لقد رّدد السبط الشهيد أبو عبدالله الحسين(عليه السلام) في كربلاء هذا النداء التاريخي: «أما من ناصر ينصرنا».
لكي ينجلي لنا معنی الانتصار في الإسلام لا بد لنا من الاستنارة بالآيات القرآنية المنيرة والتي كانت مسلكاً حسينياً ربانياً في ثورته الخالدة، قال الله تعالی: {إِنّ الّذينَ يُحَادّونَ اللّهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ فِي اْلأَذَلِّينَ}(1)، طبعاً تقدم في الآيات السابقة علی هذه الآية في القرآن الكريم الحديث عن المنافقين وأعداء الله وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم، كادعائهم الإيمان في الظاهر ولكنّهم يحتفظون بوشائج حميمة نفسية وسياسية مع حزب الشيطان، فإنهم وإنْ حلفوا بالأيمان المغلّظة، وتكلّفوا إظهار صدق الإيمان والإنتماء والولاء، ليسوا إلا من حزب الشيطان، وسوف يعذّبهم الله، دون أنْ يستطيعوا التهرب من عذابه بوسيلة، ولا خداعه بيمينٍ وحلف، لأنّه الشاهد علی كلّ شئ والعليم الخبير به، وهو يعلم بواقعهم الذي ينطوي علی الولاء لأعداء الله، ولاعداء المؤمنين والقيادة الإلهية، بحثاً عن العزّة والشرف، فكيف يكون هؤلاء من المؤمنين الصادقين وهم يحادّون الله ورسوله بهذا العمل القذر، ويتخلفون عن حدوده وأحكامه؟ أم كيف ينالون عزّةً وليست إلا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كلاّ... إنّهم ليسوا من المؤمنين، ولن يصيروا إلا إلی ذلٍّ بعد ذل.
بلی، إنّ هؤلاء المنافقين المزدوجين الشخصية كانوا يبحثون عن المناصب والرفعة باعتبارهم الأكثر مالاً، وأتباعاً، ولما في نفوسهم من المرض، وليس لأنهم الأكفاء، فراحوا يطلبون العزّة، ويسعون لهذه المطامع من خلال التعاون مع أعداء الأُمة الإسلامية، وبيع أنفسهم عمالةً لهم، لعلّهم ينتصرون جميعاً علی الرسول، ويطفؤون شعلة الرسالة، فتحقق مطامعهم، وينالون أغراضهم المشؤومة، وقد غاب عن هؤلاء أنّ الله صاغ الوجود علی أساس انتصار الحق، وكتب ذلك في سننه، وحتَّم تنفيذه بقوته، وأراد لنفسه ولحزبه العزّة، ولأعدائه الهزيمة والذل.
نعم، لأنَّ الله تعالی اختص بالعزّة وخصَّ بها رسوله والمؤمنين وليسوا منهم، {الّذينَ يَتّخِذُونَ الْكافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ الْعِزّةَ لِلّهِ جَميعًا}(2)، ثمّ إنَّ السبيل إلی العزة الحقيقية هو تطبيق الحق، وليس اتباع الباطل والأهواء، وقد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا الشيطان، مما أدی بهم الی المصير الحتمي لهم حيث الموت والاندحار، وجعلهم {فِي الأذَلِينَ} أي أذلّ الخلائق(3)، ولعل الآية تهدينا إلی أنّ هؤلاء المنافقين يعيشون في داخلهم شعور الضعة والحقارة والذل، مما يدفعهم بناءاً علی ظنونهم وتصوّراتهم الخاطئة إلی التولّي لأعداء الله بحثاً عن القوّة والعزّة، ويتمسّك المؤمنون الصادقون بولائهم وانتمائهم لله ولأولياءه، لاعتقادهم الراسخ بأنّ ذلك هو السبيل إلی العزّة والقوة (الفلاح). وتظهر ذلّة الكفار بصورةٍ أجلی حينما يصبّ الله عليهم العذاب الميهن، فلا تبقی لهم كرامة بين الناس، ولا في أنفسهم، إلاّ أنّ مشيئته تعالی بإذلالهم ليست محصورة في الآخرة، وكذلك عزّته لأوليائه، بل هما مفروضتان ومحتومتان في الدنيا أيضاً، وتتجلّيان في نصره سبحانه لأولياءه، وإنّ ذلك حقّ محتّم، خلق الله الحياة علی أساسه، وفرضه بإرادته.
والآية اللاحقة للآية التي صدرنا بها بحثنا المتواضع إنما هي في الحقيقة دليل علی هذا المعنی، حيث يقول سبحانه: {كَتَبَ اللّهُ َلأَغْلِبَنّ أَنَا ورُسُلي}، والتعبير بـ {كَتَبَ} أي فرض وأثبت، وهذا يعني التأكيد علی أنّ الانتصار قطعي، ولا مبدّل لما يكتب الله، لأنّه الإرادة المطلقة، وفي الآية تأكيدات أربعة: الفعل {كَتَبَ}، ولام التوكيد، والنون في {لأَغلِبنَّ}، والضمير المنفصل {أَنَا}، وكل ذلك حتی يطمئنّ المؤمنون بنصر الله لهم رغم كلّ التحديات، والظروف المعاكسة، حيث يقفون بالعدد القليل، والعدّة المحدودة، في مقابل جنود وعملاء الشيطان بأعدادهم الكثيرة وإمكاناتهم المادية الهائلة، ويعلمون أنّهم سيُنصرون عليهم، وستكون الغلبة لصالحهم، لأنّهم إنْ قلّوا، وقلّت إمكاناتهم، مؤيدون بإرادة الغيب المطلقة.
{إنَّ اللهَ قَوِيٌّ} لا يغلبه أحد، وينتصر علی كلّ عدو {عَزِيزٌ}(4) لا يقبل الذلة لنفسه ولا لرسوله وأوليائه والمؤمنين وهذه تأكيدات ثلاثة أخری: {إِنَّ}، {قَوِيٌ}، {عَزِيزٌ}، وما أحوج الأمة الإسلامية الواعية التي تقف اليوم بإمكاناتها المحدودة تقاتل الأنظمة الفاسدة، ما أحوجها أنْ تتطلّع إلی هذه الآية الكريمة، وتجعل منها بلسماً لكل عوامل اليأس والتردد والانسحاب، بلی، إنهم مدججون بمختلف الأسلحة وأحدثها (عسكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، ومعلوماتياً، واقتصادياً)، ولكننا منصورون بعزة الله وقوته.
ومن الطبيعي أنه لا يصح الاعتماد في الصراع علی أنفسنا بعيداً عن الإيمان بالغيب، لأنّ المعركة خطيرة، والتحديات كثيرة وصعبة، كما لا يجوز أن نعتبر الغيب بديلاً عنّا في إدارة الصراع، إنما يجب أن نبذل ما نستطيع من أجل الغلبة، ثمّ نتوكل علی الله، ويبدو أنّ في الآية إِشارة إلی ذلك، فإنَّ الله لم يقل: {لأغلبنّ أنا} وحسب، إنّما أضاف: {ورسلي}، كما تذكّر الآية التالية بحزب الله، تأكيداً علی أنّ لنصر الله شرطين: 1 ـ القيادة المؤمنة الواعية. 2 ـ حزب الله.
ولا يعني أنه لا يستطيع نصر الحق وتنفيذ رسالته في الحياة من دون الرسول والمؤمنين، كلاّ... ولكنّه خلق الحياة علی أساس الابتلاء والامتحان، وباعتبار الآية جاءت بعد الحديث عن الذين يتولّون أعداء نستوحي منها أنَّ تحالفَ المنافقين مع جبهة الشيطان الذي يسوقهم سوقاً حثيثاً حيث يشاء ضدّ حزب الله لا يمكنه أنْ يغيّر من المعادلة شيئاً، فإنَّ ذلك لن يضعف حزبه تعالی، ولن يكسب أعداءه نصراً علی الحق، يقول الإمام الحسين(عليه السلام) عندما شاهد صفوف أهل الكوفة بكربلاء كالليل المظلم والسيل العارم أمامه، حيث قال: «فنعم الربّ ربّنا وبئس العباد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد ثمّ إنّكم رجعتم إلی ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ(5) عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم» ثمّ أضاف(عليه السلام): «فتبّاً، الموت لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون»(6).
أنصار الحسين هم المنتصرون:
تشبيهاً بالآيتين المتقدمتين في صدر البحث البسيط جاء نفسه في قوله تعالی: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وإِنّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ}(7)، بعد جهاد الأنبياء العظام والمصاعب والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون، تصور هذه الآيات الخاتمة بأفضل صورة، إذ زفّت البشری للمؤمنين بانتصار جيش الحق علی جيش الشيطان، ولقد اتضح علی مرّ العصور هذا الانتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمرة لقوم لوط وما إلی ذلك.
ولكن ليس بالضرورة أن يكون بصورةٍ غيبية دائماً، كما نجد هذا -إضافة لما تقدم- في تحوّل النار لإبراهيم(عليه السلام) الی بردٍ وسلام، وعصا موسی، وإحياء الأموات عند عيسی، وتأييد رسولنا الأكرم بالملائكة المسوّمين، صلى الله عليهم جميعاً، بل قد يكون عبر السنن الجارية في الخليقة، ذلك أنّ سنن الله الحاكمة في الكائنات قائمة علی أساس الحق (فقد خلق الله السماوات والأرض بالحق) ورسالات الله تهدينا إلى ذلك الحق، ورسل الله والمؤمنون مستقيمون عليه، وتلتقي أفكارهم وأعمالهم عند نقطة الحق مع حركة الخلائق جميعاً، فلا جرم ينتصرون، كما حدث في الانتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة، وسائر غزوات رسول الإسلام(صلّى الله عليه وآله)، وهذا الانتصار الإلهي لكل تلك إنما يعتبر مصداقاً ربانياً جلياً للوعد الإلهي الكبير جاء ذكره في القرآن الكريم لبعث الأمل في صفوف المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت ضغوط أعداء الإسلام في مكة، ولكل المؤمنين والمحرومين في كل زمان ومكان، نعم، جاء الوعد بعبارة واضحة وصريحة، وإنه لوعد يقوي الروح ويبعث علی الأمل.
انتصار الحق الحسيني من الوعود المسلّم بها ومن السنن القطعية:
إن انتصار جيوش الحق -كما يعلم قارئي النبيه- علی الباطل، وغلبة جند الله، وتقديم الله(سبحانه وتعالى) العون لعباده المرسلين والمخلصين، هي وعود مسلّم بها وسنن قطعية لا تقبل التغيير، وهو اقتلاع جذور التآمر بهجوم عامّ، وقد كان هذا الوعد وهذه السنة موجودة وجارية منذ البداية في الأُمم السابقة، وهذا ما أكدته الآية المذكوره -مورد البحث- بعنوان {سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا}.
وقد ورد نظير هذا التعبير في مواضع أُخری من آيات القرآن المجيد: كقوله تعالی، بعد أن هدّد الكافرين والمجرمين بالفناء والهلاك: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ اْلأَوّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْديلاً ولَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْويلاً}(8)، حيث ينذر الربّ هنا الكافرين، مذكراً إياهم بمصير الغابرين الذين جرت سنة الله فيهم بالدمار، ولا تبديل في سنن الله ولا تحويل، ويدعوهم للسير في الأرض لينظروا كيف فعل الله بالظالمين الطغاة، وأين انتهی بهم استكبارهم، مع أنهم كانوا أشدّ منهم قوة، وكقوله تعالی، بعد أن صرَّح بأنَّ إيمان الكفار العنودين من الأقوام الماضين عند مشاهدتهم عذاب الاستئصال لم ينفعهم شيئاً، يضيف: {سُنّتَ اللّهِ الّتي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ وخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ}(9)، أي: ألا نعتبر بمصير هؤلاء الكفار، ونستجيب لنذر الله، ونستمع إلی رسله؟ بلی، إن الله تعالی سوف يدمّر الظالمين شرَّ تدمير، وسوف تلاحقهم لعنة اللاعنين، وسوف ينتصر الربُّ لرسالاته، ويمكّن المستضعفين في الأرض، كل ذلك وعد من الله، ولن يخلف الله وعده، ولكنه بحاجة إلی الصبر، {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ}(10).
وكقوله تعالی، بعد أن ذكر انتصار المؤمنين وهزيمة الكفار في الحروب، وأن ليس لهم ولي ولا نصير، يضيف: {سُنّةَ اللّهِ الّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْديلاً}(11)، أي: ليعلم الطغاة والكفرة وأشباههم عبر الزمن أنّ انتصار الحق علی الباطل سنة إلهية ثابتة تحكم الحياة بإذن الله، وقد عجز أسلافهم الذين هم أشدّ قوة منهم عن تغيير هذه السنة، فكيف بهم؟ وهبْ أنهم أقوی من الغابرين، أو جاء في التاريخ مَنْ هو أقوی من أولئك، فهل يُغْلَب الله علی أمره؟ إن الجواب علی هكذا استفهامات هو قوله تعالی المتقدم أعلاه.
أو لم ينتصر نوح علی كل الكافرين في الأرض؟ أو لم ينتصر طالوت بفئته القليلة من المؤمنين علی الكافرين في عصره حال مواجهته لجالوت الطاغوت الذي كان يمثِّل جيش الكفر وقد خرج الی جنود طالوت للحرب في جيش ضخم، كثيف العدد، ولكن قليل المعنويات؟ وبالطبع ارهب عدد الجيش الضخم ومعداته الكثيرة، المؤمنين لأنهم بشر، بيد أنَّ روح الإيمان اسعفتهم وذكرتهم بالآخرة وبأن الله يأمرهم بالمقاومة حتی يجزيهم الجنة، هنالك اطمأنوا بالإيمان {قالَ الّذينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ}، ويتصورون أنفسهم أمام الله أبداً، فثبتوا واستمدوا منه القوة والعزم قائلين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ واللّهُ مَعَ الصّابِرينَ}(12) يؤيدهم بنصره، إذ لا يهم عدد الجيش بل إيمانهم بقضيتهم، وتضحيتهم من أجلها.
يستفاد من مجموع هذه الآيات جيداً أنّ المراد من السنة في مثل هذه الموارد: القوانين الإلهية الثابتة والأساسية، سواء التكوينية منها أم التشريعية، التي لا تتغير مطلقاً، وبتعبير آخر: فإنّ لله سبحانه في عالم التكوين والتشريع قوانين وأُصولا ثابتة، كالقوانين الأساسية والدساتير المسنونة بين شعوب العالم والتي لا تتبدل، ولا تكون عرضةً للتغيير، وهذه القوانين الإلهية كانت حاكمة علی الأقوام الماضين، وتحكمنا اليوم، وستكون حاكمة في المستقبل علی الأجيال الآتية.
إنّ نصرة النبي، وهزيمة الكفار، ووجوب تنفيذ أوامر الله والعمل بموجبها حتی وإن أدت إلی إثارة سخط الناس وعدم رضاهم، وعدم جدوی التوبة حين نزول العذاب الإلهي، وأمثال ذلك هي جزء من هذه السنن الخالدة. إنّ هذه التعبيرات تسلّي خواطر كل السائرين في طريق الحقّ، وتمنحهم الهدوء والطمأنينة من جهة، وتوضح من جهة أخرى وحدة دعوة الأنبياء وانسجامها، وتناسق القوانين الحاكمة علی نظام الخلقة ونظام الحياة الإنسانية واتحادها، وهي في الحقيقة فرع من فروع التوحيد(13).
وأهم من ذلك كله انتصار المرسلين وأهل البيت(عليهم السلام) فكرياً ومنطقياً علی أفكار الشيطان وأعداء الحق والعدالة، ومن هنا يتضح الجواب علی تساؤل من يقول: إذا كانت الوعود الإلهية وإرادته قطعية من خلال تقديم يد العون للأنبياء والائمة المعصومين(عليهم السلام) والمؤمنين، فلماذا نشاهد استشهاد الكثير منهم علی طول تأريخ الحوادث البشرية، وانهزام المؤمنين وعدم نصرهم في بعض الأحيان؟ فإن كانت هذه سنّة إلهية لا تقبل الخطأ، فلِمَ هذه الاستثناءات؟ وهل يكون ذلك نقضاً للوعد الإلهي؟ طبعاً يمكن الجواب علی هذا السؤال بالقول:
1) إنّ الانتصار له معان واسعة، ولا يعطي في كل الأحيان معنی الانتصار الظاهري والجسماني علی العدو، فأحياناً يعني انتصار المبدأ، وهذا هو أهمّ انتصار، فلو فرضنا أن رسولالله(صلّى الله عليه وآله) كان قد استشهد في إحدی الغزوات، وشريعته عمت العالم كله، فهل يمكن أن نعبر عن هذه الشهادة بالهزيمة؟. وهناك مثال أوضح وهو الحسين(عليه السلام) وأصحابه الكرام حيث استشهدوا علی أرض كربلاء، وكان هدفهم العمل علی فضح بني أُميّة، الذين ادعوا أنهم خلفاء الرسول، وكانوا في حقيقة الأمر يعملون ويسعون إلی إعادة المجتمع الإسلامي إلی عصر الجاهلية، وقد تحقق هذا الهدف الكبير، وأدی استشهادهم إلی توعية المسلمين إزاء خطر بني أُمية وإنقاذ الإسلام من خطر السقوط والضياع، فهل يمكن هنا القول بأن الحسين(عليه السلام) وأصحابه الكرام خسروا المعركة في كربلاء؟
المهم هنا أن الأنبياء وجنود الله -أي المؤمنون- تمكنوا من نشر أهدافهم في الدنيا واتبعهم أُناس كثيرون، وما زالوا يواصلون نشر مبادئهم وأفكارهم رغم الجهود المستمرة والمُنسقّة لأعداء الحق ضدهم.
الانتصار المرحلي: وهناك نوع آخر من الانتصار، وهو الانتصار المرحلي علی العدو، والذي قد يتحقق بعد قرون من بدء الصراع، فأحياناً يدخل جيل معركة ما ولا يحقق فيها أي انتصار، فتأتي الأجيال من بعده وتواصل القتال فتنتصر، كالانتصار الذي حققه المسلمون في النهاية علی الصليبيين في المعارك التي دامت قرابة القرنين، وهذا النصر يحسب لجميع المسلمين.
إن وعد الله تعالى مشروط:
2) يجب أن لا ننسی أن وعد الله(سبحانه وتعالى) بنصر المؤمنين وعد مشروط وليس بمطلق، وأن الكثير من الأخطاء مصدرها عدم التوجه إلی هذه الحقيقة، وكلمات «عبادنا» و«جندنا» التي وردت في آيات بحثنا، وغيرها من العبارات والكلمات المشابهة في هذا المجال في القرآن الكريم كعبارة «حزب الله» و«الذين جاهدوا فينا» و«لينصرنّ الله من ينصره» وأمثالها، توضح بسهولة شروط النصر.
نحن لا نريد أن نكون مؤمنين ولا مجاهدين ولا جنوداً مخلصين، ونريد أن ننتصر علی أعداء الحق والعدالة ونحن علی هذه الحالة! نحن نريد أن نتقدم إلی الأمام في مسيرنا إلی الله ولكن بأفكار شيطانية، ثم نعجب من أنتصار الأعداء علينا، فهل وفينا نحن بوعدنا حتی نطلب من الله(سبحانه وتعالى) الوفاء بوعوده!
في معركة أُحد وعد الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله) المسلمين بالنصر، وقد انتصروا فعلا في المرحلة الأُولی من المعركة، إلا أن مخالفة البعض لأوامر الرسول وتركهم لمواقعهم لهثاً وراء الغنائم، وسعي البعض الآخر لبثِّ الفُرقة والنفاق في صفوف المقاتلين، أدَّی بهم إلی الفشل في الحفاظ علی النصر الذي حققوه في المرحلة الأُولی، وهذا ما أدی إلی خسرانهم المعركة في نهاية الأمر، وبعد انتهاء المعركة جاءت مجموعة إلی رسولالله(صلّى الله عليه وآله)، وخاطبته بلهجة خاصة: ماذا عن الوعد بالنصر والغلبة، فأجابهم القرآن الكريم بصورة لطيفة يمكنها أن تكون شاهداً لحديثنا، وهي قوله تعالی: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ فِي اْلأَمْرِ وعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا ومِنْكُمْ مَنْ يُريدُ اْلآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ولَقَدْ عَفا عَنْكُمْ واللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ}(14)، عبارات {فَشِلْتُمْ} و{تَنَازَعْتُمْ} و{عَصَيْتُم} التي وردت في الآية المذكورة أعلاه، وضَّحت بصورة جيدة أن المسلمين في يوم أُحد تخلوا عن شروط النصر الإلهي، لذا فشلوا في الوصول إلی أهدافهم، بل أخذوا يعملون السيف في أجسادهم.
أسباب الهزيمة:
والواقع أن القرآن الكريم يصور مراحل الهزيمة في الحرب، في كلمات قصيرة وهي:
أ- {حَتَّی إِذَا فَشِلْتُمْ}، وذلك بفقدان العزيمة والخلود الی الراحة، بعد انتشار الوهن في نفوس الأمة.
ب- {وَتَنَازَعْتُمْ} من خلال بروز الخلافات المصلحية، والطائفية، والاقليمية، والعنصرية إلی السطح، بفعل فقدان الهدف والعزيمة.
ج- {وَعَصَيْتُم} وذلك بفعل تأثير الخلافات الاجتماعية علی مستوی الانضباط والطاعة للقيادة، بل علی درجة الثقة بها، إذ يزعم كل فريق أن القيادة منحازة الی جانب خصمها، فتقل ثقته فيها وطاعته لها.
د- {مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبّونَ} حيث تفعيل الفرح يؤدي بالمجتمع لفقدانه التطلع الی الأعلی، ولما هو أسمی، فيفقد الرباط القوي بين طبقاته وفئاته.
وفي خضم الخلاف: تكون فئة علی حق وأخری علی باطل، {مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا ومِنْكُمْ مَنْ يُريدُ اْلآخِرَةَ} لهذه الأسباب انهزمتم بعد انتصاركم علی العدو. المهم من كلامنا أن الله(عزّ وجلّ) لم يَعِدْ كلَّ من يدعي الإسلام وأنه من جند الله وحزب الله بأن ينصره دائماً علی أعدائه، الوعد الإلهي مقطوع لمن يرجو من أعماق قلبه وروحه رضی الله(سبحانه وتعالى)، ويسير في النهج الذي وضعه الله، ويتحلی بالتقوی والأمانة.
ثم قال الله تعالی: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} لأنَّ الهزيمة هي التي تكشف المؤمنين الصامدين عن غيرهم، فتعطي للأمة دروساً في نقاط ضعفها وتعطي للقيادة فرصة جيدة لتصحيح مسيرة الأمة واصلاح تلك النقاط، أو حتی تصفية بعض العناصر المسببة للهزيمة أو ابعادها عن مراكز المسؤولية، فيكون معنی الآية هكذا: ثم صرفكم عن المشركين بأن كفَّ نصره ومعونته عنكم ووكلكم إلی أنفسكم لينبهكم ويُرَبِّيَكم، والآن وقد انتهت الحرب، فإنَّ الله عفی عنكم بعد أن عصيتم أمر الرسول، حتی تعودوا الی وحدة الصف، وتبادروا في اصلاح الذات، {وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ واللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ} فالعفو لا يدل علی أنَّ الله يجعل المؤمنين والكافرين في مستوی واحد بل إن للمؤمنين الصادقين في الحرب فضلاً علی الكافرين، حيث انتصار خطهم الفكري ومنهجهم بين أوساط مجموعة عظيمة من الناس.
الانتصار القطعي، تصديق للوعد الإلهي بنصر المؤمنين:
الجدير بالذكر أنّ هذا الانتصار القطعي -إضافة لما تقدم- ثابت وفقاً للوعد الإلهي بالنصر للسائرين علی خط الإنبياء والرسالة {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، وهذا يعني انتصار مضمون وأكيد من قبل الله(سبحانه وتعالى) لمن حملهم المسؤولية، ولمن أمرهم بأن يتوكلوا عليه، ويفوضوا أمورهم إليه، وهيهات أن يخلف معهم وعده أو يخذلهم بعد أنْ فوضوا أمورهم الی حسن تدبيره. وهذا النصر يمتد إلی تابعي الرسل من المؤمنين؛ لأنهم جميعاً يشتركون في المسؤولية والعاقبة، كما في قوله(عزّ وجلّ): {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ اْلأَشْهادُ}(15).
النصر في الدنيا والآخرة:
فهذه الآية الكريمة تتحدث عن قانون عام، ولكي لا يزعم البعض أنّ نصر الله مخصوص بالآخرة فقد أكدّ أنّ نصره يمتد من الدنيا إلی الآخرة، وقت حلول ساعة الجزاء، فالآية توجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو: {يَقُومُ اْلأَشْهادُ} وهذا التعبير يشير إلی معنی لطيف، حيث يريد أن يقول: أنّ هذا اليوم الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالی، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه أروع ما يكون، نعم... إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كراماتهم، إنه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، إنه اليوم الذي ينزل فيه العذاب الجسماني علی الطغاة الظالمين، ويوضعون في أسوأ مكان من نار جهنم.
الحسين(عليه السلام) المعنى الواسع لمفهوم النصر الإلهي:
إن القرآن الكريم -إضافة لما تقدم- كله شاهد علی مسيرة النصر، شروعاً من نوح(عليه السلام) وانتهاءاً بمحمد(صلّى الله عليه وآله) ومروراً بسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، صلی عليهم جميعاً مليك السماء. وإذا سرنا في الأرض، وأثرنا ذخائر المدن، وبحثنا عن بقايا الحضارات البائدة، وجدنا شواهد التاريخ تدلّنا أيضاً علی تلك الحقيقة، أما كتب التاريخ فبالرغم من أنها تأثرت بطبيعة المؤلفين لها إلا أنّ من قرأ فيها الحقائق وترك التفسيرات يجد بين ثناياها ألف دليل ودليل علی تلك الحقيقة.
وبكل المقاييس لا تزال حوادث الدنيا اليومية تشهد امتداداً لحركة الأنبياء التي كانت من أجل إيقاظ الناس حتی يعرجوا إلی الله سوية، يعني أنهم يتوجهون إلی الله ويوجهون غيرهم، قال المسيح(عليه السلام): {مَنْ أَنْصاري إِلَى اللّهِ}(16) يعني إني الآن ذاهب إلی الله فمن أراد الذهاب إلی الله فليأت معي وحدد الهدف من ذلك وهو الله، وقام سيد الشهداء(عليه السلام) أيضاً بنفس هذا العمل وقد أثمر أيضاً، وكانت نتيجته أنّه أيقظ العالم، وإحدی ثمار كربلاء هي الثورة الإسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني(قدّس سرّه).
سيدالشهداء(عليه السلام) الذي تمتزج سيرته بسيرة الأنبياء(عليهم السلام) وبسيرة أبيه وأمه الطاهره وأخيه الحسن(عليهم السلام) أجمعين، يقول في تحديد صفات وشروط المقاتلين في كربلاء: إني عازم علی الذهاب ومحتاج إلی الأنصار، ولكن ليس لكل شخص بل لطائفةٍ خاصة: «وليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً»(17)، فليأتِ معنا من اشتاق للقاء الله تعالی، لا من يقاتل بسيفه خوفاً من جهنم.
بلی، إننا قد نجد مصير بعض الدعاة الشهادة أو لا أقل الاعتقال والتهجير، فأين النصر منهم؟! أَوَ لم يقتل السبط الشهيد بكربلاء؟! كما قتل المئات من أنصار الحق بعد استتباب الأمر للأمويين؟ بلی، ولكّن النصر المطلوب ليس كما يری أكثر الناس، من الذين يقعون فريسة للمقاييس المحدودة في تقييم مفهوم النصر، إذ يعتبرون الانتصار يتمثل في انتصار الأشخاص فقط علی دحر العدو، أو السيطرة علی الحكم لفترة وجيزة، بل قد يفدي الشخص بنفسه لينتصر الهدف الأكبر وهو الدين، ولتقدم الغاية، أو تفوُّق وانتشار المذهب والفكرة، راضياً مسروراً، إنّ مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الحق، أو تفوق وانتشار المذهب والفكرة، هؤلاء لا ينظرون إلی قيمة المجاهد الشهيد الذي يتحول إلی نموذج وقدوة في حياة الناس وعلی مدی الأجيال، ولا ينظرون إلی القيمة الكبری التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار البشر والقرب من الله تعالی ونيل رضاه.
وبديهي أنّ الانحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب علی ذلك الاشكال، أما الانطلاق إلی أفق المعاني الواسعة الوضاءة لمفهوم النصر الإلهي والأخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدي بنا الی معرفة المعنی العميق للآية، وقد عبّر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة فيما يتصل بالامام الحسين سيدالشهداء(عليه السلام):
إنْ كان دين محمد لم يستقم
إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
وعندما سقط بطل الطف عن جواده مثخناً بالجروح البليغة، وحوله تناثرت جثث أهل بيته وأصحابه، وفي الأفق صيحات أطفاله، العطش، العطش، وعويل النساء والثكالی، حينذاك جمع حفنةً من التراب، ووضع خدّه عليها، وناجی ربّه قائلاً: «إلهي رضاً برضاك، لا معبود سواك» بلی، إنه(عليه السلام) كان يعلم أنّ السبيل الوحيد لحمل الرسالة إلی القلوب هو استشهاده وأنّ قطرة الدم أبلغ أنباء من الكتب والخطب.
سيد قطب وانتصار الحسين(عليه السلام):
ثمة كلام لطيف ورد في «تفسير في ظلال القرآن» للسيد قطب يناسب هذا المقام، إذ يورد فيه ذكری بطل كربلاء الإمام الحسين(عليه السلام) كمثال علی المعنی الواسع لمفهوم النصر فيقول: «... والحسين -رضوان الله عليه- وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب، أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، ولكن طبقاً للحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً، فما من شهيد في الأرض تهتزله الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوانالله عليه، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين»(18).
وينبغي أن نضيف إلی هذا الكلام أن شيعة أهل البيت(عليهم السلام) يشاهدون كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه، إن مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع الخير لحركة عظيمة ثرّة ما زال عطاؤها، لم ولن ينضب! نعم لا يزال السبط الشهيد عالَماً يستلهم منه أبناء أمتنا البطولات، وينتصرون لدينهم بأنفسهم، فكم مؤمن تم سجنه ويمارس بحقه أنواع التعذيب حتی يلتحق بركب الشهداء مطمئناً راضياً لتنتصر قيمه المقدسة، وليعلو بناء الحق والعدل ولتقوّض أركان الظلم والفساد.
الثورة الخمينية استمرار للنصرة الحسينية:
فلقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران المسلمة، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيام عاشوراء للقضاء علی الظلم والطغيان والاستكبار، لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربی في مدرسة أبي الشهداء الحسين(عليه السلام) وتغذی ممّا تدره مجالس عزائه، أن يحطّم بأيد خالية عرش أقوى السلاطين الجبارين.
نعم، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سری في العروق عزةً وحركةً وانتفاضة، غيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبری، حتی قال الإمام الخميني(قدّس سرّه): «كل ما عندنا من عاشوراء»، من هنا، ومع كل العطاء الثر الهادي الذي استمدته كل الأجيال -خلال التأريخ- من ذكری الطف وسيد الشهداء، ألا يعتبر الحسين(عليه السلام) منتصراً حتی باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرناً علی استشهاده؟
من شروط استمرارية انتصاراتنا الحسينية:
الحقيقة كما يعلم قارئي النبيه، أنه من الطبيعي أن كل من يطلب العون من الله فإن الله سوف ينصره، إلا أنه يجب ألا ننسی أن هذا الوعد الحقيقي لله سبحانه لن يكون بدون قيد أو شرط، حيث أنّ شرطه -إضافة لما تقدم- الإيمان وآثاره، شرطه ألا يجد الضعفُ طريقَه إلی نفوسنا، ولا نخاف ولا نحزن من المصائب، ونجسد قوله تعالی: {وَلا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ}(19).
انتصارنا الحسيني يقتضي التضحيات:
إن التاريخ يكشف لنا من خلال تفعيل الأنظمة والقوانين الإلهية في المجتمع (وحسب التعبير القرآني سننها) أن الفئة المؤمنة هي المنتصرة أخيراً، فعليها ألا تهن -ألا تضعف- أو تحزن، ولكن دون أن يعني ذلك أنها تستطيع الغلبة بدون تضحيات، ذلك لأنَّها ضرورية لكشف العناصر المؤمنة حقيقة بالرسالة، عن الأخری المنافقة، ولتأديب العناصر -كما في الآية المتقدمة- ألا يهنوا ويتسرب إلی نفوسهم الانهزام، أو اليأس، والضجر، كما أنَّ عليهم ألا يتألموا لبعض الخسارات، إذ أن ربح الانتصار سوف يغطي علی الخسارات البسيطة، فالتضحيات التي تقدم ستكون ثمناً للجنة، وبدونها كيف يفضل الله قوماً علی قوم، فيُدخل بعضهم الجنة والبعض النار.
بلی، إن التضحيات هي هدف المؤمنين، لأنَّهم كانوا يأملون أن يقدموا لله أغلی ما عندهم، حُباً له وإيماناً صادقاً به، وليس رسول الله ابناً لله حتی ينتصر أتباعه بمجرد الانتماء إليه، بل هو كسائر الرسل يحيی ويموت، والكافرون والطغاة الظلمة هم الذين ينقلبون عن الرسالة فور موت أو استشهاد الرسول تفضيلاً للدنيا علی الآخرة.
بما أن النبي محمداً(صلّى الله عليه وآله) رسول، فإنه يتبع سيرة الرسل من قبله، وهم لم يتقدموا إلا بالقتال ومعهم الربيون(20) من أصحابهم، وهم -أي: الربيون- كانوا بشراً يذنبون ويسرفون، ولكنهم كانوا مؤمنين يستغفرون ربهم، ويطلبون منه أن يثبتهم علی الجهاد ولذلك انتصروا في الدنيا والآخرة معاً، فالثبات علی طريق الإيمان سيجعل النصر النهائي حليفاً للمؤمنين، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.
و يتلخص لنا مما تقدم:
1) أن التضحية تفرز المؤمنين عن المنافقين، إذ أن وجود المنافقين في الأمة، سوف يسبب لها الضعف والانهيار، حيث تنتشر فيها المصليحة، والأنانية، والفوضوية، كالطمع في الحصول علی مناصب مجانية، أو غيره من الأسباب الأخری غير الإيمان الصادق، وهذا ما يؤدي بالأمة للانتهاء سريعاً، ولا يمكن الفوز إلا بتعرض الأمة للتضحيات، فيعرف المؤمنون عن غيرهم.
2) أن الانتفاضات الحسينية تمثل مدرسة عظيمة حيث خرجت قادة المستقبل، وأصبحت مناراً للمقاتلين إذ تربيهم عل الجدية والطاعة والتفكر وتقديم مصلحة الأمة علی المصالح الخاصة، وتعلمهم الصراحة والفكر العقلاني وهكذا، وهذا ما افرزته مدرسة الانتفاضات الحسينية بما فيها من تضحيات سخية.
3) بما أن قلوب المؤمنين ليست طاهرة بالكامل من الريب في الرسالة، والشك في تعاليمها، فهي بحاجة الی نار تطهرها، والتضحيات هي تلك النار، ذلك أنَّ الإنسان الذي ضحی من أجل شيء فسوف يتمسك به، بعكس الذي حصل عليه مجاناً وبلا تضحية، إنك تجد التاجر أحرص علی ماله من ابنه الذي يرثه بغير تعب، كذلك المؤمن المضحي يكون إيمانه أقوی من غيره.
4) أن الطغاة هم المعاندون للحق، المخالفون لتقدم الأمة، الذين يفضلون مصالح قومهم، أو أهواء أنفسهم علی مصلحة الأمة، فهم عناصر يشكلون تهديداً خطيراً للأمة، لهذا تجد الأمة المبرر الكافي للانتفاضة والمجابهة لاجتثاث هؤلاء من الساحة ولو بمواجهة ساخنة قد تقتضي تقديم تضحيات.
5) أن التضحية تعطي المؤمنين -حال جهادهم- جدارة الدخول في الجنة، التي هي مأوی المجاهدين الصابرين، واذا لم يدخل المسلم الحرب كيف يميز المجاهد الصابر، عن القاعد المهزوم، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ويَعْلَمَ الصّابِرينَ}(21).
إن الإنسان يمنيِّ نفسه بأشياء كثيرة، هي بالخيال أشبه منها بالواقع، يُمنيِّ نفسه بالثروة بلا تعب، وبالسلطة بلا كفاءة، وبالشهرة بلا استحقاق، ويحتاج الإنسان إلی أن يتذوق مرارة الحياة عشرات المرات، حتی يقتنع أن تلك الأمنيات كانت أحلاماً صبيانية، وكذلك يُمني بعض المؤمنين أنفسهم بالجنة بلا عمل صالح ولا تضحية، ويحذرهم القرآن من هذه الأمنية الباطلة، لأنَّ لها نتائج خطيرة، ففي الدنيا تقعدنا عن العمل، وفي الآخرة تجعلنا نواجه النار، فالآية الكريمة تريد أن تقول: أتظنون أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بدون أن يمتحنكم الله ويميز المستحق لها منكم من غيره، ومن دون أن يميز المجاهدين الصابرين عن غيرهم من المجاهدين؟!
لهذا -إضافة لما تقدم- علينا (حتی ننتصر) أن نوثق علاقتنا بالسلسلة المرتبطة بالخط الإلهي ونوحد صفوفنا، ونجند قوانا ونخلص نياتنا، ونكون مطمئنين بأنه كلما كان العدو قوياً، وكنا قليلي العدة والعدد، فإننا سننتصر بالجهاد والسعي والتوكل علی الله تعالی.
انتصارنا الحسيني يقتضي الصبر:
بلی، فماذا ينبغي أن يقوم به الرسل والمؤمنون تمهيداً لنصر الله، بل وثمناً مدفوعاً سلفاً لهذه النعمة الكبری؟ لا شك ولا ريب أنهم يحتاجون الی الاتصاف بالصبر انتظاراً لوعد الله الحق الذي لا ريب فيه، ويراد من الصبر، بمعناه الشامل -الصبر في تنفيذ الأوامر، والصبر عند الشدائد-، وبكلمة: السعي والاجتهاد الآن انتظاراً للنتائج المستقبلية، فمن كان عجولاً، وكان يفتش عن نتائج سريعة، فإنّه لن يبلغ مناه، ورأس مال الصبر الإيمان بوعد الله الواقع بلا محالة.
وختاماً -حسبما تقتضيه المجلة الكريمة-: تری من كان يخاطب الإمام الحسين(عليه السلام) بنداءه التأريخي الذي صدرنا به البحث المتواضع: «أما من ناصر ينصرنا» وكرره المرة بعد الأخری في كل مصيبة هجمت عليه، وخصوصاً في اللحظات الأخيرة من حياته عندما فقد أعزته وأنصاره، بل وحتی طفله الرضيع.
هل كان(عليه السلام) يخاطب أولئك الذين ذبحوا أبناءه، وأهل بيته، وأنصاره، أم كان يخاطب أشخاصاً آخرين؟ إن الحسين سيد الشهداء وإمام المتقين، وقدوة الصالحين، لا في عصره فحسب، وإنما دائماً وأبداً وعبر العصور المتتالية، فقد كان(عليه السلام) يخاطب الأجيال، ويخاطبنا، ويخاطب من كان قبلنا، ومن سيأتي من بعدنا، ويخاطب كل ضمير حي، وكل قلب معمور بالإيمان.
لقد كان(عليه السلام) خلاصة الفضائل، وتطبيقاً حياً للقرآن، بل والقرآن الناطق، فنصرته(عليه السلام) لا تقتضي بالضرورة أن نعاصره، ونعيش معه، بل تعني نصرة مبادئه، وأهدافه، والقيم التي ثار من أجلها، فإن لم نستطع أن ننتصر لشخص أبي عبدالله(عليه السلام) والفتية من أهل بيته وأصحابه وأنصاره، فلا بد من أن ننصر تلك المبادئ التي ثار من أجلها، وضحی في سبيلها، ولذلك نجد المؤمنين عندما يقفون أمام الضريح المقدس يرددون هذا الهتاف القدسي الخالد: لبيك يا أباعبدالله وهم يعنون بهذا النداء أنهم إن لم يكونوا حاضرين عند استنصاره، واستغاثته، ولم ينصروه في ذلك اليوم نصرة مادية، فإنهم سوف ينتصرون للمبادئ والقيم والرسالة التي من أجلها ضحی، وفي سبيلها بذل أعزّ أبنائه وأنصاره، ولذلك نجد هؤلاء المؤمنين يكررون أيضاً النداء التالي: فياليتني كنت معكم فافوز معكم(22)، لأنَّ هذا التمني والرجاء إنما هو تعبير عن ذلك الإخلاص الذي نحمله، عن تلك الروح الإيمانية التي نتمنی أن نتحلی بها، وعن ذلك المبدأ الذي اتخذناه طريقاً ومنهجاً.
نصرنا يقتضي تلبية نداء الحسين(عليه السلام):
واليوم بعد ذلك النداء التأريخي، ما يزال هذا الهتاف يدوي، ويتجلی في كل يوم، ولقد صدق الإمام الصادق(عليه السلام) عندما أطلق كلمته الخالدة: كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، ففي كل يوم تتجلى المعركة بين الحق والباطل، وأولئك الذين يريدون أن يفصلوا الواقع عن التاريخ، أو أن يجرّدوا التاريخ من سننه ورؤاه فهم قشريون لا يريدون أن يتحملوا مسؤولياتهم.
إننا نجدك يا حسين في خطك وفكرك منتصراً في كل مكان رغم إرادة الظالمين الذين مارسوا ويمارسون أنواع القمع والديكتاتورية.
نسأل الله(سبحانه وتعالى) أن يجعلنا ممن يتبع نهج الحسين(عليه السلام) ونهج جده وأبيه المرتضی وأمه الزهراء وأخيه المجتبی والأئمة المعصومين من ذريته(عليهم السلام)، وأن يجعلنا من المدافعين عن الدين والمبادئ، وأن يحيينا حياة محمد وآله ويميتنا ممات محمد وآله، وأن يثّبت لنا قدم صدق مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجمهم دون الحسين(عليه السلام)(23)، والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة المجادلة، الآية 20.
(2) سورة النساء، الآية 139، والمراد من العزة أصلها وهي الشدة، والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.
(3) طبعا المراد من كلمة {يُحَادُّون} من (محادّة) بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح، أو بمعنی الممانعة، أي إنّ المحادّة في الأصل بمعنی الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنی المانع بين شيئين، ولذك يقال للحارس (حداد)، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.
(4) سورة المجادلة، الآية 21.
(5) {اسْتَحْوَذَ} من مادة (حوذ) علی وزن (موز) في الأصل، وقد جاءت في قوله تعالی: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ} -سورة المجادلة، الآية 19- بمعنی الجزء الخلفي لفخذ الإبل حيث تساق من خلال ذلك المحل، فقد جاء هذا المصطلح بمعنی التسلّط أو السوق بسرعة، والمراد واضح -لقارئي الكريم- وهو الغلبة عليهم.
(6) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 266.
(7) سورة الصافات، الآيات 171 و172 و173.
(8) سورة فاطر، الآية 43.
(9) سورة غافر، الآية 85.
(10) نفس السورة الآية 77.
(11) سورة الفتح الآية 23.
(12) سورة البقرة الآية 249.
(13) نقلاً بتصرف من تفسير الأمثل حول الآيات الشريفة.
(14) سورة آل عمران، الآية 152، والمراد من {تَحُسُّونَهُم} الحس القتل علی وجه الاستئصال وسمی القتل حساً لأنه يبطل الحس.
(15) سورة المؤمن، الآية 51.
(16) سورة الصف، الآية 14.
(17) تحف العقول، ص 174، وتاريخ الطبري، ج 7، ص 300.
(18) في ظلال القرآن، ج 7، ص 189 و190 بتصرف بسيط.
(19) سورة آل عمران، الآية 139، والمراد لغة من {وَلاتَهِنُوا}: الوهن وهو الضعف، فيكون المعنی: أي لا تضعفوا.
(20) الربيون: جمع رِبِّي وهو كالرباني، وهو من اختُص بربه تعالی فلم يشغله غيره، فالربيون هم المنتسبون إلی الرب، أي مجاهدون من أجل الله.
(21) سورة آل عمران، الآية 142.
(22) مفاتيح الجنان، زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)، ص 427.
(23) لقد اقتبست الكثير من الأفكار من خلال التفاسير القرآنية والحسينية وغيرها بتصرف
0 التعليق
ارسال التعليق