قد من الله علينا أن يتفضل الإخوة في (رسالة القلم) بنشر مختصر لمقالنا الموسوم بـ(أخبار المشاهدة) في ثلاثة أعداد متتالية، وهذا هو القسم الرابع من التحقيق، أضفناه بعد إجالة النظر في بعض جوانبه، وذيلناه بما هو حقيق بأن يحق حقه وينحى بباطله.
في حكم دعاوى البابية والنيابة الخاصة زمن الغيبة الكبرى
اتضح مما قدمنا لك في الأقسام المتقدمة: أنَّ التوقيعَ المبارك للإمام الحجة(ع) لآخر سفرائه الكرام (عليهم رحمة الله والرضوان) نصٌ في انقطاع النيابة الخاصة بدلالة عدم الإيصاء لأحد بعد السفير الرابع، واتضح مما بعدها من الأدلة أن لقياه(ع) والتشرف بالنظر لنور وجهه المبارك ممكن متحقق، بل لا مجال لإنكاره بعد تواتر الإخبارات وتضافر الأدلة على إمكانها من جهة ساحته وناحيته المباركة.
وذكرنا في طيات البحث أنَّ كثرةَ المدعين للمشاهدة والنيابة لا تلجئنا لرفع اليد عن دلالة النصوص على إمكان المشاهدة في هذا العصر وما قبله، وهذا ما يحتاج لمزيد بيان.
إذ أن حكومة الأدلة على بعضها إنما هو بعد الجمع بين دلالتها والأخذ بأقواها المتصرف في ما يقابله من النص أو الظاهر، ولمَّا كان الدليل على إمكان مشاهدته(ع) بلا معارض من دليل لفظي أو غيره، فلا شكَّ أنَّ التصرفَ فيه والحكم على خلافه -ولو اعتقادا- ردٌ على صاحب الشرع(ع) المنزه عن تشريع ما ينشئ منه المفسدة. فيؤول الأمر لا محالة إلى كون المفسدة من المكلفين بعد العلم بأنَّ الشارعَ الحكيم منزَّهٌ عن القبيح. وهذه المفسدة ليست هي المشاهدة في نفسها؛ فهي محققة في مصاديق متكثرة، لكنها في صنف خاص من الدعاوى فيها، وهي دعوى المشاهدة على نحو النيابة الخاصة تثبت السفارة أو الوكالة أو النيابة أو الولاية عن الإمام المعصوم (عليه وعلى آبائه السلام).
إذا عرفت هذا وتأملته مع ما سبق وتلونا عليك في فصول هذا التحقيق، يتضح حكم المدعي للسفارة عنه(ع) في هذا العصر، ونوجز حكمه في جهتين:
الجهة الأولى: حكمه بالنسبة إلى نفسه:
قد دلنا التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة له(ع) على أن مدعي السفارة في زمن الغيبة الكبرى وانقطاع عصر السفراء خارج عن المذهب الحق والتشيع، ويدلك عليه قوله(ع): (وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة).
إن قلت: إن الوصف هو لبيان المؤتى إليهم، ولا يلزم منه أن يكون الآتي من غير شيعته(ع) فقط، إذ قد يكون من شيعته كذلك. قلنا: إنَّ ذلك وإن كان صحيحا؛ إذ قد يكون الآتي بدعوى السفارة عنه(ع) من شيعته، إلا أنه لا يكون كذلك حال إتيانها؛ لأنه كذاب مفتر، وتعمّدُ الكذبِ بأنْ ينصب نفسَه إماما دون الإمام مساوقٌ لإنكار إمامة حجة زمانه(ع)، ومن أنكره فقد خرج عن ربقة هذا الدين والمذهب الحق.
يدل على ذلك ما رواه الكليني(ره) صحيحا عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان عن الفضيل، عن أبي عبد الله(ع) قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر»(1).
إن قلت: إنه لم ينصب نفسه إماما، بل نصب نفسه نائبا عن الإمام. قلنا: إن هذا في الحقيقة -مع تعمده- نصب لنفسه لا نيابة عن غيره، كيف وهو مع قيامه بالدعوى يعلم بأنْ لا إمام خلفه أوعز له بأمر. والتعبير بالكفر عُنِيَ به الكفر الواقعي لا الحكم الظاهري المتعبد به، إذ لو قلنا بأنه الحكم الشرعي لوجب تكفيرُ كلِّ طوائف المسلمين وحملُ جملةٍ من النصوص على خلاف ظاهرها، وهذا ما تشهد النصوص الكثيرة بخلافه، خاصة ما كان بلسان (من شهد الشاهدتين فقد عصم نفسه وعرضه وماله) وغيرها.
نعم لو دلَّ دليلٌ على أنَّ الحكم بإسلام كل الفرق ممن يدعي الإسلام إنما كان للتقية وفي زمن الهدنة، فمع انتفائها ينتفي حكمها كما هو في زمن ظهوره(ع)، والمدعي للسفارة والمشاهدة ليس ممن يُتَّقَى لكونه من داخل المذهب لا من خارجه، فوجب الحكم بكفره. لكنَّ الإنصاف أنه قول لا يقوى أمام أدلة القول بإسلامهم حكما، وأدلة طهارتهم ومناكحتهم ومبايعتهم المطلقة من جهة التقية والزمان، وليس المدعي للسفارة -مع خروجه عن المذهب الحق- بمختلف عنهم من جهة شهادته للشهادتين وإنكاره عملا لإمامة إمام زمانه(ع)، فهو مشارك لهم في الحكم، إلا أن يكون مخصوصا بحكم خاص كما سيأتي. كل هذا بحسب الأدلة اللفظية ومجموع النصوص.
لكن قد حَكَى الشيخُ الطوسي في كتاب الغيبة في (ذكر المذمومين الذين ادعوا البابية)(2) أخبارَ جملةٍ منهم، بدأها بذكر الشريعي، وهو (أوَّل من ادَّعى مقاما لم يجعله الله فيه)، ثم عقَّبه بذكر آخرين كالنميري والحلاج وأحمد بن هلال الشلمغاني وهو ابن أبي العزاقر، وكلهم عاصروا الغيبة الصغرى للإمام(ع) وفيهم من خرجت فيه التواقيع واللعن كالشلمغاني. إلى أن انتهى لـ(ذكر أمر أبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبى جعفر محمد بن عثمان العمري، وأبي دلف المجنون) -والمدعي للأمر العظيم هو البغدادي وأبو الدلف أبرز أعوانه- فقال(ره) مسندا للثقات: "أخبرني الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان [وهو المفيد]، عن أبي الحسن علي بن بلال المهلبي قال: سمعت أبا القاسم جعفر بن محمد بن قولويه [شيخ المفيد جليل القدر] يقول: أما أبو دلف الكاتب -لا حاطه الله- فكنَّا نعرفه ملحدا ثم أظهر الغلو، ثم جنَّ وسلسل، ثم صار مفوضا وما عرفناه قط إذا حضر في مشهد إلا اُستُخفَّ به، ولا عرفته الشيعة إلا مدة يسيرة، والجماعة تتبرأ منه وممن يومي إليه وينمس به. وقد كنا وجهنا إلى أبي بكر البغدادي لما ادَّعى له هذا ما ادعاه، فأنكر ذلك وحلف عليه، فقبلنا ذلك منه، فلما دخل بغداد مال إليه وعدل عن الطائفة وأوصى إليه، لم نشك أنه على مذهبه، فلعنَّاه وبرئنا منه؛ لأن عندنا أن كل من ادَّعى الأمر بعد السمري(ره) فهو كافر منمس ضال مضل، وبالله التوفيق"(3).
وظاهره الإجماع والاتفاق على ذلك حكما، مع موافقة الشيخ(ره) عليه، وتوجيهه أن يكون منتسبا للمذهب الحق مع كونه مدعيا لهذا الأمر العظيم، لا أن يكون قائما بمذهب في قِبال مذهب الإمامية.
فيكون دليلا -لو تمت كاشفيته عن الحكم الشرعي وتلقيه من المعصوم(ع)- على كفر مدعي السفارة عن مولانا صاحب العصر والزمان(ع) بعد وفاة السمري(ره) سنة تسع وعشرين وثلاثمائة إلى أوان ظهوره(عج).
الجهة الثانية: في حكمه بالنسبة لغيره:
قد تبين لك في الجهة الأولى حكمه بالنسبة لنفسه، وأنه إما خارج عن المذهب يعامل معاملة الفرق الأخرى من المسلمين بدلالة الأدلة اللفظية، وإما أنه خارج عن ربقة الإسلام بالكلية بحكم الأدلة اللبِّية.
وعلى الأخير، فإنه لا تثبت له حقوق المسلمين ولا أحكامهم، وأنه يجري عليه حكم المرتد الفطري لو كان مسلما عن فطرة، وحكم الملي لو كان مليا.
نعم لا بد من استيضاح حاله، فإنَّه تارة يكون مقرونا باحتمال الشبهة فيه، فيرشد إلى جوابها، وتارة لا تحتمل الشبهة فيه ولا يلتمس له عذر، فيكون مقطوعا بالحكم بالارتداد والكفر. وأما لو لم نقل بكفره مع خروجه عن المذهب أو بدونه، فلا شكَّ في كونه مبتدعا في الدين بما ليس منه، وتثبت له أحكام المسلمين. إلا أنَّ أهلَ البدع والمعاصي يجب رد بدعهم بحسب مراتب النهي عن المنكر المقررة عند المشهور، فتجب مقاطعتهم بعدم صحبتهم أو مجالستهم.
يدلُّك عليه ما روي بسند صحيح في الكافي إلى عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله(ع) أنَّه قال: «لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله(ص): المرء على دين خليله وقرينه»(4).
وإظهار البراءة منهم والإكثار من الوقيعة فيهم وخصمهم بالحجج حتى ينقطعَ شرُّهم، ويفضحهم الله أمام عباده بما قدمت أيديهم، كما دلت عليه صحيحة داوود بن سرحان عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرَهم الناسُ ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(5). بل وإن في صحبتهم ما هو أكثر من الحكم التكليفي الإلزامي، مما هو إرشاد إلى أن مواضعهم مواضع نزول النقم، كما في خبر الجعفري، قال: «سمعت أبا الحسن(ع) يقول: مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقلت إنه خالي، فقال: إنه يقول في الله قولا عظيما، يصف الله ولا يوصف، فإما جلست معه وتركتنا، وإما جلست معنا وتركته، فقلت: هو يقول ما شاء، أي شئ عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن(ع): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا، أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى(ع)، وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون بموسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى، فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر، فغرقا جميعا فأتى موسى الخبر فقال: هو في رحمة الله، ولكنَّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع»(6).
وقد أولى علماؤنا المتقدمون عناية بسلوك منهج المقاطعة لأهل البدع والضلالات والاستهزاء بهم وكشف تزويراتهم وتلبيساتهم في الدين على عوام المؤمنين. فقد أورد الشيخ(ره) في كتابه المزبور ما فيه تدليل على المسلك العام لعلماء الطائفة منذ أول ظهور لمدع للسفارة والنيابة –وهي المعبر عنها بالأمر العظيم- في عصر حضورهم(ع) إلى عصر الغيبتين الصغرى والكبرى. فقد روى(ره): أنَّ (أول من ادَّعى مقاما لم يجعله الله فيه) هو الشريعي من أصحاب أبي الحسن علي بن محمد ثم الحسن بن علي بعده(ع)، (فلعنته الشيعة وتبرأت منه، وخرج توقيع الإمام(ع) بلعنه والبراءة منه)(7). ثم ادَّعى البابية والنيابة من بعده محمد بن نصير النميري، الذي كان يأتي الفواحش ويأمر بها بزعم أنها من الطيبات التي لا يحرمها الله(عزّ وجلّ)، وروى فيه الشيخ عن أبي طالب الأنباري: أنه (لما ظهر محمد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر(رض) وتبرأ منه، فبلغه ذلك، فقصد أبا جعفر(رض) ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه، فلم يأذن له وحجبه ورده خائبا)(8).
ومنهم: أبو طاهر محمد بن علي بن بلال، الذي ادعى الوكالة فترة سفارة أبي جعفر محمد بن عثمان(ره)، (حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه، وخرج فيه من صاحب الزمان(ع) ما هو معروف)(9). ومنهم: الحسين بن منصور الحلاج، الذي يتخذه بعض الفلاسفة شعارا للمعرفة والتصوف، فقد روى الشيخ(ره) عن أبي العباس أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري قال: «لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن أبا سهل إسماعيل بن علي النوبختي(رض) ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجه إليه يستدعيه، وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم، ويقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان(ع) -وبهذا أولا كان يستجرُّ الجهالَ ثم يعلو منه إلى غيره- وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر.
فأرسل إليه أبو سهل(رض) يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن [ويبغضني إليهن] وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة، وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل(رض) أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه».
ومن لطيف ما روى كذلك عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه: «أنَّ ابن الحلاج صار إلى قم، وكاتب قرابة أبي الحسن يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضا ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله، قال: فلما وقعت المكاتبة في يد أبي(رض) خرقها وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل -وأظن أنه قال: أنه ابن عمته أو ابن عمه- فإن الرجل قد استدعانا فلم خرقت مكاتبته؟ وضحكوا منه وهزؤا به، ثم نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه. قال: فلما دخل إلى الدار التي كان فيها دكانه نهض له من كان هناك جالسا غير رجل رآه جالسا في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي، فلما جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجار أقبل على بعض من كان حاضرا، فسأله عنه فأخبره فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عني وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك، فقال له: تخرق رقعتي وأنا أشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذا، ثم قال: يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدو لله ولرسوله، ثم قال له: أتدعي المعجزات عليك لعنة الله؟ أو كما قال فأخرج بقفاه فما رأيناه بعدها بقم»(10).
ومنهم الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر، الذي كان مقدما لدى أبي القاسم الحسين بن روح(ره) لكونه أحد فقهاء الطائفة قبل ارتداده، وقد كتب كتاب (التكليف) الذي عرض على جمع من علماء بغداد وقم، واستظهر بعض علمائنا أنه رسالة ابن بابوبه الأب نفسها، والكتاب في نفسه ممدوح معول عليه إلا ما استثني منه في كتاب الشهادات(11)، إلا أنه لحسده لأبي القاسم الحسين بن روح آثر الخروج عن المذهب بادعاء البابية والآراء الباطلة، وكان لقوة فكره وتكلمه يقلب على الناس الكلام والمعاني، فيدعي أن اللعن الصادر فيه رحمة له وإظهار لعلو شأنه؛ لكونه من أهل الاختصاص فلما أذاع السر أبعد، وأول ما ورد من اللعن فيه وأن له (باطنا عظيما وهو أن اللعنة الإبعاد)، وقال لما بلغه ذلك في معناه: "لعنه الله أي باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي ومرغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر". وذكر حاله وقبائحه(لع) يطول سرده، إلا أن الغرض من ذكره بيان حال المتشرعة مع أمثاله معاملة وحكما، فقد روى الشيخ(ره) في سبب مقاله ما يظهر منه اتفاق أهل العلم على تكفير الشلمغاني ومن آل مآله من أمثاله، بل وإهدارهم لدمه، قال(ره): "وكان سبب قتله: أنه لما أظهر لعنه أبو القاسم بن روح(رض)، واشتهر أمره وتبرأ منه وأمر جميع الشيعة بذلك، لم يمكنه التلبيس، فقال -في مجلس حافل فيه رؤساء الشيعة، وكل يحكي عن الشيخ أبي القاسم لعنه والبراءة منه-: أجمعوا بيني وبينه حتى آخذ يده ويأخذ بيدي، فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه وإلا فجميع ما قاله في حق، ورقي ذلك إلى الراضي-لأنه كان ذلك في دار ابن مقلة- فأمر بالقبض عليه وقتله، فقتل واستراحت الشيعة منه"(12).
تذييل في ذكر أساليب المبتدعين وحيلهم
بما تقدم في أطراف الجهة الثانية يتبين أن المدعين لهذا الأمر الخطير لم يكونوا ممن يجهلون كيفية استغلاق عقول الجهال أو ممن لهم سذاجة تفضحهم، كيف وهذا الشلمغاني فقيه ومتكلم أيام استقامته، ومروج لضلالاته أيام اختلاطه، وتبعه آل فضال وقدموه وعظموه. ونذكر هنا اثنتين من الطرق التي يتوخاها هؤلاء سبيلا لاستغفال المؤمنين وضمهم لطريقتهم الضالة.
أولا: دعوى المنامات:
وهي أشهر طرقهم وأكثرها استعمالا بين هؤلاء، بل تكاد تقترن بدعواهم دائما. والسر فيها هو أنها سلاح لا يكذبه المغفل والمغرور، ولا يسعه إلا تصديقه لو اقترن ببعض الإخبارات الخاصة والتفصيلية. وقد يتمسك هذا المدعي للدلالة على حقانية الرؤى والأحلام ببعض الأخبار ذات لسان (من رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتصور أو يتمثل بنا).
والجواب عنه: أن الحديث -لو صح- كان المراد به أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي(ص) المعلومة والحقة التي يصح معها نسبة الصورة إليه حقيقة كما هو ظاهر التعبير، وأن بإمكانه التمثل بصورة يزعم للرائي بها أنها صورة نبيه(ص) أو غيره من الحجج (صلوات الله عليهم). أو أن يقوم القطع على أن المرئي في المنام هو الحجة(ع) لقرينة تورث العلم بصدق رؤياه، كما يأتي التمثيل له.
وقد ذكر السيد المرتضى(رض) سؤالا وجوابا لهذا في رسائله ضمن مسألة المنامات ورؤيا الأنبياء، قال: "فما تأويل ما يروى عنه(ص) من قوله: (من رآني فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي)، وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي(ص) ويخبر كل واحد منهم عنه بضد ما يخبر به الآخر، فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟ قلنا: هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معول على مثل ذلك. على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به: من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة، لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان. فقد قيل: إن الشيطان ربما تمثل بصورة البشر"(13).
لكنه حمل بعيد لظاهر المنقول من قول النبي(ص)، بل هو وارد في المنام والرؤى لا اليقظة والانتباه. ويدل عليه المروي في الفقيه عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع) أنه «قال له رجل من أهل خراسان: يا ابن رسول الله رأيت رسول الله(ص) في المنام كأنه يقول لي: كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي، واستحفظتم وديعتي، وغيب في ثراكم نجمي، فقال له الرضا(ع): أنا المدفون في أرضكم، أنا بضعة من نبيكم، وأنا الوديعة والنجم، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله(عزّ وجلّ) من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنا شفعاؤه نجى ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس، ولقد حدثني أبي، عن جدي، عن أبيه(ع) أن رسول الله(ص) قال: من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة واحدة من شيعتهم وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة».
وتأييده(ع) وتصديقه للرؤيا ليست دليلا على ما استظهر من لزوم كون المرئي دائما هو(ص) أو كون رؤيته علامة على صدقها، بل الدليل على كون المرئي في المنام شخص النبي(ص) تأييد الحجة(ع) لنفس الرؤية.
وفيها نفي لأنْ يتمثل الشيطان بواحد من الشيعة كذلك، وكم تمثل الشيطان بصورة ادعى كونها لمؤمن من المؤمنين لكثير من الرائين والنائمين!، وهذا أمر وجداني يوجب صرف الخبر عن ظاهره الأولي.
بل إن حقيقة تمثل الشيطان في المنام في صورة توهم بكونها لبعض الحجج -فضلا عن باقي الناس- قد حصل مصداقه زمن حضورهم(ع)، فقد روى الكشي عما وجده بخط جبريل بن أحمد: حدثني محمد بن عيسى، عن علي ابن الحكم، عن حماد بن عثمان، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله(ع): «أخبرني عن حمزة أيزعم أن أبي آتيه؟ قلت: نعم. قال: كذب والله ما يأتيه إلا المتكون، إن إبليس سلط شيطانا يقال له المتكون يأتي الناس في أي صورة شاء، إن شاء في صورة صغيرة، وان شاء في صورة كبيرة ولا والله ما يستطيع أن يجئ في صورة أبي(ع)»(14).
ثانيا: التمسك ببعض الأخبار:
وقد يتمسك المدلس ببعض أخبار عصر الظهور فيؤولها في شخصه، ويرتب عليها وجوب اتباعه، ولنذكر مثالا معاصرا عليها.
منها: ما استدل به بعض المنحرفين عن جادة الطريق المستقيم في أرض العراق. وحاصلها -بعد أن ادَّعى أنه قد التقى بإمام زمانه(ع) وعرَّفه شأنَه، وأن هذا المدعي هو من سلالة النبيين وأنه ابنه-إن الشيخ(ره) في كتاب الغيبة قد روى عن جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن علي بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصري، عن عمه الحسن بن علي، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين(ع) قال: «قال رسول الله(ص)-في الليلة التي كانت فيها وفاته- لعلي(ع): يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة. فأملا رسول الله(ص) وصيَّته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم إثنا عشر مهديا، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماما... فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول... فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد(ع). فذلك اثنا عشر إماما، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديا، [فإذا حضرته الوفاة] فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين»(15).
فدلَّت -وباعتراف الشيخ(ره)- على وجود اثني عشر مهديا بعده(ع)، وأولهم ابنه، وهو نفس هذا المدعي، فوجبت طاعته وأنه الواسطة بين الخلق وحجة الخلق أجمعين، إلى غيرها من الإدعاءات(16).
والجواب ينحل لجهات:
الجهة الأولى: في ادعاء المشاهدة وتبليغ الأوامر على نحو السفارة والنيابة الخاصة قبل السفياني والصيحة، وقد تقدم تفصيل كل ذلك فلا نعيد، وعرضنا لك أدلة استحالته ونفيه هذا العصر بأكثر من وجه، وأن مدعيها مبتدع خارج عن الدين.
الجهة الثانية: في صحة الاستدلال بهذه الرواية. وتلاحظ أنها ضعيفة بجهالة الراوي أولها، وجهالة حال علي بن سنان العدل، ولم يستبعد السيد الخوئي(ره) كونه من العامة لمكان هذا اللقب(17)، بل عدَّها الشيخ الحر(ره) في (جملة الأحاديث التي رواها من طرق العامة، في النص على الأئمة(ع))(18)، لكنَّه مجرد حدس بحسب الظاهر؛ فهو ممن روى عن أبيه ما جرى بعد شهادة الإمام العسكري(ع) وأمر الغيبة ووفد قم إلى سر من رأى، وروى عنه الشيخ الصدوق في (كمال الدين)(19) وابن عياش في (مقتضب الأثر) رواية في فضائل علي(ع) ولقَّبه الأخير بـ(المعدل)(20).
أما علي بن الحسين، فهو ابن بابويه الأب، بقرينة روايته عن شيخه أحمد بن محمد الخليلي، وما وقع في السند لعله من سهو القلم.
وأما دلالتها، فهي نصٌّ في الأئمة الاثني عشر، ودالة على وجود اثني عشر مهديا بعدهم، أولهم ابنه. وبغض النظر عن معارضتها لما ورد من أخبار تفيد تعاقب الأئمة(ع) بعده أو غيرهم، فإن الضمير في (فليسلمها) الأخيرة لم يتبين المراد منه، فهي إن كانت الإمامة فقد انقضت بإمامة الاثني عشر(ع)، وإن أريد غيرها فالمعنى مجمل جدا. وهذا المنصب للمهديين هو بعد انتهاء ولاية الإمام(ع)، وليس لهم دور مذكور -بحسب هذه الرواية أو غيرها- قبلها أو قبل زمن الظهور.
هذا كله، مع أن الرواية لا يمكن الأخذ بها مع ضعف قرائن الصدور، وشذوذها ومخالفتها لطوائف أخر من النصوص مرَّ عليك جملة وافية منها ضمن الفصول الماضية.
الجهة الثالثة: في تطبيق العناوين على مصاديقها. إذا تقرر ما مرَّ عليك، فنقول: إن التطبيق الجزافي للعناوين المأخوذة في متون الأخبار -فضلا عن عدم ملاحظة صحة صدورها من عدمه- لا يحترفه إلا الجاهل بالضوابط الشرعية والقوانين الفقهية، ولا يمكن أن يكون -والحال هذه- وليا على أمر الأمة بالنيابة عن صاحب الأمر(ع)، إذ في اتباعه مهلكة الدين وتضييع لحكمة الحكيم، عز أن لا يكون إلا حكيما. وإن قلنا بصدق الخبر المزبور وتمامية ما استظهروه، إلا أنه لا تُذهِبُ العقولَ الأماني، ولا تستغلق البصائر الجهالات؛ فإن من السفه سرعة الانقياد بلا قرينة أو شاهد بَيِّن من شرع أو متشرعة أو عقل يرشدك إلى صدق المدعي من كذبه، بل العقل هنا أول الحجج، وهو حصن مِن تقحم الهلكات ومرشد لسبل النجاة.
ففي حديث ابن السكيت عن الإمام الرضا(ع) قال: «وإن الله بعث محمدا(ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال: الشعر فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم، قال: فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال: فقال(ع): العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب»(21).
الجهة الرابعة: في التعامل مع المدعي لهذا الأمر. فقد تبين لك بحمد الله من أول التذييل: أن الأمر لا يختلف عبر العصور، فالحال واحد والتكليف واحد، إلا أن الصور وتفاصيلها تفترق من زمن لآخر، فإن أساليب المدعين للأمر كانت بحسب ما هو تحت يدهم من الوسائل المتاحة للتصرف -كما تقدم ذكر الحلاج وأنه كان يستعين بالرسائل الخاصة، والشلمغاني الذي يستعين بشهرته وميل قلوب بني فضال إليه- بخلاف هذا العصر الذي اتسعت فيه جوانب النفوذ للقلوب والأسماع والأبصار، فكان من المحتم أن يواجَهوا بما يناسب سلاحهم أو بما يُضعفه ويهوِّن أمره؛ كما قدمنا لك الحديث في استهزاء الأصحاب واستخفافهم وتبيين جهالات المدعين أمام الملأ والمؤمنين.
وصلى الله على محمد وآله أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق علي أكبر الغفاري، ج1، ط دار الكتب الإسلامية، طهران، ص372، ح2.
(2) الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ط1، مؤسسة المعارف الإسلامية، ص397.
(3) المصدر السابق، ص412، ح385.
(4) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، تحقيق الغفاري، ط4، دار الكتب الإسلامية، طهران،ح3، ص375.
(5) نفس المصدر، ح4، ص 375.
(6) نفس المصدر، ح2، ص 375.
(7) الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ط1، مؤسسة المعارف الإسلامية، ص397.
(8) نفس المصدر، 398.
(9) نفس المصدر، ص400.
(10) نفس المصدر، ص402-403.
(11) الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ج1، ط1، مؤسسة النشر الإسلامي، ص414.
(12) نفس المصدر، 408.
(13) المرتضى، السيد الشريف، رسائل المرتضى، ج2، إعداد السيد الرجائي، ط دار القرآن الكريم 1405، قم، ص12-13.
(14) الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال للكشي، ج2،ط مؤسسة آل البيت(ع)، قم، ص589.
(15) الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ط1، مؤسسة المعارف الإسلامية، ص151.
(16) انظر البلاغ المبين، من إصدارات (أنصار الإمام المهدي(ع)).
(17) الخوئي، السيد أبو القاسم، معجم رجال الحديث، ج12، ط 5 1413 هـ، ص 46.
(18) العاملي، محمد بن الحسن، الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، ط1، منشورات دليل ما 1422هـ، ص362.
(19) الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ط مؤسسة النشر الإسلامي، ص476.
(20) الجوهري، أحمد بن عياش، مقتضب الأثر، ط مكتبة الطباطبائي، ص10.
(21) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ط5، دار الكتب الإسلامية، ص25.
0 التعليق
ارسال التعليق