النص الديني وفهم الدين في حوار مع سماحة الأستاذ العلامة الشيخ جعفر النمر (حفظه الله)

النص الديني وفهم الدين في حوار مع سماحة الأستاذ العلامة الشيخ جعفر النمر (حفظه الله)

■ بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

سماحة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

● وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

■ ماذا يقصد بالنصوص الدينية فيما يرتبط بفهم الدين، وهل كل النصوص الدينية مقدسة، ثم إذا كانت كذلك فما المراد من ذلك؟

● بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

مسألة النص الديني من صغريات التفاهم البشري، وحيث إن الإنسان مدني بطبعه يحتاج تفهيم مراده للآخرين، ليفيد الآخرين ويستفيد منهم، كان هذا القانون ساريا وشاملا وعاما لجميع أفراد النوع البشري، ومقولة بشرية الأنبياء والرسل، من المقولات التي أكد عليها القرآن الكريم كثيرا، فالآيات التي صدرها الله تعالى بقوله (قل إنما أنا بشر مثلكم ) هي حكاية لهذه الحقيقة، فالنبي بشر في أغراضه وبشر في تعاطيه مع القضايا، وبشر في كيفية اتصاله مع محيطه الذي يعيش فيه ويتحرك في دائرته، إلا أن هذا البشر يمتاز عن غيره بالتسديد والعصمة الإلهيين.

وتأسيسا على هذا، فإن النص بمعنى بيان الشارع لمراده إما من خلال الكلام والألفاظ أو من خلال الفعل والسيرة والسلوك، وإما من خلال الإقرار والسكوت المنبئ عن الرضا الخاص لما يقع أمامه من فعل(1)، هذا التواصل وهذا التفهيم هو عبارة عن إظهار الشارع لمراده، وحيث إن مسألة النبوة من صغريات مسائل طاعة الله بملاحظة قانون المعجزة، بمعنى أن الإعجاز يكشف عن ارتباط بين هذا الفرد الخاص من البشر وبين الله، كان مفاد المعجز أن الفعل الصادر من النبي صادر بإذن الله، والنص الصادر من النبي صادر من الله، وهذا هو المقصود بالعصمة والتسديد، فإذا قام البرهان العقلي على ضرورة طاعة الله، كان النص الديني بهذا المعنى أي ما يكون مشتملا على قول المعصوم(ع) وفعله وتقريره واجب الإتباع.

إذن النتيجة هي أن النص الديني هو كل دليل بقول الشارع أو فعله أو تقريره، والمراد بالشارع هو الله، أو من أرسله الله، أو من كان وصيا للرسول وهو المعصوم(ع) في مذهبنا، هذا بالنسبة إلى دائرة النص، والمراد بالنص الديني.

أما مسألة تقديس النص الديني فتفرض علينا وضع النص الديني في موضعه الصحيح، فقد عرفنا أن وظيفة النص بناء على ما تقدم، هي كشف الواقع ومراد الشارع، وهو على قسمين، لأنه إما إخبار وإما إنشاء، أما بالنسبة للنص الخبري، الذي يكشف عن مراد الشارع كشفا إخباريا، مثل (الصلاة واجبة) فإنه واجب الإتباع ومقدس، وذلك لأن المفروض أن مراد الشارع هو عبارة عن إرادته و أغراضه وأحكامه وما إلى ذلك من المقولات التي تتعلق بلوح التشريع، فلو فرضنا ولو من باب الأصل الموضوعي أن الشارع واجب الإتباع فدائرة وجوب الإتباع هي دائرة أحكام وإراداته وأغراضه التشريعية.

 ■مداخلة: لماذا قصرتم الحديث حول النص الإخباري من قبل الشارع، بالإخبارات التشريعية، لماذا لا يكون الحديث شاملا للإخبارات في الأمور التكوينية؟

 ●مسألة النص الديني في المسائل التكوينية مربوطة بالبرهان، ولا يمكن أن نعالج الطائفة المتعلقة بالحقائق التكوينية بنفس الطريقة التي نعالج بها المسائل التشريعية، وذلك لأن النصوص التي تتعلق بالحقائق التكوينية لا بد أن تكون قطعية السند والدلالة، أما إذا كانت ظنية الدلالة وكانت قطعية السند فالاعتماد عليها في كشف حقائق الآخرة والمعاد وأمثال ذلك، لا يكون صحيحا إلا بنحو التعبد فيرجع الأمر إلى التشريع، لا إلى الإخبار في الأمور التكوينية، بخلاف النصوص المتعلقة بالأغراض التشريعية، فإن الظن فيها حجة، ويجوز الاعتماد عليه.

■ إذن لو كان السند قطعيا ونصا في المراد يمكن الاعتماد عليه في الأمور التكوينية؟

 ●في هذه الحالة نعم وتكون الحجية للمنكشف لا للكاشف، بمعنى أن سلطة النص الديني مبنية على سلطة الحق، لا العكس بمعنى أن النص إنما جاء ليكشف عن الحق، إما كشفا قطيعا بناء على العصمة وكون الدلالة قطعية، فلا يتطرق إلى النص احتمال الكذب والخطأ، فيكون النص واجب الإتباع ويكون كما يعبر بعض أساتذتنا وعلمائنا أنه بمثابة الحد الأوسط في البرهان إذا كان كاشفا كشفا قطيعا، واتباعنا للنص في هذه الحالة واجب لأن المفروض بالإنسان أن يتبع الحق، والمفروض مطابقته للواقع.

وأما في باب التشريع، فيجب أن نؤسس أولا حجية الظن، لأن النص في باب التشريع ليس دائما قطعي الدلالة، ولا يمكن أن نخص الحجية بالنص القطعي الدلالة في باب التشريع، للزوم الانسداد، بخلاف باب التكوين فإننا يمكن أن نرفع اليد عن الأدلة الظنية في باب التكوينيات، لعدم لزوم أي محذور، بخلاف باب التشريع فإنا لو لم نعمل فيه بالأدلة الظنية للزم الانسداد، هذا ما يقرره الأصوليون، فلابد حينئذ من التأسيس إلى حجية الظن، وأنه على أي نحو يكون الظن حجة، هل يكون الظن حجة في مقابل القطع، أو يكون حجة بما أنه مصداق للقطع أو مقارن لمصداق من مصاديق القطع، أي القطع بالتنجيز والتعذير مثلا.

عودة: وعليه نقول أنه في الأغراض التشريعية النص على قسمين، لأن النص الذي يكشف عن الغرض التشريعي، إما أن يكشف كشفا إخباريا، ويتسم حينئذ بالحجية لأدلة الحجية الخاصة، وحيث إننا الآن نتكلم عن قداسة النص الديني فلابد أن نؤسس إلى الحجية في هذه المرحلة، وذلك بالبيان التالي، وهو أن القانون العام المعتمد عند العقلاء في كشفهم عن مرادهم، الذي كان استعمال الشارع للنص مبنيا عليه هو الاعتماد على الظنون الخاصة في باب التفهيم، فسيرة العقلاء جارية على حجية الدلالة الظنية التي توافق قانون المحاورة بين السامع والمتكلم، فإذا ألقى المتكلم النص، وكان النص جامعا لشرائط الحجية- شرائط المحاورات العقلائية التي يعتمدها العقلاء- جاز لكل من السامع والمتكلم الاحتجاج على الآخر بهذا الكلام، فيتأسس بذلك مفهوم الحجية، أي أن اعتماد الشارع على قانون العقلاء هو الذي جعل هذا الكلام الظني حجة، وكذلك إخبار الراوي عن فعل أو إقرار المعصوم(ع) يكون حجة، لاندراجه تحت قانون المحاورة.

وعليه نقول أن هذا الكشف الإخباري يكون مصداقا للحجية وبالتالي لازم الإتباع على جميع العبيد الذين للمتكلم مولوية عليهم، ومعنى القداسة في هذا القسم هو لزوم التبعية أي تطبيق النص، وتطبيق أفعالهم على ما يوافق النص، هذا إن كان الكشف إخباريا.

أما القسم الثاني من النصوص فهي النصوص التي تكشف عن المراد كشفا إنشائيا، فالحال فيها قريب من الحال في القسم الأول لكنه -النص- بنفسه يكون مصداقا للحكم بملاحظة حجية الدلالة، فقول الشارع (أقيموا الصلاة) مثلا، بناء على حجية الدلالة الظنية، هو بنفسه أمر لا أنه دليل وكاشف عن وجوب الصلاة فحسب، بل هو بنفسه مصداق للطلب، ومصداق للبعث والأمر فصدور الصيغة بداعي البعث هو بنفسه بعث إلا أنه بعث تشريعي، وهذا المقدار من البعث كاف في انطباع موضوع لزوم الطاعة الذي يحكم به العقل أو يدركه العقل.

فمعنى قداسة النص، لزوم تطبيق مفاد النص على فعل العبد، وهذا يستلزم أن تكون النسبة بين العبد والنص، نسبة التدبر من العبد والقيادة من النص، بمعنى أن النص يجب أن يكون متبوعا، لا تابعا، فإذا أراد العبد أن يستنطق النص يجب عليه أن يتجرد عن كل ما يكون تحميلا على النص بشكل ينافي دلالة النص، يجب أن يكون غرض المستمع في مقام فهم النص مقصور على مجرد الإنصات والتدبر، وهذا معنى ما ورد في الروايات من النهي عن التفسير بالرأي، فالرأي هو عبارة عن حمل النص على هوى المتكلم، وهذا مخالف لوظيفة النص، وإخراج للنص من سياقه، إذ النص إنما جعله الشارع ليبين مراده هو، وحمل السامع نص المتكلم على هواه يعني جعل النص دالا على مراده، وهو خلاف ما أراده المتكلم، فيجب أن يكون فعل السامع مقصورا على مجرد الإنصات والتدبر وملاحظة مدلول النص، بالتجرد عن كل الأهواء والأحكام السابقة، وهذا معنى قداسة النص.

فمعنى قداسة النص يجب أن يفهم كما يريده المتكلم، لا أن يفهم كما يريده السامع، ثم بعد ذلك عليه أن يمثل لهذا النص على مستوى العمل، إلا أنه في كثير من الموارد لا يعرف كيف يريد المتكلم أن يفهم كلامه، إلا من خلال إحراز السامع لما يريده هو من كلام المتكلم لو كان هو الملقي له، فيفرض السامع نفسه متكلما بهذا الكلام، ليرى أنه لو كان هذا الكلام كلامه، فما المراد منه، وهذه طريقة في استنطاق النص الديني تعني حرص السامع على أن يتجرد عن جميع أهوائه.

■ إذن بحسب مقتضى كلامكم لو أن شخصا قام بفهم النص الديني وفق الشروط، وعمل طبق هذا النص الديني وتعبد به ورآه حجة عليه، لكنه لم يكن مقتنعا في نفسه بهذا الحكم الشرعي فهو في الواقع مقدسا للنص الديني؟

● في الواقع عندنا مفهومان، المفهوم الأول وهو مفهوم القداسة، والثاني هو مفهوم التسليم، أما القداسة فإنها تعني لزوم تطبيق النص الديني بالنحو الذي يتوافق مع دلالته من دون زيادة أو نقيصة، والمفهوم الثاني هو مفهوم التسليم، وهو اعتقاد الإنسان بمطابقة هذا النص لقانون الحكمة، والاختلاف بين الناس فيما يتعلق بمفهوم التسليم، لا يضر بمسألة تقديس النص، لكنه له مدخلية فيما يرتبط بتفاوت الناس من حيث الإيمان، فإنهم وإن اشتركوا مع غيرهم في تقديس النص، إلا أن هذا التقديس ناقص من حيث نقصان درجة تسليمه، والفصل بين التقديس بمعنى التسليم، والتقديس العملي، إنما هو للتنبيه على أن التسليم بهذا المعنى ليس له مدخلية في مقومات الإيمان الذي أنيطت به الأحكام الخاصة، كجواز التناكح وأمثاله، فعلى الإنسان أن يعتقد أن النص أمر لازم الإتباع، من دون تغيير أو تأويل، وأما تسليمه لموافقة العقل أولا، فهذا بعينه إقرار بعجزه عن إدراك وجه الحكمة في هذا الحكم.

■ هل أن النصوص الدينية ثابتة أم متغيرة، وإذا كانت ثابتة فما معنى اعتماد نص من قبل عالم ثم رد هذه الرواية من نفس العالم، وكذلك اعتماد عالم رواية ما مع ردها من قبل آخر؟

● أما بالنسبة للشق الأول من السؤال فالصحيح أن النص الديني ثابت وليس بمتغير، بمعنى أن حجية النص قائمة أساسا على كون وظيفة النص الكشف عن مراد الشارع، ومراد الشارع الذي انكشف لنا بالنص، هو مراد الشارع الذي كشف عنه الوحي، وقطعية انقطاع الوحي، تعني أن مراد الشارع الذي انكشف بآخر وحي نزل على رسول الله(ص) لم يأت إلينا ما يكشف عن خلافه، لأن الوحي قد انقطع، ولا معنى لانكشاف خلاف هذا، نعم انفتح باب الإلهام للأئمة والأولياء(ع)، ولكن هذا يعني أن النص الذي صدر من الإمام(ع) عند آخر أزمنة الحضور وأول أزمنة الغيبة، أيضا لم يأت بعده ما يخالفه في الكشف، فمسألة ثبات النص تتبع مسألة ثبات المدلول، إذ المفروض أن هذه النصوص مدلولها لم يلحقه بعده ما يخالفه، نعم ورد أن في القرآن والروايات أن هناك ناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا، ومرادنا بالثبات، ثبات المدلول النهائي الذي يريده المتكلم بعد ملاحظة جميع هذه الأمور- الناسخ و...- فنحن لا نريد ثبات المنسوخ بحيث يكون فعليا واجب الطاعة والإتباع بعد نسخه، وإنما نريد ثبات المدلول القرآني وروايات النبي وأهل البيت(ع) بعد الجمع بين المطلق والمقيد والعام والخاص والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين والحاكم والمحكوم والوارد والمورود، وما إلى ذلك.

وعليه، فمسألة ثبات النص باعتبار توقفه عند زمان خاص أمر حتمي، نعم هناك طائفة من الأحكام الشرعية التي بينها الشارع موضوعها قابل للتغير والتبدل تبعا للظروف الاجتماعية المعينة، كالمواضيع التي تؤخذ من العرف، كحرمة لباس الشهرة، فإن حرمة لباس الشهرة في بلد قد يخالف لباس الشهرة في بلد آخر، وكعنوان ما يكال وما يوزن، اللذان هما شرطان لتحقق الربا المعاملي، فقد يكون ما يكال في بلد لا يكال في بلد آخر وكذلك ما يوزن، فتغير الحكم هاهنا ليس ناشئا من تغيره عن موضوعه بل ناشئ عن عدم وجود موضوعه، أو تغير موضوعه، ولا إشكال في ذلك لأن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه لا يرتبط بالجانب التشريعي بل هو مربوط بالجانب التكويني، ومرادنا بثبات النص هو أن الشريعة ثابتة، وليست متغيرة فالنص ثابت، والتغير إنما يكون في دائرة تحقق الموضوعات ووجود الموضوع، لا دائرة ثبوت الحكم للموضوع بعد وجوده، ولا دائرة دلالة النص على الموضوع، إذا لا ثبوت الحكم لموضوعه محل للتغير، ولا دلالة الدليل على الحكم محل للتغير.

إلا أن هنا نقطة لها تعلق بهذا السؤال وبما تقدم، وهي أن النص الذي نتكلم نحن عن ثباته وتغيره سلطته وحجيته مبنيتان على حجية الظن، والظن الذي نتكلم عنه هو إعمال القواعد المعتبرة والمرعية عند العقلاء في استنطاق النص واستكشاف مراد المتكلم، وحيث أن هذا الاستنطاق والاستنباط من قبل المستمعين ولو كانت القواعد العقلائية مضبوطة في الجملة، إلا أنه محل اختلاف بين الناس لاختلاف الأمزجة والثقافات والملكات والاستعدادات كان هناك اختلاف في الظنون التي يستفيدها هذا السامع عن السامع الآخر، فربما يختلف اثنان في فهم النص الديني الواحد، وهذا الإختلاف ناشئ من أن الدلالة ظنية، ولا يمكن تجريد الدلالة الظنية عن المرتكزات التي يبني عليها كل سامع كيفية استنطاقه للنص الديني، فهذا الاختلاف في الخلفيات الثقافية هي التي تسبب اختلاف الاجتهاد بين المجتهدين، ومن مسببات هذا الاختلاف - اختلاف الثقافات- اختلاف الثقافات الذي من أكبر عوامله اختلاف الأزمنة، فإن لكل زمان شرائط معينة، غالبا ما تصاحب ثقافة معينة، فيكون لكل أهل زمان طريقة في فهم النص الديني، فربما يفهم العلماء من النص الديني شيء ويِأتي عالم آخر ويفهم شيئا آخر، وذلك لتطور عقلية العالم في الزمان الثاني عمّا كان عليه العالم في الزمان الأول، فاختلاف المرتكزات الناشئ من اختلاف الثقافات الناشئ من اختلاف الأزمنة هو الذي يؤدي إلى اختلاف الاستنباط والاستنطاق والاستدلال بهذه النصوص، وهذا المعنى مقبول لو أريد بتغير النص هذا المعنى، فمعنى تغير النص هو أن اختلاف الناس في كيفية فهم النص- ظني الدلالة- أمر معقول، وأما رفع اليد عن المدلول بعد الفراغ من كونه مدلولا للنص فهذا أمر مرفوض عند العقلاء في كل زمان.

وأما بالنسبة للشق الثاني في السؤال- مسألة السند أو رد الرواية- فإنا نتكلم عن النص بعد الفراغ عن ثبوته، وهي واحد من المسائل الاجتهادية التي تلقاها الناس من الشارع فإن الشارع وضح للناس كيفية إحراز صحة السند فينطبق على مسألة السند ما ذكر في مسألة الدلالة.

■ هل فهم الدين مقصور على طائفة العلماء أم أن ذلك مفتوح للجميع؟

● لا إشكال في أن الرسالة السماوية التي جاء بها النبي الأكرم(ص) وحملها أئمتنا(ع) بالحمل الخاص- الوصية- أمر لا اختصاص له بطائفة دون أخرى، ولا بلون دون آخر، ولا عرق دون عرق، بل هو أمر عام للبشرية كافة، إلا أنه لا ينبغي الغفلة عن أن الاستفادة من هذه الرسالة موقوف على توفير أدوات خاصة لا يمكن لمن أراد الاستفادة من هذه الرسالة أن يستفيد منها بدون تلك الأداة، فالقرآن وإن كان كتابا لهداية الناس جميعا (لأنذركم به ومن بلغ) إلا أن استفادة الإنسان من كتاب الهداية هذا يجب أن يكون مبنيا على إحراز مقدمات وأدوات وآليات خاصة تمكنه من أن يفهم القرآن وهذا الأمر هو الذي يوجب ضيق دائرة الاستفادة من القرآن الكريم واختصاص هذه الدائرة بطائفة خاصة، وهم الذين يملكون الأداة الخاصة لفهم القرآن الكريم، وهذه الطائفة ليس لها عرق ولا لون ولا جنسية، وليس لها هوية إلا تلك الأداة، فكل من يملك تلك الأداة من حقه أن يستفيد من القرآن، بل لا يمكن دعوى اختصاص القرآن لغيره.

تأسيسا على هذا نقول، أن مراد البعض من قصر فهم النصوص الدينية على العلماء، إن كان منع من يملك الأداة التي يراد بناء الفهم الصحيح عليها، وحصرها بطائفة العلماء - وهم المتزيّين بزي العلماء، أو الذين درسوا في بقعة معينة، وغيرها من الأمور الظاهرية- فهذه مقولة مرفوضة، وأما إذا كان المقصود من انحصار فهم النص الديني بالعلماء، أن لا يتمكن غير العلماء الذين أتعبوا أنفسهم بتحصيل العلم أن يفهم النص الديني كما يريده الشارع، فهذه مقولة صحيحة وعقلائية، فمثلا لا يمكن لكل إنسان أن يباشر مهنة الطب بدعوى أن الطب لا اختصاص له بلون أو عرق أو جنس، فعدم اختصاص مهنة الطب بلون لا يسوغ لكل أحد أن يمارس المهنة بدون توفير شرائط معينة، كذلك أمر الدين فإن الدين اختصاص لابد من توفير مقدماته، وإلا لم يكن من حق الإنسان معالجة النص الديني.

■ هل كل النصوص الدينية يمكن أن يتعدد فهمها؟ أم أن بعضها لا يقبل التعدد في فهم مضمونه، ثم إذا كنا نقبل التعدد في فهم النصوص ألا يلزم من ذلك القول بالتعددية الدينية واختلاف القراءات ونسبية الحقيقة التي يرفضها الفكر الإسلامي؟

● هناك فرق بين ما طرحناه من تعدد في فهم النص وبين ما يشاع الآن من تعدد القراءات، ما ذكرناه سابقا هو أن هناك مرادا متعينا في نفس المتكلم، وظيفة النص الكشف عن هذا المراد، واستكشاف هذا المراد إنما يكون بتطبيق قانون الحوار الحاكم على السامع والمتكلم على دلالة النص، فيكون دور النص دور الكشف، و هذا الكشف عملية يشترك فيها المتكلم من جهة بإلقائه للنص، والسامع من جهة بتطبيق قانون الحوار على هذا النص، فهي عملية لها طرفان، هذه العملية يراد بها الكشف عن أمر خاص وهو مراد المتكلم، ومراد المتكلم محفوظ في مرتبته متعين لا يتغير، وهذا ما أردناه سابقا من تعدد الفهم للنص الديني الواحد، أما ما يثار الآن من تعدد القراءات، فهو أمر يختلف عمّا نقوله اختلافا جوهريا، وذلك لأن مدعى أصحاب هذه النظرية، أن النص لا يمكن أن تكون له قيمة إلا بلحاظ عملية استنطاق السامع أو القارئ لهذا النص فيقصرون النظر على الاستنطاق الصادر من القارئ، ويقولون أن هذا الاستنطاق لا يمكن عزله عن المرتكزات الثقافية والمزاجية والاستعداد الخاص لهذا القارئ، فيقولون أن الاجتهاد هو عملية ذاتية أي أنها متأثرة بذات المجتهد، وعليه يقولون أنه ليس عندنا نص ديني واحد، بل عندنا قراءات مختلفة.

والخلل في هذه النظرية ناشئ من بترهم عملية الحوار والتخاطب بين الشارع والمتشرع، فما ذكرناه سابقا الاستنطاق فيه جزء من عملية الحوار، لأن الحوار يتركب من أمرين، من إلقاء النص والاستنطاق من السامع والقارئ، هؤلاء ألغوا الجزء الأول وقصروا نظرهم على الجزء الثاني، والجزء الثاني هو مثار الاختلاف، فاستنطاق زيد للنص غير قراءة عمرو، فإذا قلنا أن النص ما يتعلق به قراءة زيد وقراءة عمرو، فالنص هنا متعدد، ولذلك فإنهم يرون أن النص وإن كان من ناحية اللفظ واحدا إلا أنه من ناحية المعنى متعدد باختلاف القراءات، ويتفرع عن هذه النظرية نظرية تغير النص الديني، فالنص عندهم ليس بثابت وذلك لأن واقعه هو قراءة المتشرعة له وقد فرضنا اختلاف هذه القراءة، فلابد أن تكون النصوص متغيرة، وإذا كانت النصوص متغيرة فلابد حينئذ من استحداث أوضاع جديدة، في تنظيم العلاقة بين المتشرعة والنص من جهة، وبين المتشرعة أنفسهم من جهة أخرى، فنقول أن النص باعتبار تغيره وعدم ثباته لا تكون له سلطة على المتشرعة، وبالنسبة للمتشرعة أنفسهم لا يستطيع أحد أن يحتج على أحد، فدعوى وجود حدود نهائية للرأي أو خطوط حمر للتفكير مخالف لهذه النظرية.

ومن الواضح أن هذه النظرية تختلف عمّا ذكرناه اختلافا كليا، فمسألة اختلاف المجتهدين في استنطاق النص وفهمه اتفق عليه المسلمون الذين تعاملوا مع نصوص النبي وآله الطاهرين(ع) وآمنوا، لأننا نؤمن أن النص واحد والمعنى واحد إلا أننا نختلف في الوصول إلى هذا المعنى المراد من قبل الشارع، فاتفقوا على أن المعنى الذي أراده المعصوم واحد أصاب منا من أصاب وأخطأ من أخطأ، أما هؤلاء فوفقا لنظريتهم فينبغي أن يقولوا أن الكل مصيب، وهذا نحو من أنحاء التصويب بلا إشكال، ويمكن أن يستفاد ممّا قاله علماؤنا في رد نظرية التصويب للرد على نظرية تعدد القراءات.

بل ما ذهب إليه أصحاب نظرية تعدد القراءات أسوأ من التصويب الذي ذهب إليه البعض، لأن التصويب الذي ذكره الأقدمون إنما هو التصويب في باب الظنون، وأما هؤلاء فإنهم يدعون التصويب في باب النصوص، وهذا يعني أنه لا قدسية للقرآن والنصوص المعصومية، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين.

نصيحة في هذا الشأن:

نصيحتنا في هذه المسألة الشائكة هي طلب الحق، فإن الحق إنما يصيبه من طلبه، أما من أراد أن يجعل نفسه ميزانا للحق، فإنه محجوب عن الحق والحق محجوب عنه، فعلى الباحث عن الحقيقة أن يجعل الحق والحقيقة نصب عينيه، ويسعى وراءهما، لا أن يستدبر الحقيقة ليؤسس أمرا آخرا من عند نفسه، لأنه حينئذ يكون محجوبا، لذلك ينبغي أن يتحلى طالب العلم بالتسليم أمام الحق والإخبات والتجرد عن الهوى، فقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه «أخوف ما أخاف عليكم إثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة»(2) فأمير المؤمنين(ع) مع أنه قد وعظنا بهذا الحديث إلا أنه بين حقيقة هامة جدا وهي أن اتباع الهوى لا يمكن أن تقارنه إصابة الحق، بل كل من اتبع هواه فقد أعرض عن الحق، ومن أبدى صفحته للحق هلك، ومن صارع الحق صرعه.

نسأل الله لنا ولجميع المؤمنين التسديد والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

* الهوامش:

(1) السنة والنص الديني بمعنى واحد.

(2) نهج البلاغة 1: 92 / باب الخطب 42.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا