المقدّمة
ثمّة تفاوت بين زمن صدور الأحكام، وبين عصرنا الحاضر علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً، وهي سنّةٌ ثابتةٌ بالوجدان، وأمرٌ يقتضيه السّير التّكامليّ التّراكميّ للبشريّة، وهذا لا خلاف فيه، لكن السّؤال هنا: مع هذا التّغيّر هل تبقى الأحكام الشّرعية ثابتة أم تتغيّر؟
وبعبارة أخرى: هل تبقى الأحكام الصّادرة في زمانٍ يتّسم بالبدائيّة في العيش، والأوّليّة في نمط التّفكير، والتّدنّي في المستوى الثّقافيّ، والبساطة في أسلوب الحياة، هل تبقى ثابتة لهذا الزّمان حيث تنوُّع أساليب الحياة وتقدّمها، وتعدّد أنماط التّفكير، ورقيّ المستوى الثّقافيّ، والتّطوّر التّقنيّ أم لا؟
وما هو معنى ما ورد في صحيحة زرارة، قال: سألت أبا عبد اللهg عن الحلال والحرام فقال: «حَلالُ محمَّدٍ حلالٌ إلى يومِ القِيامةِ، وحَرامُه حَرامٌ إلى يومِ القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»[1]؟ وكيف يمكن التّوفيق بينه وبين روايات أخرى تغيّر فيها الحكم بتغيُّر الزّمان، ومنه ما ورد أنّه سُئل أمير المؤمنينg عن قول رسول اللهe: «غيِّروا الشَّيب ولا تَشبَّهُوا باليهود»، فقالg: «إنّما قالe ذلك والدِّين قُلٌّ، فأمَّا الآن وقد اتَّسَعَ نِطَاقُه وضَرَبَ بِجِرانِهِ فامْرُىء وما اخْتَارَ»[2]؟
ومحلُّ البحث ثبوتاً وإثباتاً في تأثير الزّمان والمكان -بلحاظ كونهما مظروفين لا ظرفين[3]- على الأحكام الشّرعيّة، وعلى موضوعاتها، وعلى فهم المستنبِط للنّصّ الشّرعيّ، وهل لأساليب الحياة والموروث الثقافيّ والظّرف الاجتماعيّ والمستوى الفكريّ والتّقدّم الحضاريّ تأثيراً على فهم الفقيه واستنباطه لتلك الأحكام من نصوصٍ صدرت في عصرٍ ما وتبدَّلت بعض موضوعاتها؟ وما هي الأدلّة على ذلك؟
في مقام الجواب على هذه الأسئلة لا بدّ من أن نقول:
هذا البحث حسّاس ومهمٌّ، وهو بحث مستحدَثٌ بعنوانه وهو (مدخليّة أو تأثير الزّمان والمكان في عمليّة الاستنباط) ولم يتبلور بكلِّ حيثيّاته بعد[4]، نعم، تناثرتْ كلماتٌ حوله في طيّات أبحاث الفقهاء قديماً وحديثاً، وأكثرها بصورة غير مباشرة، ومع ذلك، ومع ندرتها واختصارها نلاحظ عدم وحدة موضوعها؛ لذا يلزم أن ننقّح ما وقع محلّاً للنّزاع فيه أوّلاً؛ ليتّضح المراد الواقعيّ بهذا العنوان، ثمّ نبسط الجواب عن سؤال البحث، وقبل هذا وذاك لا بدّ من التّذكير بأمور.
أصولٌ في التّشريع الإسلاميّ
قبل الخوض في غمار البحث لا بدّ من التّذكير والتّأكيد على أصولٍ في التّشريع الإسلاميّ ينبغي أخذها بعين الاعتبار حين نبحث عن مدى ثبات الأحكام الشّرعية أو تغيّرها:
الأمر الأوّل: إنّ المقنِّن والمشرِّع هو الله تعالى
التّوحيد في التّشريع، هو أحد أقسام التّوحيد، وقد ثبت في محلّه أنّ من له حقّ التّكوين له حقّ التّشريع، وأنّ الخالق سبحانه هو من له حقّ التّشريع بالذّات وله الولاية التّشريعيّة دون غيره، وقد صرّحتْ بذلك الآيات القرآنية ومنها قوله تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاّ للهِ أَمَرَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون﴾(يوسف: 40)؛ حيث حصرت الآية التّشريع بهa ، ومنها قوله تعالى: ﴿قالَ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرآنٍ غَيْرِ هذا أَو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلقاءِ نَفْسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(يونس: 15)، حيث بيّنت أنّ النَّبيّe لا يمكن أن يشرِّع في عرض تشريع الله سبحانه، نعم يمكن أن يشرِّع في طوله وامتداده وبإذنه.
الأمر الثّاني: إكمال الدِّين وخاتميّة النّبوّة وعالميّة الرّسالة
ظاهر الآيات القرآنيّة أنّ الدِّين الإسلاميّ لن يُنسخ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾(آل عمران: 19)، وصريحها أنّ الله قد أكمله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(المائدة: 3)، وقوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(الأنعام: 38)، وقد بيّنتْ أنّ النّبيّe هو خاتم الأنبياء: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(الأحزاب: 40)، وثبت بها وبالرّوايات أنّ رسالته هي خاتمة الرّسالات، ولا نبوَّة بعده ولا رسالة بعدها، فهي إلى كلّ زمان ومكان إلى قيام السّاعة، وهو مفاد الآية الكريمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾(سبأ: 28)، ومقتضى ذلك أن تكون أحكام هذه الرّسالة عامّة وشاملة لكلّ زمان ومكان إلى قيام السّاعة.
الأمر الثّالث: التّشريع الصّالح
إنّ أيّ مشرِّعٍ أو مقنِّنٍ يسعى لأن تكون تشريعاته، وقوانينه، واقعيّة لا مثاليّة، ودائميّة لا مؤقّتة، وتامّة لا ناقصة، لهذا لا يمكنه إغفال طبيعة المشرَّع لهم، وطبيعة الحياة البشريّة وتغيّراتها وتحوّلاتها، والمشرِّع الإسلاميّ أولى من غيره في ذلك، وإنّنا نعتقد أنّ الأحكام الإلهيّة نابعة من مصالح ومفاسد واقعيّة وفقاً لعلم الله تعالى وحكمته، وليست أحكاماً جزافيّة أو اعتباطيّة، ونجد لها من الشّموليّة والمرونة والعمق ما يجعلها متناغمة مع الفطرة الإنسانيّة ومنجسمة مع تغيّرات أحوال الإنسان الحياتيّة مع ثبات أصولها بصورة إعجازيّة، وقد ورد في الرّواية الشّريفة: «كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّهe»[5]. وفي رواية حمّاد: «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة»، وما ورد من أنّه «ما من واقعة إلّا ولله فيها حكم» واحد، وكون الأحكام صادرة في زمان لا يعني كونها صدرت لذلك الزّمان ولم تلحظ غير ظروفه وملابساته.
إذا اتضحت هذه الأصول نقول: ما هي المساحة التي نتصوّر فيها تغيّر الأحكام الشّرعيّة تأثُّراً بالزّمان والمكان؟
تحرير محلّ النِّزاع
ليس المراد بالزّمان والمكان هنا معناهما الفلسفيّ -أعني مقدار الحركة، وما يملأه الجسم-، ولا معناهما اللّغويّ -أعني الوقت والمحلّ-؛ لأنّهما بهذا المعنى أمران تكوينيّان لا يُتصوَّر تأثيرهما على الأحكام وفهم النّصوص، بل المقصود ما يقع في الزّمان والمكان وخصوصيّات الواقع الموضوعيّ من تغيّر أساليب الحياة والعلاقات الجديدة الحاكمة والمستوى المعرفيّ والثّقافيّ وأدواتها، والملابسات الخارجيّة المتغيّرة في فترة زمنيّة معيّنة، ووضع مكاني محدَّد، التي تتغيّر بسببها بعض حيثيّات الموضوعات الخارجيّة، وقيودها الدّخيلة في تغيّر النّظرة لها، وتغيّر أحكامها، أو تُستحدَث بسببها حاجات وضرورات لم تكن موجودة في الأزمنة السّابقة، وهو من تسمية المحال وإرادة الحال، أو من تسمية الشَيء باسم لازمه، أو من الكناية.
وإنّ مركز البحث فيما يُتصوَّر من تأثيرٍ للزّمان والمكان على الدِّين الواصل إلينا -لا الدِّين الواقعيّ ولا الدِّين المبلَّغ- في ثلاث جهات:
تأثير الزَمان والمكان في الأحكام الشّرعيّة.
تأثير الزّمان والمكان في موضوعات الأحكام.
تأثير الزّمان والمكان في فهم النّصوص الدِّينيّة.
وتحرير محلّ النّزاع فيها:
أوّلاً: أمّا تأثير الزّمان والمكان في الأحكام فنقطة الخلاف فيها هي الأحكام النّظريّة لا الضّروريّة القطعيّة[6]، أي ما وقع محلّاً للبحث والمناقشة هي الأحكام التي تختلف فيها أنظار الفقهاء لا الواضحة البديهيّة المتفق عليها[7]، والواقعيّة لا الظّاهريّة، أي ما لم يؤخذ في موضوعها الشّكّ، لا ما أُخذ فيه ذلك، والأحكام التّبليغيّة لا الولائيّة السّلطانيّة، أي العامّة الثّابتة لا الخّاصّة والمؤقّتة بحسب المصلحة التي يراها الإمام في زمانٍ ما، كما روى الكلينيّ بسند صحيح عن محمّد بن مسلم وزرارة عنهماh جميعاً قالا: «وضع أمير المؤمنينg على الخيل العتاق الرّاعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً»[8]، بينما تذكر الروايات الصّحيحة الأخرى -وعليه فتاوى الفقهاء- أنّ الأعيان التي تتعلّق بها الزّكاة هي أمور أخرى غير هذين الأمرين وهي الأنعام الثّلاثة: الإبل، والبقر، والغنم، ولذا تُحمل هذه الرّواية على أنّه حكم ولائيٌّ مؤقَّت حين رأى أمير المؤمنينg أنّ السّيطرة على الفقر آنذاك يحتاج لإخراج الزّكاة في أعيان أخرى. والأحكام الأوّليّة لا الثّانويّة، أي التي تترتّب على موضوعاتها بعناوينها فقط بدون أيّ قيد آخر، لا التي تترتّب على موضوعاتها لا بعناوينها بل بعناوين أخرى طارئة كالضرر والحرج وغيرهما، إذ فكرتها الأساس هي التّغيّر بسبب تلك العناوين الطارئة، كما تفيد الروايات في الاضطرار: «ليس شيء ممَّا حرَّم اللهُ إلّا وقد أحلَّه لِمَن اضطُرّ إليه»[9]، ومثاله حلّيّة أكل لحم الميتة للمضطّر بصريح الآية[10]، ومنه ما قد يقال في مصافحة المرأة الأجنبيّة -الذي يجمع المسلمون على حرمته- في حال الحرج الشّديد والاضطرار التي لا يُتحمّل، وهما من قبيل ما عبّر عنه الشّهيد الصّدر بمنطقة الفراغ في التّشريع[11].
وثانياً: أمّا الموضوعات التي وقعت محلّاً للبحث هنا -في مسألة تأثير الزّمان والمكان- فهي الموضوعات المستنبَطة، والموضوعات ذات المصاديق الجديدة، والموضوعات المستحدثة، دون الموضوعات الثّابتة التي لم تتغيّر.
وثالثاً: وأمّا المقصود بتأثير الزّمان والمكان في فهم النّص فهو اختلاف مداليله بنحو التّباين، بمعنى تبدّل مداليل الألفاظ لمعانٍ مباينة في كلّ زمان عن غيره من الأزمنة، فما كان له معنى في زمان النّصّ مثلاً يكون له اليوم معنى آخر، وليس المقصود هنا تأثير زمان الصُّدور في التَّشريع، وليس المقصود تكوين فهم جديد وفقاً للمعطيات العلميّة الجديدة وفقاً للمعارف والعلوم اليوم[12]؛ لأنّهما محلّ اتفاق نفيّاً في الأوّل وإثباتاً في الثّاني، وهذا ما ذكره السّيّد الشّهيدS وأنّ الدّليل الشّرعيّ أحد أمرين: نصٌّ صريح قطعيُّ الدّلالة على مضمونه ـ ثابت لا يتغيّر ولا يتبدّل ونصّ غير صريح يحتمل التّأويل ويحتمل التّدقيق -ثمّ يقول- وهذا لا نقول يمكن أن يتغيّر ولكن يمكن أن نفهمه فهماً جديداً بناء على معطيات الزّمان وبناء على المستجدّات وهذا من مرونة التّشريع الإسلاميّ[13] ويأتيك تفصيل الكلام في هذه الجهات الثّلاث.
مستويات التّأثير:
الجهة الأولى: تأثير الزّمان والمكان في الأحكام الشّرعيّة
لا يخلو الأمر في الأحكام الشّرعيّة -من حيث الثّبات والتّغيّر- عن ثلاث حالات:
إما أن تكون الأحكام الشّرعيّة كلّها ثابتة لا تتغيّر.
وإمّا أنّ كلّها قابل للتبدّل والتّغيّر.
وإمّا التّفصيل بينها: فبعضها ثابت وبعضها متغيّر.
والأخير هو الصّحيح؛ لإمكانه بل وقوعه، ولعدم تصوّر الأوّلَين؛ لاستلزام الأوّل العسر أو الحرج في بعض الموارد كبعض أحكام الحجّ التي لو التزِم بثبوتها كما كانت للزم منها العسر والحرج الشّديدين، ومخالفة الثّاني للقاعدة وللصحيحة: «حَلالُ محمَّدٍ حلالٌ إلى يومِ القِيامةِ، وحَرامُه حَرامٌ إلى يومِ القيامة»[14].
على أنّ الأصل بين الثّابت والمتغيّر هو الثّبات، والمرجع من بينهما هو الثّابت؛ حيث لا يخرج التّغيّر في الصّنف الثّاني من الأحكام عن أُطُر وأصول الصّنف الأوّل، ولهذا يشير الشّهيد الصّدرS حين يقسِّم الأحكام الشّرعيّة إلى منصوصة من الكتاب والسنّة، وإلى عناصر تُستمدّ من المؤشرات الإسلاميّة العامّة، ويعبِّر عن الأولى بالعناصر الثّابتة، وعن الثّانية بالعناصر المرنة والمتحرّكة بقوله: "في العناصر الثّابتة ما يقوم بدور مؤشّرات عامّة تُعتمَد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحرّكة التي تتطلّبها طبيعة المرحلة"[15]، وهذا ما يراه أيضاً بعض الفقهاء المعاصرين كالمرجع السّبحانيّ[16] والمرجع الشّيخ المكارم الشّيرازيّ حيث يقول: "ولا يخفى أنّ تناسب وتزامن الاجتهاد مع عنصر الزّمان المكان لا يخلّ بالأصول والمباني الأصيلة للكتاب والسنّة وقواعد الاجتهاد، لأنّ الفروع والأحكام الجزئيّة يمكن أن تُستنبط بملاحظة الزّمان والمكان في دائرة الأصول العامّة والكلّيّة لخطابات الشّارع الثّابتة دائماً"[17]، وأساس الثبات أو التّغيّر في الأحكام هو أحد لحاظين:
اللّحاظ الأوّل: وجود المناط وعدم وجوده
حيث إنّ الأحكام تابعة لملاكاتها ومناطاتها، وبعض الأحكام معلومة المناط من خلال تصريح الشّارع به، وبعضها مجهولة المناط إذ لم يصرّح به، والصنف الثّاني -مجهولة المناط- ثابتة لا تتغيّر، أمّا الصّنف الأوّل -معلومة المناط- فإنّها تدور ثبوتاً وعدماً مدار وجود المناط وعدمه، والمناط قابلٌ للتغيّر بحسب تغيّر الزّمان والمكان، وبالتالي فالأحكام متغيّرة لتغيّر مناطاتها، فحرمة بيع الدّم المستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(البقرة: 188) بمناط عدم وجود منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، لكن بعد تغيّر المناط بتغيّر الزّمان وحصول منفعة محلّلة مقصودة كالتّبرّع به لإنقاذ حياة إنسان تغيَّر الحكم من الحرمة إلى الحلّيّة، وبهذه الآية وهذا المناط ذهب المتقدّمون إلى حرمة بيع الحشرات والسباع وبتغيّر الزّمان وتغيّر المناط قد يقال بحليّة ذلك، وعلى وزان ذلك تغيّر الملاك أو شدّته أو ضعفه، كمسألة زراعة الأعضاء، ومسألة قطع أعضاء الميّت؛ فقد قيل بحرمتها للنّهي عن التمثيل لقولهe: «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور»[18]، وقد أفتى بذلك الفقهاء، إلى أن صار قطعها لا للتمثيل والتشفي وإنّما لإنقاذ أرواح بشر آخرين، وهنا تدخّل الزّمان في إيجاد ملاكٍ لم يكن متحقِّقاً سابقاً، وقد أشار السّيّد الخوئيّO إلى هذه الحقيقة بقوله: "والنّسخ بهذا المعنى -أي نسخ الحكم- ممكن قطعاً، بداهة: إنّ دخل خصوصيات الزّمان في مناطات الأحكام ممَّا لا يشكّ فيه عاقل، وإذا تصوّرنا وقوع مثل هذا في الشّرائع، فلنتصوّر أن تكون للزّمان خصوصيّة من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّة معيّنة، ثمّ لا تترتّب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس"[19]، ولهذا فإنّ النّسخ بين الشّرائع دليلٌ على أنّ المشرِّع الحكيم تبارك وتعالى يلحظ تغيّر الزّمان والمكان في تشريعاته وأحكامه.
وهكذا مسألة استحباب حلق الشّارب أو عدم استحبابه، فقد ورد في دعائم الإسلام: عن رسول اللهe أنّه قال: «واحفوا الشّوارب، واعفوا السِّبال، وقلّموا الأظفار، ولا تتشبّهوا بأهل الكتاب...»[20]، فإنّ التّعليل لئلّا يتشبّه المسلمون بأهل الكتاب -اليهود- حيث كانوا في ذلك الزّمان يعفون الشّارب حتى صار علامةً وشعاراً لهم، فأمرe بمخالفتهم، ولكن قد يقال: لا وجه للإفتاء بالاستحباب في هذا الزّمان الذي لا يعدّ فيه إعفاء الشارب من فعل اليهود أو من مختصّاتهم.
وهكذا ما قد يقال في مسألة الجهاد الابتدائيّ في عصر الغيبة بأمر الفقيه الجامع للشرائط، لو قلنا إنّ الفقيه وقف على ملاكه، ولذا وجد أنّ المجتهد يمكنه تحمّل تلك المسؤوليّة، والقول بجوازه.
وهذا القسم دقيقٌ وخطير ففي الوقت الذي نقول بإمكانه ثبوتاً إلّا أنّ تحقّقه إثباتاً يحتاج إلى درجة من الاطمئنان بل اليقين بإدراك المناط أو الملاك وهو ما لا يمكن إلّا بنصٍّ من الشّارع، أو عن طريق العقل القطعيّ، فإذا أدرك العقل بالقطع كونها علّةً للحكم فإنّه حينئذٍ يدور مدارها وجوداً وعدماً بلا ريب، لكن هل هذا ممكن ومتاح في عموم الأحكام؟ هذا هو ما يشكّك الفقهاء فيه، ويتساءلون: هل للعقل البشريّ القدرة على إدراكها بنحو القطع واليقين؟! ولهذا المعنى يشير الشّيخ الأعظمO بقوله: "نعم، الإنصاف أنّ الرّكون إلى العقل فيما يتعلّق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام، موجبٌ للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الأمر، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك"[21]، ويقول السّيّد الشّهيدS: "لا شكّ في أنّ الأحكام الشّرعية تابعة للمصالح والمفاسد وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصيّاته وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامّة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقاً لحكمته تعالى، وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريّاً أن نفترض إدراك العقل النّظريّ لذلك الملاك بكلّ خصوصيّاته وشؤونه، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشّرعيّ لا محالة استكشافاً لِمّيّا، أي: بالانتقال من العلّة إلى المعلول.
لكنّ هذا الافتراض صعب التّحقّق من النّاحية الواقعيّة في كثير من الأحيان لضيق دائرة العقل وشعور الإنسان بأنّه محدود الاطلاع، الأمر الذي يجعله يحتمل غالباً أن يكون قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف، فقد يدرك المصلحة في فعل، ولكنّه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهمّيّتها وبعدم وجود مزاحم لها، وما لم يجزم بكلّ ذلك لا يتم الاستكشاف"[22].
اللحاظ الثَّاني: الفطرية وعدمها
الأحكام بلحاظ مناشئها على نحوين:
الأحكام التي جعلها الشّارع بلحاظ فطرة الإنسان وغرائزه وهي أحكام ثابتة لا تتغيّر؛ لأنّها جُعلت وفقاً لفطرة ثابتة لا تتغيّر بتطوّر الزّمن، فهي مأخوذة من ملاكات واقعيّة لا تتغيّر؛ إذ إنّ علاقات الإنسان على ثلاثة أنحاء: علاقته بالطّبيعة، أو بالله أو بأخيه الإنسان.
العلاقة الأولى متغيِّرة لتغيّر الطبيعة المادّيّة وتطوّرها دون الأخيرتين، وهذا النّحو من الأحكام ليس من نوع علاقة الإنسان بالطّبيعة التي تتغيّر وتتأثّر بتغيّر أشكالها المادّيّة، بل هي من الأخيرتين -أي: علاقة الإنسان بربّه وبأخيه الإنسان- كأحكام الزّواج ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ...﴾(النور: 32)، والرّوابط العائليّة والعدالة الاجتماعيّة ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل: 90)؛ فهي أحكام تابعة لما يكتنزه الإنسان من عناصر فطريّة ثابتة، وهذا النّحو هو ما عبّرتْ عنه الصحيحة: «حَلالُ محمّدٍ حلالٌ إلى يومِ القِيامةِ وحَرامُه حَرامٌ إلى يومِ القيامة»[23]، وقد ذهب إلى هذا المعنى كلٌّ من العلامة الطّباطبائيّ في كتابه الإسلام ومقتضيات التّغيير الاجتماعيّ حيث قال: "إنّ الأحكام الثّابتة، هي التي ترتبط بالطبيعة الإنسانيّة وبالتّكوين الإنسانيّ ولا تختص بزمان أو مكان معيّنين ولا بجنسٍ ولونٍ خاصَّين"[24]، والسّيّد الشّهيد الصّدرS: "أمّا العبادات فهي ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة، لتتأثر بعوامل هذه التطوّر، وإنّما هي علاقة بين الإنسان وربّه، ولهذه العلاقة دور روحيّ في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وفي كلا هذين الجانبين نجد أنّ الإنسانيّة على مسار التّاريخ تعيش عدداً من الحاجات الثّابتة التي يواجهها إنسان عصر الزّيت، وإنسان عصر الكهرباء على السّواء، ونظام العبادات في الإسلام علاج ثابت لحاجات ثابتة من هذا النّوع ولمشاكل ليست ذات طبيعة مرحليّة، بل تواجه الإنسان في بنائه الفرديّ والاجتماعيّ والحضاريّ باستمرار ولا يزال هذا العلاج الذي تعبّر عنه العبادات حيّاً في أهدافه حتى اليوم، وشرطاً أساسيّاً في تغلّب الإنسان على مشاكله ونجاحه في ممارساته الحضاريّة"[25]، وسماحة آية الله الشّيخ عيسى أحمد قاسم حيث فصّل ذلك بقوله: "إنّ الإسلام في شريعته يتكفّل ببيان الأحكام للمكلّفين على مدى وجودهم في الأرض، والإنسان... له خصائصه التّامة، كالإدراك والمشاعر والدوافع المادّيّة والمعنويّة، هذه كلّها لا ينفك عنها ولا تنفك عنه ما دام إنساناً، فالإنسان هو إنسان بفطرته، عنده دافع الأكل، دافع الشرب، دافع الجنس، دافع حبّ التملّك، حبّ السيطرة، فكلّ هذا موجود عنده. وله علاقاته الاجتماعيّة التي تحكمها موازين ثابتة، وهناك علاقات مع اللهa، يحمكها موقع عبوديتي ومربوبيتي للهa، وهذا لا يتغيّر، فلا بدّ من ثابت، فالذي ينظِّم هذه العلاقة الثّابتة لا بدّ من أن يكون ثابتاً، فالذي يلبّي حاجات الإنسان بالقدر المجزي، والمتناسق -أي تلبيّة دوافع الإنسان المادّيّة والمعنويّة بشكل متناسق ومجزي ويضع الإنسان على طريق كماله- هذا لا يتغيّر بتغيّر الزّمان، هذه المعادلة لا تتغيّر بتغيّر الزّمان، الأحكام لا بدّ من أن تكفل المعادلة الدقيقة بين هذه الدوافع وطاقاتها وأدوارها ووظائفها وما إلى ذلك"[26]، فالعبادات -لا المعاملات- هي من هذا القسم لا تتغيّر ولا تتبدّل عبر الزّمن.
الأحكام التي جعلها الشّارع لتنظيم وإدارة حياة الإنسان ولها نحو إرشاد وتوجيه، وتدور مدار المصلحة فهي قابلة للتبدّل والتّغيير بلحاظ ما تقتضيه المصلحة والظّروف الحياتيّة المتغيّرة وفقاً لظروف الزّمان والمكان، فهي لا تنبع من مكنونات فطريّة وغريزيّة ثابتة، وهذا المقدار من التّغيّر -وفقاً للمصلحة- لا ينافي كون الأحكام الشّرعيّة تلبّي الحاجات الإنسانيّة في كلّ زمان ومكان؛ لأنّ الحاجة من الحكم الشّرعيّ هي تحقيق المصلحة الملائمة، ومن هذا القسم المعاملات فهي ليست أحكاماً تعبّديّة، بل هي عبارة عن أصول عقلائيّة تبانى عليها العقلاء وأمضاها الشّارع، يقول بعضهم: "وليست المعاملات دائرة مدار التعبّد المحض والمصالح السريّة الخفيّة نظير الأحكام العباديّة، فلا محالة تنصرف أدلّة المنع -على فرض إطلاقها- إلى صورة بقاء الكلب على طبعه الأوّليّ من دون أن يقع تحت التّعليم الصّحيح، أو فرض تمحّض منافعه في الأمور المحرَّمة شرعاً"[27]، ومن هذا القسم الأحكام الأسريّة مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾(النور: 58)، فالمناط لوجوب الاستئذان هو أوقات المقاربة الزّوجيّة، وحيث يتغيّر وقت ملاقاة الزّوجين بحسب ظروف الزّمان يتغيّر بتبعه وقت وجوب الاستئذان، إذ لا خصوصيّة لهذه الأوقات إذ المدار هو وقت المقاربة بقرينة ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾.
ومثل قوله تعالى: ﴿... وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ...﴾(الأحزاب: 53)، فإذا تغيّر العُرف في زمانٍ وصار البقاء بعد الإطعام أمراً إيجابيّاً ومحموداً فلا يأتي الأمر بالانتشار والخروج بعده، وهذا النّحو ما أشار له السّيّد الإمام الخمينيّS في غير مورد من كلماته، ومنها قولهS: "إنّي على اعتقاد بالفقه الدّارج بين فقهائنا وبالاجتهاد على النّهج الجواهريّ، وهذا أمر لا بدّ منه، لكن لا يعني ذلك إنّ الفقه الإسلاميّ لا يواكب حاجات العصر، بل إنّ لعنصريّ الزّمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتّخذ حكماً آخر على ضوء الأصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده"[28]، وأمثلة هذا النّحو في روايات أهل البيتi وسيرتهم كثيرة، نذكر منها:
حصر جواز السّباق مع الرّهان في ثلاثة وهي: «لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نصل»[29]، وحيث إنّ هذا الاستثناء حكمته التشجيع على إعداد القوّة للحرب ومواجهة الأعداء فيمكن القول إنّه يسري اليوم للتّباري في قوّة أداء أسلحة اليوم كالبنادق والطّائرات والسّيارات الحربيّة المتطوّرة.
التخضيب في زمان النّبيّe وعدمه في زمان أمير المؤمنينg، فقد سئل أمير المؤمنينg عن قول رسول اللهe: «غيِّـروا الشّيب ولا تَشبَّهُوا باليهود»، فقالg: «إنّما قالe ذلك والدين قُلٌّ فأمّا الآن وقد اتَّسَعَ نِطَاقُه وضَرَبَ بِجِرانِهِ فامْرُىء وما اخْتَارَ»[30].
حُسن الظّنّ وسوؤه باختلاف الزّمان كما يُفهم من كلامٍ لأمير المؤمنينg، وأنّه إذا صلح الزّمان فحُسن الظنّ، وإن فسد فسوء الظنّ، حيث يقولg: «إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلاَحُ عَلَى الزّمان وَأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُل لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خزْيَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ، وَإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزّمان وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُل فَقَدْ غَرَّرَ»[31].
مسألة حرمة التجسيم، المستفاد من مثل ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنينg -وقد ورد في الفقيه مرسلاً- قال: قال أمير المؤمنينg: «من جدّد قبراً أو مثَّل مثلاً فقد خرج من الإسلام»[32]؛ ومن قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾(سبأ: 13)، فقد يقال بأنَّ مثل هذه النّصوص النّاهية عن التّصوير والتّمثيل كانت تَلحظ قرب العهد بعصر الجاهليّة ووجود عبدة للوثن، وأنّ النكتة في حرمة ذلك كونه إعانةً للمشركين على عكوفهم على الأصنام آنذاك، أمّا اليوم فلا تصنع لذلك فمناط الحرمة منتف، ولهذا يقول الشّيخ في مكاسبه: "لو دعت الحاجة إلى عمل شيء يكون شبيهاً بشيء من خلق اللّه ولو كان حيواناً من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعاً"[33]، ويقول الشّيخ مغنيةO: "فلا مصدر لفتوى الفقهاء بالتحريم إلّا الاحتياط والخوف من وقوع العامل في ذلك الحقل في فخّ الوثنيّة.. إلى أنّ ما من أحدٍ في هذا العصر -باستثناء الكنائس- يقدِّس التّماثيل على أنّها آلهة شبيهة بالإله"[34]، وهو بعبارته الأخيرة يشير لتأثير الزّمان والمكان في ذلك حيث قال: "إلى أنَّ ما من أحدٍ في هذا العصر".
5ـ اختلاف اللّباس في زمان الإمام الصّادقg عنه في زمان أمير المؤمنينg، إذ ينقل الشّيخ الكلينيّO بسنده عن حمّاد بن عثمان قال: كنت حاضراً عند أبي عبد اللهg إذ قال له رجلٌ: أصلحك الله ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالبg كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيّد؟ قال: فقال له: «إنّ عليّ بن أبي طالبg كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كلِّ زمانٍ لباس أهله، غير أنّ قائمنا إذا قام لبس لباس عليّg وسار بسيرته»[35]، ولهذا يمكن القول بأنّ الشّارع لم يلزم بنوعية من اللّباس أو شكل أو ما شابه سوى أنّه ألزم بكونه ساتراً وألّا يكون لباس شهرةٍ.
6ـ مسألة إطالة الشعر في زمان النّبيّe وعدمه في أزمنة الأئمّةg، وما ذلك إلّا لاختلاف الزّمان وعادات أهله، فقد ورد عن الإمام الصّادقg عن آبائه عن عليّg قال: «كان رسول اللهe يرجّل شعره وأكثر ما كان يرجّل شعره بالماء..»[36]، وفي المقابل ورد عن الإمام الصّادقg: «كان يحفي رأسه إذا جزه»[37]، والإحفاء بمعنى الاستقصاء والمبالغة في حلقه.
إلى هنا عرفنا المعنى الصحيح للرّواية الشّريفة: «حَلالُ محمّدٍ حلالٌ إلى يومِ القِيامةِ وحَرامُه حَرامٌ إلى يومِ القيامة»[38] وهو وجود أصول وثوابت في الأحكام لا تتغيّر، ولا تتأثّر بالزّمان والمكان، وهي النّسبة الأكبر بين الأحكام، والأصل من بينها، وهي على ما تقتضيه القاعدة أيضاً من كون كلّ الأحكام لها إطلاق أفراديّ وأزمانيّ إلّا ما قُيِّد.
نعم، ورد التّقييد كما هي الموارد الآنفة؛ حيث أثبتت وجود أحكامٍ قد تغيّرت؛ ولذا فإنّ الرّواية لا إطلاق لها لتشمل كلَّ الأحكام، نعم هو الأصل فيها إلّا ما خرج بالدليل، وهذا هو ما فهمه السّيّد الأمينO من هذه الرّواية الشّريفة حيث يقول في شرحها: "أي أنّ شريعة محمّدe قائمة في النّاس إلى يوم الدَّين، وأنّها الشّريعة المتميّزة بالسّماحة والمرونة وقابليّة التّطوّر مع الحياة ما دامت الحياة، وما دام عامل التّطوّر يدفع الحياة في كلّ جيل دفعة، وما نقصد من سماحة الشّريعة ومرونتها وتطوّرها أن تتبدّل أسس أحكامها وأصول قواعدها، بل نقصد عكس ذلك تماماً، نقصد إنّ هذه الأسس والقواعد التي تقوم عليها الشّريعة الإسلاميّة هي بذاتها صالحة أن تساير مقتضيات الحياة، وأن تكون على وفاق دائم مع أطوار الحياة مهما اختلفت مظاهرها. وتلك هي عظمة الشّريعة الإسلاميّة وميزتها الكبرى ومصدر بقائها خالدة إلى يوم القيامة ولا يتبدّل حلالها حراماً ولا يتبدّل حرامها حلالاً"[39]، وهو تقسيم لا يلزم منه التّصويب الأشعريّ في المتغيِّر بمعنى خلوّ الأمر من حكمٍ واحدٍ عند الله سبحانه لكون التّغيّر ضمن إطار الثّوابت، ووفق ملاك المصلحة التي جعله الشّارع في إطارها.
بخلاف ما ذهب إليه الشّيخ كاشف الغطاءO من ثبات الأحكام كلّها وعدم تأثّرها بالزّمان والمكان حيث يقول: "قد عرفت أنّ من أصول مذهب الإماميّة عدم تغيّر الأحكام إلّا بتغيّر الموضوعات، أمّا بالمكان والزّمان والأشخاص فلا يتغيّر الحكم، ودين الله واحدٌ في حقّ الجميع، لا تجد لسنّة الله تبديلاً، وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك، نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص والواحد باختلاف حالاته من بلوغٍ ورشدٍ وحضرٍ وسفرٍ وفقرٍ وغنىً وما إلى ذلك من الحالات المختلفة وكلُّها ترجع إلى تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم"[40].
وبخلاف ما يُفهم من كلام المحقّق الأردبيليّO من تغيّر الأحكام كلّها تأثّراً بالزّمان والمكان: "ولا يمكن القول بكلّيّة شيءٍ، بل تختلف الأحكام باختلاف الخصوصيّات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو ظاهرٌ وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشّرع الشّريف امتياز أهل العلم والفقهاء شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم"[41].
الجهة الثّانية: تأثير الزّمان والمكان في موضوعات الأحكام
المقصود بالتّغيّر في الموضوع هنا ليس الانقلاب في الماهيّة والحقيقة بحيث يتحوّل من حقيقة إلى حقيقة أخرى كالخلّ إلى خمرٍ والنّجس إلى تراب والكلب إلى ملح؛ لأنّ الزّمان والظّروف الزّمانية لا تؤثّر في انقلاب الحقيقة، التي هي عمليّة فيزيكيّة مادّيّة، بل المقصود بالتّغيّر أحد أنحاء أربعة:
النّحو الأوّل: بمعنى التّغيّر والتبدّل في الموضوع بلحاظ صدقه في موردٍ بحسب ظروفٍ معيّنة، وعدم صدقه في موردٍ آخر بحسب ظروفٍ أخرى، وذلك بسبب تغيّر محقّقاته في الخارج في كلّ زمان، وذلك كالاستطاعة والفقر والغنى والنّفقة، فعنوان الاستطاعة كان يتحقّق بقربة ماء وكسرة خبز وقُلّة تمر ودابّة، وقدميه إن كان قادراً على المشي، ولكنّ الاستطاعة اليوم صارت أكثر سعةً وتعقيداً؛ إذ يحتاج الحاجّ مبلغاً كبيراً ليؤمِّن به رخصة السّفر وتذكرته والمواصلات والمسكن والمأكل والمشرب، والفقر كان يتحقّق فيمن لا يملك قوت سنته بالفعل ولا بالقوّة لكن يمكن القول إنّ من لا يملك في المجتمع سيّارة مثلاً أو ما أشبه ذلك يُقال عنه فقير وإن ملك قوت سنته، وذكر هذا السّيّد الشّهيد الصّدرS بقوله: "وليس غريباً إعطاء مفهوم مرن لمدلول تعلّق به حكم شرعيّ، كالفقر الذي رُبطت به الزّكاة. ولا يعني هذا تغيّر الحكم الشرعيّ، بل هو حكم ثابت لمفهوم خاصّ، والتّغيّر إنّما هو في واقع هذا المفهوم، تبعاً للظّروف"[42]، فالعنوان ثابت لكنّ تطبيقه هو الذي اختلف وقد أشارS لهذا المعنى في مقدّمة رسالته العمليّة -الفتاوى الواضحة- بقوله: "والأحكام الشّرعيّة على الرّغم من كونها ثابتة، قد يختلف تطبيقها تبعاً للظّروف من عصر إلى عصر، فلا بدّ لرسالة عمليّة تعاصر تغيّراً كبيراً في كثيرٍ من الظّروف أن تأخذ هذا التّغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشّرعيّ"[43]. وهذا النّحو هو ما صرّح به الشّهيد الأوّل في القواعد بقوله: "يجوز تغيير الأحكام بتغيّر العادات، كما في النّقود المتعاورة والأوزان المتداولة ونفقات الزّوجات والأقارب فإنّها تتبع عادة ذلك الزّمان الّذي وقعت فيه"[44].
ومن أمثلة هذا النّحو أيضاً ما يجب إعداده لتوفير القوّة في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾(الأنفال: 60 )، حيث كانت القوّة تتحقّق بالسيوف والرّماح، وصارت اليوم بالأسلحة المتطوّرة من الصواريخ والمدافع، والتخريج الفنّيّ الصّناعيّ لهذا هو الاستفادة من الإطلاق المقاميّ للآية أو الرّواية، إذ كون الشّارع في مقام التحديد والبيان وقد أطلق فهذا يعني أنّ كل ما يكون مصداقاً لذلك المفهوم الكلّيّ كإعداد القوّة فهو مراد ومطلوب بحسب الزّمان والمكان. ومثله ما يحقّق التّجسّس، حيث نهت الآية: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾(الحجرات: 12)، فإنَّ التّجسّس سابقاً إمّا بالملاحقة التّلصّصيّة أو بإرسال ولدٍ ليسترق السّمع، أمّا اليوم فآلات التّصوير والمراقبة (الكاميرات) هي من أوضح مصاديق ما يتحقّق به التجسّس.
النّحو الثّاني: بمعنى تغيّر الموضوع بلحاظ ما يستنبطه الفقيه من الدّليل، بأن يكون الموضوع من الموضوعات المستنبطة من الأدلّة من قِبل الفقيه، كما لو استفاد المتقدّمون من لسان الدليل كون الموضوع مطلقاً في كلّ الأحوال واستفاد غيرهم من المعاصرين من الأدلّة أيضاً غير ذلك، ككون الحكم منصبّاً على الموضوع في بعض أحواله، كما في الشّطرنج عند السّيّد الإمام الخمينيّS وهل هو من آلات القمار مطلقاً فيكون حراماً مطلقاً أم لا؟ أو ما يستفاد من لسان الأدلّة هو حرمة خصوص الشّطرنج الملتهى به ولا يشمل الشطرنج الفكريّ الرياضيّ (للترويض الذّهنيّ)؟ على أساس أنّ للظّرف الزّمانيّ والمكانيّ مدخليّة في تشخيص ذلك.
النّحو الثّالث: الموضوعات التي تُبحث بعنوان «المسائل المستحدَثة»، وهي على نحوين إمّا أن تُستحدَث مصاديق جديدة، فتكون مصداقاً لكليٍّ صبَّ الشَّارع حكمه عليه وكانت له أفراد في زمانه وقد تتغيّر أفراده مع الزّمن، كأسواق الأوراق الماليّة، والملْكيّة المعنويّة والملْكيّة الفكريّة -حقّ التأليف، وحقّ الطبع، وحقّ النشر- وهل تندرج تحت العمومات والإطلاقات كقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾، ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، أو تكون مصداقاً لكلّيٍّ صبَّ الشَّارع حكمه على أفرادٍ معيّنةٍ لكنّنا فهمنا من بعض القرائن والنّكات أنّه لا خصوصيّة لها، كحصر صحيحة معاوية بن عمّار حرمة أربعة أنواعٍ من الطّيب وهي: «المسك والعنبر والورْس والزّعفران»[45]، أو كمصرف الزّكاة وما تجب فيه زكاة الفطرة، إذ نصّت الرّوايات على التّمر والزّبيب والشّعير والحنطة كأقواتٍ غالبةٍ في بلد المكلّف آنذاك أمّا اليوم فقد يكون القوت الغالب غير هذه الأربعة -كما هو بالفعل في كثيرٍ من بلداننا اليوم-، أو كحصر بعض الرّوايات الأعياد في الأربعة، واستحداث مثل عيد الأمّ وغيره.
وإمّا أن يكون الموضوع مستحدَثاً ومستجدّاً من رأس لم يكن في عصر النّص، كحقّ براءة الاختراع فإنّ العقلاء قد اتفقوا على أنّ المخترع له حقّ لا يصحّ سلبه عنه، وأنّ سلبه يُعدّ ظلماً، وهذا صغرى من صغريات كبرى قبح الظلم وحرمته. أو مسألة (التلقيح الصّناعيّ) فإنّه موضوع مستحدَث وقع محلّاً للبحث وهل أنّه ينافي وجوب حفظ الفرج أم لا؟ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾(النور: 31) أم لا؟ أو مسألة التّأمين سواء على المال أو على الحياة، أو مسألة التّبرّع بالأعضاء، أو بحث (فقه الفضاء) وهو البحث عن أحكام القبلة في القمر وإلى أين يتّجه المصلّي هناك؟ وإذا كان يجب عليه التوجّه للأرض أفلا يلزم منه العسر والمشقة لكون القمر متحرّكاً -وكذا الأرض- بالحركة الوضعيّة أو الانتقاليّة، وعن جواز السجود على تربة القمر من عدمه؟ وهل تشملها الرواية الشريفة: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»[46]؟
هذا النّحو يمكن استفادته من مثل ما روي عن الإمام الصّادقg في شأن الآيات القرآنيّة: «ولو كانت إذا نزَلت -أي الآية- في رجل ثمّ مات ذلك الرّجل ماتت الآية، لمات الكتاب، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى»[47].
النّحو الرّابع: حين تحكم نظرةَ الفقيه ظروفاً جديدةً، كقيام الحكومة الإسلاميّة، ولهذا القسم يشير الإمام الخمينيّS: "إنّ الزّمان والمكان يمثّلان عنصرين مهمَّين في عمليّة الاجتهاد، فالمسألة التي كان لها حكم معيّن في الزّمان القديم فيما يتعلّق بالعلاقات الحاكمة في الأمور السّياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة، يمكن أن تملك حكماً جديداً في هذا العصر، بمعنى أنّه مع معرفةٍ دقيقةٍ للعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، فإنّ ذلك الموضوع الأوّل يتبدّل إلى موضوع جديد وإن كان بحسب الظّاهر لا يختلف عن الموضوع القديم، وبالتّالي فإنّه يتطلّب حكماً جديداً أيضاً"[48].
الجهة الثّالثة: تأثير الزّمان والمكان في فهم النّصّ
هل دلالة الألفاظ على معانيها تختلف من زمانٍ إلى آخر؟ فتدلّ الألفاظ على معانٍ معيّنة في زمانٍ معيّن وهي نفسها تدلّ على معانٍ أخرى في زمانٍ آخر؟ بمعنى: هل للزّمان تأثير على فهم النّصّ الدِّينيّ أم لا؟
والجواب في مقدّمات:
الأولى: يرتبط هذا البحث ارتباطاً وثيقاً ببحث دلالة الألفاظ على المعاني، حيث ذكر علماء أصول الفقه أنّ دلالة الألفاظ على المعاني على مراتب ثلاث رئيسيّة: فهي إمّا أن تكون دلالة صريحة وقطعيّة لا يشوبها شكٌّ وهو ما يسمّى بـ(النّصّ)، وإمّا أن تكون ظاهرة بمعنى أنّ للّفظ عدّة معانٍ محتملة إلّا أنّ أحدها أسبق وأسرع حضوراً في الذّهن وتسمَّى بـ(الظّاهر)، وإمّا أن تكون مجملة بمعنى أنّ للّفظ عدّة معانٍ متساوية ومتكافئة فيما بينها ولا انسباق لأحدها، وتسمَّى بـ(المُجمل)[49].
ودلالة الأدلّة الشّرعية على مراداتها يدور في الغالب بين النّصّ والظّاهر، وإن كان الظّاهر أكثر من النّصّ، أمّا المجمل فهو قليل جدّاً لا يقاس بذينيك الدّلالتين، والنّصّ لا يختلف فيه اثنان، ومنه دلالة أدلّة حرمة الخمر والزّنا ووجوب الصّلاة والصّيام والحجّ والزّكاة، وأمثلة الظاهر كثيرة جداً، على أنّ الظّاهر على مراتب وأكثر الأدلّة من الظّاهر القريب من الصريح، وبهذا تكون دائرة ما يقع محلّاً للاختلاف ضيّقة جداً.
الثّانية: حيث إنّ أكثر الأدلّة يكون مستوى دلالتها على مراداتها ظهوريّاً، وقد ثبت في محلّه حجّيّة الظّهور؛ لقيام السّيرة العقلائيّة عليه وإمضاء الشّارع لها، يأتي السّؤال في تفصيلات هذه الحجّيّة للظّهور: ما هو الظّاهر الحجّة؟ هل هو الظّهور الذّاتيّ الشّخصيّ: الذي يختلف من شخصٍ لآخر وينسبق لذهن شخصٍ ما بخصوصه ولا يكون لانسباقه واقعٌ في المتفاهم العرفيِّ العامّ، أو هو الظّهور الموضوعيّ النّوعيّ: "وهو عبارة عن الدّلالة المتحصَّلة للكلام بموجب تمام القوانين الثّابتة للمحاورة في تلك اللّغة"؟[50] وقد ثبت في محلّه أنّ الحجّة هو الثّاني لا الأوّل؛ لكون ملاك الظّهور الحجّة هو الكاشفيّة والطّريقيّة عن مراد المتكلّم، والكاشفيّة عن مراده تُعرف من خلال ظهور حاله في اتّباعه لأساليب المحاورة العرفيّة والقواعد اللّغوية العامّة للتّفاهم لا اتّباع الظّهور الشّخصيّ للسّامع بخصوصه.
الثّالثة: حيث قلنا إنّ الظّهور الحجّة هو الظّهور الموضوعيّ النّوعيّ، يأتي السّؤال: هل هو الظّهور الموضوعيّ في عصر صدور النّصّ أم الظّهور المستجدّ في العصور المتأخّرة عنه -كعصرنا الحاضر- المخالف لما عليه الظّهور في عصر النّصّ؟ الجواب: إنّ الظّهور الحجّة هو الظّهور الموضوعيّ النّوعيّ في عصر النّص؛ لأنّ كلّ كلام يصدر من متكلّم يُحمل بمقتضى الطّبع والبديهة على قواعد المحاورة وأساليب التّفاهم العرفيّ في عصره.
الرّابعة: بناءً على قاعدة (أصالة عدم النّقل) أو ما يسمّونه بـ(الاستصحاب القهقرائيّ)، أو ما عبّر عنه السّيّد الشّهيد الصّدرS بـ(أصالة الثبات في الظّهورات) التي مفادها صعوبة تبدّل دلالة ألفاظ على معانٍ إلى دلالتها على معانٍ أخرى، ولهذا يمكن التّأكيد على أنّ الظّهور الموضوعي للنّصوص الدِّينيّة اليوم هو نفسه الظّهور الموضوعيّ لها في عصور الأئمّةi؛ إذ إنّ الظّهور الموضوعيّ هو الظّهور العنوانيّ المجموعيّ، العرفيّ الاجتماعيّ، وهو ظهور له من الثّبات والاستقرار ما لا يجعله متغيِّراً بسهولة؛ وذلك لكونه منطلقاً من أسسٍ عامّةٍ يقوم عليها العرف والمجتمع، وقد أشار لهذه القاعدة المهمّة السّيّد الشّهيد الصّدرS وبيّن دليلها بقوله: "وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النّقل والتّغيير وبطئه بحيث إنّ كلّ إنسان عرفيّ بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللّغة، لأنّ عمر اللّغة أطول من عمر كلّ فرد، فأدّى ذلك إلى أنّ كلّ فرد يرى أنّ التّغيّر حادثة على خلاف الطّبع والعادة. وحينئذٍ إمّا أن يفترض أنّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النّقل والتّغيير في الظّهورات السّابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظّهور أو أنّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرّة وعملوا بما يفهمونه من الظّهورات، فعلى الأوّل يكون بنفسه دليلاً على حجّيّة أصالة الثّبات شرعاً، وعلى الثّاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرّضهم لتفويت أغراض الشّارع لو لم تكن أصالة الثّبات حجّة فسكوت المعصومg وعدم تصدّيه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطّريقة وكفاية الظّهور الّذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظّهور الموضوعيّ المعاصر لصدور الكلام"[51].
على أنّ دعوى احتمال تغيّره أو مجرّد قابليّة الألفاظ لتغيّر معانيها لا يكفي للتمسّك بالمحتمل وترك المتيقَّن، وهذا الاحتمال لا يصمد أمام الأصل العقلائيّ القاضي بأنّ الأصل هو بقاء الألفاظ على معانيها وأنّ الظّهور ثابت ما لم نقطع بغير ذلك، وأنّ مجرّد احتمال التّغيّر لا يؤثّر في بقائه على ما هو عليه، وإلّا للزم من ذلك عدم الاستفادة من الكتب القديمة لاحتمال أنّ دلالة الألفاظ قد تغيّرت فلا يمكن أن نبني على ما نفهمه لأنّ مراد الكاتب قد يختلف بحسب زمانه.
الخامسة: إنّ تأثير الزّمان في فهم النّصّ على فرض ثبوته إنّما يثبت مع اختلاف الزّمان لا في الزّمان الواحد وبالظّروف المتشابه والمتقاربة، فإنّ الفهم للنّصّ الواحد في هذا الزّمان -مثلاً- ينبغي أن يكون واحداً، إذا كان الزّمان هو المؤثّر وهو واحد، ولا معنى لأن يتغيّر ما دام الزَّمان واحداً[52]. فلماذا تفهمون غير ما نفهم مع أنّنا في زمانٍ واحد، وهذا ما يجعلنا نشكّك في التّمسّك بهذه الذّريعة.
السّادسة: إنّ فهم النّصّ فهماً علميّاً اجتهاديّاً لا يعني جموده، بل يعني فهمه المواكب للعصر بالأدوات العلميّة الدّقيقة التي تجعله حيويّاً قادراً على الإجابة على الأسئلة المستجدّة والمصاديق الجديدة، وهذا هو شأن النّصوص الإلهّيّة والمعصوميّة، فقد سُئل الإمام الصّادقg: ما بال القرآن لا يزداد على النّشر والدّرس إلّا غضاضة -طراوة-؟ قالg: «لأنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كلِّ زمانٍ جديد، وعند كلِّ قومٍ غضٌّ إلى يوم القيامة»[53]، ومن تلك الأدوات العلميّة لفهم النّصّ: معرفة العمومات والمطلقات اللفظيّة والمقاميّة، واستخلاص الكلّيّات العامّة من الموارد التي تعالج القضايا الجزئيّة، ومن خلال مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب، ومن خلال تنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة، وتضييق دائرة الحكم الكلّيّ من خلال مناسبات الحكم والموضوع، ووسائل عقليّة وعرفيّة أخرى، يتكفّل علم أصول الفقه بتنقيحها وتقعيدها صغرى وكبرى.
الخاتمة
اتّضح جليّاً أنّ الأحكام الشّرعيّة وإن صدرت في زمانٍ له خصائصه وظروفه إلّا أنّها لم تصدر لذاك الزّمان وحسب، وصدورها في ذاك الزّمان لا يعني نظرها إليه فقط وتقوقعها بظروفه وحدوده.
وثبت لنا في هذا البحث أنّ عمليّة الاستنباط اليوم تعيش الزّمان والمكان وتتفاعل معهم، وأنّ الفقهاء ليسوا بعيدين عن الظّروف الزّمكانيّة حين يصدرون الأحكام، إذ إنّ باب الاجتهاد الفقهيّ في المدرسة الإماميّة مفتوحٌ ومتجدّدٌ بتجدّد الزّمن، ولولاه لمات الفقه وأغلق باب الاجتهاد واختزل في إطاره القديم، وكان خاصّاً بقدماء الفقهاء، وهذا -فتْح باب الاجتهاد- في حدّ ذاته مؤشّرٌ على مواكبة عمليّة الاستنباط للزّمان والمكان، ونفس القول بوجوب تصدّي الجامع للشرائط كفائيّاً للمرجعيّة في كلّ عصر يعني أنّ مسائل كلّ عصر وزمان لا بدّ لها من فقيهٍ يعيشها وينظر إليها بعين الواقع الزّمكانيّ، ويقرأ النّصوص الشّرعية بتلك العين، ليكون أوضح مصداقٍ لقول الإمام الصّادقg: «العالِم بزمانه لا تهجم عليه اللّوابس»[54].
وقد توصّلنا فيه إلى أنّ للزّمان والمكان تأثيراً في عمليّة الاستنباط لكنّه تأثيرٌ محدودٌ ومنضبطٌ إلى حدٍّ كبيرٍ، وفق أصولٍ وقواعد متينة ورصينة سواء على مستوى الأحكام أم الموضوعات أم فهم النّصّ.
وعرفنا خلاله أنّ هناك مساحات تتأثّر فيها عمليّة الاجتهاد الفقهيّ والاستنباط بالمتغيّرات الزّمانية والمكانيّة -بالمعنى الذي ذكرناه من التأثّر- وهي مساحات ليست قليلة، ولاحظنا أنّ مقدار الاتّفاق بين أقطاب المذهب وفقهائها عليها كبيرٌ وإن لم يصرّحوا بذلك، وهي التي تمثّل في الواقع مساحة الاعتدال لا الإفراط ولا التفريط في عمليّة الاجتهاد الفقهيّ في المدرسة الإماميّة، وهو سرٌّ من أسرار حيويّة عمليّة الاستنباط ومواكبة حركة عجلتها لحاجات الإنسانيّة عبر الزّمن، وهو أمرٌ لا يمسّ بالدِّين ما دام ضمن أُطُره وقواعده القرآنيّة والرّوائيّة والاجتهاديّة المسلَّمة، وإلى هذا المعنى يشير المرجع الشّيخ مكارم الشّيرازيّ: "ولا يخفى أنّ تناسب وتزامن الاجتهاد مع عنصر الزّمان والمكان لا يخلّ بالأصول والمباني الأصيلة للكتاب والسّنّة وقواعد الاجتهاد، لأنّ الفروع والأحكام الجزئيّة يمكن أن تستنبط بملاحظة الزّمان والمكان في دائرة الأصول العامّة والكلّيّة لخطابات الشّارع الثّابتة دائماً"[55].
ووصلنا إلى أنّ بعض من ينادي بهذا العنوان هو بعيد كلَّ البعد عن الوقوف على حقيقة ما يُراد منه، وما هو مؤطَّر بسياج الأدوات العلميّة الرّصينة في عمليّة الاستنباط، لهذا فإنّ ما يروم إليه بعضهم من محاولة التّغيير الجذريّ للأحكام الشّرعية تحت طائلة هذا العنوان وتذرُّعاً به مجانبٌ للعلميّة والموضوعيّة وأنّ هذا العنوان ليس كما ذهب إليه.
فالاستحسانات والظّنون ليست أدوات علميّة لتغيير بعض الأحكام لتتناسب مع ذوق بعض أهل الزّمان، كما قد يحاول بعضهم في مسألة (دية المرأة) وكيف أنّها نصف دية الرّجل؟! ثمّ يبرّرون أنّ هذا الحكم كان كذلك لأنّ المرأة لم تكن تعمل كما كان الرّجل، ولذلك فإنّ من قتل رجلاً آنذاك فقد قتل يداً عاملةً، أمّا اليوم فإنّ المرأة صارت تعمل كالرّجل فهي يدٌ عاملةٌ أيضاً فلا بدّ -والحال هذه- من تساوي ديتها مع ديته، أو في مسألة (إرث المرأة) وكيف يكون: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(النساء: 11)؟! ثمّ يبرّرون أنّ هذا الحكم كان في زمن لم تكن المرأة تعمل فيه وتنفق، أمّا اليوم فإنّها تعمل وتنفق حالها حال الرّجل وعليه فيجب أن يتساوى حظّها مع حظّه في الإرث، ونلاحظ أنّ ما اعتمدوا عليه هي مجرّد ظنون لا وجه قطعيّ لها، بخلاف ما ذكرناه في تغيّر المناطات وإلغاء الخصوصيّات القطعيّة.
نعم، لا يخفى أنّ بعضَ مَن نادى بإدخال الزّمان والمكان في الأحكام أراد بها إخراج الدِّين عن حقيقته وواقعه، وهم بذلك يطلبون التحرّر من كلّ قيد وحكم، حيث حاول بعضهم إلغاء (وجوب الحجاب) تماشيّا مع تحلّل بعض أهل هذا الزّمان.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيّدنا محمَّدٍ وآله الطَّيبين الطَّاهرين.
[1] الكافي، الكلينيّ، ج1، ص58، ح 19. بحار الأنوار، المجلسيّ، ج2، ص260.
[2] نهج البلاغة، الحكمة 17.
[3] سيأتي بيان ذلك تفصيلاً.
[4] نعم، طرح هذه النّظريّة في عصرنا الحاضر الإمام الخمينيّS، ويمكن الوقوف على نظريّته فيما جمعته مؤسسة نشر آثار الإمام الخمينيّS تحت عنوان (مجمعه مآخذ شناسى فقه زمان ومكان)، والسّيّد الشهيد الصدرS خصوصاً في كتابه اقتصادنا -كما سنبيّن- لكنّها مع ذلك بقيت غير متبلورة بكلّ حيثيّاتها.
[5] أصول الكافي، الكلينيّ، ج1، ص62، ح10.
[6] محراب التّقوى والفضيلة، آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسمB، ج2، ص 421.
[7] وقد أشار ابن القيّم الجوزيّ لهذا التقسيم إجمالاً بقوله: "الأحكام نوعان: نوع لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمّة كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدّرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرّق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة لـه زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التّعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنّ الشارع ينوّع فيها حسب المصلحة..، وهذا باب واسع اشتبه على كثير من الناس الأحكام الثّابتة اللّازمة التي لا تتغيّر، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً" مدخل إلى فلسفة الفقه، مهديّ مهريزيّ، ص52.
[8] وسائل الشيعة، العامليّ، ج7، باب 16 من أبواب ما تجب فيه الزّكاة، ح1. الخيل العتاق: النّجائب، والبرذون: الخيل الذي أبواه أعجميان، والأُنثى برذونة. مجمع البحرين (مادّة: برذ)، ج٣، ص١٧٨.
[9] مستدرك الوسائل، النّوريّ، ج12، ص258.
[10] سورة الأنعام: ١١٩. (وقد فصّل ما حرّم عليكم إلّا ما اضطررتم إليه).
[11] يقول السيد الصدرS: "ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الصّورة التّشريعيّة، أو إهمال من الشّريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبيرٌ عن استيعاب الصّورة، وقدرة الشّريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأنّ الشّريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها، بمنح كلّ حادثة صفتها التّشريعيّة الأصليّة، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحيّة منحها صفةً تشريعيّة ثانويّة حسب الظّروف. فإحياء الفرد للأرض ـ مثلاً ـ عملية مباحة تشريعيّاً بطبيعتها، ولوليّ الأمر حقّ المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضيات الظروف" انظر: اقتصادنا، الشّهيد الصّدر، ص725.
[12] يمكن أن يقال: إنّ هذا ما يشير إليه مضمون الرّواية الشريفة عن الإمام زين العابدينg عندما سئل عن التوحيد فقال: «إنّ اللهa علم أنّه يكون في آخر الزّمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد والآيات من سورة الحديد إلى قوله: ﴿وهُو عليمٌ بذاتِ الصّدور﴾ فمن رام وراء ذلك فقد هلك».
[13] اقتصادنا، الشّهيد الصّدر، ص722، ط. مجمع الشّهيد الصّدر العلميّ والثقافيّ.
[14] الكافي، الكلينيّ، ج1، ص58، باب البدع والرّأي والمقاييس، ح19.
[15] الإسلام يقود الحياة، الشّهيد الصّدر، ص39.
[16] مقالة: الأحكام الشّرعيّة بين الثّوابت والمتغيّرات، مجلّة فقه أهل البيتi، العدد 48، ص165.
[17] موسوعة الفقه الإسلاميّ المقارن، ج1، ص253.
[18] نهج البلاغة: الرسائل 47.
[19] البيان، السّيّد الخوئيّ، ص278.
[20] مستدرك الوسائل، النّوريّ، ج1، ص405.
[21] فرائد الأصول، الشّيخ الأنصاريّ، ج1، ص62.
[22] دروس في علم الأصول، الشّهيد الصّدر، ج2، ص254 .
[23] الكافي، ج1، ص58، باب البدع والرّأي والمقاييس، ح19.
[24] الإسلام ومتطلّبات التّغيير الاجتماعيّ، العلّامة الطّباطبائيّ، ص43، و45. دار الغدير- بيروت.
[25] الفتاوى الواضحة، الشّهيد الصّدر، ص581.
[26] لقاء في جمعية التّوعيّة الإسلاميّة في البحرين، أُقيم في ٢١ ذو القعدة ١٤٣٣هـ، الموافق: ٨ أكتوبر ٢٠١٢م.
[27] دراسات في المكاسب المحرَّمة، الشّيخ المنتظريّ، ج1، ص500.
[28] صحيفة نور، ج21، ص98.
[29] وسائل الشّيعة، العامليّ، ج19، ص253، أحكام السّبق، ب3 من أبواب السّبق والرّماية، ح4.
[30] نهج البلاغة، الحكمة 17.
[31] نهج البلاغة، (شرح محمّد عبده)، ج4، ص27.
[32] رواه في الوسائل، ج3، ص208، الباب 43 من أبواب الدّفن.
[33] المكاسب المحرّمة، الشّيخ الأنصاريّ، ج2، ص237.
[34] الإسلام بنظرة عصريّة، مغنية، ص99.
[35] الكافي، الكلينيّ، ج6، ص444، باب اللبّاس، ح15.
[36] مكارم الأخلاق، الطّبرسيّ، ص 69. سنن النّبيّe، للطّباطبائيّ، ص147.
[37] تهذيب الأحكام، الشّيخ الطّوسيّ، ج1، ص62.
[38] الكافي، الكلينيّ، ج1، ص58، باب البدع والرأس والمقاييس، ح19.
[39] أعيان الشّيعة، للأمين، ج10، ص409، رسائل الشّعائر الحسينيّة، ج3، ص533.
[40] تحرير المجلّة، كاشف الغطاء، ج1، ص159 ذيل المادّة 39.
[41] مجمع الفائدة والبرهان، الأردبيليّ، ج3، ص436.
[42] اقتصادنا، الشّهيد الصّدر، ص680.
[43] الفتاوى الواضحة، الشّهيد الصّدر، ص97.
[44] القواعد والفوائد، الشّهيد الأوّل، ج1، ص151.
[45] وسائل الشّيعة، العامليّ، ج12، ص444، باب 18 من أبواب تروك الإحرام، ح8.
[46] وسائل الشّيعة، العامليّ، ج23، ص350، باب جواز التّيمّم مع عدم التّمكّن من استعمال الماء لمرض، ب7، ح2.
[47] بحار الأنوار، المجلسيّ، ج23، ص4.
[48] صحيفة النّور للإمام الخمينيّ، ج 21، ص 98 (بالفارسيّة).
[49] لاحظ دروس في علم الأصول، ج1، ص301.
[50] بحوث في علم الأصول، تقريرات الشّيخ حسن عبد الساتر لأبحاث السّيّد الشّهيد الصّدر ج9، ص379.
[51] بحوث في علم الأصول، للسّيّد الهاشميّ الشّاهروديّO، ج4، ص294.
[52] أشار إلى هذا المعنى الشّيخ باقر الإيروانيّ في مجلس درسه الخارج أصول، 11-8-1436هـ.
[53] بحار الأنوار، المجلسيّ، ج89، ص15.
[54] الكافي، الكلينيّ، ج1، ص27.
[55] موسوعة الفقه الإسلاميّ المقارن، ج1، ص253.
0 التعليق
ارسال التعليق