بحوث موضوعية في العقيدة الإسلامية - شرحٌ تفصيليٌّ لشرح الباب الحادي عشر بصيغة سؤالٍ وجوابٍ (القسم الرابع)

بحوث موضوعية في العقيدة الإسلامية - شرحٌ تفصيليٌّ لشرح الباب الحادي عشر بصيغة سؤالٍ وجوابٍ (القسم الرابع)

س61:ماذا يريد القرآن الكريم من الناس من خلال هذه الآية الشريفة؟

ج:طبعاً قبل الإجابة نقول:ما هو المراد من التعبير بأولي ‏الألباب في الآية الكريمة؟

الحقيقة إن التعبير بأولي ‏الألباب -في هذه الآية وآيات عديدة أخرى في‏الكتاب العزيز- إشارة لطيفة إلى أرباب العقول، لأن اللب من كل شيء خيره و‏خالصه، ولا شك أن العقل هو خير ما في الإنسان، وهو عصارة وجوده الإنساني.

من هنا يحث القرآن المجيد الناس من أولي ‏الألباب على التفكر في هذا الخلق‏البديع والعظيم، ليصيب كل واحد منهم - بقدر استعداده وقدرته على الاستيعاب- من هذا البحر العظيم الذي لا ساحل له ولا قعر، ويرتوي من منهل أسرار الخلق ‏العذب.

حقاً إن هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع ونقوش رائعة ولوحات خلابة كتاب بالغ ‏العظمة، كتاب في كل حرف من حروفه، وكل سطر من ‏أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرده(1).

إن هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوث في كل ناحية من نواحي‏ هذا الكون العريض يشد إلى نفسه فؤاد كل لبيب وعقله شداً -يجعله يتذكر خالقه في ‏جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول ‏سبحانه:{الَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللهَ قِيَاْماً وَّقُعُوْداً وَّعَلَىْ جُنُوْبِهِمْ}، أي: إنهم مستغرقون‏ كامل الاستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه ومبديه.

ولقد أشير -في هذه الآية- إلى الذكر أولاً، ثم إلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أن‏ ذكر الله وحده لا يكفي، إن الذكر إنما يعطي ثماره القيمة إذا كان مقترناَ بالفكر، كما أن ‏التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يجدى ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر، فما أكثر العلماء الذين يقفون -في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية- على مظاهر رائعة من النظام الكوني ‏البديع ولكنهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، بل ينظرون إليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة، فإنهم لا يقطفون من ‏هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإنسانية مثلهم في ذلك‏ مثل مَنْ يأكل طعاماً ليقوي به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.

س62:ماذا يعطي التفكير والتدبر في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض؟

ج:إن التفكير في أسرار الخليقة وفي نظام السماء والأرض يعطي للإنسان ‏وعياً خاصاً ويترك في عقله آثاراً عظيمة، وأول تلك الآثار هو الانتباه إلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه، فالإنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون ‏كيف يمكنه أن يصدق بأن الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف، ومصنوع من ‏دون غاية.

لو أننا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافاً واضحة فيها، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر وصمامات وأبواب وبطون، فكل شيء فيه مخلوق لغاية ومجعول لهدف، وكذا الحال في طبقات العين، بل وحتى الأجفان والأظافر، كل واحد منها يؤدي دوراً ويحقق غاية، فهل يمكن أن يكون‏ لهذه الأجزاء الصغيرة جداً بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات‏ ملحوظة، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف ‏مطلقاً؟ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}(2).

إن العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلا أن يقولوا بخشوع‏ هذه الجملة{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، أي:ربنا إنك لم تخلق هذا العالم العظيم وهو الكون الذي لا يعرف له حد، وهذا النظام المتقن البديع إلا على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيح، فكل هذا آية وحدانيتك، وكل هذا ينزهك عن اللغو والعبث(3).

لهذا يأتي الطريق الثاني هنا للدليل السمعي لوجوب المعرفة وهو من خلال‏ السنة الشريفة، ومن الجدير ذكره هو إن الكثير من الروايات والخطب والأدعية والزيارات تتضمن أدلة لوجوب المعرفة، ومنها في مقام بحثنا حيث يقول السيوري:(قال النبي(ص):ويلٌ لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها)، النبي‏(ص) يتوعد بالويل وأنت كما تعلم -قارئي الكريم- إن الويل كما ورد في‏ الروايات هو واد سحيقٌ في جهنم -نستجير بالله-.

النبي(ص) يتوعد على مَن لاك هذه الآية المباركة، يعني أنه لم تتجاوز فمه، ولم‏ تدخل إلى قلبه، إنما فقط تعلم قراءة هذه الآية وتعلم قواعد التجويد فيها، أي إنه لم ‏يتدبر فيها، قال تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا}(4).

نعم ويلٌ للذي لم يتدبر آيات القرآن الكريم التي تمثل برنامجاً للهداية الإلهية، والوصفة الطبية الشافية تماماً، والتدبر في القرآن هو ما تقتضيه فوائده الكثيرة، لأن‏القرآن لا يفيد إلا من عمل به، ولا يعمل به سوى الذي يتدبر فيه فيفهم.

بل إن التدبر في القرآن هو الوسيلة الوحيدة للعمل به، إذ أن الله تعالى أودع ‏كتابه ‏الكريم نوراً يهدي البشر إلى ربه العظيم، فيؤمن به، وبعد الإيمان يطبق شرائعه، من هنا ليس على الإنسان سوى أمر واحد هو الانفتاح على القرآن، واستعداد التفهم ‏له، وهذا يكون بالتدبر فيه.

يقول‏ الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُبينٌ يَهْدِيْ بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ ‏رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَىْ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(5).

إن القرآن ذاته نور، وليس علينا أمام النور إلا أن نفتح أبصارنا لنراه، ونرى به‏ الأشياء جميعاً، والتدبر في القرآن لا يعني تحميل آياته الكريمة آراء وأفكاراً إضافية، كلا، بل‏ التسليم لعلوم القرآن والتأمل في معاني آياته وتبصر الحياة عبرها، والسعي نحو فهم‏ حقائق الطبيعة، وآفاق النفس بها.

وهنا يكمن الفرق بين تفسير القرآن بالرأي الذي نهى عنه الدين أشد النهي، وبين التدبر في القرآن الذي أكّد عليه الدين أشد تأكيد.  وقد اختلط على البعض هذان الأمران، فحجب عن نفسه نور الفرقان زاعماً أنه‏ فوق مسَتواه.

بلى إن البشر لا يرقى إلى مستوى القرآن، ولكن شعاعه كما الشمس لا تزال‏ تشرق على العيون البصيرة، فمن احتجب عنه باتباع هوىً أو تفسير برأي فقد ضلّ‏ عنه، ومن سلم له وفرّغ قلبه من كل فكرة سابقة حين يقرأه فإن ‏الله يهديه ‏سواء السبيل.

يقول العلامة الطبرسي(ره) وهو يشرح الفرق بين التفسير بالرأي والتدبر في الذكر:(واعلم أن الخبر قد صح عن النبي(ص) وعن الأئمة القائمين مقامه(ع) أن‏ تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح، والنص الصريح، وروت العامة أيضاً عن‏ النبي(ص) أنه قال:(من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ)، قالوا وكره ‏جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعير بن المسيب وعبيدة السلماني ونافع ‏وسالم بن عبد الله وغيرهم، والقول في ذلك أن الله سبحانه ندب إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواماً عليه فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَنْبِطُوْنَهُ مِنْهُمْ}، وذم‏ آخرين على ترك تدبره والإضرار عن التفكر فيه فقال:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىْ ‏قُلُوْبٍ أَقْفَاْلُهَاْ} وذكر إن القرآن منزل بلسان العرب فقال:{إِنَّاْ جَعَلْنَاْهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}، وقال النبي(ص):(إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب ‏الله، فما وافقه ‏فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)، فبين أن الكتاب حجة ومعروض عليه وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى؟! فهذا وأمثاله يدل على أن الخبر متروك الظاهر فيكون معناه إن صحّ أن من حمل ‏القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل، ‏وقد روي عن النبي(ص) أنه قال:(القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على ‏أحسن الوجوه)، وروي عن عبد الله بن عباس أنه قسم وجوه التفسير على ‏أربعة أقسام:

1- تفسير لا يعذر أحد بجهالته.

2- تفسير تعرفه العرب بكلامها.

3- تفسير يعلمه العلماء.

4- تفسير لا يعرفه إلا الله عز وجل.

فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي‏ في القرآن وجمل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام، وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام ‏الساعة(6).

ويعتبر محل كلامنا من القسم الأول، أي إن الذي يترك التدبر في القرآن الكريم ‏يكون مذموماً، وبالتالي لا يكون مستحقاً للهداية الإلهية فلا نور في القلب، ولا شريعة في الحياة.

إن عقل الإنسان يتبع إرادته، فلو أراد الإنسان أن يفهم وأن يتدبر، لتحرك نحو أسباب الفهم ونحو أسباب التدبر، ولفتح عينه وسمعه وقلبه، ولبحث عن وسائل ‏المعرفة، أما الذي لا يريد أن يفهم، فإن عقله يُدس في تراب الجهل، ويخبت نوره إلى‏الأبد.

لهذا يقول السيوري:(إن المراد من التدبر يعني:النظر والاستدلال بما ورد في ‏الآية المباركة لإثبات أنها آيات لله سبحانه وتعالى، يعني الانتقال من الآية إلى ذي‏ الآية، الانتقال مما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والإتقان ‏والصُنع والعلم الموجود هنا، أن ننتقل إلى‏ الله سبحانه، أن ننتقل من هذا الصنع العجيب‏ والنظام الدقيق الموجود في عالم الطبيعة ونستدل بذلك على وجود الله سبحانه ‏وتعالى، وإذا لم تقم بهذا ولم تتدبر فلك الويل).

س63:ماذا يعني من قوله: إذا لم تقم بهذا ولم تتدبر فلك الويل؟

ج:يعني من الويل هو التوعد على العذاب لمن لم يستدل بهذه الآيات الكونية على وجود الله، فإن كان الإنسان مستحقاً للويل حال تركه فعلاً مطلوباً منه إنجازه، فهل يكون الفعل حينئذٍ واجباً أو ليس بواجب؟! من الواضح أنه واجب.

ونذكر مثالاً آخر للتوضيح:لو قال المولى لعبده:ويلٌ لك إن لم تأتي لي بالماء، فهذا الإنسان إذا لم يأتي بالماء وهو واجبٌ عليه، لاستحق الويل ولاستحق العقاب من مولاه لأنه لم يلتزم بقرار مولاه وهو الإتيان بالماء، وهنا أيضاً -أي في محل بحثنا- النبي(ص) يقول:(مَنْ لم ‏يتدبر هذه الآية، وفسر الشارح التدبر بأي معنى؟ طبعاً بالنظر والاستدلال لإثبات‏ وجود الله، يعني مَن لم ينظر ولم يستدل بالآيات الطبيعية والكونية لإثبات وجود الله ‏سيكون مستحقاً حينئذٍ للويل.

إذن يكون النظر والاستدلال لإثبات وجود الله تعالى، ولرفع الملامة والويل ‏واجباً.

س 64: ما هو التطبيق لهذا البحث المتقدم للسيوري مع التوضيح؟

ج:قال السيوري:(رتّب -أي النبي(ص)- الذّم على تقدير عدم ‏تدبرها، أي على تقدير عدم تدبر هذه الآيات، وما هو المراد من التدبر؟ قال:أي ‏عدم الاستدلال بما تضمّنته الآية، وأي شي تضمنته الآية؟ طبعاً عن ذكر الأجرام السَّماوية والأرضيّة بما فيها من آثار الصُّنع والقُدرة والعلم بذلك(كل هذه)الدّالة على وجود صانعها، وقدرته -أي وقدرة هذا الصانع- وعلمه -أي وعلم هذا الصانع-، إذن فيكون النظر والاستدلال واجباً، لأنه لو لم يتدبر فإنه ‏يستحق الويل، ومن الواضح أنه إذا كان مَن لم يتدبر يستحق الويل، إذن التدبر يكونُ ‏واجباً وهو المطلوب).

س65:مِن الاستفهامات التي تثار لدى المتدبر الواعي هذا السؤال:

وهو:كيف خُلقت السماوات والأرض وهي لا تزال تخلق وتتطور حسب خطة حكيمة وإرادة مطلقة ويد قوية؟

وما هذا الليل الذي يلف الكون بظلامه وسكونه؟

وما هذا النهار الرائع الصاخب؟

ومَن يسلخ النهار من الليل، فيغرق الكون في بحر من الهدوء والظلام؟

ج:لاشك ولا ريب بأن هذه الاستفهامات تمثل حقائق تثير عقول الذين‏ ينفذون إلى لب الحياة، وما وراء قشورها من أنظمة وأهداف، {إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَاْوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَيْلِ وَالنَّهَاْرِ لآيَاْتٍ ‏لأُوْلِيْ ‏الأَلْبَاْبِ}.

إن هؤلاء أصحاب العقول النيرة، يعرفون ربهم في أول نظرة إلى الحياة، ولا يرون ظاهرة في الحياة، إلا ويذكرون ربهم لأنهم يعبرون فوق جسر الظاهرة بسرعة، ويصلون إلى الحقيقة التي تقول إن ‏الله هو خالق هذه الظاهرة ومدبرها الآن، والذي يطورها من حال لحال ومن عظمة لأخرى.

من هنا فإن الهدف الأسمى لجميع المفكرين والفلاسفة هو تفسير الظاهرة الكونية بنحو فلسفي وعلمي، وقد طرحت في هذا المجال تفسيرات ونظريات عديدة تبلغ خمساً هي:

1- نظرية التدبير والتقدير والخلق، أو ما تسمى بنظرية الإلهيين.

2- نظرية الخياليين، أو ما يعبر عنها بنظرية خيالية الكون.

3- نظرية الصدفة.

4- نظرية الخاصية، أو ما يعبر عنها بنظرية خاصية المادة.

5- نظرية المادية الديالكتيكية.

س66:ماذا يقصد من نظرية التدبير والتقدير والخلق؟

ج:هذه النظرية ترى أن العالم بمادته وصورته مخلوق لقوة عالمة قادرة، هي‏التي أوجدته وأخضعته لهذه النواميس والقوانين، وأن تلك القوة وذلك الموجود العالم القادر هو الله سبحانه الذي خلق فسوى وقدر فهدى.

وهذا هو ما ظل يتبناه الإلهيون في مختلف العصور والأزمنة.

س67:وماذا يقصد من نظرية الخياليين؟

ج:يقصد من هذه النظرية أن العالم خيال في خيال، ووهم في وهم، فلا أصالة للكون ولا وجود له أبداً، أو أن الإنسان لا يقدر أن يصل إلى درك هذا العالم ‏وواقعيته.  وهذه هي النظرية التي يتبناها الخياليون الذين سموا خطأً بالمثاليين.

س68:وماذا يقصد من نظرية الصدفة؟

ج:يرى أصحاب هذه النظرية أن المادة قديمة في وجودها، وأن صورها وأشكالها تحققت بالصدفة دون دخالة أي عقل وشعور.

س69:وماذا يقصد من نظرية الخاصية؟

ج:يعتقد أرباب هذه النظرية أن النظام الكوني العام وليد خاصية المادة، وهذا يرجع في مصطلح القوم إلى المادية الميكانيكية.

س70:وماذا يقصد من نظرية المادية الديالكتيكية؟

ج:يذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن النظام السائد في الكون جاء نتيجة التضاد الديالكتيكي الموجود في أجزاء الكون المحرك نحو هذا النوع من النظام.

وهذه النظريات الثلاث الأخيرة تشترك في الاعتقاد بقدم المادة وأزليتها، ولكنها تختلف في بيان تحقق الصور والأنظمة السائدة في الكون.

س71:ماذا تعرف عن مظاهر النظام السائد في عالم الفضاء؟

ج:الحقيقة أن نظرة فاحصة في شتى أرجاء الكون ومجالاته وأنحائه تكشف لناعن مظاهر للنظام المتقن، والتصميم الدقيق، والمحاسبة والدقة، وهذا ما سنعرفه من‏خلال ما قدمته لنا العلوم في مختلف مجالات الفلك وعالم الأنجم والكواكب.

فعالم الفضاء عالم عجيب، فإلى أين يمتدّ بنجومه ومجراته العظيمة؟ مع كل ما اكتشفه إنسان اليوم، وما سيكتشفه في الغد، ستبقى الحيرة والتساؤل لا تفارقانه أبداً، لأن الكون أعظم مما يتصوّره الإنسان، والأسرار التي تحيط به أسرارٌ لا نهائية.

ومهما طالت رحلة الإنسان في الكون، ومهما قطع من مسافات نائية في أعماقه، فلن يكون قد ابتعد كثيراً عن أرضه، وكأنه قطع بضعة أمتار عن شاطئِ محيط عظيم.

فعلم الفلك الحديث يقول:بأن مجرتنا تتألف من عدد هائل من الأنجم ‏والكواكب التي يبلغ حجم متوسطها حجم الشمس، ويقدّر عدد نجومها بمائة ألف ‏مليون نجم تقريباً.

وإن النجوم أنفسها تشبه الشمس شبهاً كبيراً، وبعدها الشاسع وحده هو الذي‏ يجعلها تبدو خافية وخافتة النور.

وإن لعدد كبير من هذه النجوم كواكب تدور حولها، وعدد كبير من هذه‏ الكواكب يجب أن يكون على البعد الصحيح من نجمه بحيث تنشأ عليه أحوال كتلك‏ التي نعرفها على الأرض.

وتقع ضمن هذه المجرة منظومتنا الشمسية التي تتكون من الشمس كمركز، ومن‏ كواكب تسع تدور حولها ويدور حول كل واحد منها كوكب أو كوكبان أو أكثر إلى10 كواكب، وقد لا يدور حول بعضها شي مطلقاً.

والكواكب التي تدور حول الشمس هي بالترتيب من الأقرب إلى الأبعد(عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون بلوتو).

وما يلفت النظر في هذه المنظومة أمور:

أ- عظمة هذه الكواكب والأنجم، وعظمة الشمس نفسها.

ب- الفواصل الدقيقة والحركات المنتظمة.

وهذا يقتضي أن نتحدث عن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل‏ والنهار.

س72:ما هو المراد من السماوات؟

ج:لكي نعرف مقصود القرآن الكريم من التعبير بالسماوات والأرض لابُدّ لنا من دراسة الآيات التي تشير إلى ماهية السماء والأرض، فهل السماء بمعنى الجهة العليا والأرفع، أي بمعنى الفوق؟ أم هي بمعنى الموجود العالي والرفيع كما يبدو من ‏أصل اشتقاق هذا اللفظ الذي هو السمو؟

الظاهر أن القرآن الكريم لم يستعمل لفظ السماء بمعنى الفوقية والجهة العليا، وقد تطلق السماء مجازاً أو تسامحاً ويراد بها الجهة العليا أو الفوق، ولكن كلمة السماء ليست هي بمعنى الفوق لأن الفوق لا يجمع، والجهة العليا لا تتعدد، وما يتبادر إلينا من الفوق لا يدل على ذات ما، بينما نلاحظ أن القرآن الحكيم قد استعمل ‏أولاً:السماء كثيراً بصورة الجمع، ثانياً:قد ذكر السماء بعنوان أنها موجود حقيقي ‏وذات واقعية، لا أنها جهة فحسب(7).

وبتعبير ثانٍ:إن السماء هي:كل شي‏ء علا شيئاً آخر فهو بالنسبة له سماء أو سقف، فكل شيء علانا في الكون هو بالنسبة لنا سقف أو سماء.

فكلمة (سماء) وردت في القرآن بمعانٍ مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، واقتران ‏كلمة (سماء) مع (بناء) يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض، بل‏ إن القرآن صرح بكلمة (سَقْف) في بيان حال السماء إذ قال:{وَجَعَلْنَاْ السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوْظاً}(8).

ولعل هذا التعبير القرآني يشير إلى استغراب أولئك الذين يفهمون موقع‏ الأرض في الفضاء فيتساءلون عن هذا السقف، عن مكانه وكيفيته، ولعل هذا التعبير يعيد -بادي الرأي- إلى الأذهان فرضية بطلميوس التي تصور الكون على أنه‏ طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البصل!! من هنا لا بدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.

ذكرنا إن سماء كل شي أعلاه، وأحد معاني السماء (جو الأرض)، وهو المقصود في الآية الكريمة، وجو الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدة مئات من الكيلومترات.

لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع‏ وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض، لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك‏ السماوية المتناثرة، ولَمَا كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب وهذه ‏الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدة مئات من الكيلومترات كما تذكر الكثير من‏ الكتب إن سمك الجو المحيط بالأرض يبلغ مائة كيلومتر، ويبدو أن المقصود بهذا السمك هو الطبقة الجوية الكثيفة، لأن العلم الحديث أثبت أن الهواء موجود بشكل ‏رقيق متباعد الجزئيات على بعد مئات الكيلومترات، فهذه الطبقة تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جداً من هذه الصخور تستطيع أن‏ تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.

من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو (جو الأرض) حديث عن ‏الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) يتحدث فيه إلى المفضل عن السماء فيقول:(فكِّرْ في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان ‏موافقةً للبصر وتقويةً)(9).

ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلا لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض، ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.

وأضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا إِلَىْ الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ ‏فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ}(10)، فكلمة (سماء) تشير إلى جهة عليا، ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة، ولذلك ‏كان لها استعمالات عديدة -إضافةً لما تقدم- في القرآن الكريم:

1- أطلقت أحياناً على الجهة العليا المجاورة للأرض كقوله تعالى:{أَلَمْ ‏تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَّفَرْعُهَا فِيْ‏ السَّمَاءِ}(11).

2- وعنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض:{وَنَزَّلْنَا مِنَ‏ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً}(12).

3- وأراد القرآن بالسماء في موضع آخر الكرات العليا:{ثُمَّ اسْتَوَىْ إِلَىْ السَّمَاْءِ وَهِيَ دُخَانٌ}(13)،(14).

س73:ما هي عظمة السماوات؟

ج:إن عظمة السماوات تعتبر آية من آيات الله سبحانه لما فيها من تعبير عن ‏قدرته القصوى التي لا حدّ لها.

قال تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُواْ إلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوْجٍ}(15).  والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسقها وجمالها واستحكامها ونظمها ودقّتها.

والمراد بجملة {وَمَاْ لَهَاْ مِنْ فُرُوْجٍ} أي لا انشقاق فيها، إما أن يكون بمعنى عدم ‏وجود النقص والعيب والاضطراب كما ذهب إليه بعض المفسرين، أو أن يكون معناه ‏عدم الانشقاق والانفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبر عنها بالغلاف الجوي للأرض أو ما يعبر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في‏ سورة الأنبياء(ع) الآية(32)، إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشُهب التي تهوي‏ باستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل إلى شعلةٍ فرمادٍ، كما أنها تحجب أشعتها الضارّة، وإلا فإن السماء معناها الفضاء الواسع الذي‏ تسبح فيه الأجرام الكرويّة المعروفة بالنجوم.

ويوجد هنا أيضاً احتمالٌ ثالثٌ وهو أن الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود الأثير، وطبقاً لهذه النظرية فإن جميع عالم ‏الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ‏ما بين النجوم مليء من مادة عديمة اللون والوزن تُدعى بالأثير وهي تحمل أمواج ‏النور وتنقلها من نقطة لأخرى، وطبقاً لهذه النظرية فإنه لا وجود لأية فرجة ولا فجوة ولا انشقاق في عالم الإيجاد والخلق وجميع الأجرام السماوية والكواكب‏ السيارة تموج في الأثير!

وبالطبع فإنه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي ‏تعتمد على فرضية الأثير لا يُعوّل عليها ولا يمكن الركون إليها، لأن موضوع الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعية عند جميع العلماء للآن!(16)

س74:ما هي النيازك والشهب كما جاءت في الجواب السابق؟

ج:يتم الجواب عن هذا السؤال من خلال البحث العلمي مصدرين له بآية قرآنية كريمة:

قال تعالى:{إِنْ نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ‏ السَّمَاءِ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}(17).

حتى القرن الثامن عشر رفضت بعض الجمعيات العلمية حقيقة سقوط قِطع من ‏السماء على الأرض، فأكاديمية العلوم في (باريس) ألقت في القمامة مجموعة كبيرة من النيازك كانت بين مقتنياتها، اعتقاداً من أعضائها بأن هذه النيازك ليست‏ إلا حجارة مجموعة من الأرض، إلى أن جاء العالِم (بيو-802م) فاتبع ‏أساليب علمية وتحقيقات شخصية مطوّلة أكد بعدها أن هناك قطعاً تتساقط فعلاً من ‏السماء، فالأرض تتعرض لقصف مستمر بقطع مختلفة التركيبة والأحجام والأشكال ‏مصدرها السماء، الصغير منها يحترق ويتفتت خلال اختراقه الغلاف الجوي للأرض‏ فيصلها رماداً وغباراً، وهذه القطع الصغيرة تسمى بالشُّهُب، وأما القطع الكبيرة التي ‏تصل إلى سطح الأرض فتسمى بالنيازك التي يُحدث بعضها تدميراً وحرائق هائلة، فبعض النيازك يزن عشرات الأطنان كالذي ضرب صحراء (الأريزونا) منذ أربعين ألف سنة تقريباً وترك في سطحها فجوة أي:حفرة بقطر 1295متراً، وعمقها 147متراً، وقد أصبحت من المعالم السياحية في الولايات المتحدة الأمريكية(18).

س75:ما لهدف من وجود النجوم في السماء؟

ج:قد تسمع عن الكواكب التي يتخذها فئات من الناس معبوداً من دون‏ الله، إمّا لما يرون من اعتقادهم أن ظهورها وغيابها يؤثّر في حياة البشر، أو لانبهارهم‏ بروعتها، فإنّ القرآن يوضح دورها في السماء فيقول:

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ}(19)، وهنا نكتة أحب الإشارة إليها وهي:إن الكواكب هنا بدل من الزينة، ويحتمل كونها عطف بيان، والزينة هنا اسم ‏مصدر وليست مصدراً، حيث جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن ‏المعرفة فيجب مرافقتها بوصف، وفي حالة العكس فإن الأمر غير واجب.

والآن نرجع لمحل بحثنا فنقول:

لو رفع أحدنا ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة، لتجسم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان، وكأن السماء تتحدث معنا بلسانها الصامت، لتكشف لنا عن أسرار الخلق، وأحياناً تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية، وإغماضها وتواريها، ومن ثم إبراقها ولمعانها، يوضح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق ‏والمعشوق.

حقاً إن منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تمل أي عين من طول النظر إليه، بل إن النظر إليه يزيل التعب والهم من داخل الإنسان، ومما يذكر أن أبناء المدن التي ‏يغطيها دخان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي.

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ} في ‏حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكرين هي أن ‏السماء العليا هي التي تضم الكواكب -أي السماء الثامنة طبقاً لفرضيات بطليموس-.

وكما هو معروف فإن العلم الحديث دحض تلك الفرضيات، وعدم اتباع القرآن ‏كما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حية للقرآن ‏الكريم كتاب ‏الله.

والنقطة الأخرى التي تلفت النظر هي أن تواري نور الكواكب الجميل وظهور بريقه مرة أخرى يعود -من وجهة نظر العلم الحديث- إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض، التي تعطي ألواناً للنجوم أيضاً، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصت عليه ‏الآية الكريمة {السَّمَاْءَ الدُّنْيَا}، أما في خارج جو الأرض فإن النجوم تبدو معتمة وليس لها أي بريق، على ‏عكس ما يشاهد داخل جو الأرض،. وقال تعالى: {وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ}(20).

فإن هذه الآية الكريمة تدل على أنَّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى، وتبدو في ‏نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء، وهي ليست للزينة وحسب، حيثُ تجذب بتلألئها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة، وإنما هي في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق، تُعينهم على تعيين اتجاه الحركة(21).

إن نظرة متأملة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جو السماء المليء بالنجوم ‏كاف لإثارة الانتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة، وخاصة طبيعة النظم الحاكمة عليها، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم، مما يجعل الإنسان أمام عالم ملي‏ء بالمعرفة ونور الحق، ويدفعه باتجاه عالم عشق البارئ عزَّ وجلَّ، والذي لا يمكن وصفه ‏والتعبير عنه بأي لسان.

س76:ما هي النجوم الثابتة أو السيارة؟ وما لهدف من ذلك؟

ج: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوْا بِهَا فِيْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاْتِ لِقَومٍ يَّعْلَمُونَ}(22)، تشير هذه الآية إلى نعمة أخرى من نعم ‏الله على البشر، فجعل للنجوم مواقع ‏ثابتة، وذلك للاستهداء بها في ليالي البر والبحر، وهذا الاهتداء يتم ببركة ثباتها، وبأنها دليل على وجود ثبات في سنن الكون، بالرغم على ما في السماء من كواكب ‏سيارة كدوران الشمس والقمر، فلاشك ولا ريب يتضح لأهل الفكر والفهم‏ والإدراك أن للكون أنظمة بالغة الدقة.

ومنذ آلاف السنين والإنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها، وعلى الرغم من‏ تقدم البشر في هذا المضار تقدماً كبيراً، فإنّه ما يزال يتابع وضع النجوم قليلاً أو كثيراً، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الاتجاه في الأسفار البرية والبحرية، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إمارة تشير إلى الاتجاه قبل اختراع الإسطرلاب.

إنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إلى ‏بر السلامة.  لو تطلعنا إلى النجوم عدة ليال متوالية لانكشف لنا أنّ مواضع النجوم في السماء متناسقة في كل مكان، وكأنها حبات لؤلؤ خيطت على قماش أسود، وإنّ هذا القماش‏ يسحب باستمرار من الشرق إلى الغرب، وكلها تتحرك معه وتدور حول محور الأرض، بغير أن تتغير الفواصل بينها، إنّ الاستثناء الوحيد في هذا النظام هو عدد من الكواكب السيارة التي لها حركات مستقلة وخاصة، وعددها ثمانية، خمسة منها تُرى بالعين المجردة وهي:(عطارد والزهرة وزحل والمريخ والمشتري)، وثلاثة لا ترى إلا بالتلسكوب وهي:(أورانوس ونبتون وبلوتو)، بالإضافة إلى كوكب ‏الأرض الذي يجعل المجموع تسعة.

ولعل إنسان ما قبل التاريخ كان يعرف شيئاً عن الثوابت والسيارات لأنه لم ‏يكن هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من السماء المرصعة بالنجوم في ليلة ظلماء، فلا يستبعد أن يكون هو أيضاً قد أستخدم النجوم في الاستهداء ومعرفة الاتجاه.

ومن الجدير ذكره هنا وكما يستفاد من بعض روايات أهل ‏البيت(ع) أنَّ لهذه‏ الآية تفسيراً آخر، وهو أنّ المقصود بالنجوم القادة الإلهيين والهداة، إلى طريق ‏السعادة أي الأئمة(ع) الذين تهتدي بهم الناس في ظلام الحياة فينجون من الضياع، طبعاً وكما يقول المسفرون إن هذه التفاسير المعنوية لا تتنافى مع التفاسير الظاهرية، ومن الممكن أن تقصد الآية كلا التفسيرين(23).

س77:ما هو المراد من بروج السماء؟

ج: قالوا في أصل معنى البروج:هو الظهور.  وتطلق على القصور، وسميت‏ بالقصور لأنها ظاهرة لعلوّها من ناحية البناء، وجاء في مفردات الراغب: ثوبٌ‏ مبرّج صوّرت عليه بروج فاعتُبِر حسنُه، وقيل تبرجت المرأة أي تشبّهت به في ‏إظهار المحاسن، وعلى ذلك تكون بروج السماء هي الأجرام والمجرّات الضخمة الظاهرة في الآفاق، كما في قوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوْجِ}(24).

ويبدو أن المراد منها هو ما نشاهده من النجوم المتلألئة ليلاً في القبة السماوية، ولذا نقرأ فيما روي عن النبي الأكرم(ص) أنّه حينما سئل عن تفسير الآية قال:(الكواكب)(25).

يقول أحد الحكماء إن التأمل في النجوم علاج للهموم، لأننا نشعر بضآلة عالمنا وتفاهة همومنا بالنسبة لهذا الكون الفسيح، فنحن معشر البشر نعيش على سطح ‏كوكب صغير يدور حول نجم الشمس، والشمس نجم متوسط من بلايين البلايين من ‏النجوم التي توجد في بلايين المجرات في هذا الكون، وبهذا فإن الأرض وما عليها من‏ حياة ما هي إلا قطرة في محيط لا نهائي.

وإذا نظرنا إلى السماء في المناطق الصافية والليالي المظلمة التي يختفي فيها نور القمر فإننا سوف نشاهد منظر النجوم وهي ترصع السماء فنتأمل في جمالها ونظامها وتجمعاتها وألوانها، فهذه مثلاً نجمة فريدة تتلألأ هناك كأنها عين جميلة تعبر عن المحبة والوفاء، وهاتان النجمتان المنفردتان في ركن آخر من السماء وقد هربتا من الزحام بعيداً عن جمهرة النجوم، وهذه المجموعات النجمية التي نسميها البروج‏ تتجمع فيها النجوم كأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء وتمثل بروجاً مختلفة الأشكال تزين السماء في الفصول المختلفة وصدق تعالى بقوله:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِيْ السَّمَاءِ بُرُوْجاً وَّزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}(26).

ولو تأملت القبة السماوية طويلاً لوجدت النجوم كلها تفعل كما تفعل الشمس‏، فهي تشرق وتغرب كل يوم وكأن قبة السماء تدور فوق رأسك من مشرق إلى ‏مغرب! وإن النجوم التي تغرب عنك تشرق على قوم آخرين من الكرة الأرضية، ولكن الحقيقة أن القبة السماوية بنجومها لا تدور من مشرق إلى مغرب، ولكنك أنت‏ نفسك تدور بك الأرض مرة كل يوم من الغرب إلى الشرق فتبدو لك كل أجرام ‏السماء وكأنها تتحرك ظاهرياً في الاتجاه المضاد تماماً، كتحرك الشجر عندما تنظر إليه ‏من شباك القطار، وهناك شيء آخر -قارئي الكريم- وهو تغير منظر توزيع النجوم ‏في السماء ليلاً باستمرار على مر الليالي أثناء السنة، وذلك عند النظر إليها من أي‏ مكان على الأرض، والحقيقة إن تغير أشكال البروج لا يعبر عن تحركها وإنما يرجع ‏إلى تحرك الأرض بدورانها حول الشمس مرة كل عام، وبهذا فإننا ندور معها ونستعرض في السماء بروجاً مختلفة على مدار السنة تماماً كما يستعرض لاعب ‏السيرك نماذج مختلفة من الناس أثناء دورانه على محيط الملعب، وصدق تعالى بقوله:{وَالسَّمَاءَ ذَاْتِ الْبُرُوْجِ}.

ولقد تمكن القدماء من رؤية حوالي 6000 نجم بالعين المجردة بينما تمكنت‏ الوسائل الحديثة من رصد بلايين البلايين من النجوم، ولكن القدماء تصوروا أشكالاً معينة لتجمعات آلاف النجوم التي رأوها بالعين وأعطوا لهذه الأشكال التي ‏تمثل البروج أسماء تتمشى مع مهنة الرعي والزراعة التي كانت سائدة قديماً وقسموها إلى اثني‏ عشر برجاً بعدد شهور السنة تبدأ بظهور برج الحمل في 21 مارس وبعد شهر يأتي برج الثور، وهكذا كل شهر برج بالترتيب التالي:

(الحمل، الثور، التوأمان، الجوزاء، السرطان، الأسد، العذراء، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت).

وهذه الأسماء يجمعها قول الشاعر:

 

حمل الثور جوزة السرطان

                        ورعى الليث سنبل الميزان

 

ورمحت عقرب بقوس لجدي

                        نزح الدلو بركة الحيتان

 

 

س78:كما أنه لهذه البروج أسماء، فكيف يمكننا أن نميز مجموعات نجمية أو ما يسمى بالكوكبات ذات أشكال مختلفة وأسماء متعددة على مر الفصول الأربعة؟

ج:نستطيع تمييز ذلك من خلال كل فصل كالتالي:

ففي الربيع:مجموعة الدب والأسد والغراب وغيرها.

وفي الصيف:مجموعة الدجاجة والعقرب والمثلث الصيفي والقوس والجاثي ‏وغيرها.

وفي الخريف:مجموعة مربع الفرس الأعظم الذي تنتمي نجومه إلى كوكبات‏ المرأة المسلسلة وذوات الكراسي والحمل.

وفي الشتاء:مجموعة الجبار وغيرها.

هذا بالإضافة إلى المجموعة القطبية التي تظهر في جميع الفصول وتظهر فيها كوكبات ذات الكرسي والدب الأكبر والدب الأصغر والتنين وذلك في منطقة القطب الشمالي.

س79:كيف نجابه المنكرين للنعم الإلهية العظمى من خلال منظار حسي؟

ج:يمكننا مجابهتهم بأمر بسيط يستدعي الالتفات إليه دون صعوبة أو تكلف ‏وهو أن نقول لهم:انظروا إلى السماء لحظةً وفكروا في الدعوة الإلهية حيث يقول تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُواْ إلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَهَا مِنْ ‏فُرُوجٍ}(27).

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسقها وجمالها واستحكامها ونظمها ودقّتها، فهاهو القرآن ينادي بكل وضوح، يا أيها الضالون في وادي الغفلة ألا تتفكرون تفكراً يصحبه التأمل والدراسة؟! {وَإِلَىْ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}(28)، نعم إلى السماء التي حيّرت العقول بعظمتها وعجائبها وما فيها من نجوم وما لها من بهاء وروعة، السماء التي يتصاغر وجود الإنسان أمامها ليعد لا شيء ‏بالنسبة لها، السماء التي لها من دقة التنظيم والحساب الدقيق ما بهر فيه ‏عقول العلماء المتخصصين.

ألا ينبغي للإنسان أنْ يتفكر في أمر مدبر هذا الخلق، وما الأهداف الموجودة من ‏خلقه؟! فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة؟ وما هو سرّ استقرارها في ‏أماكنها وبكلِّ هذه الدقة؟ ولِمَ لَمْ يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين‏ عليها؟!!!

ومع تطور الاكتشافات العلميّة الحديثة، نرى أنّ عالم السماء وما يحويه يزداد عظمةً وجلالاً بدرجات ملموسة نسبة إلى ما كان عليه قبلاً، مع كلِّ هذا وذاك، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير، والخضوع‏ والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!(29).

ولا شك ولا ريب أن السماء تعتبر من أهم الهبات التي منحها الله سبحانه، والسماء سواءً كانت بمعنى جهة العلو أو الكواكب السماوية أو جو الأرض -والذي يعنى الطبقة العظيمة من الهواء والتي تحيط بالأرض كدرع يقيها من الأشعة الضارة والصخور السماوية وحرارة الشمس، وكذلك من الرطوبة الناتجة من مياه ‏البحر لتتكون الغيوم وتنزل الأمطار- إن كل واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.

نعم إن النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من ‏السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً من هنا فإن للسماء في القرآن الكريم مفهوماً مادياً ومعنوياً.

وإذا تجاوزنا كل هذه الأمور، فإن للسماء المرفوعة آية عظيمة من آيات الله، وهي أفضل وسيلة لمعرفة الله سبحانه وذلك عندما يفكر أولو الألباب‏ بدون تعقيد، {رَبَّنَا مَاْ خَلَقْتَ هَذَاْ بَاْطِلاً}(30)،(31).

إلى هنا نختم حديثنا المختصر والسريع حول السماء وبعض عجائب خلقها، ونحول البحث الآن للتحدث عن أحد كواكبها ألا وهو كوكب الأرض، فهيا -عزيزى القارئ- لنعرف بعض أسرار هذا الكوكب الذي نعيش عليه بقدر طاقتنا المتواضعة، ولنعرف ما تم اكتشافه من قبل العلماء الجيولوجيين عنه حتى هذا التاريخ، فإلى المعلومات الهامة المتوفرة التي تتيح لقارئي الكريم أن يزيد في معلوماته وبحوثه ‏حول هذا الموضوع.

س80:متى كان منشأ الأرض؟

ج:نمهد للجواب عن هذا السؤال من خلال القرآن الكريم حتى يتجلى لنا ما هو المراد من نظرية الانفجار الكبير،قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقَاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُوْنَ}(32)،(33).

لقد ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة فيما هو المراد من الرتق والفتق المذكورين هنا في ‏شأن السماوات والأرض، ويبدو أن الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير، وهي -كما سنقول- يمكن أن تجمع في مفهوم الآية(34).

1- إن رتق السماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة، ونقصد منه هو حدوث‏ الانفجار الكبير، إذ يرى أكثرية علماء الكون اليوم على أن السماوات والأرض كانتا في البدء أي منذ ستة عشر مليار سنة تقريباً كتلة بدائيّة واحدة هائلة الحرارة والضغط، انفجرت انفجاراً هائلاً فَتَّتَ أجزاءها وشتَّتَها ولا يزال يباعد بينها حتى‏اليوم، ومع مرور مليارات السنين بردت تلك الأجزاء فتألّفت منها الغيوم الكونيّة أو السُّدم، حيثُ وُلِدَتْ لاحقاً النجوم والكواكب، هذا بصورة مختصرة ما جاءت‏ به ‏نظريّة الانفجار التي قال بها العالِم (جورج غاموف)، وهو عالِمٌ أمريكي من ‏أصل‏ روسي وكان قوله في سنة (1940 م) أي قالها هذا العالم الكبير في النصف الأول من القرن العشرين، وفي عام (1964) اكتشف العالِمان (بانزياس) و(ويلسون) موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الميزات الفيزيائية في أي مكان سُجّلت فيه، فأسميت بالنور المتحجر أو النور الأحفوري، وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة ومن بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني ‏التي تلت نشأة الكون، وهذا الاكتشاف للنور الأحفوري مع اكتشاف توسع الكون في سنة (1929 م) شكّلا حجر الزاوية في البناء العلمي لنظرية الانفجار الكبير، وفي‏ سنة (1986 م) أرسلت المحطات الفضائية التي أطلقها الاتحاد السوفييتي معلومات‏ تؤيد نظرية الانفجار الهائل وتوسع الكون الذي نتج عنه.

واليوم يُجمع أكثر علماء الفلك على القول إن نظرية الانفجار الكبير لم تعد نظرية بل هي حقيقة علمية، أما الأقلية التي عارضتها سابقاً فهي مجموعة من العلماء المادّييّن في معتقداتهم، ربما لأن الإقرار علميّاً بحقيقة بدء الكون وتوسعه تعارض مع ‏معتقداتهم القائلة بأزلية المادة وقدم العالم، فعندما يثبت العلم أن للكون بداية فذلك‏ يعني أن له نهاية وأنه مخلوق وليس أزلياً كما ظن الماديون.

أما في القرآن الكريم فالآية التي تقول إن السماوات والأرض كانتا في البدء كتلة واحدة فواضحة لا تتطلب إلا بعض التعليق اللغوي على معنى رتق وفتق، فكلمة رتق تعني ضمّ وجمع، وكلمة فتق تعني فصل، أي إن السماوات ‏والأرض كانتا مجموعتين ففصلهما المولى.

فلاحظ هنا البلاغة العلمية الإعجازية في كلمتي رتق وفتق، فكل رَتْق ‏قابل للفَتْق، وكل فَتْق قابل للرَّتقْ، والسماوات والأرض ستعودان كما كانتا عند قيام‏ الساعة، كما أنبأنا التنزيل وكما يفترض علماء الكون اليوم(35).

من هنا فقد نشأت الأرض منذ أربعة مليارات سنة ونصف تقريباً في غيمةٍ كونيّة جزئيّة انفصلت عن الكتلة البدائيّة ثم تحولت لاحقاً إلى مجرة سمِّيت بالمجرة اللبنيّة أو درب اللبانة التي يتبع لها نظامنا الشمسي، والتي تحتوي على مئة مليار نجم ‏وكوكب، منها الشمس والأرض وبقيّة الكواكب، علماً أنه من الكتلة البدائيّة تكوّنت‏ لاحقاً مليارات المجرّات التي تحتوي الواحدة منها على عشرات الملايين وحتى‏ آلاف المليارات من النجوم والكواكب.

أمّا عن كيفية تَكَوُّنِ الأرض فتشير الدِّراسات الجيولوجيّة -أي علوم الأرض‏ أو علم تكوين طبقات الأرض وعلم الغلاف ‏الجوّي والأحوال الجوّيّة، وعلوم المياه والبيئة الأرضيّة - إلى أنّها -أي الأرض- ‏نشأت من أجرام سماويّة صغيرة سمّوها بالكويكبات، تجاذبت‏ وتصادمت ثم اجتمعت بفعل قوة الجاذبيّة التي تربط بين الأشياء الكبيرة الحجم‏ والثقل، أمّا أصل الكويكبات فيرجع إلى الكتلة البدائية الأولى التي نشأ منها الكون، وما الفجوات العديدة المنتشرة حتى اليوم على سطح الكرة الأرضيّة، وما النيران‏ والحمم المشتعلة في باطنها إلا من الدلائل العلميّة التي تؤيد هذه النظريّة العلميّة في ‏تكون الأرض.

2- إن المراد من الرتق هو كون مواد العالم متحدة، بحيث تداخلت فيما بينها وكانت تبدو وكأنها مادة واحدة، إلا أنها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان، فأوجدت تركيبات جديدة، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات ‏والموجودات الأخرى في السماء والأرض، موجودات كل منها نظام خاص وآثار وخواص تختص بها، وكل منها دلالة ومثل من عظمة الله، وعلمه وقدرته ‏غير المتناهية(36).

3- إن المراد من رتق السماء هو أنها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من رتق ‏الأرض أنها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلا أن ‏الله سبحانه فتق الاثنين، فأنزل من السماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات، والروايات المتعددة الواردة عن طرق أهل‏ البيت(ع) تشير إلى المعنى الأخير، وبعضها يشير إلى ‏التفسير الأول(37).

لاشك أن التفسير الأخير شيء يمكن رؤيته بالعين، وكيف أن المطر ينزل من‏ السماء، وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات، وهو يناسب تماماً قوله تعالى:{أَوَ لَمْ ‏يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا}، وكذلك ينسجم وقوله تعالى{وَجَعَلْنا مِنَ الْمَاءَ كُلَّ شَيْءٍ‏ حَيٌّ}، إلا أن التفسيرين الأول والثاني أيضاً لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية، لأن ‏الرؤية تأتي أحياناً بمعنى العلم، صحيح أن هذا العلم والوعي ليس للجميع، بل إن‏ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض والسماء، واتصالهما ثم انفصالهما، إلا أننا نعلم أن القرآن ليس كتاباً مختصاً بعصر وزمان معين، بل هو مرشد ودليل للبشر في كل القرون والأعصار.

من هذا يظهر أن له محتوى عميق يستفيد منه كل قوم وفي كل زمان، ولهذا نعتقد أنه لا مانع من أن يكون للآية التفاسير الثلاثة، فكل في محله كامل وصحيح، وكما يقال:إن استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى لا مانع منه فحسب، بل قد يكون ‏أحياناً دليلاً على كمال الفصاحة، وإن ما نقرؤه في الروايات من أن للقرآن بطوناً مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى(38).

بعد هذا الاستعراض الموجز لوجود الكرة الأرضية، ندعو القارئ الكريم لرحلة قرآنية من خلال الآيات العظيمة التي تأخذ بالأنظار الواعية وتشد الانتباه ‏إلى ظواهر أرضية مختلفة أكثرها يحدث يومياً وترى في كل لحظة، فقليل منا مَن ‏يعيرها اهتماماً لتكرار حدوثها ولتعودنا على رؤيتها، والظاهر الباطن ينبهنا إلى هذه‏ الظواهر ويذكرنا بأنها لم توجد بمحض الصدفة أو بدون سبب أو هدف بل وجدت‏ بتقدير دقيق من العزيز الحكيم.

تكوين الأرض ودورانها حول نفسها، تتابع الليل والنهار والنور والظلام ‏وضرورة وجود كليهما لمواصلة الحياة، خلق الجبال والحكمة من وراء خلقها وخلق البحار وما تلا ذلك من دورة الماء وتكوين السحاب ودور الرياح في تسيير السحاب ثم سقوط الأمطار وجريان‏ الأنهار وما ينبع عن ذلك من توافر عناصر الحياة للإنسان والنبات والحيوان، اختلاف الفصول وما يتبعه من تباين في أنواع النبات والزهور وتطور في أشكال‏ الحيوان والطيور، ونرى الأسماك والطيور تقطع آلاف الأميال لتضع بيضها وتربي ‏أفراخها في بيئة جديدة وجو مختلف عن ذلك الذي ترعرعت فيه ثم تعود معها إلى ‏البيئة الأولى مرة أخرى.

إنها آيات يكشف العلم عنها كل يوم جديد، وكل مرة نقرأ عن هذه الاكتشافات‏ من عادات الطيور وطبائع الحشرات إلى خواص الأسماك وغرائز الحيوانات ‏يعترينا إعجاب وذهول بتكامل هذا الخلق وذهول لهذه الدقة التي يسير عليها والتي ‏تبدو من أول وهلة وكأنها شيء طبيعي أو كأنها نتيجة صدفة محضة، ولكن الإمعان ‏والبحث النزيه بدون إجحاف أو اتباع للهوى أو حكم سابق، وسرعان ما يمحوان ‏هذا الانطباع الزائف بأن الصدفة هي أم الكون، وإذا بالمعرفة الجديدة وبالتفاصيل ‏العلمية يكشفان الستار عن العوامل التي تقوم عليها هذه الظواهر فتتبدد الشكوك ‏وتضعف أصوات المدعين بأن خلق الكون كله كان مجرد صدفة وليزداد اليقين في قلوب‏ كل من في قلبه بصيص من إيمان بأن الذي وراء ذلك الخلق والإبداع لا بد وأن يكون‏ عليماً قديراً وليس بأي حال صدفة عشواء.

والقرآن يخبرنا بهذه الحقائق والظواهر بلغته وطريقته الخاصة ومن زوايا جديدة تختلف عن مفهوماتنا العادية لهذه الظواهر وعما في الكتب والمقالات ‏العلمية، فعند قراءتنا لها في القرآن نكاد نلمس من ألفاظها ومن تعبيراتها و معانيها كيفية مثول هذه الظواهر، إنها وصف الخالق السميع البصير لمخلوقاته وليست بوجهة نظر آدمية أو وصف مخلوق لمخلوق آخر.

من هنا سوف نتعرض لهذه المسائل من خلال فصول وكل فصل منها يعالج ‏ظاهرة معينة وينصب على تفسير آية أو عدة آيات تركز أنظارنا وتدعونا للتفكير في ‏هذه الظواهر(39).

 

 * الهوامش:

(1) للتوسع انظر تفسير الآية 164 من سورة البقرة تفسير الأمثل.

(2) آل عمران: 191.

(3) تفسير الأمثل بتصرف ج 3 ص 44.

(4) محمد|: 24.

(5) المائدة: 16.

(6) نقلاً من تفسير من هدى القرآن ومن مجمع ‏البيان.

(7) معارف القرآن للمصباح ج 2 ص 13.

(8) الأنبياء: 32.

(9) بحار الأنوار: الطبعة الجديد ج 3 ص 111.

(10) النحل: 79.

(11) إبراهيم: 24.

(12) ق: 9.

(13) فصلت: 11.

(14) تفسير الأمثل ج 1 و ج 10. 

(15) ق: 6.

(16) تفسير الأمثل ج 17 ص 16. 

(17) سبأ: 9.

(18) من علم الفلك القرآني ص 67.

(19) الصافات: 6. 

(20) فصلت: 12.

(21) تفسير الأمثل ج 14 ص 259 و ج 15 ص 335.

(22) الأنعام: 97.

(23) تفسير الأمثل ج 4 ص 368 بتصرف.

(24) البروج: 1.

(25) الدر المنثور: 331 / 6.

(26) الحج: 16.

(27) ق: 6.

(28) تفسير الأمثل ج 17 ص 16.

(29) الغاشية: 18.

(30) تفسير الأمثل بتصرف ج 20 ص 148.

(31) آل عمران: 191.

(32) تفسير الأمثل ج 17 ص 345 بتصرف.

(33) الأنبياء: 30.

(34) الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبعض المفسرين الآخرين.

(35) تفسير الأمثل بتصرف ومن علم الفلك القرآني.

(36) تفسير الميزان ذيل الآية.

(37) يُراجع تفسير الصافي ونور الثقلين ذيل الآية مورد البحث.

(38) تفسير الأمثل بتصرف ج 10 ص 138.

(39) نقلاً عن آيات قرآنية في مشكاة العلم بتصرف ص 166.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا