نبحث عن هذه القاعدة لما لذلك من الفائدة في تحقيق حالها من جهة، ولعدم نيلها حقها من البحث في كتب الأعلامH من جهة أخرى، فأقول مستعيناً به تعالى، بأن البحث عن هذه القاعدة يقع في عدّة نقاط[1]:
النقطة الأولى: تاريخ البحث عن القاعدة:
بحسب التتبع القاصر يمكن أن يقال بأن القاعدة لم تُبحث لدى الأعلام المتأخرين فضلاً عن المتقدمين أعلى الله مقامهم، ومن تطرّق إليها فقد بحثها بحثاً مقتضباً مختصراً، ويشهد لذلك عدّة شواهد:
الشاهد الأول: ما صرّح به بعض الأعلام» كما جاء في قاعدة لا ضرر للسيد السيستانيF حيث قال: "وربما أورد عليه -على هذا الاستدلال- بأنه لم يعلم في قواعد الفقه قاعدة تسمى بقاعدة العدل وإنما ذلك يشبه الاستحسان الذي هو من مبادئ فقه الحنفية وقد أُجيب عنه بأن قاعدة العدل من أعظم قواعد الفقه وإن لم تكن معنونة في أبوابه كسائر القواعد"[2]، وهذا تصريح من قبل بعض الأعلام بأن القاعدة لم تعنون بهذا العنوان ولم تُبحث.
الشاهد الثاني: عدم تصريح الأعلامH بهذه القاعدة إلا في الوقت المتأخر أو المعاصر، -فبحسب التتبع- يمكن القول بأن أول من عبّر عنها بقاعدة العدل والإنصاف هو السيد محسن الحكيمO في المستمسك في الجزء (9) تارة وفي الجزء (14) تارة أخرى، وأما التعبير بعنوان (العدل والإنصاف) لا بعنوان قاعدة العدل والإنصاف، فقد ورد في كلام صاحب الحدائقS كما في الجزء (24) وكذا ورد في كلام صاحب الجواهرS كما في الجزء (31) وفي بلغة الفقيه للسيد بحر العلومS في الجزء (3)؛ فإذاً عنوان العدل والإنصاف لم يرد إلا في كلمات المتأخّرين»، أما عنونتها بعنوان القاعدة فلم ترد قبل السيد الحكيمp، وقد يقف الباحث على أكثر من ذلك.
الشاهد الثالث: خلوّ معظم كتب القواعد الفقهية التي صنفها الأصحاب من هذه القاعدة، ولأجل ذلك سنذكر عدّة كتب صُنّفت في هذا المجال، تخلو من البحث عن هذه القاعدة، وإليك هذه الكتب بحسب التسلسل الزمني:
الأول: كتاب (القواعد والفوائد) للشهيد الأولS المتوفّى سنة (786ﻫ) حيث ذكر فيه (302) قاعدة، وليس منها قاعدة العدل والإنصاف، وهو من أهم الكتب التي كتبت في القواعد الفقهية.
الثاني: كتاب (نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية) للمقداد السيوريS المتوفى سنة (826ﻫ) فلم يتعرّض لقاعدة العدل والإنصاف.
الثالث: كتاب (تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع فوائد الأحكام الشرعية) للشهيد الثاني+ المتوفى سنة (965ﻫ) فلم يبحث عن قاعدة العدل والإنصاف.
الرابع: كتاب (عوائد الأيام) للمولى المحقق الشيخ أحمد النراقيS المتوفى سنة (1245ﻫ) حيث بحث فيه (88) عائدة، وليس منها العدل والإنصاف.
الخامس: كتاب (العناوين الفقيهة) للسيد عبد الفتاح الحسيني المراغيS المتوفى سنة (1250ﻫ) حيث بحث فيه (94) عنواناً أي قاعدة وليس منها العدل والإنصاف.
السادس: كتاب (القواعد الفقهية) للسيد البجنورديS المتوفى (1395ﻫ) حيث بحث فيه (62) قاعدة في (7) أجزاء ولم يبحث عن قاعدة العدل والإنصاف وإن ذكرها على نحو الاستطراد كما في قاعدة الصلح بين المسلمين جائز في الـ (ج5 ص39).
هذه هي أهم الكتب التي وصلتنا للقواعد الفقهية عند الإمامية وهي تخلو من البحث عن هذه القاعدة، نعم؛ في كتاب (الفوائد العلية) للسيد علي البهبهانيS المتوفى سنة (1380ﻫ) بحث في قاعدة العدل والإنصاف، ولكنه بحث مقتضب ومختصر للغاية، فراجع.
النقطة الثانية: بعض الموارد التي أُشير فيها لقاعدة العدل والإنصاف:
بحسب الملاحظة في كلمات الأعلام» فإنه يمكن الوقوف على عدّة موارد تطرّقوا فيها للاستدلال بقاعدة العدل والإنصاف، ونشير هنا لأهمها:
* الموارد في الكتب الفقهية:
المورد الأول: في كتاب الخمس؛ وبالخصوص في المورد الخامس من موارد وجوب الخمس وهو المال المختلط بالحرام؛ وبالأخص في هذه المسألة: إذا اختلط المال المملوك بمال شخص آخر وعُلم بصاحب هذا المال ولكن لا يعلم المقدار الذي له، كما إذا اختلط مال عمرو بمال زيد من الناس، ولم يُعلم بمقدار مال زيد، فهنا قال بعض الأعلام تجري قاعدة العدل والإنصاف فينصّف المال بينهما إلى نصفين.
ـ ويمكن ملاحظة ذلك في كتاب المستمسك للسيد الحكيم¦ (ج9 ص299)، وكذلك في شرح العروة للسيد الخوئي+ (ج25 ص145) فهناك قد أشارا إلى الاستدلال على التنصيف بقاعدة العدل والإنصاف.
المورد الثاني: في خيار العيب؛ كما لو تعارض المقوّمون في قيمة المبيع صحيحاً ومعيباً لأجل تحديد الأرش، فهنا ذهب بعضهم إلى القول بالتنصيف بين أقوال المقوّمين بأن يؤخذ بنصف قول المقوّم الأول ونصف قول المقوّم الثاني وهكذا، ثم تلحظ النسبة بين قيمة الصحيح والمعيب.
ـ ويمكن ملاحظة ذلك في شرح المكاسب للسيد الخوئي+ كما في (ج39 ص369) بحسب الدورة الموجودة.
* الموارد في الكتب الأصولية:
المورد الأول: في بحث القطع؛ حيث بحث الأعلام في أنه هل تحرم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أم لا؟ فأشار الشيخ الأعظم+ في (الرسائل ج١ ص٨٠) إلى أن هناك عدّة موارد فقهية قد رخّص الشارع في المخالفة القطعية فيها، ومن هذه الموارد ما دلت عليه رواية السكوني التي وردت في الودعي الذي تلف عنده دينار من الوديعة وتردد صاحب الدينار بين شخصين حيث دلت الرواية على أنه ينصّف الدينار بين المودعين، فهنا ذكر بعض الأعلامH بأن هذا التنصيف ناشئ من قاعدة العدل والإنصاف.
ـ ويمكن ملاحظة ذلك بالرجوع إلى بحوث السيد الخوئيS في الدراسات[3]، وكذا بحثه في مصباح الأصول[4].
المورد الثاني: في قاعدة لا ضرر؛ حيث بحثها جمع من الأعلام في الأصول، وقد ذكروا عدة تطبيقات للضرر، ومنها بعض التطبيقات قد أجروا فيها قاعدة العدل والإنصاف من قبيل هذا التطبيق وهو: ما إذا دخل رأس دابة في قدر شخص، ولا يمكن تخليصها إلا بكسر القدر، فيدور الأمر حينئذ بين كسر القدر لتخليص رأس الدابة، أو ذبح الدابة لتخليص القدر وعدم كسره، فما هو الحل؟
فهنا قال بعض الأعلام» بأنه لو اخترنا ذبح الدابة فانخفضت القيمة فيكون هذا الانخفاض بالتنصيف فيتحمل صاحب القدر نصف الانخفاض والنصف الآخر يتحمله صحاب الدابة، وكذا الحال بالنسبة لو كسر القدر فانخفضت قيمته حيث يتحمل هذا الانخفاض كل من الطرفين بالتنصيف بينهما.
-ويمكن ملاحظة ذلك في مصباح الأصول[5] للسيد الخوئيS، وكذلك قاعدة لا ضرر[6] للسيد السيستانيF.
هذه جملة من الموارد التي ذكرت في كتب الفقه والأصول لقاعدة العدل والإنصاف.
النقطة الثالثة: معنى قاعدة العدل والإنصاف؟
المستفاد من كلمات الأعلام» بأن هناك معانٍ ثلاثة:
المعنى الأول: العدل في الأموال المشتبهة؛ وهو الذي أشار له جمع من الأعلام كالسيد الخوئيS في كتاب البيع[7] حيث أفاد ما حاصله: تختص -القاعدة- بما إذا كان هناك مال مردد بين شخصين كما إذا أقرّ شخص عند موته بأن داره ملك زيد، وأنها كانت عارية عنده وتردد بعد موته زيد، هل هو زيد بن بكر أم زيد بن عمرو، -فأفاد:- بأن مقتضى القاعدة أن تنصف الدار بينهما من باب المقدمة العلمية.
فإذاً؛ المعنى الأول للقاعدة يتقوّم بعدة أركان:
الركن الأول: إن مورد القاعدة هو المال، لا الحق.
الركن الثاني: أن يكون المال مردداً بين أكثر من شخص، مع كون الشخص معلوماً على سبيل الإجمال، أما لو كان مجهولاً، فيحكم بأن المال مجهول المالك.
الركن الثالث: أنْ لا توجد أمارة لتحديد هوية المالك.
فإذا كان لدينا مال مردد بين أكثر من شخص ولا توجد أمارة لتحديد مالك المال، فإن مقتضى القاعدة هو تنصيف المال بين هؤلاء الأشخاص، فإذا كانا اثنين نصفناه نصفين وإن كانوا ثلاثة فثلاثة أثلاث وهكذا.
المعنى الثاني: العدل في الحقوق؛ وهو المستفاد من كلمات بعض الأعلام»، من جريان العدل والإنصاف في الحقوق كما تجري في الأموال، وهنا نشير لبعض الموارد التي وقفنا عليها في كلماتهم:
المورد الأول: في النكاح؛ حيث افتى بعضهم باستحباب التسوية بين الزوجات في الإنفاق، وإطلاق الوجه، والجماع؛ مستدلاً على ذلك بأنه مقتضى أو كمال العدل والإنصاف ولذلك استدل صاحب الجواهرS في تعليقته على كلام المحقق الحليS في هذه المسألة من الشرائع، بدليل العدل والإنصاف وإليك نص ما جاء في الجواهر: "ويستحب التسوية بين الزوجات في الإنفاق وإطلاق الوجه والجماع وغير ذلك، لأنه من كمال العدل والإنصاف المرغب فيهما شرعا..."[8].
المورد الثاني: في الزكاة؛ حيث أفتى بعض الأعلامH بأنه إذا كان لدى مالك النصاب الزكوي جنس جيد وآخر أجود فيلزمه أن يخرج الزكاة من كل جنس بحسبه، فيخرج الجيد من الجنس الجيد، ويخرج الأجود من الجنس الأجود، واستدل على ذلك بأنه مقتضى العدل والإنصاف، وهذا ما ذكره الآغـا رضا الهمدانيS في مصباح الفقيه قال: "(وفي الإخراج إن تطوّع) المالك (بالأرغب) ونحوه من الأفراد الكاملة فقد أحسن وأنفق ممّا أحبّ (وإلّا كان له الإخراج من كلّ جنس بقسطه) كما هو مقتضى العدل والإنصاف"[9].
المعنى الثالث: المعنى العام الواسع بما يشمل الأموال والحقوق وجميع التشريعات والأحكام الإلهية؛ فالمقصود بقاعدة العدل والإنصاف: هو أن جميع التشريعات الإلهية والأحكام السماوية عادلة ليس فيها جور أو ظلم، وأنها جميعاً متوافقة مع قانون العدالة والإنصاف، ولعلّ إلى هذا المعنى الثالث يشير السيد السيستانيF في بحث قاعدة لا ضرر بقوله: "والظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في أصل القاعدة كما دلت عليه الآيات الشريفة كقوله: {وإذا حكمتم بين الناس إن تحكموا بالعدل} وقوله: {وأُمرت لأعدل بينكم} إلا أن البحث يقع في أساسه وضابطه الكلي"[10]، فإن الاستشهاد بالآيات القرآنية على هذه القاعدة، يناسب المعنى العام الشامل لجميع التشريعات والأحكام، لا خصوص المعنيين الأول والثاني، فلاحظ.
النقطة الرابعة: قول الأعلام في القاعدة:
ينبغي أن يكون من الواضحات بأن القاعدة بالمعنى الثالث متفق عليها؛ حيث إن التشريعات والأحكام السماوية لا تخالف العدل والإنصاف، كما أنها ثابتة بالمعنى الثاني أيضاً كما دلت على ذلك الأدلة المذكورة في مظانها، إلا أنه قد وقع الخلاف في ثبوت القاعدة بالمعنى الأول، وهو مورد بحثنا فعلاً، على قولين:
القول الأول: إنكار القاعدة؛ وهذا ما تبناه السيد محسن الحكيمp ولذا قال في المستمسك: "لكن إثبات القاعدة الكلية منها لا يخلو من إشكال"[11]، وقال أيضاً في المستمسك: "ولأجل أن قاعدة العدل والإنصاف لا دليل ظاهر عليها إلا ما يُتراءى من كلمات غير واحد"[12].
وهذا ما بنى عليه السيد الخوئيS في بحث الخمس، ولذا قال: "ولكن للنظر فيها –القاعدة- مجال واسع"[13].
القول الثاني: قبول القاعدة؛ وهذا ما تبناه السيد الخوئيS نفسه كما في كتاب البيع حيث جاء في كلامه: "وإن كان المراد من ذلك هو قاعدة العدل والإنصاف والجمع بين الحقوق كما يظهر ذلك من ذيل كلامه وهو وإن كان متيناً لقيام السيرة القطعية عليه في الحقوق المالية بل ورد عليه الخبر...إلخ"[14]، وكذلك في كتابه الدراسات: "وأما أن يكون -أي هذا الاستدلال- من باب العدل والإنصاف وهي من القواعد العقلائية التي أمضاها الشارع في جملة من الموارد"[15].
وقد يظهر ذلك من كلام السيد السيستانيF في قاعدة لا ضرر: "لا ينبغي الإشكال في أصل القاعدة إلا أن البحث يقع في أساسه وضابطه الكلي"[16].
وهذا ما قد يظهر من الشيخ الفياضF في كتابه تعاليق مبسوطة: "فلأن قاعدة العدل والإنصاف وإن كانت قاعدة عقلائية وقد حكم العقل بحسنها ويعترف الإسلام بها في الجملة...إلخ"[17].
النقطة الخامسة: الأدلة على قاعدة العدل والإنصاف:
والمقصود بالأدلة التي سنشير إليها هي الأدلة المستدل بها على القاعدة بالمعنى الأول من المعاني الثلاثة التي تقدم ذكرها، وهو ما لو تردّد المال بين شخصين أو أكثر ولم تكن هناك أمارة لتشخيص صاحب هذا المال، حيث قيل بأن المال يقسم بالسوية.
والمستفاد من ملاحظة كلمات الأعلام» بأن هناك عدّة أدلة لهذه القاعدة:
الدليل الأول: العقل؛ وهذا ما يستفاد من كلام السيد الحكيم¦ في المستمسك
حيث أشار هناك إلى أنه قد يستدل على القاعدة بالعقل، وبيان كلامه في مقدمات ثلاث[18]:
المقدمة الأولى: إذا وجد مال وتردّد مالكه بين شخصين أو أكثر ولم يمكن تحديد هوية المالك لهذا المال فهنا توجد بنظر العقل عدة احتمالات ثبوتية:
الاحتمال الأول: الموافقة القطعية؛ أي بأن نعطي المال لصاحبه الحقيقي والواقعي فتتحقق لدينا الموافقة القطعية، وهذا الاحتمال غير ممكن، لعدم العلم بهوية صاحب المال الحقيقي.
الاحتمال الثاني: المخالفة القطعية؛ أي بأن لا نعطي المال لأحدهما، لا لزيد ولا لبكر، وهذا الاحتمال باطل، لأنه يستلزم المخالفة القطعية التي يحكم العقل بقبحها.
الاحتمال الثالث: الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية؛ أي أن نعطي المال لأحدهما دون الآخر؛ فتحصل لدينا موافقة احتمالية ومخالفة احتمالية، فإن كان من دُفع له المال هو المالك الحقيقي، حصلت الموافقة بذلك، وإن لم يكن هو المالك الحقيقي، فقد حصلت المخالفة بذلك، وهذا الاحتمال ممكن ثبوتاً.
الاحتمال الرابع: الموافقة القطعية من جهة والمخالفة القطعية من جهة: أي بأن ننصّف المال بينهما بالتساوي؛ فنعطي زيداً نصف المال، وبكراً نصف المال، فتتحقق لدينا موافقة قطيعة ومخالفة قطعية، فإن نصف المال قد وصل لصاحبه الحقيقي قطعاً فهذه موافقة قطعية، والنصف الآخر قد وصل لغير صاحبه قطعاً، وهذه مخالفة قطعية؛ وهذا ممكن ثبوتاً.
المقدمة الثانية: إذا رجعنا إلى العقل الحاكم بمنجزية العلم الإجمالي كما هو موردنا حيث إن موردنا من صغريات العلم الإجمالي، حيث إن المال إما لهذا أو لذاك، فإنه يختار -العقل- الاحتمال الرابع لا الثالث؛ أي تنصيف المال إلى نصفين وليس إعطاء المال لواحد دون الآخر، والوجه في ذلك:
هو أن في الاحتمال الرابع تتحقق الموافقة القطعية ولو في نصف المال، وأما بالنسبة إلى الاحتمال الثالث وهو إعطاء المال لأحدهما دون الآخر فليس فيه إلا الموافقة الاحتمالية، والعقل يحكم بأن الموافقة القطعية مقدّمة على الموافقة الاحتمالية، وذلك لإحراز وصول نصف المال لصاحبه، بخلاف الموافقة الاحتمالية، فلا يحرز وصول شيء من المال لصاحبه، إذ ليس هناك إلا الاحتمال.
المقدمة الثالثة: حكم العقل حجة لأنه حكم قطعي، والقطع حجة بذاته، ومن هنا جاءت بعض النصوص مرشدةً لحجية الأحكام العقلية القطعية، كما عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg قَالَ: >إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ لَكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ<[19].
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف لحكم العقل بها.
ويمكن المناقشة في هذا الدليل كما أشار السيد الحكيم¦ نفسه:
المناقشة الأولى: لا نسلّم بأن العقل يختار الاحتمال الرابع؛ وهو التنصيف، بل يمكن القول بأنه يختار الاحتمال الثالث وهو التخيير، كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين المحذورين (الوجوب والحرمة)، فإن الحكم بالتنصيف فيه تضييع قطعي لحق صاحب المال ولو بمقدار النصف، والغرض أنه لا أولوية للاحتمال الرابع على الاحتمال الثالث.
المناقشة الثانية: إن الحجية للعقل إذا كان حكم العقل حكماً قطعياً ولا نسلّم بأن هذا الحكم المدعى حكم عقلي قطعي، وإنما هو حكم استحساني ظني، ولا حجية للأحكام العقلية الظنية المبنية على الرأي والاستحسان وما شابه، وكما ورد عن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِg: >إِنَّ دِينَ اللَّهِ§ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اقْتَدَى بِنَا هُدِيَ وَمَنْ كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ هَلَكَ وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِي بِهِ حَرَجاً كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ والْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ<[20].
المناقشة الثالثة: لا حاجة للتشبث بهذا الدليل العقلي الضعيف مع وجود الدليل النقلي، حيث توجد أدلة نقلية في المقام وهي كافية لحسم المسألة وأولى بالاستدلال بها، سواءً كانت هذه الأدلة هي أدلة التنصيف أم أدلة القرعة.
الدليل الثاني: المرتكز العقلائي؛ ويمكن أن يذكر له بيانان:
البيان الأول: ما يستفاد من كلمات سيدنا الخوئيS كما في الدراسات، وكذلك في مصباح الأصول، وكذلك في خيار العيب، وقد يكون راجعًا إلى نفس دليل السيد الحكيم¦ المتقدم، إلا أنه عبر عنه السيد الحكيم+ بالدليل العقلي، وعبر عنه السيد الخوئيS بالدليل العقلائي، وبيانه كالتالي:
أولاً: إذا وجد مال وتردّد بين شخصين أو أكثر ولم يمكن تحديد هوية المالك لهذا المال فإنه يوجد لدى العقلاء احتمالان:
الاحتمال الأول: إعطاء المال لواحدٍ دون الآخر.
الاحتمال الثاني: تنصيف المال بينهما بالتساوي.
ثانياً: إذا رجعنا إلى المرتكز العقلائي فإننا نجد بأن العقلاء يختارون الاحتمال الثاني وهو التنصيف وليس الاحتمال الأول وهو إعطاء المال لأحدهما دون الآخر، والوجه في ذلك:
هو أن الاحتمال الثاني فيه موافقة قطعية حيث سيصل نصف المال إلى صاحبه جزماً، أما الاحتمال الأول ففيه موافقة احتمالية إذ قد لا يصل شيء من المال لصاحبه، ولذا يقول العقلاء بأننا نرجّح الاحتمال الثاني لأننا نقطع من خلاله بوصول نصف المال لصحابه الواقعي، ويمكن تأييد ذلك بهذا المثال وهو: ما لو كان لدينا مال لزيد وتوقّف إيصال هذا المال إليه على صرف مقدار منه كصرف مقدار منه لأجل تذكرة السفر مثلاً، فإن العقلاء يحكمون بلزوم صرف هذا المقدار من المال لأجل إيصال بقية المال لزيد، وهذا الصرف يكون مقدمة وجودية، أي حتى يصل المال لصاحبه فإنه يتوقّف على صرف شيء منه، وفي المقام كذلك؛ فإذا توقّف إيصال المال لصاحبه على التنصيف فيلزم حينئذ التنصيف، فيكون هذا التنصيف (مقدمة علمية) لإحراز وصول مقدار من المال إلى صاحبه، والغرض هو أنه كما يحكم العقلاء بلزوم الإتيان بالمقدمة الوجودية لإيصال المال إلى صاحبه فإنهم يحكمون بذلك في المقدمة العلمية أيضاً.
ثالثاً: إن هذه السيرة العقلائية معاصرة لزمن النص.
رابعاً: إن الشارع الأقدس إن لم يمضِ هذا المرتكز بالنصوص فلا أقل أنه لم يردع عنه، وهذا كاف لإثبات الحجية، فإن سكوته عن هذا المرتكز مع منافاته لأغراضه نقض للغرض، وهو قبيح من الحكيم.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف بالمرتكز العقلائي.
ويمكن المناقشة في ذلك بعدة مناقشات:
المناقشة الأولى: لا نسلم ببناء العقلاء على التنصيف، ولو كان ذلك مقدمة علمية لوصول مقدار من المال لصاحبه، بل لعل بناءهم على القرعة، فمن خرج سهمه، كان المال له.
المناقشة الثانية: على فرض بناء العقلاء على التنصيف فمع ذلك لا نسلم بكون ذلك راجعاً لقاعدة العدل والإنصاف بل لعله راجع إلى التصالح بين الطرفين.
المناقشة الثالثة: على فرض أنّ المرتكز العقلائي جارٍ على التنصيف من باب العدل والإنصاف وليس من باب القرعة، فإنه لا يحرز إمضاء الشارع لهذا المرتكز العقلائي مع وجود أخبار القرعة المتواترة أو المستفيضة، فإنها صالحة للردع عن هذا المرتكز المزبور.
ومن هنا؛ تجد أن السيد الخوئي نفسه+ الذي سلّم بهذا المرتكز العقلائي في أصوله وفي بعض فقهه، إلا أنه لم يقبل به في بحث الخمس كما تقدم نقل كلامه في ذلك، بل ولم يلتزم بذلك في فتاواه كما يظهر بملاحظة منهاج الصالحين، حيث أفتى في موارد عديدة بقاعدة القرعة مع أنها مجرى لقاعدة العدل والإنصاف، وإليك جملة من هذه الموارد:
١- مسألة ١٢٠٦ في باب الخمس:
"إذا كان في ذمته مال حرام فلا محل للخمس فإن علم جنسه ومقداره فإن عرف صاحبه رده إليه وإن لم يعرفه فإن كان في عدد محصور فالأحوط وجوباً استرضاء الجميع وإن لم يمكن عمل بالقرعة وإن كان في عدد غير محصور تصدق به عنه..."[21].
٢- مسألة ٣٨ في باب التجارة:
"جوائز الظالم حلال وإن علم إجمالاً أن في ماله حراماً وكذا كل ما كان في يده يجوز أخذه منه وتملكه والتصرف فيه بإذنه إلا أن يعلم أنه غصب فلو أخذ منه حينئذ وجب رده إلى مالكه أن عرف بعينه فإن جهل وتردد بين جماعة محصورة فإن أمكن استرضاؤهم وجب وإلا رجع في تعيين مالكه إلى القرعة..."[22].
٣- مسألة ١٠٤١ باب الوصية:
"قد عرفت أنه إذا أوصى بعين من تركته لزيد ثم أوصى بها لعمرو كانت الثانية ناسخة ووجب دفع العين لعمرو فإذا اشتبه المتقدم والمتأخر تعين الرجوع إلى القرعة في تعيينه"[23].
٤- مسألة ١١٦٤ باب الوقف:
"إذا تردد الموقوف عليه بين عنوانين أو شخصين فالمرجع في تعيينه القرعة..."[24].
البيان الثاني؛ (التقريب الثاني) للمرتكز العقلائي هو: ما أشار إليه الميرزا الآشتياني في بحر الفوائد[25]:
أولاً: إذا وجد مال وتردد بين شخصين أو أكثر فتوجد لدينا عدة احتمالات بنظر العقلاء:
الاحتمال الأول: أنْ لا نعطي المال لأيٍّ منهما؛ وهذا باطل لأنه يستلزم المخالفة القطعية؛ إذ المال قطعاً لواحد منهما بحسب الفرض.
الاحتمال الثاني: أن نعطي المال لواحدٍ منهما بعينه، وهذا باطل؛ لأنه ترجيح بلا مرجح.
الاحتمال الثالث: أن نعطي المال لواحدٍ منهما من باب التخيير، وهذا باطل؛ لأنه إن كان التخيير راجعاً لنفس المتخاصمين فإن لازمه الهرج والمرج وكل واحد سيختار نفسه، وإن كان راجعاً للحاكم الشرعي فإنه ليس مضبوطاً حيث قد يختار الحاكم ما يوافق مصالحه الشخصية.
الاحتمال الرابع: التنصيف؛ وهو تقسيم المال بينهما، وهذا هو المتعيّن.
ثانياً: إن هذا المرتكز العقلائي معاصر لزمن النص.
ثالثاً: لم يردع الشارع عن هذا المرتكز العقلائي.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف بالمرتكز العقلائي.
ويمكن المناقشة في ذلك بما تقدم:
المناقشة الأولى: ما أشار إليه الميرزا الآشتيانيS نفسه من أنه لا نسلم بجريان المرتكز العقلائي على التنصيف، بل لعل المرتكز العقلائي جارٍ على القرعة، وعلى فرض كونه على التنصيف فلعل ذلك من باب التصالح.
المناقشة الثانية: هذا المرتكز العقلائي على فرض وجوده فهو مردوع عنه بأدلة القرعة، ولا أقل إنه لا يحرز إمضاؤه، ويشترط في حجية المرتكز إحراز الإمضاء.
فإذن؛ اتّضح لدينا بأن الدليل الثاني وهو المرتكز العقلائي بكلا التقريبين محل مناقشة.
الدليل الثالث: الروايات؛ حيث توجد روايات عديدة ذكرت في أبواب متفرّقة، قد يدعى بأنها تدل على قاعدة العدل والإنصاف، ونشير هنا إلى أهمّ هذه الروايات:
الرواية الأولى: ما رواه الكليني؛ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍg قَالَ: >قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَg فِي أَرْبَعَةٍ شَرِبُوا مُسْكِراً فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ السِّلَاحَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ اثْنَانِ وَجُرِحَ اثْنَانِ فَأَمَرَ الْمَجْرُوحَيْنِ فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَيْنِ عَلَى الْمَجْرُوحَيْنِ وَأَمَرَ أَنْ تُقَاسَ جِرَاحَةُ الْمَجْرُوحَيْنِ فَتُرْفَعَ مِنَ الدِّيَةِ فَإِنْ مَاتَ الْمَجْرُوحَانِ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولَيْنِ شَيْءٌ<[26]؛ والرواية معتبرة سنداً، وتقريب الدلالة:
الرواية واردة في بيان حكم الدية للمتقاتلين الذين قُتل بعضهم وجُرح البعض الآخر، وكما أشارت الرواية بأن أربعةً شربوا المُسكر فزال عقلهم ثم تقاتلوا، فقُتل اثنان منهم وجُرح اثنان، ولم يُعلم بشخص القاتل لهذين المقتولين، فهل تلزم دية المقتولين على المجروح الأول بالخصوص أو تلزم على المجروح الثاني بالخصوص أو تلزم على الاثنين أو لا تلزم على واحد منهما؟
دلت الرواية على أنه تلزم الدية على المجروحين الاثنين، وليس على واحد منهما بخصوصه، حيث قالت: >وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَيْنِ عَلَى الْمَجْرُوحَيْنِ<.
الظاهر من لزوم الدية على المجروحين هو لزومها على نحو التنصيف أي أن نصف دية المقتول الأول على المجروح الأول ونصفها على المجروح الثاني، ونصف دية المقتول الثاني على المجروح الأول، ونصفها على المجروح الثاني.
يمكن أن نلغي الخصوصية ونتعدى عن مورد الرواية وهو الدية لهذين المقتولين لجميع الموارد التي تشتبه فيها الأموال، ولا يعلم المالك، فنلتزم في كل مورد اشتبه فيه مالك المال بين طرفين بالتنصيف.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة في هذه الرواية بالتالي:
المناقشة الأولى: لا يعلم بأن السّر في إلزام الأميرg المجروحين بالدية لكون ذلك من باب العدل والإنصاف، إذ لم تثبت الجناية من الأصل على المجروحين؛ ولا دليل على أنهما قد قتلا هذين المقتولين، بل من المحتمل أن يكون كل من المقتولين قد قتل الآخر، أو كل واحد منهما قد قتل نفسه جرّاء السّكر الذي كان فيه، ومن هنا يمكن القول بأنه من المحتمل أن يكون حكم الأميرg بدفع الدية على المجروحين من أحكامه الولائية، كما قد يشهد لذلك كون هذا الحكم مخالفاً للقاعدة، كما يمكن القول بأنه حكم تعبدي خاص في مورده، وبالتالي فلا يمكن استفادة القاعدة من هذه الرواية.
المناقشة الثانية: لو كنا ومقتضى قاعدة العدل والإنصاف لكان المفروض هو الحكم بالتثليث لا بالتنصيف، أي بأن يُلزم كلٌ من المقتول الأول والمجروح الأول والمجروح الثاني بدفع ثلث دية المقتول الثاني، لاحتمال أن القاتل واحد منهم، ويُلزم كلٌ من المقتول الثاني والمجروح الأول والمجروح الثاني بثلث دية المقتول الأول، لاحتمال أن يكون القاتل واحد منهم. ومن هنا يتضح بأن هذه الرواية لا ربط لها بقاعدة العدل والإنصاف، لكون الحكم فيها مخالفاً لمقتضى هذه القاعدة.
المناقشة الثالثة: إن هناك روايةً أخرى تعارض هذه الرواية، ولعلّها تخبر عن نفس هذه الواقعة، وقد دلّت على أن الدية تقسّم إلى أربعة أقسام، وإليك نص الرواية:
عن السَّكُونِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg قَالَ: >كَانَ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ فَيَسْكَرُونَ فَتَبَاعَجُوا[27] بِسَكَاكِينَ كَانَتْ مَعَهُمْ فَرُفِعُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَg فَسَجَنَهُمْ فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ وبَقِيَ رَجُلَانِ فَقَالَ أَهْلُ الْمَقْتُولَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقِدْهُمَا بِصَاحِبَيْنَا فَقَالَ عَلِيٌّg: لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تُقِيدَهُمَا فَقَالَ عَلِيّg: لَعَلَّ ذَيْنِكَ اللَّذَيْنِ مَاتَا قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَالُوا لَا نَدْرِي فَقَالَ عَلِيٌّg: بَلْ أَنَا أَجْعَلُ دِيَةَ الْمَقْتُولَيْنِ عَلَى قَبَائِلَ الْأَرْبَعَةِ فَآخُذُ دِيَةَ جِرَاحَةِ الْبَاقِينَ مِنْ دِيَةِ الْمَقْتُولَيْنِ<[28].
وحينئذ يقال: إن كانت رواية السكوني معتبرةً (بناءً على وثاقة النوفلي) فتكون معارضةً لرواية محمد بن قيس فيتساقطان مع عدم المرجح لأحدهما وتصل النوبة للأصل العملي، ومقتضاه عدم لزوم الدية، وإن لم تكن رواية السكوني معتبرةً "بناءً على عدم وثاقة النوفلي" فإنها وإن لم تكن صالحةً للمعارضة لعدم حجيتها، إلا أنها قد تصلح كمانع من الوثوق برواية محمد بن قيس "بناءً على حجية الخبر من باب الوثوق لا سيما الشخصي" حيث إن حجية الخبر تبتني على أن لا يكون هناك ظن بالخلاف والمفروض هو ذلك مع وجود رواية السكوني لا سيما مع احتمال أنها تخبر عن نفس الواقعة فلاحظ، نعم لو بنينا على أن حجية الخبر من باب الوثاقة فلا تتم هذه المناقشة إلا أن هذا المبنى غير تام.
المناقشة الرابعة: لو تنزلنا عن جميع ما تقدم فإن إلغاء الخصوصية عن مورد الرواية عهدتها على مدعيها، خصوصاً وأن مورد بحثنا هو قاعدة العدل بالمعنى الأول وهو ما لو تردد صاحب المال بين شخصين أو أكثر، وهذه الرواية لا ربط لها بذلك فإنه ليس موردها تردد صاحب المال وإنما موردها تردد من يلزمه دفع المال فلاحظ.
الرواية الثانية: ما رواه الكليني؛ عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg قَالَ: >قُلْتُ لَهُ الْمَوْلُودُ يُولَدُ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ ولَهُ مَا لِلنِّسَاءِ قَالَ يُوَرَّثُ مِنْ حَيْثُ سَبَقَ بَوْلُهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا سَوَاءً فَمِنْ حَيْثُ يَنْبَعِثُ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً وُرِّثَ مِيرَاثَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ<[29]؛ الرواية معتبرة سنداً؛ أما تقريب الدلالة:
1- الرواية واردة في حكم ميراث الخنثى؛ فهل ترث الخنثى نصيب امرأة (سهماً واحداً) أم ترث نصيب رجل (سهمين)؟!
2- دلت الرواية على التفصيل: فإن كانت الخنثى ليست مشكلاً بحيث يمكن تحديد أنها رجل أم امرأة من خلال آلة البول، وذلك بأن يسبق بولها من آلة الرجل فتعطى نصيب الرجل، وإن كان البول يسبق من آلة الأنثى فتعطى نصيب الأنثى، وأما لو كانت خنثى مشكل بحيث لا يمكن تحديد كونها رجلاً أو امرأةً؛ فإنها ترث نصف إرث الرجل (سهماً واحداً) ونصف إرث المرأة (نصف سهم) فيكون لها (سهم ونصف)، وهذا مرجعه إلى قاعدة العدل والإنصاف.
3- لا نحتمل الخصوصية لمورد الرواية وهو الخنثى المشكل، بل يمكن التعدية لكل الموارد التي تشتبه فيها الأموال والحقوق.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة في هذه الرواية بالتالي:
المناقشة الأولى: أنها مخالفة للرأي المعروف عند الأعلام+ في الخنثى المشكل وهو اعتبار عدد الأضلاع أو القرعة، ولم يفتِ المشهور» بحسب الظاهر على طبق هذه الرواية، بل قد ادّعي الإجماع من قبل السيد المرتضىS على خلافها؛ ولذلك قالS في الانتصار: "ومما انفردت به الإمامية: أن من أشكلت حاله من الخناثى في كونه ذكرا أو أنثى اعتبر حاله بخروج البول، فإن خرج من الفرج الذي يكون للرجال خاصة ورث ميراث الرجال، وإن كان خروجه مما يكون للنساء خاصة ورث ميراث النساء، وإن بال منهما معا نظر إلى الأغلب والأكثر منهما فعمل عليه وورث به، فإن تساوى ما يخرج من الموضعين ولم يختلف اعتبر بعدد الأضلاع، فإن اتفقت ورث ميراث الإناث، وإن اختلفت ورثت ميراث الرجال"[30] وبناءً على ذلك فلا تكون الرواية صالحة للحجية بعد إعراض المشهور عنها، كما هو التحقيق من كاسرية إعراض المشهور.
المناقشة الثانية: على فرض التسليم بحجية هذه الرواية وأنه لم يُعرْض الأصحاب عنها، إلا أنها معارضة بروايات أخرى ومنها ما هو معتبر دالة على جريان القرعة في المقام -في تحديد ميراث الخنثى-، ومنها: ما رواه الكلينيS؛ عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ والْحَجَّالِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِS قَالَ: سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَيْسَ بِذَكَرٍ ولَا أُنْثَى لَيْسَ لَهُ إِلَّا دُبُرٌ كَيْفَ يُوَرَّثُ قَالَ: >يَجْلِسُ الْإِمَامُ ويَجْلِسُ عِنْدَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْعُو اللهَa وتُجَالُ السِّهَامُ عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ مِيرَاثٍ يُوَرِّثُهُ أَمِيرَاثِ الذَّكَرِ أَوْ مِيرَاثِ الْأُنْثَى فَأَيُّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَيْهِ وَرَّثَهُ -ثُمَّ قَالَ- وأَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنْ قَضِيَّةٍ تُجَالُ عَلَيْهَا السِّهَامُ يَقُولُ الله تَعَالَى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قَالَ: ومَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا ولَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ الله ولَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ<[31].
- فدلّت هذه الرواية على أن ميراث الخنثى يحدّد من خلال القرعة وليس الحكم على التنصيف؛ ومع هذه المعارضة فالعمل على ما دل على القرعة لأن أخبارها أشهر، وعلى فرض التكافؤ فالنتيجة التساقط، والرجوع لعمومات القرعة، ومن هنا ذهب الشيخ الطوسيS لجريان قاعدة القرعة في المقام وكما في كتابه الخلاف: "إذا مات إنسان وخلَّف خنثى مشكلاً له ما للرجال وما للنساء فإنه يعتبر بالمبال، فإن خرج من أحدهما أولا ورث عليه، وإن خرج من كليهما اعتبرنا الانقطاع، فورث على ما ينقطع أخيرا. فإن اتـفقا روى أصحابنا أنه تعد أضلاعه، فإن تساويا ورث ميراث النساء، وإن نقص أحدهما ورث ميراث الرجال، والمعمول عليه أنه يرجع إلى القرعة فيعمل عليها"[32].
المناقشة الثالثة: على فرض عدم المعارضة بين الروايتين لاختلاف موضوعهما كما قال بعض الأعلامH حيث إن موضوع رواية هشام بن سالم من له آلتان وموضوع الرواية الأخرى من ليس له آلة، واحتمال الخصوصية لكل واحد من هذين الموضوعين ليس ببعيد، إلا أننا نقول: بأنه لا يمكن استفادة قاعدة كبروية تسمى قاعدة العدل والإنصاف من خلال هذه الرواية؛ إذ من المحتمل جداً أن يكون هذا الحكم تعبدي في مورد الخنثى، فإلغاء الخصوصية عهدتها على مدعيها لا سيما وأن مورد بحثنا هو العدل والإنصاف بمعنى تردد المال بين شخصين أو أكثر، وهذا أجنبي عن مورد الرواية كما لا يخفى.
الرواية الثالثة: ما رواه الشيخ الطوسي؛ عَن علي بن الحسن عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg: فِي امْرَأَةٍ تَمُوتُ قَبْلَ الرَّجُلِ أَوْ رَجُلٍ قَبْلَ الْمَرْأَةِ قَالَ: >مَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ومَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ الرَّجُلِ والنِّسَاءِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ومَنِ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ<[33]. بتقريب:
١- الرواية واردة في حكم ميراث الزوجين اللّذَين ماتا ولم يُعلم بمال ومتاع كل واحد منهما، فهل يحكم بأن المتاع كله للزوج فيعطى لورثته أو يحكم بأن كله للزوجة فيعطى لورثتها أو يحكم بالتنصيف بينهما أو تجرى القرعة أو غير ذلك؟
2- دلت الرواية على تقسيم المال إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المتاع الذي يختص بالنساء كالمقنعة مثلاً فإنه يحكم للمرأة فيرثه ورثتها.
القسم الثاني: المتاع الذي يختص بالرجال كالحزام مثلاً فإنه يحكم للرجل فيرثه ورثته.
القسم الثالث: المتاع الذي يكون مشتركاً بين الرجال والنساء كأثاث المنزل مثلاً حيث ينتفع منه الرجال والنساء سواء، فهذا حكمه التنصيف بينهما بالتساوي.
٣- لا نحتمل الخصوصية لمورد الرواية فنتعدى من موردها وهو الميراث المشتبه لجميع الموارد التي تشتبه فيها الأموال والحقوق.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
وقد يناقش في هذه الرواية بعدة مناقشات:
المناقشة الأولى: يمكن القول بأن هذه الرواية ضعيفة سنداً لأن طريق الطوسي إلى بني فضال يمر بأحمد بن عبدون وابن الزبير القرشي، ولا طريق تام لتوثيقهما.
وقد يجاب عن ذلك بأجوبة أربعة:
الجواب الأول: أن كتب بني فضال كانت من الكتب المشهورة والتي عليها المعول والعمل بين الأصحاب، فلا يضر ضعف الطريق إليها حينئذ.
وهذا الجواب محل تأمل، لأن شهرة الكتاب لا تستلزم شهرة النسخة.
الجواب الثاني: أن يبنى على مبنى التعويض كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي+ في كتاب الحج (ج١ ص ٣٠٢)، (ج٢ ص٢٥، ج٣ ص١٦٤)، وإن خالف ذلك في كتاب الصلاة كما في ج١ ص١٨٧، ج١ص٥٢٢، وفي الصوم ج١ص٥١ وغير ذلك، وبالتالي فيمكن التخلص من هذا الإشكال لأن للنجاشي طريقاً آخر إلى بني فضال لا يمرّ بابن الزبير القرشي، وكل ما نقله ابن عبدون إلى النجاشي من روايات بني فضال فقد نقله إلى الطوسي أيضاً.
وهذا الجواب محل تأمل، لعدم القطع بالاتحاد في الروايات فلاحظ.
الجواب الثالث: وثاقة أحمد بن عبدون لكونه من مشايخ النجاشيO الذين أكثر من الرواية عنهم مضافاً لترحّم الطوسيO عليه أيضاً، فإنه حتى لو لم نبنِ على كبرى وثاقة مشايخ النجاشي كما هو ليس ببعيد، إلا أنه بضم القرائن بعضها إلى بعض، كإكثار النجاشي والطوسيQ برواية الكتب عنه من جهة وترحم الطوسي عليه من جهة أخرى وعدم تضعيف أحد من الرجالين له من جهة ثالثة، يمكن تحصيل الوثوق بوثاقته.
كما أنه يمكن البناء على وثاقة ابن الزبير بناءً على كبرى شيخوخة الإجازة، إلا أن التحقيق أن شيخوخة الإجازة في نفسها لا تفيد الوثاقة، إلا ضمن بعض الشروط من قبيل: عدم كون الكتاب المستجاز من الكتب المشهورة وكون المستجيز من كبار المشايخ وكون المستجيز قد نقل ما استجازه من هذه الكتب أو الروايات، والشرطان الثاني والثالث متوفران في المقام إلا أن الشرط الأول قد يقال بعدم توفره وذلك لشهرة كتب بني فضال، إلا أن يقال بأن شهرة الكتاب لا تستوجب شهرة النسخة، وبناءً على ذلك فيمكن البناء على وثاقة ابن الزبير، فلاحظ.
وقد يدعى وثاقة ابن الزبير بتوثيق العامة له، فقد قال فيه الذهبي: "الثقة المتقن"[34]، وقال فيه الخطيب البغدادي: "كان ثقة"[35]، وقال فيه ابن النديم: "عالم صحيح الخط راوية جماعة للكتب صادق في الحكاية منقر بحاث"[36]. إلا أن الاعتماد على توثيقات العامة محل تأمل.
الجواب الرابع: ما أفاده السيد السيستانيF كما نقل ذلك نجله في كتاب قبسات من علم الرجال[37] من أن الظاهر من أوائل التهذيب أن للطوسيS طريقاً آخر معتبراً لعلي بن الحسن بن فضال وهو (جماعة من أصحابنا عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة عن علي بن الحسن بن فضال)، وهذا الجواب لا يخلو من قوة، إلا أن الخوض في تفصيل ذلك قد يخرجنا عما نحن بصدده.
المناقشة الثانية: يمكن القول بأن هذه الرواية معارضة بما دل على أن القول قول ورثة الزوجة لأن الظاهر معها حيث جرت السيرة آنذاك على كون المتاع تأتي به المرأة ويهدى من بيت أهلها فيكون ورثة الزوج مدعيين لخلاف الظاهر فيطالبون بالبينة، وهذا ما دلت عليه معتبرة ابن الحجاج >... فَقَالَ: الْقَوْلَ الَّذِي أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ شَهِدْتَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ فَقُلْتُ: يَكُونُ الْمَتَاعُ لِلْمَرْأَةِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً إِلَى كَمْ كَانَتْ تَحْتَاجُ، فَقُلْتُ: شَاهِدَيْنِ، فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَ مَنْ بَيْنَهُمَا يَعْنِي الْجَبَلَيْنِ وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ لَأَخْبَرُوكَ أَنَّ الْجَهَازَ وَالْمَتَاعَ يُهْدَى عَلَانِيَةً مِنْ بَيْتِ الْمَرْأَةِ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ وَهَذَا الْمُدَّعِي فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئاً فَلْيَأْتِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ<[38].
إن قلت: يمكن الجمع العرفي بين الروايتين بالإطلاق والتقييد، وذلك بأن يقال بأن رواية يونس مطلقة حيث دلت على التنصيف مطلقاً فتقيد برواية عبد الرحمان بن الحجاج الدالة على كون المتاع للزوجة إذا كان المتعارف أن يهدى المتاع من بيت أهلها.
قلت: إن ذلك لا يخلو من تأمل؛ لأنه إما أن يونس بن يعقوب قد سأل الإمامg عن حكم هذه المسألة فترة حياته في المدينة حيث إنه قد عاش آخر حياته في المدينة إلى أن مات فيها، والمتعارف في الحجاز آنذاك بشهادة الإمامg كون المتاع يحمل من بيت المرأة فكيف حكمg حينئذ بالتنصيف، بل مقتضى القاعدة الحكم بالمتاع للمرأة مع اليمين؛ لأن الزوج مدّعي خلاف الظاهر ولا بينة؟
وإما أن يونس بن يعقوب قد سأل الإمامg عن حكم هذه المسألة فترة حياته بالكوفة أو حتى على فرض كون سؤاله في فترة حياته بالمدينة ولكن سؤاله مرتبط بمسألة كانت بالكوفة، وعلى هذا فالمناسب أن يحكم الإمامg على وفق المتعارف به في الكوفة فإن كان هو حمل المتاع من بيت المرأة كما هو الحال بالحجاز فالحكم هو بكون المتاع للمرأة، وإن كان بحمله من بيت الرجل فالحكم حينئذ بكون المتاع للرجل، ولا معنى لهذا التنصيف. إلا بأن يقال بعدم وجود سيرة ظاهرة بالكوفة آنذاك بحيث يعوّل عليها! وهذا في غاية البعد.
ومن هنا؛ يمكن القول بأن هذا الإطلاق الصادر من الإمامg في رواية يونس آبٍ عن التقييد فيكون معارضاً لرواية ابن الحجاج، على أنه مع غمض النظر عن ذلك كله فإن الإطلاق الوارد في مقام الإفتاء يستهجن تقيده بالمقيد المنفصل؛ لأنه من تأخير البيان عن وقت الحاجة، وبناءً على ذلك فالتعارض بين الروايتين محكم ولا جمع عرفي بينهما. ومع فرض استحكام التعارض فالرجوع لمرجحات باب التعارض، ومع فقدها، كما هو الظاهر، فالمرجع هو عمومات القرعة، فلاحظ.
المناقشة الثالثة: يمكن أن يقال بأن هذه الرواية محتملة للتقية كما صرح بذلك الشيخ الطوسيS في الاستبصار[39] حيث كانت فتوى ابن أبي ليلى قاضي الكوفة والمعاصر للإمام الصادقg على التنصيف.
إلا أن المشكلة في ذلك هي أن ابن أبي ليلى كانت له أربع فتاوى مختلفة في هذه المسألة كما أشارت لذلك نفس رواية ابن الحجاج كما في صدرها، ومع ذلك فقد يتأمل في صلاحية هذا الاحتمال لتهمة الرواية بالتقية، فلاحظ.
المناقشة الرابعة: لو تنزّلنا عن ذلك وبنينا على جريان أصالة الجهة في رواية يونس بن يعقوب، فنقول من المحتمل جداً أن يكون التنصيف الذي حكم به الإمامg من باب قاعدة اليد حيث قد يكون المتاع في مكان مشترك بين الرجل والمرأة، ومقتضى القاعدة هو الشركة مع ثبوت اليد لكل واحد منهما.
المناقشة الخامسة: لو تنزلنا عن كل ما تقدم فمن المحتمل أن يكون حكم الإمامg بالتنصيف من باب المصالحة وليس من باب قاعدة العدل والإنصاف، ولا شاهد في الرواية على أن ذلك قد كان من باب العدل والإنصاف.
الرواية الرابعة: عن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِi: فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا دِينَارَيْنِ فَاسْتَوْدَعَهُ آخَرُ دِينَاراً فَضَاعَ دِينَارٌ مِنْهَا قَالَ: >يُعْطَى صَاحِبُ الدِّينَارَيْنِ دِينَاراً ويُقْسَمُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ<[40] بتقريب:
1- الرواية واردة في الوديعة التالفة، أي في حكم الدينار المودع الذي تلف في يد الودعي وتردّد أمره هل هو للودعي الأول صاحب الدينارين فيعطى ديناراً، أو للثاني صاحب الدينار فلا يعطى شيئاً أو أن الجاري هو القرعة؟
2- دلّت الرواية على أن الحكم هو التنصيف بينهما، فلا يحكم بأنه لواحدٍ منهما بالخصوص، بل يحكم بأنه مشترك بينهما وبالتالي فيعطى صاحب الدينارين ديناراً ونصفاً وصاحب الدينار نصف دينار، وهذا مرجعه إلى العدل والإنصاف.
3- لا نحتمل الخصوصية لمورد الرواية فنتعدّى من موردها وهو الوديعة التالفة إلى كل مورد يشتبه فيه صاحب المال بين طرفين أو غير ذلك من موارد اشتباه الأموال والحقوق.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة في هذه الرواية كما ناقش السيد السيستانيF في قاعدة لا ضرر[41]:
المناقشة الأولى: إن الرواية ضعيفة السند حيث في سندها النوفلي ولا طريق لتوثيقه إلا كبرى وثاقة كل من ورد في أسانيد كامل الزيارات، أو دعوى أن عمل الأصحاب بروايات السكوني كما شهد الشيخ الطوسيS يستلزم بناءهم على وثاقة النوفلي فإن جل الروايات الواصلة عن السكوني وصلتنا من خلال النوفلي، إلا أن مقتضى التحقيق عدم تمامية شيء من ذلك، أما كبرى وثاقة كل من ورد في أسانيد كامل الزيارات، فبأن أقصى ما تدل عليه عبارة ابن قولويه أن رواياته مأخوذة من الأصول والمصنفات التي ألفها المشاهير والأجلاء من أصحابنا، وهذا لا يفيدنا لتوثيق النوفلي، وأما عمل الأصحاب بروايات السكوني فهو أعم من توثيق النوفلي فلعله من باب الوثوق بهذه الروايات فإن مبنى القدماء من أصحابنا على الوثوق لا الوثاقة، على أنه من المحتمل أن تكون هناك روايات أخرى للسكوني معتبرة سنداً لا تمرّ بالنوفلي وهي منشأ عمل الأصحاب، إلا أنها لم تصلنا وضاعت مع كثير من الكتب التي فقدت من مؤلفات الأصحاب كجامع البزنطي الذي نقل عنه الشهيد الأول في الذكرى، وكتاب مدينة العلم للصدوق، وكثير من كتب العلامة الحليS من قبيل كتاب الدر والمرجان في الأحاديث الصحاح والحسان، وكتاب مصابيح الأنوار، وكتاب استقصاء الاعتبار في تحرير معاني الأخبار.
المناقشة الثانية: يمكن القول بأن الرواية لا ربط لها بقاعدة العدل والإنصاف والسر في ذلك هو أنه لو كنا ومقتضى العدل والإنصاف لكان المفروض أن يعطى صاحب الدينارين ديناراً وثلثاً وصاحب الدينارين ثلثين، فإن هذا هو مقتضى العدل والإنصاف، وليس مقتضى العدل والإنصاف أن يعطى صاحب الدينارين ديناراً ونصفاً وصاحب الدينار نصف دينار، وذلك لأنه بعد امتزاج الدنانير الثلاثة حصلت شركة قهرية بين الودعيين فيكون لصاحب الدينارين الثلثان ولصاحب الدينار الثلث، فبعد التلف تلحظ نسبة التالف بالقياس إلى نصيب كل واحد من الودعيين من أصل المال، وبهذا فمقتضى العدل والإنصاف أن يعطى صاحب الدينارين ديناراً وثلثاً وصاحب الدينار ثلثين، وعليه فالرواية أجنبية عن القاعدة المذكورة وإنما تشير إلى حكم تعبدي خاص.
المناقشة الثالثة: على فرض أن الرواية تشير إلى التنصيف فإن إلغاء الخصوصية والتعدي إلى غير مورد الرواية عهدتها على مدعيها.
الرواية الخامسة: [من لا يحضره الفقيه]؛ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg: فِي رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَهُمَا دِرْهَمَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا الدِّرْهَمَانِ لِي وقَالَ الْآخَرُ هُمَا بَيْنِي وبَيْنَكَ فَقَالَ: >أَمَّا الَّذِي قَالَ هُمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ لَيْسَ لَهُ وأَنَّهُ لِصَاحِبِهِ وَيُقْسَمُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا<[42]. بتقريب:
1- الرواية واردة في حكم المال المتنازع عليه "الدرهمين" بين طرفين وقد أقرَّ أحد الطرفين بالشركة وأنكر الآخر ذلك، فهل يحكم بأنه للأول بالخصوص أم للثاني بالخصوص أم بالتنصيف بينهما أم بالقرعة؟
2- أجاب الإمامg بالتفصيل؛ فبالنسبة لأحد الدرهمين فإنه يكون خاصاً بالمنكر؛ وذلك لأن المقر قد أقر بأن الدرهمين مشتركان بينهما، وهذا معناه أن واحداً من الدرهمين للمنكر جزماً، وأما الدرهم الآخر فهو الذي يشك فيه هل هو للمقر خاصة أو أنه للمنكر خاصة، ومع عدم المعلومية فحكم الإمامg بالتنصيف بينهما، فلا يعطى للأول بخصوصه ولا للثاني بخصوصه؛ لأنه ترجيح بلا مرجّح، بل يحكم بينهما بالتساوي.
3- لا نحتمل الخصوصية لمورد الرواية بل المناط على الاشتباه وتردد المال بين أكثر من طرف وبالتالي فنتعدى لكل مورد من هذا القبيل.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة في هذه الرواية بالتالي:
المناقشة الأولى: أنها ضعيفة السند بالإرسال، فإن عبدالله بن المغيرة قد أرسلها (عن غير واحد) وهو وإن كان من الأجلاء وأصحاب الإجماع إلا أنه لم يثبت بأنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة.
إن قلت: مقتضى نقل ابن المغيرة الرواية عن غير واحد هو كونها منقولة عن ثلاثة لا أقل وبالتالي يمكن الاطمئنان بوثاقة واحد منهم على الأقل بعد ملاحظة مشايخ ابن المغيرة وأن أكثرهم من الثقات.
قلت: إن إحراز ذلك محل تأمل ونظر، فلعل ما لم يصلنا من روايات ابن المغيرة أكثر مما وصلنا، ولعل كثير مما لم يصلنا منقول عن المجاهيل، وبالتالي يصعب تحصيل الاطمئنان من خلال حساب الاحتمالات بوثاقة واحد من الثلاثة الذين نقل عنهم، وهذا عينه يأتي في مراسيل ابن أبي عمير عن غير واحد أيضاً، وتفصيل الكلام موكل إلى محلّه.
المناقشة الثانية: لعلّ حكم الإمامg بالتنصيف من باب قاعدة اليد وليس من باب العدل والإنصاف، حيث قالت الرواية: (كان معهما) أي أن المال تحت يديهما، كما لو كان في صندوقهما المشترك مثلاً.
المناقشة الثالثة: إن نوقش في دلالة كلمة (معهما) على اليد، قلنا من المحتمل أن يكون التنصيف من باب المصالحة لا من باب قاعدة العدل والإنصاف.
المناقشة الرابعة: مع التنزّل عما تقدّم فإنه لا نحرز التعدي من مورد الرواية إلى غيره فإلغاء الخصوصية عهدتها على مدعيها.
الرواية الخامسة: ما رواه ثقة الإسلام الكليني؛ عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg >أَنَّ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَg اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ وكِلَاهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَنْتَجَهَا فَقَضَى بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وقَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ جَعَلْتُهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ<[43]؛ كما توجد رواية شبيهة لهذه الرواية وهي رواية غياث بن إبراهيم، والرواية معتبرة سنداً، وتقريب الدلالة:
1- الرواية واردة في حكم المتداعيَيْن في دابة فكل واحد يدعي بأنها له وقد أقام بينة على ذلك، فهل يحكم بها لواحد منهما أو بالتنصيف أو بالقرعة أو غير ذلك؟
2- دلت الرواية على التفصيل فإذا حلف أحدهما دون الآخر قضي بها للحالف سواء كانت في يدهما جميعاً أو لم تكن في يد واحد منهما أو كانت في يد أحدهما، أما إذا حلف كلاهما فإن الحكم هو التنصيف بينهما.
3- لا يحتمل العرف الخصوصية لمورد الرواية، فيتعدى لكل مورد اشتبهت فيه الأموال أو الحقوق.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة في الرواية بالتالي:
المناقشة الأولى: إن هذه الرواية وكذلك رواية غياث بن إبراهيم معارضة برواية أخرى واردة في نفس القضية بل قد تكون إخباراً عن نفس الواقعة وقد دلت على أن الحكم هو القرعة لا التنصيف، وهي ما رواه الشيخ الطوسي؛ عن الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: >إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى عَلِيٍّg فِي دَابَّةٍ فَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُنْتِجَتْ عَلَى مِذْوَدِهِ، وأَقَامَ كُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً سَوَاءً فِي الْعَدَدِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمَا سَهْمَيْنِ فَعَلَّمَ السَّهْمَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَلَامَةٍ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ورَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ، ورَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ عَالِمَ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ أَيُّهُمَا كَانَ صَاحِبَ الدَّابَّةِ وهُوَ أَوْلَى بِهَا فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُقْرِعَ وتُخْرِجَ سَهْمَهُ، فَخَرَجَ سَهْمُ أَحَدِهِمَا فَقَضَى لَهُ بِهَا<[44].
وهذه الرواية معتبرة سنداً وواضحة الدلالة على أن الجاري عند التنازع في دابة هي قاعدة القرعة، وهناك رواية أخرى أيضاً بنفس المضمون عن عبدالله بن سنان ولكنها لا تخلو من ضعف سندي، يمكن ملاحظتها في نفس المصدر المذكور للرواية السابقة.
وبالتالي؛ فإنه يقع التعارض بين الروايتين، وعند التعارض المستقر نرجع إلى باب المرجحات، ويمكن القول بأن مقتضى المرجحات هو ترجيح ما دلّ على قاعدة القرعة لأن أخبار القرعة هي المشهورة.
كما يمكن أن يقال بترجيح ما دل على القرعة أيضاً لموافقتها للكتاب، كما أشارت الآية المباركة من الاقتراع عند الاختلاف في كفالة السيدة مريم بنت عمرانj حيث قال سبحانه: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[45]، بضميمة القطع بتشريع القرعة في الشريعة الإسلامية، إلا أنه قد يشكك في شمول أخبار الترجيح بموافقة الكتاب لمثل الآيات الحاكية عن التشريعات الجارية في الأمم السابقة، لا سيما لمثل هذه الآية التي تحكي واقعة خارجية لا قاعدة شرعية عامة.
وهكذا يمكن القول بترجيح ما دل على القرعة بناءً على الترجيح بمخالفة العامة فإن مبنى العامة كما قيل آنذاك على التنصيف فمخالفتهم بالأخذ بأخبار القرعة، فلاحظ.
المناقشة الثانية: على فرض التنزّل فإنه لا دلالة في هذه الرواية على قاعدة كبروية تسمى العدل والإنصاف؛ حيث لعلّ ما حكم به الإمام من التنصيف يرجع إلى المصالحة، ولا يعلم بأن ذلك راجع إلى قاعدة العدل والإنصاف، فإن أقصى ما تدل عليه الرواية أن الأميرg قد حكم بالتنصيف بينهما، وهذا الحكم أعمّ من كونه من باب العدل والإنصاف.
المناقشة الثالثة: على فرض أن احتمال رجوع التنصيف إلى المصالحة مخالف للظاهر، فإن احتمال الخصوصية وعدم إحراز التعدي في محله.
الرواية السابعة: ما رواه ثقة الإسلام الكليني؛ عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍg- عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ومُهُورُهُنَّ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ: >جَائِزٌ لَهُ ولَهُنَّ< قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ هُوَ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنَ الْأَرْبَعِ وأَشْهَدَ عَلَى طَلَاقِهَا قَوْماً مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ وهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا كَيْفَ يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ؟ قَالَg: >إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا أَخِيراً مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ رُبُعَ ثُمُنِ مَا تَرَكَ، وَإِنْ عُرِفَتِ الَّتِي طُلِّقَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ بِعَيْنِهَا ونَسَبِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنَ الْمِيرَاثِ وعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، قَالَ: ويَقْسِمْنَ الثَّلَاثُ نِسْوَةٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثُمُنِ مَا تَرَكَ وعَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ، وإِنْ لَمْ تُعْرَفِ الَّتِي طُلِّقَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ اقْتَسَمْنَ الْأَرْبَعُ نِسْوَةٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثُمُنِ مَا تَرَكَ بَيْنَهُنَّ جَمِيعاً وعَلَيْهِنَّ جَمِيعاً الْعِدَّةُ<[46]؛ بتقريب:
أنّ الرواية واردة في حكم ميراث النساء اللواتي اشتبهت المطلقة منهنَّ فهل يقرع بينهن أم ينصف أم يرجح البعض على البعض الآخر؟
دلت الرواية على أن المعلومة الزوجية وهي الزوجة الخامسة تعطى نصيبها وأما بالنسبة للأربع اللواتي اشتبهت المطلقة منهن فإنه يقسم الميراث بينهن بالتساوي، وهذا مرجعه للعدل والإنصاف.
بعد إلغاء الخصوصية يمكن التعدي لكل مورد يشتبه فيه المال أو الحق.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
ويمكن المناقشة لهذه الرواية بالتالي:
أولاً: لعل ما حكم به الإمام من باب الصلح، فلا يعلم بأنه من باب قاعدة العدل والإنصاف.
ثانياً: على فرض التنزّل فلا نحرز التعدية من المورد إلى كل الموارد، ولذا فإن المشهور بين الأعلام» كما أشار فخر المحققين في إيضاح الفوائد[47] والشهيد الثانيS في المسالك[48] على عدم إلغاء الخصوصية لغير هذه الصورة، كما لو طلق اثنتين من الأربع وتزوج بدلاً عنهما اثنتين واشتبهت المطلقتان، فهنا ذهب المشهور لجريان قاعدة القرعة ولم يحكموا بالتنصيف لاحتمال الخصوصية في مورد الرواية.
الدليل الرابع: الاستقراء؛ وحاصله في مقدمات:
المقدمة الأولى: عند التتبع لموارد فقهية متعددة وفي أبواب مختلفة يمكن الوقوف على موارد عديدة أجرى الشارعُ فيها قاعدة العدل والإنصاف ومن هذه الموارد:
المورد الأول: دية المقتول الذي اشتبه قاتله بين أكثر من شخص كما في رواية محمد بن قيس المتقدمة.
المورد الثاني: ميراث الخنثى كما دلت على التنصيف راوية هشام بن سالم المتقدمة.
المورد الثالث: الميراث المشتبه كونه للرجل والمرأة كما في رواية يونس بن يعقوب المتقدمة.
المورد الرابع: الوديعة التالفة التي اشتبه صاحبها كما في رواية السكوني المتقدمة.
المورد الخامس: العين المتنازع عليها كما في رواية إسحاق بن عمار المتقدمة.
المورد السادس: ميراث الزوجات كما في رواية أبي بصير المتقدمة.
المقدمة الثانية: إن هذا الاستقراء يوجب حصول القطع، والقطع حجة بذاته، وهذا من قبيل ما أفاده الشيخ الأعظمS من الاستدلال على جريان الاستصحاب عند الشك في الرافع بالاستقراء حيث قال في الرسائل: "إنا تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع، فلم نجد من أول الفقه إلى آخره موردًا إلّا وحكم الشارع فيه بالبقاء، إلا مع أمارة توجب الظن بالخلاف، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء"[49].
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
والجواب على ذلك:
أولاً: إن بعض هذه الروايات المذكورة غير تامة سنداً كما في رواية السكوني.
ثانياً: إن هذه الروايات غير تامة دلالةً من الأصل كما في رواية السكوني أيضا كما أشرنا سابقا؛ لأنها خلاف الإنصاف، كما أن بعضها مجرى لقاعدة اليد فما دام مجرى لقاعدة اليد فليس المنشأ للتنصيف حينئذ هو قاعدة العدل والإنصاف بل اليد، كما في رواية يونس بن يعقوب التي دلت على أن المتاع المشترك يقسم بالسوية بين الرجل والمرأة.
ثالثاً: إن بعض الروايات المذكورة معارضة كما تقدم فكيف تصلح للاستدلال على قاعدة العدل والإنصاف.
رابعاً: إن بعض هذه الروايات يحتمل أن يكون الحكم فيها بالتنصيف حكماً تعبدياً خاصاً كرواية محمد بن قيس الواردة في الدية أو كرواية هشام بن سالم الواردة في ميراث الخنثى.
خامساً: عندنا روايات عديدة جداً وواضحة الدلالة أيضاً، دلت على قاعدة القرعة عند الاشتباه، فمقتضى القاعدة عدم الخروج عن عمومات القرعة إلا في مورد قد ثبتت حجيته، كما في مورد الزوجات الأربع اللاتي حكم الإمامg لهن بالتنصيف كما في رواية أبي بصير، ولم يثبت ذلك في غير هذا المورد فنبقى في غيره على عمومات القرعة.
الدليل الخامس: القرآن الكريم:
حيث استدل بعض الأعاظم كالسيد السيستانيF في قاعدة لا ضرر[50] بالآيات القرآنية على قاعدة العدل والإنصاف، وهي ثلاث آيات:
الآية الأولى: قولهa: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}[51].
الآية الثانية: قوله§: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[52].
الآية الثالثة: قولهa: {فَلِذلِكَ فَادْعُ واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا ورَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا ولَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[53].
وتقريب دلالة هذه الآيات على محل بحثنا أن يقال:
1- دلّت هذه الآيات المباركة على أن الشارع الأقدس يُلزم بالعدل بين الناس، حيث إن من مبادئ الشريعة الإسلامية مبدأ العدالة.
2- إن معنى العدالة هو التسوية، وكما قال العلامة في الميزانS: "حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي أن يعطاه..."[54].
فالمقصود بالعدل إذاً هو الإنصاف والمساواة.
3- إذا اشتبه المال وتردد أمره بين طرفين أو أكثر فمقتضى العدل هو المساواة والإنصاف بتقسيم المال بالتساوي، مع عدم إمكان تشخيص صاحبه.
النتيجة: حجية قاعدة العدل والإنصاف.
والجواب عن ذلك: بأن أقصى ما تدل عليه الآيات القرآنية هو لزوم العدل وأن العدالة من المبادئ الإسلامية وليست هي في مقام بيان كيفية تحقيق هذه العدالة، وبالتالي فلا وضوح في هذه الآيات على قاعدة العدل والإنصاف بالمعنى الأول المذكور، كما لا دلالة فيها أيضاً على قاعدة القرعة أو غير ذلك، فالتمسك بها لإثبات قاعدة العدل والإنصاف بالمعنى الأول من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وإن شئت قلت: بأن هذه الآيات تدل على المعنى الثالث الذي ذكرناه من معاني قاعدة العدل والإنصاف، وهو أن الإسلام دين العدالة فلا ظلم فيه ولا جور، ولعل هذا هو مقصود السيد السيستاني= في استدلاله على هذه القاعدة بهذه الآيات، ويشهد لذلك أنه لم يفتِ في منهاجه بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف بالمعنى الأول، وإنما أفتى بمقتضى قاعدة القرعة فلاحظ نفس المسائل التي نقلناها فيما تقدم عن منهاج السيد الخوئيS تجد ذلك.
فإذن؛ تحصَّل لدينا في ختام هذه المسألة ومن جميع ما تقدّم: إنه لم ينهض أيُّ دليلٍ من هذه الأدلة الخمسة التي ذكرناها لإثبات قاعدة العدل والإنصاف بالمعنى الأول الذي هو محلّ بحثنا، بل إنّ الأدلة قائمة على جريان قاعدة القرعة في هذه الموارد وليس العدل والإنصاف بمعنى التقسيم بالتساوي، والله العالم بحقايق الأمور.
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مستفاد من دروس سماحة الأستاذ الشيخ حسن الهودار B.
[2] قاعدة لا ضرر ولا ضرار (السيد السيستاني)، ص325.
[3] دراسات في علم الأصول؛ (تقرير السيد الشاهرودي)، ج3، ص79.
[4] مصباح الأصول (السيد الخوئيS)، ج49، ص67.
[5] المصدر نفسه، ج٤٧، ص٦٥٤.
[6] قاعدة لا ضرر (السيد السيستانيF)، ص٣٢١.
[7] كتاب البيع (السيد الخوئيS)، ج39، ص369.
[8] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج31، ص182.
[9] مصباح الفقيه، ج13، ص311.
[10] قاعدة لا ضرر (السيد السيستانيF)، ص٣٢٥.
[11] المستمسك (السيد الحكيمO)، ج9، ص497.
[12] المصدر نفسه، ج14، ص251.
[13] المستند في شرح العروة الوثقى، الخمس، ج25، ص147.
[14] مصباح الفقاهة (المكاسب)، ج7، ص291.
[15] الدراسات (السيد الخوئيS)، ج3، ص79.
[16] قاعدة لا ضرر (السيد السيستانيF)، ص٣٢٥.
[17] تعاليق مبسوطة (الشيخ الفيّاضF)، ج7، ص86.
[18] المستمسك (السيد الحكيمO)، ج14، ص250.
[19] المحاسن، ج1، ص192.
[20] كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص324.
[21] منهاج الصالحين (السيد الخوئيS)، ج1، ص330.
[22] المصدر السابق، ج2، ص11.
[23] المصدر السابق، ج2، ص218.
[24] المصدر السابق، ج2، ص243.
[25] بحر الفوائد (الميرزا الآشتياني)، ج8، ص298.
[26] وسائل الشيعة، ج29، ص233.
[27] عج بطنه بالسكين يبعجه بعجا إذا شقه فهو مبعوج.
[28] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص118.
[29] الكافي (ط - الإسلامية)، ج7، ص157.
[30] الانتصار في انفرادات الإمامية، ص593.
[31] الكافي (ط - الإسلامية)، ج7، ص158.
[32] الخلاف، ج4، ص106.
[33] تهذيب الأحكام (تحقيق الخرسان)، ج9، ص302.
[34] سير أعلام النبلاء، ج١٥، ص٥٦٧.
[35] تاريخ بغداد، ج١٢، ص٨٠.
[36] فهرست ابن النديم، ص٨٧.
[37] قبسات من علم الرجال، ج٢، ص٢٧١.
[38] الكافي (ط - الإسلامية)، ج7، ص131.
[39] الاستبصار ج٣، ص٧٤.
[40] وسائل الشيعة، ج18، ص452.
[41] قاعدة لا ضرر (السيد السيستاني)، ص٣٢٣.
[42] من لا يحضره الفقيه، ج3، ص35.
[43] الكافي (ط - الإسلامية)؛ ج7، ص419.
[44] تهذيب الأحكام (تحقيق الخرسان)، ج6، ص235.
[45] سورة آلعمران: 43.
[46] الكافي (ط - الإسلامية)؛ ج7، ص131.
[47] إيضاح الفوائد؛ ج٤ ص٢٤٠.
[48] مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام (الشهيد الثانيS)؛ ج١٣، ص ١٧٩.
[49] مجلة فقه أهل البيتi (بالعربية)؛ ج29، ص144.
[50] قاعدة لا ضرر (السيد السيستانيF)؛ ص٣٢٥.
[51] سورة النساء: 58.
[52] سورة النحل: 90.
[53] سورة الشورى: 15.
[54] الميزان في تفسير القرآن؛ ج12، ص331.
0 التعليق
ارسال التعليق