تتولّد بين الناس تيارات فكرية تتبنّى فكراً ترجعه إلى فلسفة معينة يقتنع بها أفرادها، كلّ ذلك في قبال الأديان السماوية التي لم تسْلَم من التحريف، وبقي الدين الإسلامي قائماً دون تحريف مهما سعى أعداؤه إلا أنّ الله تعالى تعهّد بحفظه فاستحال عليهم تشويهه[1].
والإنسان مدعوّ بحكم عقله والدين الإسلامي الحنيف أن لا يعتقد إلا عن اقتناع بما يعتقده، فترك باب السؤال مفتوحاً أمام الباحثين عن الحقيقة، وأمام الراغبين في الوصول إلى ما يأملون من كمال يعتقدون به، ومع هذا كلّه فإنّ التبادل الفكري بين الإسلام وما ينشأ من أفكار هنا وهناك لهو أمرٌ يساهم في فهمٍ أعمقَ للإسلام وأخذ للناس إلى طريق الفلاح والصلاح لتتحصّل أيسر المنافع وهي نظم المجتمع بنظام متكامل صالح لكل مكان وزمان.
والإلحاد واحد من هذه التيارات والمذاهب الفكرية التي لها مريدوها ومعتنقوها، والتي أولت الإسلامَ نصيباً وافراً من إشكالاتهم وإثاراتهم بأساليب مختلفة وساخرة في كثير من الأحيان لتوجد لها نصيباً من الوجود في عقول الناس لا سيّما شبابنا المسلم.
ومن هنا نسلّط الضوء على جهات ثلاث:
الجهة الأولى: تاريخ الإلحاد وتطوره.
الجهة الثانية: مركز المشكلة في الظاهرة الإلحادية.
الجهة الثالثة: معالم العلاج الجذري لها.
فهذه أقسام ثلاثة نحاور فيها سماحة الشيخ محمد ناصر~ شاكرين له هذا التجاوب والتفاعل.
القسم الأول: تاريخ الإلحاد وكيفية تطوره وأساليب ترويجه وفيه ثلاثة أسئلة:
الأول: متى بدأ الإلحاد في التاريخ البشري؟
يذكر لنا التاريخ أنّ هناك صنفين من الناس، أعرضوا عن الاعتقاد بالله كموجد ومدبّر للطبيعة والإنسان:
الصنف الأول: هم مدّعو الألوهية كما ينقل ذلك عن الفراعنة.
والصنف الثاني: قسم من الشكاكين الذين منعوا المعرفة العقلية الموضوعية بما هو أوسع من المحسوس، وكونوا ما يسمى بالمذهب المادّي في فهم ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
وهؤلاء ينقل لنا التاريخ وجودهم في الأمم الإنسانية المختلفة في الهند والصين واليونان والرومان وهلمّ جرا إلى عصرنا الحالي، وهم تارة كانوا مجرّد أفراد متفرقين، وأخرى جماعات نظمت نفسها كما حصل مع الأكاديمية التي أسسها أفلاطون بعدما تحوّلت إلى مدرسة في الشك المتطرّف، وكما عرف عن الأبيقوريين وجماعة شيشرون وسكتوس أمبريكوس.
أما في عصرنا فقد أصبح التشكيك بالمعرفة العقلية وحصرها بحدود الحس هو المنهج الرسمي السائد في أكاديميات وجامعات العالم بدءاً من القرن العشرين، وذلك بعد أن تم تأسيس منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة) بشكل رسمي بعد الحرب العالمية الثاني، وتحديدا عام 1945 ميلادية، والتي أصبحت شيئا فشيئا المشرفة الرسمية وراعية القوانين في مجال التعليم حول العالم. ولذلك أصبحت المادّية تتغلغل شيئا فشيئا في المجتمع البشري حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، باعتبار أن الخلفية المعرفية والفلسفية التي تحكمت بمعالم عمل هذه المنظمة قد تم تأسيسها على يدي الشكاكين الماديين وما يسمى بالمذهب الوضعي الذي بدأ في القرن الثامن عشر على يدي أوغست كونت وتمثل في نسخته الأخيرة في القرن العشرين بحلقة فيينا (الوضعيين المنطقيين) والماديين الأمريكيين من أمثال جون ديوي[2].
إذ بدءاً من القرن الثامن عشر لم تعد النظرة المادّية للحياة موقفاً فردياً بل صارت اتجاها يجاهر برفض فكرة الإله المدبّر للعالم والإنسان في مواجهة الرؤى الإلهية السائدة، دينية كانت أو غير دينية. ويعمل على عزل السلطة الدينية عن السلطة المدنية. إلا أنّ عودة الرؤية المادّية على نحو واسع للانتشار في المجتمع الأوروبي واستلامه لسدّة الحكم والتدبير للمجتمع، لم يكن أمراً مفاجئاً، بل كان تتويجاً لمراحل متتالية من الصراع في داخل البيت المسيحي خلال سبعة قرون وعلى صعد مختلفة معرفية وعقدية واجتماعية وسياسية، وصولاً إلى صراع المسيحية ككل مع الإلهيين القائلين بالدين الطبيعي.
وفي خضم كلّ ذلك كان الماديون طرفاً من بين مجموعة أطراف أخرى دينية وغير دينية وجدوا أنفسهم بداية في مواجهة الشمولية الكاثوليكية ثم الشمولية البروتستنتية لاحقاً، وقد تكاتفوا جميعاً عن قصد تارة وعن غير قصد أخرى في مواجهة السيطرة الكاثوليكية ثم البروتستنتية التي كانت معهم قبل أن تستب لها الأمور.
ومن هنا، فإنّ فهم مسيرة الرؤية المادّية والإلحادية وأسباب صيرورتها في عصرنا على ما هي عليه، يتوقف على فهم المراحل التي مرّت بها المجتمعات الأوروبية منذ القرن الحادي عشر وإلى الآن[3].
الثاني: ما هي العوامل التي أدت إلى تطور الظاهرة الإلحادية؟
يمكنني أن أجمل العوامل التي تراكمت على مرّ القرون الماضية وأدّت في النهاية إلى تطور الظاهرة الإلحادية-يمكنني أن أجملها في الأمور التالية:
الأول: انقسام الكنيسة المسيحية إلى شرقية أرثوذكسية، وغربية كاثوليكية، وإعلان رأس الهرم في الكنيسة الغربية الكاثوليكية قيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة مع بدايات القرن الحادي عشر للميلاد، ومن ثم عملت هذه الامبراطورية على جعل عقيدتها العقيدة الوحيدة الصحيحة والمقبولة، والتي تضمنت فيما تضمنته اعتبار السلطة البابوية هي السلطة الشاملة والمطلقة، فسعت إلى تعميمها عبر إلغاء كلّ الرؤى الأخرى دينية كانت أو غير دينية، مادّية كانت أو إلهية.
الثاني: تسخير كلّ مقدّرات الممالك الأوروبية لخدمة أهداف الكنيسة، والتي من ضمنها:
1ـ شن الحروب الصليبية التي استنزفت القوّة الاقتصادية والبشرية للعالم الأوروبي، وسببت ما سببته من مشاكل اجتماعية.
2ـ فرض العمل على تعميم الرؤية الكاثوليكية كعقيدة موحّدة فربطت سلطان الملوك والحكام على أراضيهم بمدى خدمتهم لتحقيق انتشار هذ الرؤية ومجابهتهم ومحاربتهم لأصحاب الآراء الأخرى، وقد كانت بداية ذلك في مواجهة المسلمين واليهود والماديين، خصوصاً بعد سقوط الدولة الأموية في إسبانيا. وقد بلغت السلطة البابوية ذروتها على يدي البابا (أنسنت الثالث) في القرن الثالث عشر للميلاد والذي أدخلت الكنيسة في عهده مبدأ جديداً إلى القانون الأوروبي يقضي بأنه ليس للحاكم الاحتفاظ بعرشه إلا إذا استأصل الإلحاد من رعيته، وإن حدث أن تردد أمير أو ملك في تنفيذ أمر البابا بتعذيب الملحدين، فإنه يضطهده فورا وتصادر أراضيه وتباح أملاكه لأعوان الكنيسة الذين تحرضهم على مهاجمته[4].
3ـ ترجمة التراث العلمي الذي خلفه اليونانيون والرومان والمسلمون إلى اللغة اللاتينية وبدء العمل على تأسيس علم الكلام المسيحي اعتماداً على الكتاب المقدس كتابات الآباء والعقل، إلا أنّ الترجمة شملت الموافق والمخالف لأهداف الكنيسة فعادت إلى الواجهة الخلافات المسيحية التي كانت سائدة في بدايات تأسيس المسيحية، وقد تجلى ذلك أكثر بعد سقوط القسطنطينية وهجرة المثقفين والأدباء والفنانين منها إلى أوروبا، كما نشأت خلافات جديدة مماثلة للتي كانت سائدة بين المذاهب الإسلامية واليهودية تبعاً لترجمة التراث الذي خلّفه المسلمون واليهود والذي كان أهمه من هذه الجهة كتب ابن سينا وابن رشد والغزالي وابن ميمون[5].
ومن جهة أخرى بدأت محاولات عديدة لإكمال مسيرة العلوم التجريبية من حيث انتهى اليونانيون والرومان واليهود والمسلمون، وكذلك بالنسبة إلى فن الأدب. ونتيجة لذلك كلّه، وجدت الكنيسة نفسها أمام العديد من الاتجاهات التي تنحى خلافاً لتوجهاتها، سواء في فهم الدين والعقيدة والكتاب المقدّس، أو في الاهتمام بالعلوم المختلفة خارج سلطة التعليم المدرسي الرسمي التي تسيطر عليه. ولكن كلّ ذلك كان مقصوراً على فئة المتعلّمين القادرين على الوصول إلى الكتب واستنساخها، ولكن باختراع الطابعة أصبح الأمر مختلفاً، بل أصبحت المعرفة شيئاً فشيئاً تنتشر وأصبحت الاتجاهات المختلفة قادرة على بث أفكارها ونشرها، بعد أن سيطرت الكنيسة على مقاليد التعليم وانحصر تداول العلوم من خلال مدارسها الخاصة، التي كانت تقتصر على ما يخدم توجهاتها الدينية ويتناسب مع أهدافها.
4ـ نشوب صراعات فكرية حادة بين الكنسية بقراءتها الكلامية للفلسفة الأرسطية الممزوجة بالأفلاطونية والأفلوطينية من جهة، وبين ما عرف بالرشدية تبعاً لابن رشد الذي ترجمت كتبه بما فيها تلك التي تهاجم المتكلمين المسلمين وأهل الحديث، وكذا شروحاته وتلخيصاته لكتب أرسطو التي اختلفت في العديد من مسائلها عن النظرة الكاثوليكية السائدة. وانضم إلى الصراع الاتجاه الأخباري ]المسيحي[ الذي روّج للشك المعرفي في آليات العقل ورأى عجزه المطلق عن الخوض في قضايا الدين وبالتالي ضرورة الاقتصار على منقولات الوحي في أخذ العقيدة والتعويل على الإيمان القلبي بدل الدليل العقلي وهذا ما عرف بالمذهب البروتستنتي.
5ـ اتخاذ الكنيسة لمجموعة تدابير وقائية ودفاعية في مواجهتها للتيارات الفكرية، فحرّمت تداول كلّ الأفكار المنافية، وحظرت نشر الكتب المخالفة، والدراسات المناوئة لها، وعمدت إلى تأسيس محاكم التفتيش وتوسيع عملها وألزمت كلّ القوى الحاكمة في المقاطعات الأوروبية بإيكال حلّ الأمور المتعلقة بحماية العقيدة إليهم، فأنزلت العقوبات الشائنة بمن يثبت تورطه، وذلك كالوضع على الخوازيق والتعليق على أعمدة التشهير والسجن والإحراق والنفي وحرمان الذرية من الإرث إلى جيلين أو ثلاثة، وحثت عامة الناس على الوشاية بكلّ من يعلمون تورّطه بأفكار الهرطقة والضلال المنافية لتعاليم الكنيسة[6].
6ـ ونتيجة لإمعان محاكم التفتيش في عملها، بدأ التململ من الإرهاب الفكري ينمو شيئاً فشيئاً حتى برزت إلى السطح دعوات الحرية الدينية وحرية العقيدة، فراحت تتشكل هنا وهناك جماعات مناهضة تدعو إلى رفع الحظر والقيود عن الاعتقاد الديني والتي اقتصرت في بداياتها على خصوص الطوائف والمذاهب المسيحية، وشملت لاحقاً اليهود والمسلمين، إلا أنّها بقيت بالنسبة إلى الملحدين محلّ اتفاق ورضا، حتى أن (لوك) نفسه قد استثنى الملحدين في دعوته إلى التسامح والحرية الدينية. فنشبت حروب أهلية ودينية وسياسية في العديد من المناطق كبريطانيا وفرنسا قادت في النهاية إلى رفع قيود النشر والطباعة إلا عن الكتب التي تمس أصل التدين والذات الإلهية وقدسية المسيح. وبارتفاع الحظر عن النشر والطباعة لم يعد باستطاعة الكنيسة الكاثوليكية ضبط الأمور، وخسرت سيطرتها في العديد من المواطن لصالح المذهب البروتستانتي الذي قام بعد سيطرته على مقاليد الحكم بتكرار التجربة الكاثوليكية في الإرهاب الفكري ولاقى نفس المصير الذي لاقته الكاثوليكية. وقد كان ذلك كلّه نتيجة لبروز جماعات جديدة من المؤلهين خصوصاً في بريطانيا تدعو إلى اعتماد العقل حصراً فانهالت على التعاليم الدينية النظرية والعملية نقداً وتفنيداً حتى وصل الأمر إلى رفض واقعية الوحي، واستبدالها بالدعوة إلى الدين الطبيعي الذي يعتمد على العقل حصراً.
لقد استطاع هذا الاتجاه أن يفتت هيبة الكنيسة وعقائدها ويعلي من دور العقل وأهمية العلوم الطبيعية وسعى إلى إيجاد بدائل جديدة عن النظم الدينية للفرد والمجتمع، فنادوا بعقلية الاعتقاد بالوجود الإلهي والأخلاق واستقلالهما عن الدين، وبالحرية الفكرية المطلقة والقيمة الإنسانية الموحدة ورفض التمييز الديني بكافة أشكاله، فسادت النظرة المتساوية إلى كلّ الجنس البشري واعتبار العالم الإنساني كدولة واحدة تجمع في كنفها كلّ أنواع البشر على اختلافهم. لقد استطاع الإلهيون الرافضون للوحي والدين المسيحي من فرض أنفسهم بقوة على الساحة الاجتماعية والفكرية والسياسية، ولكنّ الأمر لم يستمر على هذه الشاكلة؛ لأنّ تياراً آخر كان في طريقه إلى الاستفادة الفاعلة من كلّ ذلك لصالحه وهو الاتجاه الشكّي المادّي.
فرغم أنّ التيار الشكّي في بدايات نشوئه في أوروبا كان على يدي المسيحين الأخباريين والصوفيين الذي رفضوا قدرة العقل وشككوا في المعرفة العقلية للوجود الإلهي وقضايا الدين، إلا أنّ رفع القيود عن الفكر والصحافة سمح ببروز القسم الآخر من الشكاكين وهم الماديون الذين اتفقوا مع الأخباريين والصوفيين في رفض المعرفة العقلية في القضايا الدينية ومسألة الوجود الإلهي والأخلاق، إلا أنّهم رفضوا أيضاً القبول بالوحي والمنقولات الدينية، واختاروا بدلا عن ذلك العلوم التجريبية كبديل حصري للمعرفة البشرية. فمع تطور العلوم التجريبية التي استقلت عن السيطرة الكنسية، على أيدي المؤلهة العقليين الذي تابعوا مسيرة بناء العلوم التي خلفها المسلمون والرومان واليونانيون، وبعد صراعات حادّة مع نظرياتهم المخالفة لظاهر النصوص المقدسة خصوصاً تلك المتعلقة بعلم الفلك كما حصل مع غاليليو وكوبرنيكوس؛ كانت نتيجتها الأخيرة خلع القداسة عن الكنيسة ومقدساتها والهجوم الفكري على تعاليمها ونصوص كتابها، والتي أودت في النهاية إلى ضعفها وهوانها لصالح المؤلهة العقليين أتباع العلم الإنساني. بعد كل ذلك، أصبح الطريق أمام الشكاكين المادّيين معبّداً، فصبّوا جام أفكارهم على نقد كلّ من المعرفة العقلية والمعرفة النقلية عن الوحي، وهذا ما تمّ تتويجه بكلّ من أعمال بيير شاورن[7] الذي يعتبر مؤسس مدرسة الشك في القرن السابع عشر، وقد تجلّى دوره المناهض للكنيسة في كتابه فن الحكمة الذي هاجم فيه المسيحية بكلّ مبادئها. وديفيد هيوم خصوصاً آخر أعماله محاورات في الدين الطبيعي، والذي نقد فيه كلاً من الوحي والمعرفة العقلية بالوجود الإلهي، وأعمال إدوارد جيبون خصوصاً كتابه اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها حيث تعرّض فيه إلى أصل المسيحية وكيفية نشوئها وقيمة تعاليمها. وأعمال ديديرو خصوصاً دائرة المعارف والتي جمع فيها بالتعاون مع مفكرين آخرين كلّ الآراء المناقضة والمخالفة للكنيسة وسعى إلى تحويل الناس إلى المادّية والعلوم البشرية عبر نقده للنظم الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية التي خلفتها الكنيسة.
وقد أدى انتشار هذه المحاولات التشكيكية المادّية المفرطة إلى أن يذهب بعض المتدينين أكثر في ضرب مطلق المعرفة العقلية والحسية المادّية معاً رغبة في تصحيح الإيمان الديني، فبرزت المثالية المتطرّفة على يدي جورج باركلي، فزادت الأزمة المعرفية حول قيمة المعرفة العقلية التي حاول مجموعة من العقليين الحفاظ عليها سواء على الطريقة الكاثوليكية أو على الطريقة الأرسطية الرشدية، أو على الطريقة الديكارتية إلا أنّ التشكيك كان أنجح؛ لأنّه أسهل، فاستمر في الانتشار أكثر فأكثر حتى تم تتويجه على يدي إيمانويل كانط الذي سعى إلى انقاذ الإيمان والأخلاق ومهاجمة العقليين والمتدينين الطقوسيين معاً، فسطّر مبادئه الشكية في المعرفة الإنسانية، ونقد أدلّة الوجود الإلهي التي ضمنها في كتابه بأسلوب مؤثر وجذاب، مما جعله قبلة المادّيين الذين رفعوا من شأنه وشأن هيوم لما قدمه هذان الرجلان من خدمة جليلة لمذهب الشك المادي الذي انتصر في النهاية على الاتجاهات الأخرى كالمذهب الكلامي على الطريقة الكاثوليكية، والمذهب الشكي الأخباري أو الصوفي البروتستناني، والمذهب العقلي الخالص عند المؤلهة اللادينين مثل ماتيو تندال وإيرل شافستبري وباروخ اسبينوزا، وأصحاب النزعة التوفيقية كما هو عند لايبنتز وكريستيان فولف.
لقد لعبت كلّ هذه الأحداث (وغيرها مما لم أشر إليه بداعي الاختصار)، بنحو متشابك في تمهيد الطريق أمام صعود المادّية والإلحاد وتطورهما. وفي المقابل عملت المادّية بدورها على الاستفادة من كل ذلك لبسط ونشر أفكارها والسيطرة أكثر على المجتمع البشري؛ حيث سعى أنصارها إلى تدعيم موقفهم التشكيكي من المعرفة العقلية الخالصة وموقفهم المنكر للمعرفة النقلية الدينية، مستفيدين من الشكاكين المتدينين في نقد العقل، ومن العقليين المؤلهة في نقد الدين، وبذلوا قصارى جهدهم للتحفيز على استبدال كلّ ذلك بالمعرفة التجريبية لتأسيس العلوم الإنسانية الوضعية والطبيعية، وعملوا على إيجاد البدائل على جميع الصعد، وبدأت مرحلة جديدة من الفكر في الأرض الأوروبية سعى الماديون فيها إلى تقديم منظومة متكاملة وشاملة متمثلة بالمنهج المعرفي الحسي المتطرّف، والأخلاق النفعية كأساس سلوكي وتشريعي، والرؤية الليبرالية في الاجتماع والسياسة، والنظرة المادّية الذرية التركيبية في دراسة الطبيعة والكون والإنسان. تبعها فيما بعد محاولات لتأسيس نظام اقتصادي تأرجح بين الاشتراكية والرأسمالية قبل أن تنتصر الأخيرة لاحقاً. وخلال كلّ ذلك سعى الماديون إلى تغيير نظم التعليم والتربية بالنحو المتوافق ومبادئهم حتى تحقق لهم ذلك في العقود الأولى من القرن العشرين.
الثالث: ما هي الوسائل التي استخدمها الملحدون لترويج إلحادهم؟
بداية لا بد من أن أؤكد على أمر وهو أنّ الملحدين ليسوا شيئاً مختلفاً عن المادّيين والسبب في ذلك أنّه عندما أقول المادّيين فأنا أعني الشكاكين الرافضين لموضوعية كلّ من المعرفة العقلية الخالصة، والمعرفة المأخوذة من النقل عن الوحي، والمقتصرين في بناء منظومتهم على المعرفة التجريبية كطريق حصري للمعرفة. ولم يكن هذا الاتجاه جديداً كما سبق وأشرت وإنّما هو تكرار للتشكيكية الرومانية عند سكتوس أمبريكوس، والتشكيك اليوناني عند أبيقور والسفسطائيين والطبيعيين ما قبل سقراط. وهذا الاتجاه عندما يتم النظر إلى موقفه من الوجود الإلهي في قبال المؤلهة عموماً دينيين أو غير دينيين يكون موقفهم إلحاداً، ولأجل ذلك قلت بأن الإلحاد ليس موقفاً مستقلاً عن الرؤية المادّية بل هو نتيجة لها إذا ما لوحظت بالنسبة إلى موقف المؤلهة.
ومن هنا فالكلام عن تطور الإلحاد وعن الوسائل التي اعتمدها هو كلام عن المادّية كيف نشأت واتسعت وكيف عملت في بناء منظومتها أولاً، ثم كيف عملت في مواجهة ومكافحة المؤلهة وخصوصاً الدينيين منهم. وحيث قد ذكرت العوامل التي أدت إلى تطور الرؤية المادّية، أضيف إلى ذلك ما سيكون جواباً على سؤلك حول الوسائل التي اعتمدوها.
إنّ عمل المادّيين للسيطرة على مقاليد الاجتماع والسياسة والتعليم والاقتصاد، هو الذي قادهم إلى تحقيق الانتصار العملي والتحكم بمقاليد الأمور وسيرها خلال القرن المنصرم، وقد تمّ ذلك على مراحل، وبداعي تحقيق ثلاثة مهمات. وحتى نفهم الوسائل التي اعتمدوها لا بد من أن نستحضر المهمات والأهداف التي أرادوا تحقيقها. وهذه المهمات هي:
المهمة الأولى: وتقضي بالتخلّص من السيطرة السياسية والاجتماعية والعلمية للإلهيين عموماً والدينين بشكل خاص، سواء الكاثوليكيين أو البروتستانت، وذلك بشكل كامل من خلال خطوتين:
1ـ هدم الأسس المعرفية والعقلية للكنيسة الكاثوليكية والإلهيين عموماً وذلك من خلال التشكيك بالمعرفة العقلية وبالتالي اعتبار ما يسمى بالفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا بحوثاً فاقدة للقيمة العلمية. وهذا أمر عمل عليه بيير شاورن وديفيد هيوم وجماعة فيينا لاحقاً وصرح اللاحق منهم بأنّه متمم لعمل السابق. وقد استفادوا في عملهم هذا من الأعمال التي قدمها الشكاكون المتدينون من قبيل مونتاني وباسكال وبرونو وجون لوك وإيمانويل كانط. وقد تم اعتبار هذه المهمة بحكم المنجزة والمنتهية منذ محاولة إيمانويل كانط وتم تكريس العقلانية كمظهر من مظاهر الإلحاد والمادية.
2ـ نقد منقولات الوحي والدين وكسر الحصانة والهيبة التي تتمتع بها نصوصه وتعاليمه، وتصويره بمظهر بشري محض في نشوئه وتطوره، وملاحقة كلّ ما يمكن اعتباره سلبياً ومشيناً في مبادئه أو أحكامه أو ممارسات أتباعه. وهذا ما تجلى أيضاً في كتابات الذين ذكرتهم سابقاً مضافاً إلى كتابات ديديرو وجيبون. وقد استفاد هؤلاء كثيراً وبشكل عميق مما قام به الإلهيون الذين أنشأوا ما يسمى بالدين الطبيعي ورفضوا الوحي الإلهي. وقد استمر العمل على هذه المهمة وتجددت بشكل كبير مع بداية القرن الحالي في آخر مراحل تطور الإلحاد على يدي ميشال أونفري في كتابه نفي اللاهوت وريتشارد دوكينز في كتابه وهم الإله وسام هريس في كتابه رسالة إلى الأمة المسيحية، ودانيال دنت في كتابه كسر التعويذة وغيرهم.
المهمة الثانية: تقضي بإيجاد البديل عن المنظومة الدينية المنهارة، وقد سبق المادّيين قيام المؤلهة اللادينيين بمحاولة تأسيس هذا البديل حيث عملوا على إخراج الأخلاق الفاضلة من كنف الأساس الديني وإرجاعها إلى حضن العقل، وعملوا على إيجاد عقد اجتماعي جديد يرعى الحرية الدينية والسياسية. إلا أنّهم كانوا مجرّد حلقة فاصلة قصيرة مهدت عن غير قصد نحو تربع المادّية على عرش التغيير منطلقين من منهجهم التشكيكي في المعرفة العقلية، فأعادوا إحياء التجريبية كمنهج معرفي مستفيدين من خدمات الشكاكين الدينيين، ثم الليبرالية كمنهج سياسي واجتماعي مستفيدين مما قدمه جون لوك، ثم النفعية كمنهج أخلاقي تشريعي على يدي جرمي بنثام وجون ستيوارت مل، ثم الرأسمالية كنظام اقتصادي لاحقاً بعد تغلّبها على الاشتراكية. ثم العلوم الطبيعية والإنسانية الوضعية كمصدر علمي وحيد. ثم العلماء والمتخصصون فيها كمرجعيات ورموز تملك الاحترام والتبجيل العام وأهلية أن تصبح قدوة. وأخيراً الانتماء القومي والوطني كعلقة ورابطة اجتماعية ونفسية. وقد أصبحت هذه المهمة بحكم المنجزة بعد عقد من نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انتهت تقريباً وعملياً الصراعات الداخلية في داخل المنظومة المادّية سواء مع الفاشية أو مع الاشتراكية، وكانت النتيجة النهائية هي النصر العملي لصالح الديمقراطية والرأسمالية. ولكن مع ذلك، بمرور الوقت بدأت تتجلّى المظاهر السلبية للإفراط والتفريط الذي تتمتع به المنظومة المادّية، وبدأ يظهر العجز عن إيجاد الحلول الحقيقية للمشكلات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والمعرفية، وبدأ يلوح الإفلاس النظري والعملي للعديد من الرؤى، ولكن ظل الوعي بذلك حكراً على الطبقة المتخصصة والمثقفة إلى حد كبير دون عامة الناس إلا قليلاً.
المهمة الثالثة: ترويج وترسيخ كلّ ذلك أي ترويج بطلان وفساد المنظومة اللاهوتية ونجاح وحسن المنظومة المادّية بلباس العقل والعلم والأخلاق الإنسانية، وذلك بنشرها وتقريبها من نفوس الناس وتوفير البدائل النفسية التي يحتاجها عامة الناس لتكون عوضاً عن مثيلاتها التي كانت توفرها المنظومة الدينية، وهي القدوة، ومعنى الحياة وقيمتها، وذلك تمهيداً لإخراج المنظومة الدينية برمتها من المجتمع الإنساني بكلّه، وليس فقط الإخراج السياسي والعلمي والتشريعي والاقتصادي، بل والاجتماعي والفردي لتصير الحالة التلقائية الطبيعية عند الفرد بأن يكون مادّياً. فبعد إعلان انحلال الإمبراطورية الرومانية في منتصف العقد الأول من القرن التاسع عشر، وبالتالي إخراج المنظومة اللاهوتية رسمياً من الواقع السياسي والعلمي والتشريعي والاقتصادي، بقي أمام المادّيين مهمة إخراجها من المجتمع برمته.
وفي هذه المهمات الثلاث، لم يكن أمام المادّيين في أغلب الأحيان لتحقيقها إلا مواجهة الدينيين فقط؛ لأنّ انكفاء الإلهيين اللادينيين خصوصاً على المستوى الاجتماعي أمام المدّ الشكّي المادّي، لم يجعلهم مورداً للتحدي خصوصاً وأنّهم يتفقون مع المادّيين في الرغبة بإقصاء سلطة الدين الذي هو الهدف الحقيقي للماديين فسواء كان هناك إله أم لم يكن فالمهم أنّه ليس لهذا الإله أيّ دور في تدبير الحياة الإنسانية. ومن هنا لم يوفر الماديون محاولة استغلال مواقف الإلهيين مرّة أخرى لدعم رؤيتهم الإلحادية عبر تكريس فكرة التمييز بين إله المتدينين وإله اللادينيين، وليفوتوا بذلك أيّ فرصة على المتدينين لاستغلال موقف المؤلهة اللادينين لدعم موقفهم.
ولكن مع ذلك، لم يكن العديد من المادّيين يرغبون باجتثاث الدين من الحياة الاجتماعية وإنّما فقط كف يده عن السلطة، وذلك لأغراض سياسية، حيث وجدوا في تدين الناس وسيلة للاستغلال السياسي وقد كان هذا أحد الأدوات التي ساعدت في نصرة الرأسمالية على الاشتراكية التي اتخذت موقفاً متطرفاً من الدين وسعت إلى اجتثاثه من أساسه في الأماكن التي حكمت فيها كما حصل في الاتحاد السوفياتي.
ولكن عندما استطاع المتدينون التأقلم مع النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي رسختها المنظومة المادّية، وبدأوا يسعون نحو استعادة شيء مما فقدوه، وتدارك ما ستقود إليه المنظومة المادّية من خلال سيطرتها على التعليم، فأسسوا الأحزاب السياسية الدينية، والمدارس الخاصة، والجمعيات والمنظمات الاستقطابية؛ بدأ الماديون أو قسم منهم على الأقل يستشعرون بالخطر، وهذا ما دفعهم إلى القيام بخطوة جديدة يسعون من ورائها إلى الحد من التأثير الاجتماعي للدين على عامة الناس حتى تفقد المؤسسات الدينية شعبيتها ومددها. وهذا ما تمثل بما سمي بالإلحاد الجديد، وقد لاقت هذه الخطوة معارضة ليس فقط من المتدينين، بل من ماديين وملحدين آخرين، وجدوا فيها تطرفاً، ووجدوا فيها ضيق أفق فيما يتعلق بالنظرة البرغماتية والنفعية من وجود الدين في الحياة البشرية.
على كل حال، أعود إلى الكلام على الوسائل التي استخدمها الملحدون في تحقيق مهماتهم الثلاث التي عرضتها، وأعتقد أن ماهية هذه الوسائل أصبحت واضحة من خلال طبيعة المهمات التي ذكرتها، حيث يمكنك أن تلاحظ أنّ المادّيين كانوا بحاجة إلى أن يعملوا على ثلاثة مستويات، الأول علمي، والثاني تعليمي والثالث إعلامي. أما على المستوى العلمي فبأن يظهروا ليس فقط تعارض النظرة العلمية إلى الكون مع النظرة الدينية-وهو أمر تحقق قبل انتعاش المادّية، ولعب دوراً في التمهيد لسلب الكتب الدينية موثوقيتها، وهذا ما استفاد منه المادّيون والإلهيون اللادينيون على حد سواء-بل أيضاً:
1ـ أن يظهروا العلم الطبيعي بمظهر الموافق والمؤيد والداعم للرؤية المادّية، وهذا ما تحقق من خلال دخول المادّيين في الميادين العلمية بشكل واسع، وبنائهم لبحوثهم العلمية ونظرياتهم الناتجة عنها في علوم النفس والاجتماع والفيزياء النظرية والبيولوجيا النظرية، على خلفية مادّية اختلط فيها ما هو علمي تجريبي بحت بما هو من نتائج النظرة الفلسفية المادّية.
2ـ أن يكرّسوا النظرة المتدنية إلى الفلسفة الأولى والميتافيزيقا واعتبارها فاقدة للعلمية، وهذا ما تحقق بقوة على يدي جماعة فيينا والاتجاه الوضعي عموماً، ومن ثم ادعاء قدرة العلوم التجريبية على التصدي لحلّ كلّ المشكلات التي كانت تاريخياً تبحث من قبل الفلاسفة.
3ـ اعتبار علم المنطق علماً صورياً بحتاً، لا يقود إلى تمييز الصواب من الخطأ، بل هو قابل للاستعمال في كليهما، وهذا ما ساهم فيما بعد في ترميزه وجعل دوره مقصوراً على العلوم التطبيقية التقنية. أما ما يسمى بالمنطق المضموني أو البرهان المنطقي فقد تم إقصاؤه بالكلية بذريعة أنّه مبنيّ على مبادئ ميتافيزيقية كفكرة الماهية والجوهر ووجود مبادئ عقلية أولية، وبما أنّ جميع هذه محلّ خلاف ونقد، بدءاً من جون لوك مروراً بديفيد هيوم وصولاً إلى إيمانويل كانط ولاحقاً حلقة فيينا وبرتراند رسل، فهذا يعني أنّه ليس منطقاً ولا يوجد شيء اسمه منطق مادّي كما صرح بذلك كانط ورسل وإنّما منطق صوري فقط.
وأما على المستوى التعليمي، فقد تم تأسيس منظمة اليونسكو لتعنى بتنظيم عملية التعليم في سائر أقطار الأرض طبقاً للرؤية المادّية القاضية بجعل العلوم التجريبية والرياضية وحدها علوماً على الحقيقة، وجعلها قبلة الأذكياء والمجدين من الطلبة، وفي المقابل تم تكريس دراسة تاريخ الفلسفة بدل الدراسة العلمية للفلسفة امتثالاً لما دعا إليه كانط وكرسه الاتجاه الوضعي عموماً وما عرف بالوضعية المنطقية لاحقاً. فلم تعد الفلسفة الأولى علماً يدرس وكذا بالنسبة إلى المنطق البرهاني الذي يعنى بالمضمون والأخلاق، وإنّما صارت النظريات المتنوعة والمتعددة كلّها تعطى وتسرد كموروث له قيمة إنسانية تاريخية. وتم الاقتصار من المنطق في التعليم على القسم الصوري منه والمرموز وتم تكريس النظرة إلى المنطق على أنّه صوري بحت، وتسربت هذه النظرة إلى كلّ أصقاع الأرض بما فيها المراكز الدينية في مجتمعاتنا لأنّ الأرضية كانت مهيأة فيها قبل ذلك، بفعل الطريقة التي كرّسها المتكلّمون المسلمون في دراسة المنطق حيث اقتصروا هم كذلك على القسم الصوري من المنطق ليستفيدوا منه في بحوثهم الكلامية الجدلية.
أما على المستوى الإعلامي والتوجيهي فكان لا بد من إيجاد بديل عن القساوسة والرهبان والتعليم الكنسي الديني والسيطرة الثقافية الدينية. فإن المادّيين لما وجدوا أنّه بقي عليهم أن يسلبوا الأديان سيطرتها الجماهيرية، ويخرجوها من المجتمع حتى تصبح الحالة الطبيعية هي الحالة الإلحادية وعدم التدين بدين، ثم وجدوا أنّ الوصول إلى نفوس وقلوب عامّة الناس لا يمكن أن يكون من خلال الكلام الأكاديمي والعلمي، وأنّ الناس يحتاجون إلى الأسلوب الخطابي والشعري، وإلى وجود القدوة في حياتهم العملية، وأدركوا أنّ قوة تأثير الدين على نفوس العامة هي في استعماله لهذه الأساليب؛ فلأجل ذلك كلّه عمدوا إلى تأسيس ما يسمى بالعلم الشعبي وجعلوا في الجامعات أقساماً مستقلة تعنى بصياغة العلوم الأكاديمية الوضعية لتقريبها من فهم الناس وجعل نفوسهم مرتبطة بها، وريتشارد دوكينز نفسه وبيل ناي ولورانس كراوس وغيرهم من الملحدين عملوا ويعملون في هذه الأقسام ويكتبون لعامة الناس.
والغريب المثير للسخرية، أنّهم جميعاً يقرون أنّ تنزيل الخطاب إلى فهم عامة الناس يقود إلى إعطاء نظرة خاطئة ومشوهة عن الحقائق العلمية وأنّه لا يمكن تفادي ذلك، ومع ذلك فإنّ منفعة هذا التنزيل والتذليل للمطالب العلمية وهو الطريق الوحيد لربط الناس بالعلوم وجعلهم يلجؤون فيها إلى المتخصصين بها.
كما أنّهم يقبلون فكرة استغلال العلوم والمعرفة لمصالح نفعية وغير أخلاقية. وفي المقابل لا يقبلون على الإطلاق فكرة أن يكون الدين في خطابه لعامة الناس قد استعمل نفس الأسلوب في التواصل مع عامة الناس الذين تفرض قابليتهم المحدودة على الفهم وعلى التأثر أن تتمّ مخاطبتهم على قدر عقولهم. كما أنّهم يرفضون أن تكون الأديان قد تعرّضت للاستغلال والتحريف من قبل البشر كما الحال في سائر المجالات.
على كلّ حال، فهذه نقطة أخرى أحببت الإضاءة عليها قليلاً، وأتابع في مسألة تعداد الوسائل الإعلامية التي استخدموها، أنّه مضافاً إلى تأسيس أقسام في الجامعات تعنى بصياغة العلوم بأساليب وحدود مفهومة لعامّة الناس، تم تأسيس جمعيات وأقسام في الجامعات تعنى بكتابة القصص المسماة بالخيال العلمي والتي تقوم بإبراز المدى الإبداعي والجميل الذي يطمح إليه العلماء والمتخصصون ويعنى بزيادة ارتباط عامة الناس بالعلم التجريبي ومتخصصيه، ونتيجة لذلك، كثيراً ما صار يختلط على القارئ ما هو حقيقي بما هو مستحيل نتيجة هذه القصص، خصوصاً عندما يتم تحويل القصص إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية.
ومضافاً إلى هذا وذاك، كثيراً ما تم صناعة أفلام وثائقية باحتراف عال حول التاريخ المتعلق بالدين أو بالنهضة التي حدثت في أوروبا مروّجين من خلال ذلك للأفكار المادّية وما يخدمها وما يجعل لها الموثوقية العليا في نفوسهم. هذا مضافاً إلى الأفلام السينمائية الكثيرة التي كرّست لترويج الرؤى المادّية في العقيدة والسلوك، ووجدت لها الجماهير الغفيرة والمتابعين الكثر في شتى أنحاء العالم بجميع لغاتها.
هذا كلّه بالنسبة إلى ما يتعلّق بإيصال خطابهم بنحو مؤثر إلى عامة الناس، أما بالنسبة إلى إيجاد القدوة، فلم يعجزهم الأمر، فإنّهم عمدوا إلى إخراج مجموعة من المتخصصين في العلوم المختلفة من المادّيين والملحدين من الأجواء الأكاديمية التخصصية، وإبرازهم لعامّة الناس من خلال أفلام وثائقية ومقابلات تلفزيونية ومهرجانات ولقاءات ومحاضرات يقومون خلال كلّ ذلك بتوجيه الناس وإيجاد العلقة العاطفية والنفسية معهم بحيث يصير هؤلاء قدوة موجهة بديلة عن القساوسة والرهبان ما يسمى برجال الدين، كي يسدوا بذلك فراغاً يحتاج إلى أن يملأ في نفوس عامة الناس. وهذا بدوره ما جعل فكرة المعارضة والتنافي بين الدين والعلم تطفو على السطح وكأنّها مسلّمة من المسلمات التي فرغ عن النزاع حولها.
وقد انضم إلى كلّ ذلك الاستفادة من التطور الحاصل على مستوى وسائل التواصل والاتصال، حيث أصبح إيصال الأفكار ونشرها إلى كلّ العالم سهلاً يسيراً، وأصبح التأثير على النفوس يأخذ مداه الواسع إلى داخل البيوت والغرف دون أن يحتاج المرء إلى الخروج من بيته.
هذا باختصار شديد ما يتعلّق بالآليات التي اعتمدها الماديون في حركتهم بدءاً من القرن السابع عشر وإلى الآن.
القسم الثاني: مركز المشكلة في الظاهرة الإلحادية، وفيه ثلاثة أسئلة:
الأول: هل نجح الملحدون في التأثير على مجتمعاتنا الدينية ولماذا؟
إذا نظرنا إلى الواقع الذي نعيش فيه، نجد أن هناك عدة أمور كانت نتيجة لنجاح المنظومة المادّية في التأثير عليها، وأهمها:
1ـ نتيجة لسيطرة النظام الرأسمالي بقيمه وقوانينه، أصبح الطابع العام لسلوك البشر يتأرجح بين:
- الانهماك الكلي أو شبه الكلي في السعي إلى زيادة الثروة.
-الانهماك الكلي أو شبه الكلي في السعي إلى تأمين الرفاهية بالحصول على كلّ ما هو جديد من الصناعات المتطورة المختلفة دون النظر إلى الحاجة الحقيقية لها.
-الانهماك الكلي أو شبه الكلي في تأمين المستلزمات الضرورية لكرامة العيش.
ونتيجة لهذا الانهماك والاستغراق المبني على تأسيس نظري مسيطر وليس مجرد حالة عابرة، أصبح العلم والتعليم مجرّد أدوات لذلك، بل لم يعد الدين في أغلب الأحيان إلا وسيلة يتبعها المتدينون لتأمين تلك الأهداف، بحيث لا تجد العلم أو الله حاضراً في الغالب إلا لأجل ذلك. وهو ما دأبت الأدبيات الدينية على تسميته بالغفلة.
وقد أدّى ذلك بشكل مباشر إلى تعويم الدين، وخواء النفوس، وهشاشة البنية المعرفية والعقدية والأخلاقية عند الغالبية من الناس، وبالتالي لم يعد الارتباط بالدين في أذهان ونفوس الناس قائماً على أسس متينة وموضوعية، بل تحوّل ليصير مجرّد تقاليد وطقوس وأعراف لا ينجذب الإنسان إليها إلا تحت سلطان العاطفة والأنس أو بداعي المصلحة. وهذا بدوره ما جعل دين الناس هشّاً قابلاً للتفريغ من مضمونه وسريع التأثر بالنقد والتشكيك تمهيداً لاستبداله بالرؤية المادّية للحياة لا أقل على المستوى العملي والسلوكي بحيث لا يعود الله والقيم العلمية والأخلاقية حاضرة في طموحات وهموم الإنسان إلا نزراً وبنحو خجول ومقصورٍ على أفراد محدودين أو جماعات صغيرة قليلة.
وهذا بحدّ ذاته تمهيد فعال للهجوم النظري على الدين والارتباط بالإله وتغييبه من النفوس والعقول بعد أن تم تغييبه من الواقع العملي والمعيشي إلا لأغراض نفعية ضيقة.
2ـ نتيجة لسيطرة الرؤيتين الليبرالية والنفعية، على التعليم والسياسة والإعلام، أصبحت الأفكار الليبرالية كالحرية والاستقلالية الشخصية المطلقة، واختزال الشرّ والفساد والرذيلة في حدود الإضرار بالغير، بحيث مهما كنت تفعل ومهما كانت اختياراتك فالمهم أنّك لا تضر مباشرة بالآخرين إضراراً نفسياً أو جسدياً فقط؛ وبالتالي تمت شرْعنة الانسياق التلقائي وراء الشهوات والرغبات وترويج مثيراتها ومحفزاتها دون أن يكون هناك أيّ اعتبار للأضرار الأخلاقية والمعرفية إلا في الحدود المخلّة بالقانون والموجبة للهرج والمرج. والأمر عينه يقال بالنسبة إلى العديد من الرؤى المتعلقة بآلية الوصول إلى السلطة وتحديد من يحكم الناس، والمتعلقة بدور الرجل والمرأة والشباب في الأسرة والمجتمع والسياسة، حيث تم عزل الوظائف والأدوار عن مضامينها وأهدافها وغاياتها ومقومات نجاحها وتركيز النظر على الاعتبارات الشكلية والظاهرية.
وهذا بدوره ونتيجة للتكرار والشيوع وطول المدة مضافاً إلى تسويق كلّ ذلك من خلال البرامج والمسلسلات والأفلام، جعل من هذه الأفكار والرؤى مشهورات راسخة يشنع على من يخالفها أو ينتقدها، وهذا ما أدى بدوره إلى حصول الاصطدام بين التعاليم والأهداف العقلية والدينية من جهة والمشهورات المعاصرة من جهة أخرى، بل أدى إلى اعتبار الأخيرة حقاً وصواباً بالنسبة إلى عصرنا استناداً إلى الرؤية الاجتماعية الأخلاقية النسبية، وبالتالي قام العديد من المتدينين أو المنظرين بتحويل وتبديل المعايير الدينية لتصير متوافقة معها بما فيها من إفراط وتفريط بدل العمل على تهذيبها وتنقيتها.
وقد كانت نتيجة ذلك هي أن يقوم الناس بتقييم التعاليم السلوكية العقلية والشرعية من منظار مشهورات ومقبولات الرؤى المعاصرة بما فيها من إفراط وتفريط، فنشأت حالات التشنيع والاستقباح لكثير من الأحكام والرؤى التي يقود إليها العقل أو يهدي إليها الشرع، وبالتالي شيئاً فشيئاً صارت القضايا العقلية العملية والقضايا الشرعية موضوعات جدل ونقاش بين عامة الناس، وهذا ما أدى إلى كسر وانتهاك الحرمة والهيبة التي كانت تتمتع بها، تمهيداً إلى عزلها وإلغائها من ساح الحياة أو تحويل الدين إلى مجرد ثقافة متوائمة مع الواقع المعاصر.
3ـ نتيجة للنجاح الباهر في العلوم التجريبية والتطبيقية ودورها في تأمين الحاجات المادّية البشرية، ونتيجة للسيطرة الرسمية على مقاليد التعليم ومراكز البحوث العلمية، تم تكريس النظرة إلى العلوم المعتمدة رسمياً على أنّها وحدها من يملك الموثوقية، وبالتالي تم رفع شعار العقلانية العلمية كصفة مميزة لمنهج هذه العلوم، في قبال العلوم الزائفة وغير الموضوعية، من قبيل الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا) والمعايير الأخلاقية والتعاليم الدينية.
وهذا بدوره ما جعل المتخصصين في العلوم الرسمية المعتمدة وبالأخص علمي النفس والاجتماع ملاذاً وحيداً لأخذ المعرفة الموثوقة وحلّ المشاكل وأخذ الاستشارة فيما يتعلق بالأمور السلوكية والحياتية، وبالتالي تقويض دور المعرفة العقلية والدينية في توجيه الحياة البشرية، والنظر إليها نظرة نسبية لا تملك الموثوقية.
4ـ ونتيجة للتطور الكبير على مستوى أدوات التواصل وانكباب عامة الناس عليها بإفراط، أصبح عامة الناس في المجتمع في مواجهة كلّ ما شيدته وروَّجته وتروجه المنظومة المادّية من أفكار ورؤى، فانتشرت التبعية التلقائية للأفكار والرؤى المادّية على نحو واسع وإن على المستوى العملي فقط، ولكن عندما بدأ الملحدون في المواجهة النظرية كانت النفوس هشة وضعيفة عن فهم الخلل والفساد الكامن في هذه المنظومة فانساق كثيرون في الخفاء والعلن نحو الالتحاق بركبها، بينما لم يهتم الأكثر بأي من ذلك نتيجة الانهماك في شؤون الحياة وهمومها. وبالتالي نجحت المنظومة المادّية في عزل أكثر الناس عن دينهم إما كلياً وعلى المستويين النظري والعلمي، وإما جزئياً وعلى المستوى العملي فقط بالانهماك بمتطلّبات الحياة المادّية ولواحقها.
لقد نجحت المنظومة المادّية من تحقيق كلّ ذلك وغيره، ولكن نجاحها لم يكن عائداً فقط إلى براعتها وحسن تنظيمها، بل إن نجاحها يرجع في أغلبه إلى الخلل الكامن في مجتمعاتنا في الأساس، هذا الخلل يتمثّل في الدور الذي يقوم به القيمون على الشؤون الدينية. فلو لم يكن مجتمعنا قابلاً ومهيأ بالفعل للاختراق من قبل المنظومة المادّية، لما كان الأمر على ما هو عليه.
أي: لو لم يكن التعامل مع المنظومة الإلهية الدينية في نفسها أو في علاقتها مع مجتمعها يعاني من ضعف وهشاشة في جانب من الجوانب، لما كانت المنظومة المادّية لتنجح في نشر مبادئها وإقناع بعض المتدينين بها، وتشكيكهم أو على الأقل تكريس عزوفهم العملي عن الاهتمام بالدين إلا من وحي العاطفة والأنس أو لأجل مكاسب مادّية.
أما لو كانت المنظومة الإلهية الدينية متماسكة معرفياً في نفسها بالكامل، وفاعلة في علاقتها بالناس بأن جعلتهم متماسكين معرفياً في علاقتهم بها، لما كان الحال على ما هو عليه، ولما استطاع المادّيون أن يحلموا بالتأثير على المتدينين وجلبهم إلى صفوفهم أو على الأقل إبعادهم عن دينهم.
الثاني: لماذا لم يستطع القيّمون على الشؤون الدينية تفادي الخطر الإلحادي من أول الأمر؟
إذا أردت صياغة هذا السؤال بطريقة أخرى لقلت ما الخلل الذي تعاني منه المنظومة الدينية والقيّمون عليها حتى استطاعت المادّية أن تؤثر في القاعدة الشعبية التي ترعى توجيهها وتربيتها وفقاً للتعاليم الدينية.
والجواب على هذا السؤال تجده بملاحظة أمرين:
1ـ ما تعاني منه المنظومة الدينية في علاقتها مع القاعدة الجماهيرية.
2ـ ما تعاني منه في نفسها.
الأمر الأول:
إذا لاحظنا حال المنظومة الدينية في علاقتها مع القاعدة الجماهيرية، نجد أنّ عملية التعليم الديني سواء في المدارس وفي البيوتات أو في المحافل العامة لا ترقى لمستوى جعل المتعلّمين آخذين للدين عن دليل، بل كثيراً ما يتم تلقين المسائل مجرّدة عن الدليل وفي أحسن الحالات يتم تلقين الأدلة وتحفيظها فقط وليس جعل المتعلّمين شركاء في فهمها. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يتحوّل المتدينون في كثير من الأحيان إلى مجرد اتباع عن تقليد أعمى، نشأوا وتربوا واعتنقوا دينهم على أساس اتباع الآباء. بل كثيراً ما يختلط ما هو من الدين بما هو من تقاليد المجتمع دون أن يكون لتلك التقاليد أيّ أساس شرعي أو عقدي. وكثيراً ما تختلط الأمور التي قام عليها الدليل القاطع بالأمور التي لا تجد لها دليلاً حاسماً، بل بالأمور التي لا دليل عليها أصلاً. وبالتالي تكون نظرة الإنسان العامي إلى الدين محمَّلة بكمّ كبير من الأفكار والسلوكيات التي لا علاقة لها بالدين ولكن ينظر إليها على أنّها منه. بل كثيراً ما يستغل الانتهازيون المتلبّسون بزي الدين بساطة الناس وإخلاصهم ليقوموا بما لا علاقة له بالدين والحق، ولكن باسم الدين والله. وفي ظلّ كلّ ذلك، لا ترقى عملية التصحيح والتوجيه والتحذير إلى المستوى المناسب مع حجم المشكلة. ومع ذلك فإنّ هذه الأسباب ظاهرية نوعاً ما.
ما أريد قوله في هذه النقطة هو أنّ أحد أسباب هذه الظاهرة يرجع إلى تقصير أو قصور في إيجاد آليات التواصل والتفاعل مع عموم الناس، ولكن أيضاً تكمن الأسباب الأخرى والأهم في أنّ قسماً من المنظرين للمنظومة الدينية مقتنعون على المستوى النظري بأنّ دين الناس ينبغي أن يكون على طريقة دين العجائز...وأنّ الدين سيكون بألف خير طالما أنّ الناس يمارسون الأعمال العبادية وملحقاتها ويقيمون المراسم في المناسبات الدينية، وأنّ كلّ ما من شأنه أن يزيد الارتباط العملي للناس بدينهم فهو حسن حتى لو كان كاذباً وغير صحيح. وهذا كلّه يعني فقدان التمييز بين الممارسة الواعية المرتبطة جوهرياً بغايات الدين والمنعكسة على سلوك المتدينين، وبين الممارسة الطقسية التي يتم فيها بتر العلاقة بين الممارسات وغاياتها فتجد الإنسان يمارس عباداته ومراسم الإحياء لكثير من الأمور الدينية ولكن في المقابل تجد أعماله وأخلاقه وتعاملاته لا تنبع من تعاليم الدين.
فالمشكلة ليست فقط في أنّ هناك من يتعامل مع عقائد الناس بأسلوب التلقين والتقليد، بل الأخطر أنّ هناك من يرى أنّ دين الناس يفترض أن ينبني على التقليد في الاعتقاد، والاقتصار على الخطابيات، ولا يرى بأساً بشيوع ما لا أساس له طالما أنّه يخدم ارتباط الناس عملياً بالدين، ويرى في التعدّي عن ذلك أو محاولة التصحيح خروجاً عن الطريقة التي تناسب الدين إن لم يره خروجاً عن الدين.
إلا أنّه ومضافاً إلى خطأ هذه الفكرة في نفسها ومخالفتها لضروريات العقل والدين معاً، فإننا لم نعد في عصر يسود فيه الجهل والأمية والسذاجة المعرفية بحيث يمكن لهذه الرؤية أن تجد لها باعة.
لقد انتشرت العلوم وشاعت وصار التعليم موجوداً في كلّ أصقاع الأرض ومن النادر أن تجد من هم غير متعلمين إلا بعضا من الجيل السابق الذين لا زالوا أحياء، ولكن ماذا عن الجيل الحالي جيل الشباب الذي يدرس الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والإلكترونيات، هل يمكن أن يبقى التعامل المعرفي معه على أساس دين العجائز المزعوم هذا أو على أساس تلقين العقائد وتحفيظ الأدلّة دون أن يتم بناؤه معرفياً ومنطقياً بحيث يصير معتقداً عن تعقّل وشريكاً في إقامة الدليل فيمتلك الحصانة الذاتية لا العرضية.
إذ الشباب المتعلّم يجد أنّ سائر العلوم التي يتعلّمها منذ نعومة أظافره، مبنية على أساس منهج صارم ومعطيات تؤدّي إلى نتائج مضمونة. ولكن عندما يأتي إلى معرفته عن دينه يجد أنّها مبنية على أساس الاتباع والتقليد وحفظ الأدلّة دون تعقّل حقيقي لها، وبالتالي كيف سيصمد هذا الشاب أمام الهجمة المادّية على المجتمع، وما الذي سيمنعه من التحول إلى ناقم على الدين وأهله.
هذا بالنسبة إلى الأمر الأول المتعلق بالمشكلة الكامنة في علاقة المنظومة الدينية بالقاعدة الجماهيرية.
الأمر الثاني:
أما الأمر الثاني، فقد سبق وأشرت عندما سألتني عن كيفية تطور الإلحاد، إلى أنّ المادّيين قد استفادوا كثيراً من التيار الشكّي الديني المتمثل بالأخباريين والصوفيين والمتكلمين، وهم الذين جعلوا العقل إما عاجزاً بالمطلق عن الكلام في القضايا الإلهية والدينية، وإما جعلوه مجرّد خادم لما اعتبروه ثابتاً ومفروغ الصدق تمسكاً بمنقولات الوحي. حيث أشرت إلى أنّهم استفادوا منه في ضرب الأساس العقلي الذي يقف في وجه مشروعهم المادي، كما استفادوا مما فعله العقليون في ضرب الأساس الآخر النقلي الذي يقف في وجههم. والأمر عينه حصل هنا في مجتمعاتنا، حيث تجد أنّ الاتجاهات التشكيكية في المعرفة العقلية هي السائدة غالباً في بناء المنظومة الدينية، وأنّ الصراع التاريخي بين كلّ من أهل الحديث والأخباريين والصوفيين والمتكلمين من جهة، مع الفلاسفة العقليين البرهانيين من جهة أخرى، لا زال قائماً وسارياً إلى الآن، بل إنّ الطابع العام الذي يحكم أغلب المنظومات الدينية القائمة هو الطابع المعادي للعقل البرهاني كمصدر أوّل ووحيد للعقيدة، وحاكم مطلق على معالم الفهم الديني. ولأجل ذلك انحسر الاهتمام العلمي بالعلوم العقلية البرهانية واستبدلت إما بالبحوث النقلية الصرفة بمسحة عقلية صورية، وإما البحوث الصوفية المزخرفة بصور استدلالية عقلية، وهذا ما أدى بطبيعة الحال أن تبقى البحوث العقلية البرهانية عيالاً على ما كتب في القرون الماضية دون أي محاولة للتعميق والاستقصاء، ولذلك تجد أنّه حتى المهتمين في البحوث العقلية البرهانية على قلّتهم لم يخرجوا عن حالة التكرار والاجترار لما سطر قبل مئات السنين دون سعي للتوغل أكثر وأكثر وحلّ المشكلات التي أدّت إلى كلّ هذه الصراعات التي لازالت قائمة.
فالمشكلة الحقيقية تكمن في أنّ المؤلهة أنفسهم منقسمون على أنفسهم، بين من يريد أن يجعل من ظواهر المرويات الدينية مصدراً وحيداً للعقيدة والسلوك دون أي رضا بتدخل ما عداها لتغيير مفاد النص أو فهمه بنحو آخر، وبين من يريد أن يجعل من الكشف والعرفان مصدراً رديفاً وحاكماً في العقيدة، وبين من يريد أن يجعل العقل وحده مصدراً في العقيدة وحاكماً في تحديد معايير السلوك دون أيّ وضوح حول معايير هذا العقل وكيفية تمييزه عن الأهواء والاستحسانات، وبين من يرى في العقل البرهاني وحده المحدد المعالم والمعايير ووسيلة لحلّ كلّ هذا الركام، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وتمييز ما اختلط من الأمور والتي منها التمييز بين مقامي البناء والتشريع ومقامي الخطاب والتوجيه. وأمام هذا الواقع الذي كانت المنظومات الدينية تعيشه إلى وقت قريب قبل أن تشغلها المباغتة التي شنها المادّيون، لا يمكن أن نجعل المنظومات الدينية في حلّ من تحمل المسؤولية عن نجاح المنظومة المادّية في اختراق المجتمعات الدينية.
ويتضح هذا الأمر أكثر إذا رجعنا إلى الأسلحة الرئيسية التي شهَرَها المادّيون في وجه الدين. حيث نجد أنّها كلّها ترجع إلى أساس جوهري ووحيد وهو المنهجية المعرفية المتبناة من قبلها، والتي على أساسها نقدوا الأساس النظري للدين وعلى أساسها نظروا للبديل العقدي والأخلاقي والاجتماعي الذي قاموا بمحاكمة المنظومة الدينية من خلاله وفسروا التاريخ الديني به وقيموا من خلاله عقائده وتعاليمه. إذ باقتصارهم على المنهج التجريبي المتطرف قاموا بإلغاء الفلسفة الأولى واعتبارها سفسطة وشعوذة. وباقتصارهم على المنهج التجريبي المتطرف قاموا بإلغاء مبادئ المنهج العقلي البرهاني واعتبروه مبهما لا موضوعية واضحة فيه ورفضوا الضرورة المنطقية لأوليات العقل، وتمكنوا على إثر ذلك من استغلال النظريات العلمية لصالح المادّية والإلحاد. وكذلك الأمر فإنّ إهمالهم للمنهج العقلي البرهاني هو الذي سمح بـتأسيس الليبرالية لتقع في فخ الإفراط والتفريط في تنظيم المجتمع والسياسة. وهذا الإهمال عينه هو الذي سمح بتأسيس النفعية منهجاً للسلوك وقاعدة للتشريع والتنظيم وبالتالي الوقوع في الإفراط والتفريط، وكذلك الحال في تأسيس المنظومة الاقتصادية الرأسمالية ومن قبلها الاشتراكية.
وهذه الأمور التي أسسوها هي التي استطاعوا من خلالها التوغل في المجتمعات والسيطرة عليها، لأنّ الساحات كانت مشرعة لاستقبالها، ولأنّ هذا الإهمال للمنهج العقلي البرهاني أمر قد تم تكريسه في أغلب المنظومات الدينية القائمة، فانعكس بالضرورة:
1ـ على فهم الدين بعقائده وتعاليمه وبالتالي على كيفية بناء المنظومة الدينية في عقائدها وتعاليمها.
2ـ على تبليغ الدين إلى عامة الناس الذين تم إنهاكهم بمستلزمات الحياة المادّية وتعليب أذهانهم بمشهوراتها ومقبولاتها، قبل أن يتم الهجوم النظري على أديانهم التي أخذوها تقليداً واتباعاً دون تعقّل حقيقي.
الثالث: لماذا لم ينجح المتدينون في مواجهة للإلحاد حتى الآن؟
لم ينجحوا، لأنّ فهمهم للسبب الحقيقي الكامن وراء بروز الإلحاد وترويجه لم يكن فهما صحيحاً، إذ إنّهم قد اعتبروا أنّ صعود نجم الإلحاد يرجع إما إلى الخداع والتضليل الذي يمارسه رموز الملحدين على الناس من خلال الأدلّة الفاسدة التي يقدّمونها، وإما إلى خطأ الصورة التي يرسمها الملحد عن الدين في رأسه نتيجة جعله لممارسات المتدينين عنوانا للدين ومعرفاً عنه.
فالمتدينون المدافعون عن دينهم في مواجهة الإلحاد يرون دينهم بمشهوراته وتعاليمه السائدة ومنهجيته المعرفية بريئاً من النقص والخلل، الحال أنّ المدخل الأول والأساس الذي انطلق منه الإلحاد منذ القرن السابع عشر في مواجهته للدين، كما سبق وأشرت هو المنهج المعرفي، حيث عمد إلى تبني المنهج الحسي المتطرف، ورفض المنهج العقلي والفلسفة الأولى، ولأنّه فعل ذلك، استطاع أن يجتاح شيئاً فشيئاً المجتمعات التي يدخل إليها وأن يزوي السلطة الدينية في دور العبادة ولينحسر دورها في الحياة البشرية.
وهو إنّما استطاع أن يفعل ذلك، لأنّ المذاهب الدينية نفسها تتصارع وتتنازع في أنفسها حول المنهج المعرفي الذي ينبغي استعماله في فهم الدين، ولأجل هذا الاختلاف في المنهجية كان هناك اختلاف حادّ ومتكثّر في رسم معالم أديانهم في عقائدها وتعاليمها. فالمتدينون يبرئون أنفسهم من أن يكون لهم دور في تفشّي الظاهرة الإلحادية، ويريدون في مواجهتهم للإلحاد أن يحافظوا على كلّ ما في سلتهم. فهم يريدون أن يهزموا الإلحاد والمادّية، وبنفس الوقت أن يحافظوا على مصداقية كلّ ما في جعبتهم دون أن يروا بما في جعبتهم من فهم للدين وللحقائق الإلهية أيّ خلل وعيب لأنّهم يرون أنّ الإلحاد نتاج الخداع والتضليل فقط.
ولأجل هذا تجد أنّ أساليبهم في مواجهة الإلحاد قد سلكت مسلكاً متناسباً مع هذه النظرة، حيث توجّهوا في مواجهة أدلّة الملحدين المعتمدة على العلوم الطبيعية إلى نفس العلوم الطبيعية ليستشهدوا بنظريات بعض علمائها ليجعلوها في مواجهة النظريات التي استخدمها الملحدون فكرسوا من دون قصد الفكرة الخاطئة بكون الوجود الإلهي مجرّد نظرية في عرض نظريات أخرى راجحة عليها وبالتالي لا ملزم بها فعلّقوا عن غير قصد صدق أديانهم على بطلان نظرية وجدت أو ستجد مستقبلاً ما يدعمها ويؤيدها. أو تراهم عمدوا إلى تأييد دينهم من خلال ابتداع تأويلات وتفسيرات لبعض الآيات القرآنية الكريمة مثلا بنحو متوافق مع النظريات والحقائق العلمية وهذا ما أشبعه الملحدون سخرية واستهزاء. أو لجأوا إلى تأكيد الحاجة الفطرية للدين التي لا يملؤها إلا دينهم فانهال عليهم الملحدون بما ذكره الماديون المنظرون في الانثروبولوجيا وما ذكره المادّيون الأوائل ليستشهدوا على عدم وجودها، أو ليفسروا وجودها بأسباب اجتماعية ونفسية يمكن رفعها دون الحاجة إلى الدين. وإذا ما توجهوا ليستدلوا بالعقل وجدتهم يقفون حائرين أمام العديد من التمييزات الاصطلاحية التي ابتدعت في متأخر العقود والقرون جهلاً (مثل: القبلي والبعدي والتحليلي والتركيبي والمنطقي والواقعي وغيرها)، وأوجبت تحريفاً في منطق التفكير وتَشَرَّبتْها حتى نفوس المتدينين، دون أن يدروا كيف يتعاملون معها وينسقوا بينها وبين بنائهم لعقائدهم. أو تراهم يقفون حائرين أمام ما يعرض أمامهم من إشكالات ذكرها هيوم وكانط وغيرهما؛ وذلك لأنّ المباني المعرفية التي اتكل عليها هؤلاء المشككون في المعرفة الإلهية، هي عينها التي يتكل عليها كثير من المتدينين في تحجيم دور العقل في المعرفة وإنكار وجود العقل والمعرفة البرهانيين. أو تراهم يلجؤون إلى ذكر ما خلفته المادّية والماديون من آثار فاسدة وشريرة في مواجهة ما احتجّ المادّيون به عليهم بما سببه الدين وتعاليمه وحكامه، ويجيب كلّ منهما الآخر مبرئاً لنفسه بنفس الطريقة والأسلوب. وفي خضم كلّ ذلك يبقى الصراع مفتوحاً، والمجادلات بلا أفق نهاية نظرية على الأقل، ويعيش الإنسان العامي -المهتم بهذه الأمور- صراعاً بين التخلّي عما ألفه وتعاطف معه، وبين التمسك به والدفاع عنه، ولذلك عمد المادّيون إلى تشجيعه وتهوين الأمر عليه، وابتكار الوسائل التي تسهل عليه اتخاذ خطوته الجريئة بالتخلّي عن دينه.
ونتيجة لكلّ ذلك، يصبح واضحاً أنّ كثيراً من المتدينين الذين يرفضون وجود المعرفة العقلية البرهانية والعقل البرهاني بمبادئه وأحكامه المطلقة الصدق، لن يستطيعوا أن يحسموا هذا الصراع، لأنّهم تنازلوا عما شأنه وحده أن يحميهم من الإلحاد، ولكن في المقابل، إذا ما قرروا أن يتنازلوا عن رفضهم وإعراضهم عن المعرفة العقلية البرهانية فإنّ ذلك من شأنه أن يقودهم إلى محاكمة مشهوراتهم ومقبولاتهم الدينية على ضوئها، فيقعون في حيرة بين ترك دينهم لقمة سائغة في فم الإلحاد، وبين ترك دينهم الذي ألفوه وأنسوه وعشقوه لينتقلوا إلى ما يقودهم العقل إليه ويقره على أنّه من شأنه أن يكون دين الله بخلاف ما هم عليه فعلاً.
هذه الحيرة نفسها عاناها وسيعانيها الملحدون ولكن من جهة أخرى، لأنّ صحة البديل الذي روّجوا له وهو العلوم الطبيعية والوضعية، يفتقر في صحته ووثاقته على مبادئ لا يمكن تصحيحها إلا بتصحيح الفلسفة الأولى والمعرفة البرهانية، إلا أنّ تصحيحهما يقودهم إلى التخلّي عن المادّية وتطهير العلوم من آثارها، وإلا فعليهم أن يقفوا موقف الشك من كلّ شيء.
القسم الثالث: معالم العلاج الجذري، وفيه سؤالان:
الأول: ما الذي يحتاجه علاج الإلحاد حتى يتم إيقاف مفاعيله في الفكر البشري؟
في الحقيقة إنّ ما نحتاجه هو إصلاح الإنسان، إصلاحه في فكره أولاً، لأنّ كلّ المنظومات الفاسدة هي نتاج فساد المنهجية الفكرية التي يعتمدها الإنسان لاستقاء معرفته، وليس الإلحاد أو المادّية أو التشكيك عموماً إلا تجلّ لاعتماد تلك المنهجية الفاسدة، كما لم تكن المنظومات الدينية المختلّة إلا نتاجاً لمنهجيتها الفاسدة. فليس العلاج إلا إصلاح الأعطال، وقد بينت خلال إجابتي على الأسئلة السابقة أنّ العطل الأول والأساس هو في الرؤية المعرفية، وبكلام أكثر تحديداً إنّه ما يتجلّى في أحد ثلاثة أمور:
1ـ التشكيك المفرط في قدرة العقل على المعرفة وحصر مصدرها في التجربة أو بإضافة منقولات الوحي أو ما يسمى بالمكاشفات.
2ـ الاستخدام البرغماتي للعقل وإخضاعه لنصرة المشهورات والمقبولات وليّ عنق الأدلة بحيث يختلط الجدل والخطابة بالبرهان دون تمييز.
3ـ استعمال العقل دون منهج واضح ومضبوط، تختلط فيه السفسطة بالفلسفة واللاعقلانية بالعقلانية وتضيع المعالم.
وفي قبال هذه الاختلالات توجد الرؤية المعرفية القائمة على أساس العقل المقنن بمنهجية مضبوطة ترعى امتلاك المعرفة الصادقة بالذات وحجز العقل عن القبول أو الرفض لما لا يملك مبادئ للتصديق الواقعي بصدقه أو كذبه بالذات. ومن هنا فما نحتاجه هو إعادة إحياء العقل البرهاني والمعرفة البرهانية في أنفسنا وعقولنا رغبة في الحق وحده، لا إرضاء للأهواء أو دفاعاً عن المأنوس؛ لأنّ هذا الإحياء بنفسه يعني التخلص من هذه الأعطال التي سببت كلّ المشاكل الاعتقادية والسلوكية للأمّة البشرية على مرّ التاريخ، والتي دأب الأنبياء والأوصياء والحكماء والفلاسفة البرهانيين على العمل لإصلاحها بالقدر الذي تهيأت له الأمم والمجتمعات بحسب قابلياتها وتوفر ظروف نموها وتكاملها.
ولكن مضافاً إلى هذا الأمر، وفي طريق تحقيقه، بل من عوامل النجاح فيه، علينا أن نقوم بإنجاز ثلاثة أمور:
أـ دراسة تاريخ المنظومات الدينية عبر العصور، والتعرّف على نقاط الضعف التي عانت منها، والسبل التي انتهجتها، وكيف تنوّعت مذاهبها، من خلال التوجّه إلى تأثير الطبائع البشرية على عملية الفهم والبناء، وتأثير المعاناة من طرفي الإفراط والتفريط على حصول الاختلاف وتشكل حركات الاعتراض.
إنّ دراسات كهذه كفيلة بإظهار نقاط الضعف البشري التي تقود إلى تحريف الحقائق وتشوهها، وبالتالي الدراية بالعوامل التي تحرف وجهة الأديان عن أغراضها الحقيقية. وإذا ما تمت الدراية بذلك، أمكن العمل على تفاديها وتحصين الأنفس منها، وتصحيح ما نالنا من الخطأ بسببها.
ب ـ دراسة تاريخ المادّية في الحقب المختلفة وعند الأمم كافة، للتعرف على الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، والعوامل التي تغذّيها وتدبّ فيها الحياة، خصوصاً في مرحلتها المتأخرة بدءاً من القرن السابع عشر، وصولاً إلى عصرنا الحالي. ودراسة كهذه من شأنها أن تشمل الاتجاهات والتيارات المختلفة التي تتجلّى الآن في أثواب سياسية مختلفة، ونظم اجتماعية واقتصادية تحكم مفاصل الحياة البشرية. كما أنّ من شأنها أن تشمل تعامل المادّيين مع الرؤى الإلهية، وكيفية دراستهم لها، وكيفية تفسيرهم لها من منطلق خلفيتهم المادّية، وكيفية تحكيمهم لهذه الخلفية في مقام التنظير العلمي في الاختصاصات المختلفة.
ج ـ دراسة تاريخ الحالات الدينية منذ الفجر الأول للبشرية في كافة الأمم والقبائل اعتماداً على ما خلّفته من آثار ونظم باقية، سواء من جهة طبيعة عقائدها وكيفية تنوعها، أو من جهة ممارساتها الطقوسية كيفية نشوئها وتغيرها على مجرى التاريخ. ثم، وبعد هذا أن يتم العمل على ربط كلّ ذلك المجرى التاريخي بأسبابه الحقيقية القائمة على خلفية برهانية حول طبيعة النفس البشرية والعوامل التي تؤثر فيها، تمهيداً للخروج بالتفسير الحقيقي البريء من عمليات الإسقاط للرؤية المادّية التي امتهنها متخصصو هذا العصر من المادّيين في علوم الاجتماع والنفس والانثروبولوجيا.
وهذه الأمور إذا ما تحققت، فإنّ فهماً عميقاً ومستوعباً لكلّ المجرى التاريخي للطبيعة البشرية على الصعيدين الإلهي والمادّي، سوف يلقي بظلاله على كيفية رسم معالم التعامل مع الحاضر، ومع المستقبل الذي نتطلع للوصول إليه بسلام وبخطى تكاملية مستمرة، حيث يصبح الإلحاد والمادّية والتدين الساذج والفاسد من التاريخ، بعد أن نكون قد تعلّمنا من أخطاء غيرنا وأخطائنا، قبل أن يأتي اللاحقون فيتعلموا من أخطائنا جميعاً.
أما إذا ما قررنا البقاء حيث نحن وكما نحن، مسلّين أنفسنا بالرضا الخادع الذي يصوره لنا إخلاصنا، فأخشى أن نصبح نحن من التاريخ، لأنّ الإخلاص وحده لا يبني العقيدة السليمة ولا القانون الصحيح ولا يحميهما من التشويه والتخريب، ولنعم ما جاء في القرآن الكريم، {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[8].
الثاني: ما الذي يجب إنجازه كي نجعل الناس محصنين من التأثر بالإلحاد؟
إنّه ببساطة بأن تجعلهم عقلاء.
وأرجع وأقول ليس الإلحاد أشرّ من التدين الفاسد، أو التدين الظاهري مع مادّية مستشرية في جميع تفاصيل الحياة، والحلّ لكلّ مظاهر الفساد البشري هو تعميم العقلانية، ولست أقول العقلانية كلمة ألقيها على عواهنها، لأنّ استعمال هذه الكلمة قد كثر وشاع حتى ما عدنا نعرف ما يراد منها، وإنّما أقصد من العقلانية الممارسة النظرية والعملية المبنية على أساس امتلاك العقل لمعايير المعرفة البرهانية، التي ترعى تحقيق غايات الفكر والعمل.
وتحقيق هذا الأمر يحتاج إلى أن تصير هذه المعايير موضع درس وتعليم في جميع منافذ العلم في المجتمع وخصوصاً الأكاديمي المدني لأنّه هو المعني بتعليم عامة الناس، لأنّه لا بد من العمل قدر الإمكان على الارتقاء بالنفوس من الذهنية العامية الخطابية التي تبني عقائدها على خطابيات المشاعر والعواطف ولا تميز بين المدعين الدجالين والعلماء الحقيقيين ولا تميز السفسطة عن البرهان، إلى الذهنية الواعية التي هي من جهة عاقلة لدينها وعقائدها وغايات الحياة عن فهم ودراية وبرهان، ومن جهة أخرى قادرة على تمييز من يصلح أن يؤخذ منه ويعتمد عليه من أهل التخصص والمعرفة في كافة المجالات مع تحرّي الأمانة والضبط. فكلّما عملنا على توسعة دائرة العقلاء في المجتمع كلّما قلّت المساحة التي يستطيع المادّيون والملحدون النفوذ من خلالها إلى نفوسهم، وقل عدد المتبعين والمنساقين وراء الرؤى المنحرفة والفاسدة فكراً وعملاً سواء كانت تحت شعار ديني أو غير ديني.
كلمة أخيرة
ككلمة أخيرة في هذا الحوار، أحب أن أشير إلى مسألة مهمة تتعلق بكيف ينبغي أن ننظر إلى المادية والإلحاد؟ فقد ينظر البعض إليها نظرة القلق المتوجس الحائر، وقد ينظر إليها آخرون بنظرة المستخف اللامبالي والمطمئن بما عنده. ولكنني أرى في كلا النظرتين إفراطا وتفريطا. فصحيح أن الرؤية المادية والإلحادية هي رؤية فاسدة، ولها آثار سيئة على التكامل الإنساني بأهدافه ووسائله. وصحيح أن الرؤية الإلهية رؤية حقة ستبقى حقة وسيبقى لها العقلاء أنصاراً وحملة لشعلتها ما دامت البشرية تنبض بالحياة، إلا أنه لا الأول يدعو للقلق والتوجس والحيرة والخوف على الرؤية الإلهية، ولا الثاني يسوغ التعامل مع المادية والإلحاد وكأنه لا يوجد ما يحتاج إلى إصلاح أو إعادة بناء.
في الحقيقة، إني لا أرى في الظاهرة المادية والإلحادية شرا، بل إذا نظر الإنسان عن كثب، ولاحظ ما ذكرته سابقا بتمعن، سيجد أن المادية والإلحاد وخصوصا بعد أن وصل إلى مرحلته الأخيرة وأبرز كل خططه وآلياته، فهو ليس إلا حلقة ومرحلة في التاريخ الإنساني تحمل في طياتها بوادر وبشائر التحول العالمي التدريجي إلى التأليه والتدين العقلاني الصحيح.
قد تستغرب ما أقوله ولكن إذا لاحظت ولاحظ كل إنسان كيف تحدث عملية التكامل البشري، وكيف يتم الوصول إلى الحالة المثلى والسوية المتمثلة بالاعتدال بعيداً عن الإفراط والتفريط، فسيجد أن وصول البشر إلى المرحلة التي يصيرون فيها مهيئين لإدراك الحق والصواب وممارسته عن قناعة ورضا تام، إنما تكون بعد أن يعاينوا بأنفسهم أضرار ومفاسد الإفراط والتفريط. فكلما أمعن البشر في التوجه نحو الإفراط كلما قرب انتقالهم إلى الضفة الأخرى المتمثلة بالتفريط، لأن إمعانهم في الإفراط يعني الوصول إلى مرحلة المعاينة لمفاسده حتى تصبح جلية ينفر البشر منها ويتوقون للخلاص من معاناتها. وفي هذه الحال يظهر الطرف الآخر المضاد أي التفريط كملاذ واضح تتجلى فيه آثار التحرر من كل المفاسد التي قاد إليها الإمعان في الإفراط. ثم وبعد أن يتم اللجوء إلى التفريط، ويمعن البشر فيه، تبدأ مفاسده ومساوئه تتجلى وتظهر بوضوح كما حصل مع غريمه الإفراط. وقد يحدث الأمر بالعكس بأن يُبتدأ في التفريط ثم ينتقل إلى الإفراط. وفي كلا الحالين، فإن البشر يصيرون أمام أحد طريقين، إما العود إلى الطرف الآخر المضاد وتستمر العملية بهذا النحو. وهذا ما كان يحصل عبر التاريخ بمقدار ما إلا أنه لم يستمر كذلك، بل يبدأ الانتقال شيئا فشيئا إلى الوسط لأن البشر في النهاية -وحينما تصبح الذاكرة كالحاضر حاضرة في الوجدان- يتعلمون من أخطائهم وتجاربهم وهذا هو الطريق الآخر. وفي هذا الحال إذا ما بدأ البشر بالتعلم من تجاربهم، فإنهم ينظرون ببصيرة إلى كل من الإفراط والتفريط ليروا ما في كل منهما من مفاسد ومساوئ فيتنبهوا شيئا فشيئا إلى الطريق الوسط والمعتدل الجامع للخير والصواب الذي في كل من الطرفين، والمتخلص من الخطأ والفساد الموجود في كل منهما.
إن المجرى الطبيعي للأمور في سلوك البشر في جميع الموضوعات هو سبق المسيرة الإرادية الانفعالية على المسيرة الاختيارية المروَّاة والعاقلة. فالتعقل أمر يحدث بالاكتساب وليس موجودا بالفعل في بني الإنسان إلا في مجموعة قليلة موزعة بين البشر كما هو الحال في سائر الكمالات والمهارات التي تكون عند مجموعات قليلة من البشر موزعة بينهم، لا تحتاج إلى اكتساب بالنسبة لهم، بخلاف سائر البشر الذين يحتاجون إلى اكتسابها بعد إدراك كمالها وفهم أهميتها.
ولأجل أن الذين هم عقلاء من بين الناس بالفعل وبالفطرة قلة، فإنهم يدركون من أول الأمر الطريق الحق والخالص والخيِّر والمتمثل بالاعتدال ورعاية الكمالات على تنوعها واختلافها بلا طغيان أو إهمال، ولكن سائر الناس لا تدرك ذلك ولا تتبعهم أو تسمع لكلامهم إلا قلة قليلة أخرى ممن يكفيهم التنبيه والتذكير حتى يتبصروا ويتعقلوا، أما سائر الناس فعلى انفعالهم يسيرون، وطبقا لتلقائيتهم ينهجون فلا يكون إدراكهم شاملا مستوعبا لكل الأبعاد ولا يكون سلوكهم لمراعاتها سهلا فيما لو أدركوها عندما يتم إخبارهم بها، بل يبقى حضورها في نفوسهم خافتا ضعيفا. ولكن وبعد الممارسة، والإمعان في متابعة التلقائية والانفعالية في الفكر والسلوك، فتصبح الأخطاء والمفاسد أمام مرأى النفوس لا محيص أمامها من التسليم بها، يبدأ المتضررون بالمناداة بالخلاص والتوق إليه، ولا يكون أمامهم مصداق للخلاص منه، أوضح من الطرف الآخر أي الإفراط أو التفريط، فينساقون إليه بتلقائية وانفعالية أيضا فيسيرون بمقتضاه إلى أن يصلوا إلى الحد الذي يعاينون فيه مفاسده هو الآخر. وهنا وعند هذه النقطة تكون مسيرة التكامل قد وصلت إلى نقطة التحول الكبرى، حيث يقف الناس أمام أخطاء كلا المسيرتين يعاينون من خلال الحاضر والذاكرة الحية، مفاسد كل منهما فيكون ذلك هاديا ومرشدا إلى ما كان العقلاء بالفطرة قد دلوهم عليه وأرشدوهم إليه. وكلما كانت الذاكرة أشد حضورا حتى تكون حية كالحاضر كلما كان التبصر أسرع وآكد.
ومن هنا ومن هذا المنظار، إذا ما لاحظنا الإلحاد والمادية والتشكيك وما في قبالها على الضفة الأخرى من التدين الانفعالي الساذج والذهنية الخيالية الأسطورية والنزعة الوثوقية غير المتحرية بدقة في قطعها وتصديقها، فسنجد أن كلا منهما بالنسبة إلى الآخر يشكل أقصى مدى من البعد والمضادة، وسنجد أن السائد الغالب في المجتمع البشري بين الحين والآخر هو أحدهما او كلاهما، وسنجد أن كلا منهما يزيد وينقص كردة فعل على الآخر ويكشف عن معايبه المتجلية فيه. ولكن شيئا فشيئا تبدأ فئة من الناس بالتنبه أسرع من غيرهم إلى الوسط والاعتدال وتصبح العقلانية فيهم فعلية من خلال معاينتهم للحاضر والذاكرة فتبدأ حركة التصحيح وهذا واقع الحال الذي نعيشه بالنسبة إلى موضوع الوجود الإلهي والدين والمعرفة العقلية النظرية والعملية ولكن في بداياته.
ولو كان الوقت يسع لذكرت كيف أن النزعة المادية والإلحادية بكل تفاصيل منظومتها قد بدأت في مرحلة التحول. إذ بعد أن حُكمت أوروبا من قبل الكنيسة حتى ظهرت مفاسد لا تحتمل، تجلت المادية والإلحاد والتشكيك ولواحقها خلاصا، فاعتنقتها وأمعنت فيها حتى بدأت تظهر المفاسد وبدأ الأقربون إلى التعقل يبصرون أسرع من غيرهم وبدأت محاولات التصحيح وإن كانت لازالت في بداياتها. والسنوات والعقود اللاحقة ستبرز ذلك بوضوح ويوجد عشرات التأليفات الجديدة منذ بداية العقد الواحد والعشرين وخصوصا بعد العقد الأول أي منذ سبعة سنوات، كلها تعد بالتحول الكبير الاهتداء إلى الاعتدال والتخلي عن المادية والتشكيك والتجريبية المفرطة.
ومن هنا، وإكمالاً لما بدأت به هذه النقطة وختاما لهذا الحوار، يصبح الجواب على كيف ينبغي أن ننظر إلى الإلحاد والمادية واضحا. وهو أننا يجب ان نفهم أنهما مرحلة ضرورية تفرضها المحدودية البشرية إلا أنها مرحلة آنية وإلى زوال كما أنّ التدين الساذج إلى زوال، ولكنّ كلا الأمرين على عهدة العقلاء فهم الذين يرجع إليهم تسريع أو إبطاء عملية التحول إلى تعميم العقلانية والوعي. ومن هنا تتجلى المسؤولية الملقاة على عاتق كل منا فطالما أن هناك إمكانية إلى تسريع هذه العملية فإن الواجب هو بذل الطاقة والجهد للعمل على تحقيق هذه الانتقالة والتي تتم من خلال تعميم العلاج ونشره والعمل على التخلص من المفاسد التي لحقت من كلا الطرفين.
وأخيراً ليس في المادية والإلحاد ما يخيف على الإطلاق، ولكن ليس لأن المناعة والحصانة فعلية بل لأننا وبظهور الإلحاد والمادية أصبحنا قادرين أكثر على العمل لاستخلاص العلاج وتحقيق عصر التحول إلى العقلانية الفعلية والتدين الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ولد سماحة الشيخ في بلدة خربة سلم في جنوب لبنان بتاريخ 20/6/1984.
التحق بالحوزة العليمة في وطنه لبنان سنة 2000 ميلادية، ودرس المقدمات والسطوح على يد عدد من الأساتذة والفضلاء، ثم وفي عام 2006 ميلادية التحق بالحوزة العلمية في قم المقدسة ثم وفي عام 2009 ميلادية التحق في البحث الخارج وحضر عند العلامة الشيخ مصطفى الهرندي، والعلامة السيد منير الخباز.
ويشغل حالياً منصب رئيس وحدة الإلهيات في مؤسسة الدليل التابعة للعتبة الحسينية في قم المقدّسة. وعضو الهيئة العلمية في أكاديمية الحكمة العقلية ورئيس تحرير مجلة المعرفة العقلية فيها. وله إسهامات عديدة لا سيّما فيما يتعلّق بملف الإلحاد الذي اهتمّ به منذ عدّة سنوات. صدر له كتابان وهما نهج العقل (تأسيس الأسس وتقويم النُّهُج)، والفلسفة تأسيسها تلويثها تحريفها نشر أكاديمية الحكمة العقلية، وسينشر له قريبا الكتب التالية: القانون العقلي للسلوك (المبادئ والأسس)، تجاذب العقلانية بين الملحدين والمتدينين، الإلحاد أسبابه ومفاتيح العلاج، الأقنعة الزائفة (تخفي الإلحاد وراء العقلانية العلمية).
[2] لقد تعرضت في كتاب الفلسفة تأسيسها تلويثها تحريفها الصادر عام 2013، إلى منظمة اليونسكو ورؤيتها حول تعليم الفلسفة والمعرفة والتي تكشف بطبيعة الحال عن الخلفية الفلسفية والمعرفية التي تقبع عليها، وقد اعتمدت في ذلك على كتاب صادر عنها تحت اسم الفلسفة مدرسة الحرية. والجدير بالذكر أن تنفيذ المشروع الفلسفي التشكيكي للأجيال الصاعدة بدأ تنفيذه من عقد أو أكثر من الزمن وبدأ ينمو في السنوات الأخيرة وإذا لاحظ المرء الكتب التي تعطى لأطفالنا وشبابنا في المدارس في أوطاننا تحت عنوان الفلسفة فسيجد أنّ التشكيك والمادية هما المظهر والجوهر لهذه الكتب.
[3] أضع بين يدي القارئ مجموعة من المصادر التي يمكنه الرجوع إليها للتوسع والازدياد، أما في اللغة العربية:
- أزمة الوعي الأوروبي، بول هازار.
- عصر الثورة، إيريك هوبزباوم وكذلك كتابه عصر رأس المال.
- حرية الفكر، ج. بيوري. الفكر الأوروبي الحديث، فرانكلين باومر.
- الفلسفة في أوروبا وعصري النهضة والإصلاح، علي زيعور.
- تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة إلى القرن العشرين، غنار سكيربك ونلز غيلجي.
-تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم.
-الفلسفة تأسيسها تلويثها تحريفها، محمد ناصر.
وأما باللغة الأنجليزية:
-Atheism and deism Revalued heterodox Religious identities in Britain, 1650–1800.
-Academic Skepticism, in Seventeenth-Century French Philosophy, the Charronian Legacy 1601–1662.
-Academic Scepticism in the Development of Early Modern Philosophy.
-RENAISSANCE SCEPTICISMS, Gianni Paganini and José R. Maia Neto.
-Renaissance Averroism and Its Aftermath: Arabic Philosophy in Early Modern Europe.
-The Skepticism of Michel de Montaigne.
[4] حرية الفكر، ج.بيوري، تعريب محمد عبد العزيز إسحاق، صفحة 53 وما بعدها.
[5] لقد تحدثت أيضاً عن هذه النقطة والنقاط اللاحقة بشيء من التفصيل مع الإشارة إلى المصادر في كتاب الفلسفة تأسيسها تلويثها تحريفها في المبحث الثالث، الفلسفة على فراش الموت صفحة:57 منه.
[6] حرية الفكر، ج.بيوري، تعريب محمد عبد العزيز إسحاق، صفحة 53 وما بعدها.
[7] هذا الكتاب يتكلم عن حركة التشكيك التي أسسها شارون وهو صادر عام 2014.
Academic Skepticism in Seventeenth-Century French Philosophy The Charronian Legacy 1601–1662.
[8] سورة الرعد: 11.
0 التعليق
ارسال التعليق