت له ذلك، مع أنّ هذا الراوي جليلٌ في قدره يكتفي بأدنى درجات النفي من الإمام! وليس التركيز على الروايات التاريخية هي لمجرّد السّرد التاريخي فحسب، بل لما لبعض الأحداث من آثار عقائدية، كهذه الرواية التي فيها بُعدٌ يعكس أنّ مواريث الأئمة لا تصير إلى غيرهم أبداً لما لها من دلائل على العصمة وما شاكل.
ولعلّ بعض المتسرّعين يحمل مثل هذه الرواية وما جرى مجراها لنفي ما ورد في كُتُب المقاتل! فقد ينفي مصيبة قطع إصبع الإمام الحسينg بما ورد في المقاتل مستعيناً على نفيه بهذه الرواية التي لو تأمّل فيها أدنى درجات التأمّل فإنّها لا تتعارض مع ما تنقله كتب التاريخ؛ حيث تكون صياغة الحدث كالتالي: أنّ الجمّال جاء وقطع إصبع الإمام لغرض سلب الخاتم إلا أنّه لم يسلبه، ممّا يعني أنّ الإمام يلبس خاتماً آخر غير الخاتم الذي دفعه إلى الإمام زين العابدينg. وعلى غرار ذلك الحال في قطع كفّيه بغية سلب التكّة. هذا مع لحاظ أنّ الراوي يسأل عن الخاتم ولا يسأل عن قطع الإصبع!
وتوجد غيرها من المرويات عن المعصومينi التي فيها ذكر لمجملات أحداث في التاريخ وأيضاً توجد بعض الأحداث المسندة التي وردت في بعض كتب الحديث وهذه تعطي شئياً من التفصيل عادةً.
وأقول أخيراً خذها قصيرة من طويلة:
المجال لتحقيق التاريخ مفتوح على مصراعيه للباحثين لا المتسرّعين، والمدققين لا المتسامحين، وأهل الفنّ لا المتطفّلين، والمنصفين لا غيرهم.
والحمد لله ربّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: سيرة ابن هشام، ج1، ص4.
[2] هذا الكتاب مع قِدَمه إلا أنّه مستلّ من كتاب آخر هو لمحمد بن إسحاق بن يسار المدني -وقيل بشّار- بن خيار من سبي عين تَمْر بالعراق (م153ﻫ) حيث كتب في سيرة النبي ووصلنا قسم مما كتبه برواية ابن هشام عن البكّائي ومن هنا تكمن أهمّية كتاب سيرة ابن هشام وإن كان ينقل ما كتبه ابن إسحاق ويخضعه إلى الغربلة فقد يختصر وقد يضيف وقد يناقش أحياناً، ولذا فإنّ سيرة ابن هشام هي في الواقع سيرة ابن إسحاق إلا أنّ ابن هشام لمّا هذّبها ونقحها وأضاف عليها سمّي الكتاب باسمه. لكنّه يسجّل عليه أنّه حذف ما ثبت عنده ولم يرق للبعض سماعه كما صرّح به في مقدمة كتابه وهذا يعني أنّ هناك قسماً من التاريخ تعمّد ابن هشام تغييبه.
[3] في العنوان السابق (تأكيدٌ بعد تأكيد).
[4] الأمالي، الصدوق، المجلس التاسع والعشرون ، ح13.
0 التعليق
ارسال التعليق