مقدّمة:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وصلَّى اللهُ على محمَّد النّبيّ وآله..
بين يدَي الظُّهور المبارك للمولى الحجَّة بن الحسن صاحب الزَّمانl علامات، وقد أنهاها المفيدS إلى قريبٍ من خمسين علامة، قال في الإرشاد: "قد جاءت الأخبار (الآثار)بذكر علاماتٍ لزمان قيام القائم المهديّl، وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات: فمنها: خروج السُّفيانيّ، وقتل الحسنيّ، واختلاف بني العبّاس في الملك الدّنياويّ، وكسوف الشَّمس في النِّصف من شهر رمضان، وخسوف القمر في آخره على خلاف العادات، وخسف بالبيداء، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وركود الشَّمس من عند الزَّوال إلى وسط أوقات العصر، وطلوعها من المغرب، وقتل نفس زكيَّة بظهر الكوفة في سبعين من الصَّالحين، وذبح رجل هاشميّ بين الرُّكن والمقام ، وهدم سور (حائط مسجد) الكوفة، وإقبال رايات سود من قِبَل خراسان، وخروج اليمانيّ، وظهور المغربيّ بمصر وتملُّكه للشَّامات، ونزول التُّرك الجزيرة، ونزول الرُّوم الرّملة، وطلوع نجم بالمشرق يضيء كما يضيء القمر ثمّ ينعطف حتى يكاد يلتقي طرفاه، وحمرة تظهر في السَّماء وتنتشر في آفاقها ، ونار تظهر بالمشرق طولا، وتبقى في الجوِّ ثلاثة أيام أو سبعة أيام، وخلع العرب أعنّتها وتملّكها البلاد وخروجها عن سلطان العجم، وقتل أهل مصر أميرهم، وخراب الشَّام، واختلاف ثلاثة رايات فيه، ودخول رايات قيس والعرب إلى مصر، ورايات كندة إلى خراسان، وورود خيل من قبل المغرب حتى تربط بفناء الحيرة، وإقبال رايات سود من المشرق نحوها ، وبثق في الفرات حتى يدخل الماء أزقّة الكوفة، وخروج ستين كذّابا كلّهم يدّعي النبوة، وخروج اثني عشر من آل أبي طالب كلّهم يدّعي الإمامة لنفسه، وإحراق (وخروج) رجل عظيم القدر من شيعة بني العبّاس بين جلولاء وخانقين، وعقد الجسر ممَّا يلي الكرخ بمدينة السَّلام (بغداد)، وارتفاع ريح سوداء بها في أوَّل النَّهار، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها، وخوف يشمل أهل العراق، وموت ذريع فيه، ونقص من الأنفس والأموال والثَّمرات ، وجراد يظهر في أوانه وفي غير أوانه حتى يأتي على الزَّرع والغلات، وقلَّة ريع لما يزرعه النَّاس، واختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم، وخروج العبيد عن طاعة ساداتهم وقتلهم مواليهم، ومسخ لقوم من أهل البِدَع حتى يصيروا قردة وخنازير، وغلبة العبيد على بلاد السَّادات، ونداء من السَّماء حتى يسمعه أهل الأرض كلُّ أهلِ لغةٍ بلغتهم، ووجه وصدر يظهران من السَّماء للنَّاس في عين الشَّمس، وأموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدُّنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون، ثمَّ يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة تتصل فتحيى بها الأرض من بعد موتها وتعرف بركاتها، وتزول بعد ذلك كلُّ عاهة عن معتقدي الحقِّ من شيعة المهديl، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكّة، فيتوجَّهون نحوه لنصرته، كما جاءت بذلك الأخبار. ومن جملة هذه الأحداث محتومة، ومنها مشرطة (مشترطة)، والله أعلم بما يكون، وإنَّما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأصول وتضمَّنها الأثر المنقول، وبالله نستعين، وإيّاه نسأل التوفيق"[1].
ثمَّ إنَّ بعض تلكم العلامات حتميّ، بحيث يُفتضَح من ادّعى ظهورهg قبل حصول تلكم العلامات، ففي صحيحة عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات، اليمانيّ، والسّفيانيّ، والصَّيحة (من السّماء)، وقتل النّفس الزّكيّة، والخسف بالبيداء»[2].
وقد سُجِّل على المدّعي المزبور -والحال تلك- الكذب والافتراء، فقد روى الصّدوقS في الإكمال -وكذا الشّيخS في الغيبة- عن أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب قال: "كنت بمدينة السّلام في السّنة التي توفِّي فيها الشّيخ عليّ بن محمّد السّمريّ -قدّس الله روحه-، فَحضرْتُه قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى النَّاس توقيعاً، نُسختُه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا عليّ بن محمّد السّمريّ: أعظم الله أجر إخوانك فيك؛ فإنّك ميِّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثَّانية (التّامّة)، فلا ظهور إلّا بعد إذن اللهa، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي (لشيعتي) من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السّفيانيّ والصَّيحة فهو كاذب (كذّاب) مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العليّ العظيم»، قال: فنسخنا هذا التَّوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السَّادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيُّك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه"[3]. وهو يقتضي أنَّ الوظيفة الشَّرعيّة للمكلَّف اتّجاه مدّعي الظُّهور ولمّا تظهر العلامات هي تكذيبه في دعواه، على أنَّ إناطة تصديق مدّعي المشاهدة بالصَّيحة وخروج السّفيانيّ ممّا يحيل -بحسب المتفاهم العرفيّ- تخلّفهما، بحيث يظهر الصَّاحبg ويُشاهَد ولمّا تسبقه العلامتان.
قال النُّعمانيّ في الغيبة: "هذه العلامات الّتي ذكرها الأئمّةi مع كثرتها واتصال الرِّوايات بها وتواترها واتفاقها موجِبة ألّا يظهر القائمl إلّا بعد مجيئها وكونها؛ إذ كانوا قد أخبروا أن لا بدَّ منها وهم الصَّادقون، حتى أنّه قيل لهم: نرجو أن يكون ما نؤمِّل من أمر القائمg ولا يكون قبله السّفيانيّ، فقالوا: بلى، والله إنّه لمن المحتوم الّذي لا بدَّ منه. ثمَّ حقّقوا كون العلامات الخمس الّتي أعظم الدّلائل والبراهين على ظهور الحقّ بعدها، كما أبطلوا أمر التوقيت، وقالوا: من روى لكم عنّا توقيتاً فلا تهابوا أن تكذبوه كائناً من كان؛ فإنّا لا نوقِّت، وهذا من أعدل الشَّواهد على بطلان أمر كلِّ من ادّعى أو ادّعي له مرتبة القائم ومنزلته، وظهر قبل مجيء هذه العلامات، لا سيما وأحواله كلّها شاهدة ببطلان دعوى من يُدَّعى له، ونسأل الله أن لا يجعلنا ممّن يطلب الدنيا بالزخارف في الدين، والتمويه على ضعفاء المرتدين، ولا يسلبنا ما منحنا به من نور الهدى وضيائه، وجمال الحقّ وبهائه بمنّه وطوله"[4].
الصَّيحة والنَّداء:
ومن العلامات الّتي تكثَّر ذكرها في الرِّوايات بالغاً حدَّ الاستفاضة هي الصَّيحة والنِّداء، ومن الرِّوايات في ذلك ما تقدَّم من صحيحة ابن حنظلة والتوقيع الشريف، ومنها: ما عن ابن أبي يعفور قال: قال لي أبو عبد اللهg: «أمسك بيدك هلاك الفلانيّ، وخروج السّفيانيّ، وقتل النفس، وجيش الخسف، والصّوت»، قلت: وما الصّوت؟ هو المنادي؟ قال: «نعم، وبه يُعرف صاحب هذا الأمر..»[5].
ومنها: ما عن محمَّد بن الصّامت عن أبي عبد اللهg قال: قلت له: ما من علامة بين يدَي هذا الامر؟ فقال: «بلى»، قلت: ما هي؟ قال: «هلاك العباسيّ، وخروج السّفيانيّ، وقتل النَّفس الزَّكيّة، والخسف بالبيداء، والصَّوت من السماء..»[6].
ومنها: حديث: اسكن ما سكنت السَّماء «من النِّداء باسم صاحبك» والأرض «من الخسف بالجيش»[7].
وقد جاء في النِّداء أنّها علامة بيّنة لا إشكال معها، كما في حديث ميمون البان قال: كنت عند أبي جعفرg في فسطاطه، فرفع جانب الفسطاط فقال: «إنَّ أمرنا لو قد كان لكان أبين من هذه الشَّمس، ثمَّ قال: ينادي منادٍ من السَّماء: إنَّ فلان بن فلان هو الإمام باسمه، وينادي إبليس من الأرض كما نادى برسول اللهe ليلة العقبة»[8].
وكما في صحيحة زرارة عن أبي عبد اللهg قال: «ينادي مناد باسم القائمg»، قلت: خاصّ أو عامّ؟ قال: «عامّ، يسمع كلّ قوم بلسانهم»، قلت: فمن يخالف القائمg وقد نودي باسمه؟ قال: «لا يدعهم إبليس حتى ينادي (في آخر الليل)[9]فيشكِّك النَّاس»[10].
وكما في حديث جابر الجعفيّ عن أبي جعفرg -في حديث-: «ثمَّ يخرج من مكَّة هو ومن معه الثلاثمائة وبضعة عشر، يبايعونه بين الرُّكن والمقام، معه عهد نبيّ اللهe ورايته، وسلاحه، ووزيره معه، فينادي المنادي بمكّة باسمه وأمره من السَّماء، حتى يسمعه أهل الأرض كلّهم، اسمه اسم نبيّ، ما أشكل عليكم فلم يشكل عليكم عهد نبيّ اللهe ورايته وسلاحه والنَّفس الزكيّة من ولد الحسين، فإن أشكل عليكم هذا فلا يشكل عليكم الصَّوت من السَّماء باسمه وأمره..»[11].
وقد جاء ذكر الصَّيحة في ضمن المحتوم من علامات ظهورهg كما في صحيحة ابن حنظلة، وحديث أبي بصير الآتي.
مادَّة البحث:
وبعد ما تقدَّم فالبحث يقع في اتحاد أو اختلاف الصَّيحة مع النِّداء، حيث قد يتوهَّم أنّهما شيئان، ولكن لا شاهد على ذلك.
ما يوهم الاختلاف:
وما يوهم اختلافهما وتغايرهما أمران:
الأمر الأوَّل: اختلاف وقت الصَّيحة عن وقت النِّداء، فوقت الصَّيحة -وهي الفزعة- في شهر رمضان كما في حديث داوود الدّجاجيّ عن أبي جعفرg قال: سئل أمير المؤمنينg[عن قوله تعالى]: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِم﴾، فقال: «انتظروا الفرج من ثلاث»، فقلت: يا أمير المؤمنين، وما هنّ؟ فقال: «اختلاف أهل الشَّام بينهم، والرَّايات السُّود من خراسان، والفزعة في شهر رمضان»، فقيل: وما الفزعة في شهر رمضان؟ فقال: أما سمعتم قول اللهa في القرآن: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾، آية تُخرِج الفتاة من خدرها، وتوقظ النائم، وتفزع اليقظان»[12].
بل في ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان، كما في حديث الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللهg قال: الصَّيحة الّتي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان[13]. وفي حديث أبي بصير عن أبي جعفرg أنَّه قال-في حديث-: «الصَّيحة لا تكون إلّا في شهر رمضان شهر الله، وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق، ثمَّ قال: ينادي منادٍ من السَّماء باسم القائمg، فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلّا استيقظ، ولا قائم إلّا قعد، ولا قاعد إلّا قام على رجليه فَزَعَاً من ذلك الصَّوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصَّوت فأجاب، فإنَّ الصَّوت الأوَّل هو صوت جبرئيل الرُّوح الأمين». وقالg: «الصَّوت في شهر رمضان في ليلة جمعة ليلة ثلاث وعشرين، فلا تشكّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا، وفي آخر النهار صوت إبليس اللّعين، ينادي ألا إنّ فلاناً قُتِل مظلوماً؛ ليشكِّك النَّاس ويفتنهم، فكم ذلك اليوم من شاكٍّ متحيِّر قد هوى في النَّار، وإذا سمعتم الصَّوت في شهر رمضان فلا تشكّوا أنّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنّه ينادى باسم القائم واسم أبيه حتى تسمعه العذراء في خدرها، فتحرِّض أباها وأخاها على الخروج». وقالg: «لا بدَّ من هذين الصَّوتين قبل خروج القائمg: صوت من السماء، وهو صوت جبرئيل، وصوت من الأرض، فهو صوت إبليس اللّعين، ينادي باسم فلان أنّه قُتِل مظلوماً يريد الفتنة، فاتبعوا الصّوت الأوّل، وإياكم والأخير أن تفتتنوا به..»[14].
بينما وقت النِّداء هو أوَّل النَّهار كما في صحيحة أبي حمزة الثماليّ قال: قلت لأبي عبد اللهg: إنَّ أبا جعفرg كان يقول: «إنّ خروج السفيانيّ من الأمر المحتوم»، قال (لي): «نعم، واختلاف ولد العبّاس من المحتوم، وقتل النَّفس الزّكيّة من المحتوم، وخروج القائمg من المحتوم»، فقلت له: كيف يكون «ذلك» النِّداء؟ قال: «ينادي منادٍ من السَّماء أوَّل النَّهار: ألا إنَّ الحقَّ في عليٍّ وشيعته، ثمَّ ينادي إبليس-لعنه الله- في آخر النَّهار: ألا إنَّ الحقَّ في السُّفيانيّ وشيعته، فيرتاب عند ذلك المبطلون»[15].
ويردُّ هذا الأمر -الّذي مردّه إلى اختلاف وقت الصَّيحة عن وقت النِّداء، فوقت الصَّيحة هو اللّيل، ووقت النِّداء هو النّهار- ما جاء في حديث الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنينg -وهو طويل-: «وينادي منادٍ في شهر رمضان من ناحية المشرق عند الفجر: يا أهل الهدى اجتمعوا، وينادي منادٍ من قبل المغرب بعد ما يغيب الشفق: يا أهل الباطل اجتمعوا..»[16]؛ فإنَّ (عند الفجر) هو أوَّل النهار -كما هو ظاهر-، ولا ينافيه ما جاء من أنَّ وقت الصَّيحة هو «ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان»؛ إذا أريد آخر تلك اللّيلة، ويكفينا احتمال ذلك لدفع اختلافهما من جهة اختلاف وقتيهما.
نعم يبقى اختلاف الرِّوايات في وقت نداء إبليس وأنّه في آخر النَّهار كما في صحيحة الثّماليّ أو من الغد كما في صحيحة عبد الله بن سنان قال: قال: كنت عند أبي عبد اللهg فسمعت رجلاً من همْدان يقول له: إنَّ هؤلاء العامّة يعيّرونا، ويقولون لنا: إنّكم تزعمون أنّ منادياً ينادي من السَّماء باسم صاحب هذا الأمر، وكان متكئاً فغضب وجلس، ثمَّ قال: «لا ترووه عنّي، وأرووه عن أبي، ولا حرج عليكم في ذلك، أشهد أنّي قد سمعت أبيg يقول: والله إنَّ ذلك في كتاب اللهa لَبَيِّنٌ حيث يقول: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾، فلا يبقى في الأرض يومئذٍ أحدٌ إلّا خضع وذلَّت رقبته لها، فيؤمن أهل الأرض إذا سمعوا الصَّوت من السَّماء: ألا إنَّ الحقَّ في عليّ بن أبي طالبg وشيعته»، قال: «فإذا كان من الغد صعد إبليس في الهواء حتى يتوارى عن أهل الأرض، ثمَّ ينادي: ألا إنَّ الحقّ في [فلان] وشيعته؛ فإنَّه قتل مظلوماً فاطلبوا بدمه..»[17].
الأمر الثَّاني: ذكرهما بنحو المقابلة كما في حديث عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهg أنّه قال: «النِّداء من المحتوم، والسّفيانيّ من المحتوم، وقتل النّفس الزّكيّة من المحتوم، وكفّ يطلع من السماء من المحتوم». قالg: «وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم، وتفزع اليقظان، وتخرج الفتاة من خدرها»[18].
ويردُّه أنَّه لم تقابل الفزعة بالنِّداء، بل بعد ذكر المحتوم من علامات الظُّهور، ومنها النِّداء- أخذ في ذكر الفزعة وأنّها في شهر رمضان وأنّها «توقظ النائم، وتفزع اليقظان، وتخرج الفتاة من خدرها»، وأمَّا أنّها هي النِّداء أو غيره فهي ساكتة. على أنّه ضعيف السَّند ولو لجهالة بعض أفراده، هذا.
شواهد الاتحاد:
وثمَّة ما يشهد لاتحاد النِّداء مع الصَّيحة:
ألِف: في حديث أبي بصير ما يشهد على اتحاد الصَّيحة مع النِّداء، حيث قال: «الصَّيحة لا تكون إلّا في شهر رمضان شهر الله، وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق»، ثمَّ قال: «ينادي منادٍ من السَّماء باسم القائمg».
باء: أنَّ الصَّيحة والنِّداء معاً لجبرئيل، وأنّها عبارة عن أنَّ الحقَّ في القائمg وفي شيعته؛ وذلك بموجب التأليف والمصادقة بين ما تقدّم عن أبي بصير وابن أبي حمزة من جهةٍ، وبين ما عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفرg يقول: «القائم منصور بالرُّعب»- إلى أن قال- فقلت له: يا ابن رسول الله، متى يخرج قائمكم؟ قال: «..وخرج السفيانيّ من الشَّام واليمانيّ من اليمن، وخسف بالبيداء، وقتل غلام من آل محمّدe بين الركن والمقام، اسمه محمّد بن الحسن النفس الزكيّة، وجاءت صيحة من السماء بأنّ الحقّ فيه وفي شيعته، فعند ذلك خروج قائمنا..»[19].
جيم: أنّ الفزعة -حسبما جاء في حديث الدّجاجيّ المتقدّم- «آيةٌ تُخرج الفتاة من خدرها، وتوقظ النَّائم وتفزع اليقظان»، وهو ما جاء في النِّداء -بحسب ما تقدَّم من حديث أبي بصير- ينادي منادٍ باسم القائمg.. لا يبقى راقد إلّا استيقظ، ولا قائم إلّا قعد، ولا قاعد إلّا قام. إذن فتلك الفزعة عن هذا النِّداء.
ويؤيِّد اتحادهما أنَّ المفيدS أحصى علامات الظُّهور، وأنهاها إلى قريبٍ من خمسين علامة- كما تقدَّم-، وذكر في ضمنها ما جاء- بحسب ما وصلنا- في رواية واحدة، ولم يذكر من العنوانين إلّا عنوان (الصَّيحة)، رغم وفرة الرِّوايات الواردة بعنوان (النِّداء).
مضمون النِّداء:
ثمَّ إنَّه قد جاء في صحيحة الثماليّ أنَّ مضمون النِّداء: «ألا إنَّ الحقّ في عليّ وشيعته، ثمَّ ينادي إبليس-لعنه الله- في آخر النهار: ألا إنّ الحقّ في السفيانيّ وشيعته»، بينما مضمونه في أكثر الروايات: «إنّ فلان بن فلان هو الامام باسمه» كما في صحيحة زرارة وسائر ما تقدَّم من الروايات.
ولكن لا منافاة بينهما؛ فإنَّ النِّداء بهما معاً كما في صحيحة ابن سنان، كما لا منافاة بين ما في صحيحة الثّماليّ من «إنّ الحقّ في السّفيانيّ وشيعته» وبين ما تضمّنته غيرها من «أنّ فلاناً قُتِل مظلوماً»؛ فإنَّ فلاناً والسّفيانيّ من بني أميّة، كما أنّه قد جاء في صحيحة ابن سنان: «ألا إنّ الحقّ في [فلان] وشيعته؛ فإنّه قتل مظلوماً فاطلبوا بدمه».
ومن ذلك يعرف الجواب عمَّا جاء في حديث الأصبغ: «وينادي منادٍ في شهر رمضان من ناحية المشرق عند الفجر: يا أهل الهدى اجتمعوا، وينادي منادٍ من قبل المغرب بعد ما يغيب الشَّفق: يا أهل الباطل اجتمعوا».
نداء آخر:
وقد وافتنا طائفة من الرِّوايات بنداء آخر-كعلامة على الظُّهور- فعن عمّار بن ياسر رضي الله عنه أنّه قال: "دعوة (دولة) أهل بيت نبيّكم في آخر الزَّمان، فالزموا الأرض وكفّوا حتى تروا قادتها، فإذا خالف التّرك الرّوم، وكثرت الحروب في الأرض، وينادي منادٍ على سور دمشق: ويلٌ لازم من شرٍّ قد اقترب، ويخر[ب] حائط مسجدها"[20].
ويرشد إلى ذلك الجمع بين هذا النِّداء ومناد السَّماء في حديث جابر قال: قال أبو جعفرg: «يا جابر، الزم الأرض، ولا تحرِّك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها، أوَّلها اختلاف بني العباس، وما أراك تدرك ذلك، ولكن حدِّث به [مَنْ] بعدي عنِّي، ومنادٍ ينادي من السَّماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق بالفتح..»[21]- لو كان نداء المنادي على سور دمشق هو الصّوت من ناحيتها بالفتح، فتأمّل-.
نداء ثالث:
وقد جاء في رواية فريدة ذكرٌ لنداءٍ غير النّدائَين السّابقَين، فعن عجلان أبي صالح قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: «لا تمضي الأيام والليالي حتى ينادى منادٍ من السّماء: يا أهل الحقّ اعتزلوا، يا أهل الباطل اعتزلوا، فيُعزَل هؤلاء من هؤلاء، ويُعزَل هؤلاء من هؤلاء»، قال: قلت: أصلحك الله، يُخالَط هؤلاء وهؤلاء بعد ذلك النِّداء؟ قال: «كلا؛ إنّه يقول في الكتاب: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾»[22].
نداءات أخرى:
في غيبة الطّوسيّO بإسناده -وفيه العبرتائيّ- عن الحسن بن محبوب عن أبي الحسن الرّضاg -في حديث له طويل اختصرنا منه موضع الحاجة- أنَّه قال: «لا بدَّ من فتنة صمَّاء صيلم يسقط فيها كلُّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشّيعة الثَّالث من ولدي، يبكي عليه أهل السَّماء وأهل الأرض، وكم من مؤمن متأسّف حرّان حزين عند فقد الماء المعين، كأنّي بهم أسرّ ما يكونون، وقد نُودوا نداءً يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، يكون رحمةً للمؤمنين وعذاباً للكافرين». فقلت: وأي نداء هو؟ قال: «يُنَادَون في رجب ثلاثة أصوات من السَّماء، صوتاً منها: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين﴾، والصّوت الثَّاني: ﴿أَزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ يا معشر المؤمنين، والصّوت الثالث -يرون بدناً بارزاً نحو عين الشَّمس-: هذا أمير المؤمنين قد كرَّ في هلاك الظالمين». وفي رواية الحميريّ: «والصّوت [الثالث] بدن يُرى في قرن الشمس يقول: إنّ الله بعث فلاناً فاسمعوا له وأطيعوا». وقالا جميعا: «فعند ذلك يأتي النَّاس الفرج، وتودّ الناس لو كانوا أحياء ﴿وَيَشْفِـ[ـي الله] صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين﴾»[23].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيّه محمّد الأمين وآله الطّيّبين[24].
[1] الإرشاد، المفيد: 368- 370.
[2] إكمال الدين وإتمام النّعمة: 650 (ب57، ح7)، عنه وعن غيره: بحار الأنوار52: 204، 209- تاريخ الإمام الثّاني عشر- ب25 (باب علامات ظهورهg) ح34، 49.
[3] إكمال الدين وإتمام النّعمة: 516 (ب45، ح44)، الغيبة: 395 ح365، عنهما في البحار51: 360، 361 ب16، ح7.
[4] الغيبة للنعمانيّ: 293 (ذيل روايات الباب 14).
[5] بحار الأنوار52: 234 ب25، ح100.
[6] بحار الأنوار52: 235 ب25، ح102.
[7] بحار الأنوار52: 188، 189 ب25، ح16، 17.
[8] بحار الأنوار52: 204 ب25، ح31.
[9] قال المجلسيّO في ذيل هذه الرواية: "بيان: الظاهر (في آخر النهار) كما سيأتي في الاخبار[لعلّه يشير إلى صحيحة أبي حمزة الثماليّ الآتية]، ولعلّه من النسّاخ، ولم يكن في بعض النسخ: (في آخر الليل) أصلا"، بحار الأنوار52: 205.
[10] بحار الأنوار52: 205 ب25، ح35.
[11] بحار الأنوار52: 223، 224 ب25، ح87.
[12] بحار الأنوار52: 229 ب25، ح95.
[13] بحار الأنوار52: 204 ب25، ح33.
[14] بحار الأنوار52: 230 ب25، ح96.
[15] إكمال الدين وإتمام النّعمة: 652 (ب57، ح14)، عنه بحار الأنوار52: 206 ب25، ح40.
[16] بحار الأنوار52: 274 ب25، ح167.
[17] كتاب الغيبة للنعمانيّO: 265- 267 ب14، ح19، 20.
[18] بحار الأنوار52: 233ب25، ح98.
[19] بحار الأنوار52: 191، 192ب25، ح24.
[20] بحار الأنوار52: 212، ب25، ح60، : ص207 ح45.
[21] بحار الأنوار52: 237، ب25، ح105.
[22] بحار الأنوار52: 222 ب25، ح86.
[23] كتاب الغيبة للطّوسيّO: 439 ح431، وعنه في بحار الأنوار52: 289 ب26، ح28.
[24] وقع الفراغ من كتابة هذه السطور بجوار ثامن الحجج (صلوات الله عليه)، رزقنا الله رأفته ورحمته، ليلة الخامس من رجب الأصبّ من سنة 1443 هـ، وقد راجعته وزدت عليه بجوار أخته الكريمةj ليلة السادس عشر منه.
0 التعليق
ارسال التعليق