تأملات في شخصية الشيخ ميثم البحراني

تأملات في شخصية الشيخ ميثم البحراني

مقدمة حول شخصية الشيخ ميثم:

العلاّمة الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (636هـ ـ 699 هـ) هو أحد أشهر العلماء المحققين، والفلاسفة الإلهيين، الذي شاع صيته في المحاضر العلمية في البحرين والعراق (بغداد ـ الحلّة)، وتميّز بمهاراته في مختلف العلوم، كما كانت أبحاثه الكلامية والفلسفية مطعّمةً بالبعد الاجتماعي والسياسي، وكانت له علاقاته الاجتماعية ذات الطابع السياسي في بعض الأحيان، في الوقت الذي كان معروفاً بالزهد والتوجّه العرفاني.

والمتأمل والمتابع لشخصية الشيخ ميثم يجدها تلك الشخصية العلمية الموسوعية، والاجتماعية والسياسية المرموقة، والعرفانية الواعية.

مصنفاته:

وللشيخ ابن ميثم مصنفاته وآثاره العلمية المتميّزة في الكلام والفلسفة والعرفان والمعارف الإسلامية العامة، وعلوم البلاغة والبيان، كـ«قواعد المرام في علم الكلام»، و«البحر الخضم في المعارف الإلهية»، «ومصباح السالكين في شرح نهج البلاغة لأمير المؤمنين(ع)»، و«تجريد البلاغة أو (أصول البلاغة)»، وغيرها من الكتب والمؤلفات.

والمتأمل في مؤلفات الشيخ ميثم يجد فيها الكثير من الإبداع، ولكنّه يجد أنّ شرح النهج الكبير «مصباح السالكين» هو الأهم من مؤلفاته لما يحتويه من براعة علمية نادرة، وسعة في اطلاع، ودقّة في منهجية الاستدلال، وروعة الجدل العلمي، وحقّاً إنّه لأثر علمي قيّم خصوصاً بالنظر للمرحلة والحقبة التي أُلّف فيها، حتّى قال فيه الشيخ فخر الدين الطريحي، في مجمع البحرين: «لم يُعمل مثله».

شهادة العلماء بحقه:

من أفضل الطرق للتعرف على أحوال العلماء ومقاماتهم العلمية الرجوع لشهادات العلماء والمؤرخين في أحوالهم ومقاماتهم.

قال العلاّمة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني في رسالته المسماة بالسلافة البهية في الترجمة الميثمية: «هو الفيلسوف المحقق، الحكيم المدقق، قدوة المتكلمين، وزبدة الفقهاء والمحدثين، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، غواص بحر المعارف، ومقتنص شوارد الحقائق واللطائف، ضمّ إلى الإحاطة بالعلوم الشرعية، وإحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية والفنون العقلية ذوقاً جيداً في العلوم الحقيقية والأسرار العرفانية، كان ذا كراماتٍ باهرةٍ ومآثر زاهرةٍ، ويكفيك دليلاً على جلالة شأنه وسطوع برهانه اتفاق كلمة أئمة الأعصار وأساطين الفضلاء في جميع الأمصار على تسميته بالعالم الرباني، وشهادتهم له بأنّه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق وتنقيح المباني، والحكيم الفيلسوف سلطان المحقّقين، وأستاذ الحكماء والمتكلّمين، نصير الملّة والدين محمد الطوسي، شهد له بالتبحر في الحكمة والكلام... وسيد المحقّقين الشريف الجرجاني على جلالة قدره، في أوائل فنّ البيان من شرح المفتاح، قد نقل بعض تحقيقاته الأنيقة وتعليقاته الرشيقة، وعبّر عنه ببعض مشايخنا ناظماً نفسه في سلك تلامذته، ومفتخراً بالانخراط في سلك المستفيدين من حضرته. والسيد السند الفيلسوف الأوحد، مير صدر الدين محمد الشيرازي، أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد سيّما في مباحث الجواهر والأعراض، والْتقط فرائد التحقيقات التي أبدعها..». نقلاً عن مقدمة شرح المائة كلمة، نشر دار الأمير.

وقال الحر العاملي في «أمل الآمل»: «كان من العلماء الفضلاء المدققين، متكلماً باهراً».

وقال فيه السيد حسن الصدر في «تأسيس الشيعة، ص393»: «المعروف بالعالم الرباني، له التبرّز في جميع الفنون الإسلامية والأدبية والحكمة والكلام والأسرار العرفانية، اتفقت كلمة الكل على إمامته في الكل».

وبالتأمل في ما جاء في الشيخ ميثم من أوصاف وألقاب: «شيخ صدوق ثقة»، «علامة وفيلسوف مشهور»، «قدوة المتكلّمين وزبدة الفقهاء والمحدّثين»، «عالم فاضل مدقّق ومتكلّم لامع»، «فقيه وأديب إمامي وعالم بالأدب والكلام»، «أديب حكيم ومتكلّم من فقهاء الإمامية»، «اتفقت كلمة الكل على إمامته في الكل». تتضح وتتكشف له بعض جهات التميّز في شخصيته الكبيرة.

مشايخه:

من مشايخ الشيخ ميثم:

ـ العلامة نصير الدين الطوسي، حيث كان أستاذه في الحكمة والفلسفة.

ـ الشيخ علي بن سليمان البحراني، وللشيخ ميثم شرح على كتاب أستاذه «الإشارات».

ـ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن حسين الحلي المعروف بالمحقق الحلي.

ـ أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الهلالي.

تلاميذه:

من تلاميذ الشيخ ميثم:

ـ العلامة نصير الدين الطوسي، فقد تتلمذ على يده في الفقه، وقد كان أستاذه في الفلسفة كما عرفت.

ـ جمال الدين أبو منصور حسن بن يوسف مطهّر الحلي المعروف بالعلامة الحلّي.

ـ سيد غياث الدين أبو المظفر أحمد بن طاووس.

ـ كمال الدين أبو الحسن علي بن شيخ شرف الدين حسين بن حماد بن خير ليثي الواسطي.

ـ الشيخ مفيد الدين محمد بن جهم أسدي الحلي، ويسمّى شيخ فقهاء الحلّة.

ـ الشيخ عبد الله بن صالح البحراني.

والمتأمل في تلاميذ الشيخ ميثم خصوصاً مثل العلامة الحلي، والخواجه نصير الدين الطوسي ـ على تقدير صحّة ذلك ـ يتبيّن له عظمة هذا العالم، وشموخ شخصيته العلمية، إذ لا شكّ أنّ من يكون أستاذاً لمثل هؤلاء العظماء لا بدّ أن يكون عظيماً.

محطّات في حياته:

مراسلاته ومحاوراته مع علماء الحلّة:

بعث علماء الحلّة رسالةً للشيخ ميثم يلومونه على سلوكه منهج الاعتكاف والعزلة، جاء فيها: «العجب منك أنّك مع شدّة مهارتك في جميع العلوم والمعارف، وحذاقتك في تحقيق الحقائق وإبداع اللطائف، قاطنٌ في طلول الاعتزال، ومخيّمٌ في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال».

وكان الشيخ ميثم يعيش وضعاً مادياً متردياً، ما دعاه للإجابة على رسالة علماء الحلّة بالبيتين التاليين:

 

طلبت فنون العلم أبغي بها العلا

                        فقصَّر بي عما سموتُ به القلُّ

 

تبين لي أن المحاسنَ كلها

                        فروعٌ وأن المال فيها هو الأصلُ

 

 

واستمرت بينه وبينهم المراسلات والحوارات حول المال والجاه وأثره في حياة الناس، حتّى شدّ الرحال إلى ديار العتبات المقدسة لزيارة الأئمة الأطهار(ع)، والتدارس والتباحث مع العلماء، وقد التقى مع علماء الحلّة هناك وأثبت لهم بأسلوب عملي معبّر صحّة ما ذهب له في شأن المال والجاه، وهي الحكاية المعروفة بحكاية «كل يا كمّي»(1). نقلاً عن مقدمة شرح المائة كلم، نشر دار الأمير، بتصرف مّا.

أقول: لا يمكن أن يكون ما في البيت الثاني هو رأيه وعقيدته في المال، وإنّما أراد بيان ما عليه حال الناس، وممّا يدلّل على ذلك المحاورة والممارسة المنقولة عنه بهذا الصدد.

وكان لرحلته للعراق، وتنقّله بين بغداد والحلّة والنجف الأثر الكبير في تنمية ملكاته ومؤهلاته العلمية، حيث اطّلع على كنوز الكتب، وتباحث مع كبار العلماء، وتغيّرت في ضوء ذلك بعض قناعاته وممارساته، فتخلّص من هاجس العزلة، وتغيّر كذلك وضعه المعيشي إلى الأحسن، خصوصاً بعد ما نشأت بينه وبين «الجويني» والي بغداد آنذاك علاقة وديّة، وأهداه كتابه شرح النهج، وأثنى عليه في مقدمته.

والمتأمل في ما تقدّم يكتشف شيئاً من عرفانه العملي، ووعيه الاجتماعي.

الاعتدال والانفتاح في منهج الشيخ ميثم:

وكان الشيخ ميثم يعيش منهج الاعتدال، والقبول بالآخر في أبحاثه العلمية، وسلوكه العملي، ممّا أهّله لتكوين علاقاتٍ حسنةٍ مع مختلف التوجهات الفكرية والمذهبية في الواقع الإسلامي، حتّى كان يستشهد في بعض الأحيان بكلام الشيخ الغزالي بغض النظر عن انتمائه المذهبي، وأسلوبه في التعامل مع المسائل الخلافية.

والمتأمل في مؤلفاته(ره) يجد أنّ هذا المنهج الوحدوي التقريبي، ومنهج الاعتدال والمراعاة للآخر، يمثل طابعاً عامّاً في جميع مؤلفاته، حتى كان ذلك كافياً لبعض المحققين لنفي أحد المؤلفات المنسوبة له لخروجها عن هذا الإطار.

ولكن هذا لا يعني سكوت الشيخ عن بيان الحقيقة والدفاع عنها، ولكن بالطبع بالأسلوب المناسب والمعتدل.

المراسلة والتواصل مع العلاّمة الخواجه نصير الدين الطوسي:

العلامة خواجه نصير الدين الطوسي من المعاصرين للشيخ ميثم البحراني، وقد أخذ كلّ منهما عن الآخر في موضوعات علمية مختلفة، فهو تلميذه في الفقه، وأستاذه في الفلسفة كما قيل.

وكان للشيخ نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي رسالة في العلم، هي أجوبة على تساؤلات الشيخ ميثم البحراني، كما له مراسلة أخرى إخوانية علمائية، تضمّنت الكثير من الإطراء والثناء من قبل الشيخ ميثم على الخواجه نصير الدين الطوسي، والتماس تحقيق بعض الأمور الضرورية التي تصب في خدمة العلماء وعامّة الناس؛ لما كان يتمتّع به الخواجه نصير الدين الطوسي من وجاهة ومقام رفيع عند الحاكم آنذاك.

وهذه المراسلات والعلاقات بين العلماء تعتبر مثالاً للتواصل العلمي الذي يتخطّى الحدود الجغرافية والقيود المكانية.

مظاهر الازدهار العلمي في البحرين.. الشيخ ميثم نموذجاً:

عاشت البحرين نهضةً علميةً كبرى في تاريخها، وشهدت حقباً مزدهرةً بالعطاء العلمي، كالحركة العلمية في القرن السابع، والقرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ثمّ بدأت تتجه للانحسار.

والشيخ ميثم(قده) مثّل ظاهرةً علميةً متميّزةً في القرن السابع الهجري.

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولاً وآخراً.

 

 * الهوامش:

(1) وحاصل الحكاية: «إنّه(ره) لما وصل تلك الديار لبس ثياباً خشنةً عتيقةً، وتزيّى بهيئةٍ رثّةٍ ودخل إحدى المدارس المشحونة بالعلماء والحذاق فسلّم عليهم، فردّ عليه بعضهم السلام باستثقال، فجلس (قده) في جنب النعال، ولم يلتفت إليه أحدٌ منهم، وجرت بينهم مباحثةٌ في مسألةٍ دقيقةٍ كلّت عنها أفهامهم، فأجاب «روّح الله روحه» بتسعة أجوبة بغاية الجودة والدقّة، فقال له بعضهم بطريق السخرية والتهكم: «أخالك طالب علم»، ثمّ بعد ذلك أحضر الطعام فلم يواكلوه، بل أفردوه بشيء قليل من الطعام على حده.

ثمّ إنّه عاد إليهم في اليوم الثاني، وقد لبس ملابس فاخرةً ذات أكمامٍ واسعةٍ، وعمامةً كبيرةً، هيئة رائعة، فلمّا قرب وسلّم عليهم قاموا تعظيماً له، واستقبلوه تكريماً، وأجلسوه في صدر المجلس المشحون بالأفاضل المحققين، والأكابر المدققين، ولمّا شرعوا بالمباحثة والمذاكرة تكلّم معهم بكلماتٍ عليلةٍ لا وجه لها لا عقلاً ولا شرعاً، فقابلوا كلماته العليلة بالتحسين والتسليم والإذعان على وجه التعظيم، فلمّا حضرت مائدة الطعام بادروه وقدّموه بكلّ أدب، فألقى الشيخ (قده) كمّه في ذلك الطعام وقال: «كل ياكمّي»، فلمّا شهدوا تلك الحال العجيبة تعجذبوا واستغربوا وسألوه(ره) عن معنى ذلك، فأجابهم(قده): بأنّكم إنّما قدّمتم هذه الأطعمة النفيسة لأكمامي الواسعة، لا للنفس القدسية اللامعة، وإلاّ فأنا صاحبكم بالأمس، وما رأيت تكريماً ولا تعظيماً، مع أنّني جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجيّة العلماء، واليوم جئتكم بلباس الجبارين، وتكلّمت بكلام الجاهلين، وقد رجّحتم الجهالة على العلم، والغنى على الفقر، وأنا صاحب الأبيات في أصالة المال، وفرعية صفات الكمال فاعترفوا بخطأهم». أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين، ج1، ص327 ـ 328. بتصرّف ما


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا