لا شكّ في ضرورة الكتابة وأهميّتها في حفظ العلم ونشره وإيصاله إلى الأجيال اللاحقة. ولا شكّ في وجود الحاجة الشخصيّة للكتابة فقد ورد أنّ >القلب يتّكل على الكتابة<[1] فكلّما كتب الإنسان استقرّت المعلومات في قلبه على خلاف من لا يكتب أصلاً، وبمقدار ما يكتب يزداد ما في قلبه من علم، وكذا ورد >اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا<[2]، وهناك حاجات عامة ترجع إلى الآخرين وإلى الأجيال اللاحقة فقد ورد في الخبر >اكتب، وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبكم<[3].
وليس خافياً الاهتمام الكبير من النبي الأعظمe وأهل بيته الطاهرينi فنجدهم عندما يروون بعض المعارف الحقّة عبروا بأنّ من حقها أن تكتب بماء الذهب كناية عن لزوم الاعتناء بالتأليف والتدوين والحفظ بما يتعلّق بها وبأمثالها.
فلا عذر لمن يتردد في الكتابة أو يتهاون فيها لا سيّما مع إتاحة الفرصة وإمكانيّة الإشراف على ذلك.
والخجل والتواضع وغيرها بل حتى الانشغال بالتدريس ليست مبررات للكفّ عن الكتابة، ويتأكّد هذا الكلام في دائرة طلاب العلم... فأنت أيّها الطالب كاتب لا محالة؛ ألا تلقي كلمات مسجدية أو خطباً منبرية أو دروساً حوزوية وغيرها؟
ألا تفكّر مليّاً في جلب المستمع إليك فتختار كلاماً تبدأ به محاضرتك أو درسك! وكلّما أحسنت الاختيار كلّما انشدّ المستمع إلى قولك! وهذا ما يعبّر عنه ببراعة الاستهلال.
وبعد هذا أليست عندك فكرة تريد إقناع المستمعين بها؟ ألا تجتهد في عرضها والتمثيل إليها والاستدلال عليها وقد تحتاج إلى نقل كلام فلان في هذا الموضع وكلام آخر في موضع آخر، وقد تنقله نصّاً لغرض عندك وقد تنقله بالمعنى لكفايته. وهذا صلب الموضوع.
وقبل الختام تذكّر من استمع إليك بأهمّ ما توصّلت إليه خلال هذا الحديث الذي استغرق منك وقتاً. وهذه خاتمة البحث والنتائج.
فأنت كاتب بالفعل غاية ما في الأمر ما عليك سوى أن تكتب ما قلت بعبارات منظّمة وتشير إلى مصادر المعلومات التي تنقلها.
وهذا لا تمارسه في هذا المجال فحسب، بل تمارسه في حياتك الاعتياديّة عندما تواجهك -في المنزل أو بين الأصدقاء- مشكلة تبدأ أولاً بجمع المعلومات وتحلّلها وفق تحليل عقلي ثم تستنتج. وهكذا ... فلا يوجد داعٍ للتردد بشأن الكتابة.
هناك من يقول: ينمو ريشي العلمي بعد ذلك سوف أكتب.
نقوله له: إن كانت هذه نظرتك فلن تكتب. وإن صرت عالماً فعلاً ووجدت من يقرر أبحاثك فهو تقرير في دائرة ضيقة جداً ويبقى فضاء الكتابة الواسع مفتوحاً أمامك تنظر إليه نظرة تحسّر؛ لأنّك لم تكتب ولن تكتب شيئاً وتكون قد حرمت نفسك وغيرك.
التقيت مع أحدهم قد أجهد نفسه في إعداد مادّة محاضرات ثلاث متوالية، وقال بأنّه كان يقضي في التحضير لهذه المحاضرات ما يصل إلى ثماني ساعات على مدى شهر تقريباً. فقلت له –وكان اليوم الأخير للمحاضرات الثلاث-: اكتبها قبل أن تذهب تفاصيلها ويضيع جهدك الذي بذلت، فتبسّم ثم ضحك وقال: احتاج إلى مقرر. فقلت له: أنت الباحث وبمقدورك الكتابة فكما كنت تصرف ثماني ساعات من وقتك للتحضير اصرف نصفها أو ربعها للكتابة. وإلى هذه اللحظة لم أعلم بأنّه هل كَتَبَ شيئاً أم لا مع أنّه لو كان يكتب بحثه لكان كتاباً!
هناك من يقول: ما وُجِد بحث إلا وكتب فيه فلا يوجد مجال للكتابة فـ"ما ترك الأول للآخر".
ونقول له: ليس كما تقول إذ الصحيح: "كم ترك الأول للآخر" فكتبهم بالعلم الغزير موصوفة، وبالدقّة معروفة، وعباراتهم تحمل أحسن البيان والعذوبة، فهم وإن بحثوا ما بحثوا وكتبوا ما كتبوا فإنّ مجال الكتابة يبقى واسعاً لا يضيق. فكم طويل مليء بالحشو يحتاج إلى اختصار، أو قصير أخلّ به القِصَر فاحتاج إلى إشباع، كم متفرّق في كلامهم يحتاج إلى تجميع، والعكس، وغيرها فضلاً عن حديث المسائل العصرية المتجددة في كلّ زمان على اختلاف ألوانها.
ولو لم يكن دافع للكتابة إلا كلام النبيe وأهل البيتi لربطنا على كلّ إصبع قلماً وكتبنا بكلّ إصبع بحثاً مستقلاً. كيف؟! والأمّة تحتاج إلى كُتّاب يُظهِرون المعارف الحقّة يدافعون لوعيها ويساهمون في رقيّها.
وهذه رواية بحثت عنها كثيراً ولم أجدها إلا في وقت قريب من كتابة هذه السطور أثناء قرائتي لكتاب أمالي الصدوق وهي رواية جميلة وفيها دفع من النبيّe نحو الكتابة فقالe: >المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين النّار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكلّ حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه عزّ وجلّ: جلست إلى حبيبي، وعزّتي وجلالي لأسكننك الجنّة معه ولا أبالي<[4].
وهذه بعض نصائح لمن أراد الكتابة:
1- اكتب تحت إشراف كاتب قد سبقك في الكتابة وخذ عنه واحرص على تطبيق ضوابط الكتابة في مقالاتك.
2- ناقش أفكارك قبل وأثناء الكتابة لتتضّح الأفكار أكثر وأكثر وتحيط بالموضوع المراد الكتابة فيه بصورة أكبر.
3- الكتابة العلميّة كالسباحة لن تتقنها مالم تمارسها، لذا ابدأ بها مبكّراً وتعلّم من أخطائك وخذ بنصائح من سبقك في هذا المجال، والتسويف أو المكابرة مآله الندم بعد سنوات.
4- استمر في الكتابة من دون توقف وكن مشروع كاتب.
5- احفظ حقوق الآخرين فلا تأخذ من كلامهم دون الإشارة إليه فهذا مقتضى الأمانة العلمية.
احرص على أن تكون نتائجك النافعة مستندة إلى طرق سليمة وعرض جيّد... ولا تيأس فأنت تتمرّن ما لم تتقن.
رئيس التحرير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الوسائل، 27، ص81، باب 8 من أبواب صفات القاضي، ح15.
[2] الوسائل، 27، ص82، باب 8 من أبواب صفات القاضي، ح15.
[3] الوسائل، 27، ص82، باب 8 من أبواب صفات القاضي، ح18.
[4] أمالي الشيخ الصدوق، المجلس ١٠ ح٣.
0 التعليق
ارسال التعليق