الندوة الحواريّة في (كيفية إعداد موضوع وإلقاؤه؟)(1)

الندوة الحواريّة في (كيفية إعداد موضوع وإلقاؤه؟)(1)

تمهيد

قد جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة سدًا فيما بينه وبين النّار»(2).

إنّ الكتابة والإعداد للموضوع من أهم الوظائف التي تشغل ذهن طالب العلم، ويتمنّى من اليوم الأول الذي يدخل فيه الحوزة أن يكون كاتبًا مميّزًا وملقيًا بارعًا وخطيبًا مصقعًا؛ لأنها الأداة والوسيلة التي من خلالها يتمّ تبليغ مهمّته الكبرى وهي: (تبليغ الرسالة) التي تعدّ شرفًا وتكليفًا في ذات الوقت، إلا أنّ هذا الطموح العالي والأمنية الكبيرة إذا لم تلامس حِراكًا عمليَّا على أرض الواقع فلن ترى النور أبدًا، بل قد تتلاشى نفس تلك الأمنيات أيضًا بدواعٍ ومبررات متعددة: كفوت العمر وتقدّمه، والتهيّب والخوف من الكتابة والإلقاء أمام الجماهير، وعدم توفّر الوقت لذلك...إلخ.

ومن أهمّ مواسم التبليغ هو الموسم العاشورائي الزاخر بالعلم والفضيلة، والذي تربّت عليه الأجيال واشتدّ عودها، فالمنبر الأستاذ الأوحد الذي لا ينتهي درسه ولا تفتر مواعظه حتى آخر أنفاس العمر عند المدرسة الإماميّة، ولذا ينبغي على الخطيب أن يتّسم بخصال ترتقي به وتثبّت دعائمه بالخطاب الأصيل الراقي في محتواه وهيكلته وأسلوبه.

وقد جاء هذا الحوار الذي بين يديك -عزيزي القارئ- ونأمل أن يكون خطوة من خطواتٍ عمليّةٍ إزاء تنمية قدرات طالب العلم وإكسابه المزيد من الخبرات والمهارات في مجالي [إعداد الموضوع وكيفية إلقائه]، وقد كانت هذه الحواريّة مع مجموعة من الأساتذة في الحوزة العلميّة لما لهم من تجربة رائدة في مجال الكتابة والإلقاء، وإليك أيّها العزيز هذه الحواريّة الشيّقة وهي في ثلاثة محاور:

المحور الأول: كيفية إعداد الموضوع

وقد قدّمه: سماحة الشيخ محمد باقر الشيخ

وأهم ما تمّ طرحه هو التّالي:

المقدمة

يُنْقَل عن الشيخ آغا رضا الهمداني وهو أحد تلامذة المجدد الشيرازي وله كتاب معروف اسمه «مصباح الفقيه»، يَنقُل تلميذه الشيخ الأميني أنّ الشيخ رضا الهمداني كان يشتغل طيلة ليله ونهار لتحضير [ساعة درسيّة] أي: أنه يُدرِّس في اليوم درسًا واحدًا، وهذا الدرس يستغرق منه كلَّ هذه المدّة، ويذكر الشيخ الأميني أيضًا بأنه لا يخرج إلا لوقت الصلاة، وكان يأكل أكل العجم (أي الخبز والجبن)؛ ولذلك كان نتاجه هذا النتاج الكبير الذي يعتمد عليه الفقهاء وهو كتابه (مصباح الفقيه).

وفي قصّة أخرى تُنقل عن السَّيد كاظم الحائري (حفظه الله) واعتراض أحد الطلبة عليه؛ وذلك لكونه كان يُقدِّم درس البحث الخارج في حدود (13-15) دقيقة، فقال له ذلك الطالب: هذا إجحاف وظلم في حق المادة؛ حيث إنّ بعضنا يأتي لكم من أماكن بعيدة، لماذا لا تطيلون مدّة البحث؟ فأجابه السيد الحائري: بأنه يحضّر لهذا الدرس الذي لا يستغرق الربع ساعة، قرابة (8 ساعات) متواصلة.

وقد كان السَّيد موسى الصّدر يحضّر للمباحثة مع السَّيد الشّهيد محمد باقر الصّدر مدّة (6 ساعات).

تحضير موضوع متميز

يذكر علماء هذا الفن لـ (تحضير موضوع متميّز) أنه يحتاج لأربعة أركان أساسيّة: (وهي ما يعبّر عنها بالخطوات العمليّة لتحضير الموضوع):

1- تحديد الموضوع. 2- التّفكير الصحيح. 3- جمع وانتقاء المعلومات. 4- صياغة الموضوع.

أمّا الرّكن الأول: [تحديد الموضوع]

فنقسّمه إلى ثلاثة أقسام: (أساسيات، كماليات، سلبيات):

الأساسيّات:

1- ثقافة المستمعين: فلا بدّ لي كمعد للموضوع من أن أشخصّ مستوى قابلية المستمعين لطبيعة الموضوع الذي سأقدمه، «خاطبوا الناس على قدر عقولهم»(2).

2- حاجات المستمعين: وهذا يحتاج إلى دراسة ميدانية لمعرفة حاجات المستمعين ومقدار تأثير الخطاب فيهم.

3- عدد المستمعين: فنوع الموضوع يتحدّد بطبيعة العدد الذي سوف يقدّم إليهم هذا الموضوع، فالعدد المحدود يختلف عن مخاطبة الجماهير الغفيرة أحيانًا، بحسب الظروف والأحوال.

4- المكان والزمان: إن للمكان والزمان دور في تحديد طبيعة الموضوع المطروح، وهذا ما جرى عليه القرآن الكريم حيث نزل بالتدريج؛ وذلك لاختلاف الموضوعات باختلاف المكان والزمان.

5- الوقت المُخصَّص: فللوقت دخالة في تحديد طبيعة الموضوع الذي سوف أعدّه، فلابدّ من أن يتناسب ما أطرحه مع الوقت المتاح، حتى لا أطيل، أو أضطر إلى بتر الموضوع، فيتسبب ذلك في عدم إيصال الفكرة الأساسية للموضوع أحيانًا.

6- السَّيطرة العلميّة على الموضوع: أن يكون المحاضر أو الخطيب لديه خبرة واطّلاعاً على الموضوع بشكل واسع وجيّد، فمن المعيب أن يتكلّم الواحد في شأن ليس من اختصاصه، ومن دون إلمام كافٍ بما يتفوّه به، قال عزّ من قائل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(4).

الكماليّات:

1- استشارة أهل الخبرة: كأن أسأل الخطباء الذين شاركوا في نفس ذلك المكان المقرّر أن أقدّم فيه الموضوع، وأتعرّف من خلالهم على طبيعة تلك القرية والمستمعين فيها.

2- التعرّف على المواضيع السابقة: وذلك عن طريق الاطلاع على الجداول والإعلانات التي يقدّمها ذلك المكان المقرّر أن أعدّ الموضوع لأجله، حتى لا تكون الموضوعات مكرّره ومتشابهة، فيملّ المستمع من الموضوع، فلا أضفي جديدًا حينئذٍ.

3- الإبداع والتجديد: لكي يكون المُعد للموضوع مبدعًا عليه الاطلاع على:-

أ) الكتب المستحدثة في ذلك المجال الذي ينوي الكتابة حوله.

ب) المجلات والصحف.

ج) المواقع الالكترونية.

السلبيّات:

1- القصور في المعلومات حول الموضوع: لربما كان الابتعاد عن أجواء المجتمع يسبب قصورًا عند المُعد للموضوع، فلا بدّ له من أن يتدارك هذه الفجوة بالالتصاق بالمجتمع والتعرّف على حاجياته ولغة الخطاب القريبة منه.

2- عدم المعرفة بالزمان والمكان.

الرّكن الثاني: التفكير الصحيح:

الأساسيات:

1- الأسئلة الممكنة للموضوع: من خلال أن يتوقّع المُعد للموضوع الأسئلة التي يحتاج أجوبتها المستمع، فمثلاً: (مشكلة الطلاق)، ما هي أسبابها؟ تلافيها؟ علاجها؟

2- تدوين الأفكار: عندما يتم وضع الأسئلة سوف تحضر لدى المُعد للموضوع مجموعة من الأفكار، فعليه أن يدونها سريعًا كي لا تُنسى.

الكماليّات:

1- العصف الذهني: من خلال عصف ذهن نفس المُعد للموضوع ومن خلال سؤال الآخرين واكتشاف نقاط مهمّة حول الموضوع، وافتراض احتماليات متعددة تقرّبه من النقاط المهمة حول الموضوع الذي هو في صدد طرحه.

2- استقصاء المعلومات: تتبع الموضوع من جهات عديدة كالإنترنت والمراجع والكتب وأهل الاختصاص والاطلاع ومن مختلف الوسائل المعينة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعلومات حول موضوع البحث؛ وأن تلك المعلومات سيكون لها الدور الكبير والمفيد في البحث سواء كانت صحيحة أم خاطئة، فيطرح الصحيح، ويصحّح الخطأ.

3- تحديد مبدأ التحضير ومنتهاه: أي لا بدّ لمُعد الموضوع من أن يحدد وقتًا يشرع فيه لإعداد الموضوع وينتهي منه؛ وذلك حتى لا يشتت ذهنه حول مجموعة من المواضيع فلا ينتج منها شيء حينها، ويحين وقت المطالبة بتقديم ذلك الموضوع وهو لم ينجزه بعد.

السلبيّات:

1- عدم تقدير المستمع: أي لا بدّ من إعطاء الموضوع حقه من التحضير والإعداد مهما كانت ظروف وأجواء المستمعين، قلّة أم كثرة، شباب أم شيبة، مثقفين أم لا، فإن التحضير والإعداد المسبق للمحاضرة أو الخطابة له دور كبير في أداء حقّ الرسالة والأمانة، وممّا يؤسف له أن البعض يتهاون في ذلك لكون أن المستمع كبير السن، أو أنه لا يفقه الكثير، وإلى آخره من الأمور التي تعبّر عن عدم تقدير المستمع.

الرّكن الثالث: [جمع وانتقاء المعلومات]:

الأساسيّات:

1- التعرّف على مصادر الموضوع: أي من أي مجال هذا الموضوع الذي سوف أطرحه: فكري، اجتماعي، سياسي، عقدي، غيرها.

2- البحث عن آخر الدراسات حول الموضوع: فمن المعيب جدًا أن يلقي المحاضر موضوعًا معتمدًا على دراسات قديمة جدًا قبل( 10-15 سنة).

الكماليّات:

1- وفرة المعلومات: قال أصحاب هذا الفن عليك أن تجمع عشرة أضعاف من المعلومات التي سوف تلقيها؛ لأن ذلك يساهم على الانتقاء الجيد.

2- حسن الانتقاء: وهذا يعود الى طبيعة المعد للموضوع وذوقه فليس من الصحيح ذكر كل المعلومات.

3- الملاحظات الشخصية: لا بد من أن يكون المقدم للموضوع له لمساته الخاصة ولو من جهة فنية كترتيبه على شكل مقدمة ونقاط مثلاً، وقد يبدي رأيه أحيانًا.

السلبيات:

1- الاعتماد على النقل: من الخطأ أن أنقل المعلومات من أشخاص لأنه لا يعد مصدرًا علميًا لما يكون منها من اشتباه وعدم الدقة في النقل وغيرها.

2- الاعتماد على المصادر غير الموثوقة.

الرّكن الرابع: [صياغة الموضوع]:

[1] المقدّمة:

1- الهدف من المقدمة: «براعة الاستهلال»، وهو جذب السامع الى الموضوع وإيحاء لنوعية الموضوع الذي سيطرحه.

2- على ماذا تحتوي المقدمة؟

تحتوي المقدمة على عنصر إثارة السامع للموضوع، وهذا ما يمكن الحصول عليه من خلال عدّة طرق، منها:- أ) قصَّة مثيرة. ب) سؤال. ج) استعراض الموضوع (الهيكلة).

د) حقائق عمليَّة (كالتقارير مثلا) مثال: كأن تقول قرأت في الصحف الرسمية في إيران بأن نسبة الطلاق 50% من الزيجات.

ه) استعراض أمرا بالمثال، (تمثيل النّبي للصلاة بالنهر الجاري -»... على باب أحدكم...»- وكلّ يوم يغتسل فيه خمس مرّات، فهل يا ترى يبقى عليه من الدَّرن شيء؟!!»(5)؛ وذلك للفت الانتباه والتشويق.

[2] المحتوى:

عناصر المحتوى:

1- الإيضاح والاستدلال: كلما كان هناك استدلال برواية أو آية وبيان يوضح الفكرة كلما كان ذلك يعطي قوة ومتانة للمحتوى.

2- مراعاة الهدف من الموضوع: وهو عندما أريد أن أصيغ موضوعاً لا بد لي من أن أراعي الهدف الذي أكتب من أجله فلا أخرج عن الموضوع إلا بشيء يسير -إن استدعى الأمر-.

3- وحدة الأفكار وسلاسة الانتقال: أن تكون الأفكار مرتبة فلا يقدم اللاحق على السابق فإن بعض الأفكار مترتبة على بعضها.

4- المقارنة بين الواقع والمأمول: قصة الشيخ الأنصاري وصلاة الليل في الحرم والقنوت بدعاء أبي حمزة الثمالي (هذا المأمول) وأما الواقع الترغيب لأداء صلاة الليل ولو في المنزل وفي وقت محدود.

5- توضيح الفكرة بالأمثلة.

[3] الخاتمة:

1- الهدف من الخاتمة.

2- بماذا أختم الموضوع؟ دعاء يناسب الموضوع، تلخيص الأفكار، توصيات عملية.

التطبيق العملي لصياغة الموضوع:

ثم قدّم سماحة الشيخ تطبيقًا عمليًّا (مختصراً) حول كيفية صياغة الموضوع؛ وذلك عن طريق الجهاز العارض، وأهم ما تمّ بيانه: «عرض نموذج من مواضيع سماحة آية الله السيد منير الخباز (حفظه الله) تحت عنوان الإنسان بين نقاط الضعف والقوة».

حيث قال: لو جئنا وحلّلنا هذا الموضوع سنقف على أهم النقاط التي اعتمدها سماحة السيد أثناء إعداده لهذا الموضوع.

1- اختيار العنوان: العنوان له دور كبير في تشويق المستمع أو القارئ، فلذا ينبغي انتقاء العنوان الجيد. ومثال ما نحن فيه: (الإنسان بين نقاط الضعف والقوة).

2- نقطة الابتداء: وهو أن يقسم المتكلم حديثه قبل الشروع في الكلمة أو الموضوع كأن يقول الموضوع يدور حول محورين مثلًا أو يقع في أربع نقاط.

3- التتبع الكبير حول الموضوع في المصادر: كما لو أشار التربويُّون حول الموضوع أو علماء النفس بالإضافة إلى الجنبة الدينية.

4-أن يتصوّر المقدّم للموضوع الإشكالات المقدّرة: فيصيغ موضوعه ملتفتاً إلى تلك الإيرادات التي قد يشكل بها على موضوعه فيعالجها بشكل علمي وموضوعي.

5- أن يقدّم لتلك الإشكالات عدّة وجوه وأجوبة: فإن هذا يعطي قوة لدى الخطيب أو المتكلم ويعطي له قوة علمية.

6- تقسيم الأجوبة: إلى أجوبة عامّة (تصلح إلى كل إشكال)، وإلى أجوبة خاصّة تمسّ ذات الموضوع؛ كمناقشة كل آية أو دليل، فهذه تعدّ النقاط الجوهرية التي يرتكز عليها الموضوع.

7- كثرة الاستشهادات بالآيات والروايات والأشعار.

8- الاستشهاد بأقوال علماء آخرين تتفق مع ما يتم طرحه.

9- أن يقدم المتكلم أو المحاضر أمراً يكون محركاً عملياً نحو التطبيق عند المستمع كأن يطرح سؤالاً أو مثيراً يدور في خلده.

مداخلة لسماحة الشيخ حسين فؤاد المرزوق حول نفس المحور:

ورد عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) قال: «إنّ من الشعر لحكمة وإنّ من البيان لسحراً».

1- مشكلة التهيّب؛ الكثير منّا عندما يطلب منه إلقاء موضوع فإنّك تراه يتهيّب من الإلقاء!!

- الحل: هو أن يثق الإنسان بنفسه ويتوضأ ويتوجه لله بصلاة ركعتين يطلب فيهما التوفيق من الله وأن يكون طرحه في صالح الدين.

2- التحضير؛ يشكّل العمود الفقري للموضوع 100%، حيث تكمن قوّة الموضوع في قوّة التحضير، فكلّما ازدادت قوّة التحضير ازداد بالتبع قوّة الموضوع؛ وذلك لأن فيه:

  أ) تحضير المادة العلمية للموضوع (كتابة نفس الموضوع).

 ب) تحضير أسلوب الطرح للموضوع (أسلوب بيان طرح المادة العلمية).

3- التحضير بمعنى (الإعداد):-

سؤال: كيف أحصل على المعلومات؟

1) التقوى والإخلاص لله تعالى؛ قال سبحانه في كتابه المجيد: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(6)، وفي كلمة لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله): «إذا أخلص المتكلّم لله فإنّ الكلمات تتناثر أمامه؛ فيحتار أيّها يختار».

2) الاطّلاع الواسع والحصول على المعلومات: ذهب أحدهم إلى مكتبة الشيخ الوائلي في سوريا فوجد أنها تمتاز بشيء عجيب، حيث إنّ الشيخ الوائلي يضع ملصقًا على جانب الكتاب فيه «قُرئ/ لم يقرأ»، فوجد أنّ غالب الكتب عليها إشارة «قُرئ»، حتى أنه وجد بعض الكتب ككتاب التفسير الكبير للفخر الرازي أنه قرأه (7 مرات)؛ فالاطلاع الواسع يولّد قوّة في الطرح وعدم التردد والتلكؤ في الكلام.

3- ترتيب المعلومات؛ وذلك عن طريق وضعها في ملف، فقد سئل العلاّمة السيد جعفر مرتضى العاملي عن مؤلّفاته الواسعة والثّرة، فكان يقول بأنه يضع فهرساً خاصّاً به في كلّ كتاب يقرأه، مما يسهم في سرعة الحصول على المعلومات التي يريدها عند البحث والكتابة.

4- تحضير الأسلوب (الإلقاء)؛ وذلك للتخلّص من آفة الإلقاء وهي «التأتأة والتشوّش»، فعلى المرء عند ذاك أن يلتفت ويتجنّب إظهار النفس وعلّو الكعب.

5- عدم تقليد الآخرين عند الإلقاء؛ والتعوّد على أسلوب خاص يناسبك كملقٍ وخطيب أو محاضر، وهذا يأتي بالمراس.

6- اكتب كل ما تلقيه بالتفصيل من غير ترميز؛ لأنه مع مرور الوقت قد تنسى معنى تلك (الرموز) ولا تستحضر ما كنت تريده بالضبط.

7- لا بدّ من أن يكون ما يُلقى خارجاً من قلبك، فالذي يخرج من القلب يقع في القلب، كما هو معلوم عندكم، وحتى يكون التأثير أبلغ على المستمعين حينها.

قصّة: أحد الخطباء الذين تميّزوا في الإعداد الجيّد للموضوع، واستخدام سحر البيان وبديع القول، إلا أنّه لا يجد التأثير على جمهوره بالشَّكل المطلوب، فسأل أحدهم جاريته: ماذا يفعل سيّدك في البيت؟ قالت: أنه يرتكب المعاصي؟، فقال لها: أخبريه بأنّ الله يرى!! فأخبرته وجاء في اليوم التالي وارتقى المنبر ليخطب في الناس كعادته، فبمجرد أن قال: (آه)، ضجّ الناس. هذا كلّه لأنه كان صادراً من قلب صادق مع الله ومن ثم مع عباده.

المحور الثاني: كيف أستطيع أن ألقي موضوعًا جذّابًا ممتعًا؟

وقد قدّمه: سماحة السَّيد ياسين الموسوي:

وأهم ما جاء فيه:

ما هو معنى الإلقاء؟

الإلقاء هو نقل ما عند طرف (الملقي) من أفكار ومعلومات إلى طرف آخر (المتلقي) من خلال قوالب لفظية عادة، والإلقاء عبارة عن مهارة وفن لا يحصل عليه الإنسان إلا بالممارسة والتمرين والتدريب.

ما هي أهمية الإلقاء الناجح؟

إنّ موضوع العناية بجانب الإلقاء للمحاضرين والخطباء مهم جدّاً، فقد يكون المُعد للموضوع مجهدًا لنفسه بشكل كبير، وقد يكون إعداد المادة متميزًا، إلاَّ أنّه قد لا يكون متميزاً في إلقائه، فلذا يتوجّب علينا أن نركّز على تنمية مهارة الإلقاء بعد الإعداد الجيّد للموضوع.

ويمكن استفادة هذا من ما أشارت إليه كثيرٌ من الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) في الحث على قراءة القرآن بالصوت الحسن الجميل؛ لما في ذلك من أثر كبير حيث أوقعيته في أذن السامع وقلبه؛ فيلتفت إلى عذوبة آياته، ومواعظه وعِبره السالكة بالمرء إلى طريق الجنة، وهكذا أثر عرض أي مادة علمية وتربوية بأداء مميز وجميل، ولهذا أيضاً أمر القرآن الكريم الرسول بالإلقاء المؤثر والبليغ بقوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}(7).

مثال تقريبي: بائع فواكه يرمي بضاعته بشكل غير منظّم ومرتّب، وبائع آخر يرتّبها يجذب الناظر، فإنّ الزبائن سوف تتوجّه حتمًا نحو البائع الذي قد عرض بضاعته بشكل مرتّب ومنظّم وجذّاب.

هل يحتاج الإلقاء إلى إعداد؟ وكيف؟

الإلقاء -كما قلنا- هو ممارسة، والفنون العملية لا بد من التمرّس عليها والتمرين والتدرّب، ولذلك كان جزءا كبيرا من نجاح الإلقاء هو التهيؤ والإعداد له.

كيف أتهيأ وأعدّ للإلقاء؟

التهيؤ للإلقاء يكون على مستويين: الجانب النفسي، والجانب العلمي.

أما الجانب النفسي -وهو أمر مهم جداً في عطاء الملقي- فيحتاجه الملقي من أجل القدرة على التعاطي الإيجابي مع المادة الملقاة والجمهور المخاطب ويبرز في عناصر مهمة:

الراحة الجسدية: تأثير التعب الجسدي على النفسية سلباً واضح، وهكذا على التركيز الذهني.

الثقة بالنفس: وهو عنصر مهم جداً لعدم ظهور الارتباك على الملقي.

راحة المزاج وهدوء البال.

عدم التشويش الذهني.

وأما الجانب العلمي وهو الإعداد المهم لنجاح سلاسة الإلقاء وتنظيمه، ويتحقق بأمور:

الإحاطة التامة، والسيطرة العلمية على الموضوع المراد طرحه.

تحضير المفردات المهمة في الخطاب.

حفظ الشواهد والنصوص الشريفة.

كيف أحقق الثقة بالنفس في شخصيتي؟

العلم: فإن القدرة العلمية في الموضوع المطروح والإحاطة بجميع جوانبه.

الإخلاص: حيث ينظر الملقي إلى الله تعالى، ويتقن الأداء والعمل لله وحده، من دون ملاحظة المتلقين بما هم، ومراعاتهم أكثر من مراعاة حُسن الأداء وإخلاص العمل لله تعالى.

الشعور بالمسؤولية: فحيث يكون الإلقاء من منطلق التكليف وأداءً لمسؤولية شرعية أو وطنية أو غيرها، فلا يلاحظ فيه المتلقين بقدر ما يلاحظ أداء الوظيفة على أكمل وجه.

وقبل أن ندخل في العناصر الشكلية للإلقاء، ما هي أخلاقيات المضمون حين الإلقاء؟

نحاول أن نستفيد ذلك من خلال مجموعة من الروايات المنتقاة في هذا الجانب، والتي توجّه الخطيب أو المحاضر أو المبلّغ إلى أسس مهمة في تبليغه:

الابتعاد عن إهانة المخاطبين وتحقيرهم:

ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «أذلّ الناس من أهان الناس»(8)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من أهان مؤمناً بشطر كلمة لقى الله (عزَّ وجلَّ) وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله»(9)، وعنه (عليه السلام): «إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أفٍ خرج عن ولايته، وإذا قال أنت عدوي كفر»(10)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «عظّموا أصحابكم، ووقّروهم، ولا يتجهّم بعضكم على بعض»(11).

اجتناب الافتخار:

قال تعالى: {اللَّهُ لاَ يُحِبُّ کُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(12)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الافتخار من صغر الأقدار»(13)، وعنه (عليه السلام): «لا حمق أعظم من الفخر»(14).

الابتعاد عن بذاءة اللسان وسخف القول:

قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ کَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}(15) يقول بعض المفسرين: إن الشيطان يهيج الشر بينهم بقولهم الركيك والبذيء.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إياك وما يستهجن من الكلام؛ فإنه يحبس عليك اللئام، وينفّر عنك الكرام»(16)، وعنه (عليه السلام): «لا تضع الخطاب فيسرع إليك نكير الجواب»(17)، وعن رسول الله بسند صحيح: «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي أظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة؛ كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(18).

الابتعاد عن الادعاء الفارغ وخلاف الحق:

أمير المؤمنين (عليه السلام): «من ادعى من العلم غايته فقد أظهر من الجهل نهايته»(19).

الابتعاد عن إبداء النظر أو الاجتهاد بلا دليل:

قال تعالى: {ومَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(20)، {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(21)، {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُکُمُ الْکَذِبَ هٰذَا حَلاَلٌ وَ هٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْکَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْکَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}(22).

التذكير والتنبيه بشفقة بناءة:

{وَذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(23)، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك...}

«نصحك بين الملأ تقريع»(24)، «من وعظ أخاه سرا فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه»(25).

اجتناب نقل مسموعات غير موثقة:

لا ينبغي نقل كل ما يسمعه الإنسان ومن أي كان، بل لا بد من أن يبلّغ عن الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ..}.

أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به وكفى بذلك كذباً»(26)، وعنه (عليه السلام): «لا تخبرنّ إلا عن ثقة فتكون كذّاباً، وإن أخبرت عن غيره فإن الکذب مهانة وذلّ».

الإنصات إلى كلام الآخرين:

عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «مَن عارض أخاه المؤمن في حديثه فكأنما خدش في وجهه»(27)، الإمام الرضا (عليه السلام): «إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه»(28).

الابتعاد عن بيان نقاط الضعف الشخصية:

أمير المؤمنين (عليه السلام): «رضي بالذل من كشف عن ضرّه»(29)، عن مفضل بن قيس بن رمانة، قال: «دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكوت إليه بعض حالي وسألته الدعاء، فقال: يا جارية هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر فجاءت بكيس، فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، قال: قلت: لا والله جعلت فداك ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء لي، فقال لي: ولا أدع الدعاء، ولكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم»(30).

اجتناب إفشاء الأسرار الشخصية:

أمير المؤمنين (عليه السلام): «سرّك سرور إن كتمته كان ثبورك»(31)، وعنه (عليه السلام): «سرّك أسيرك فإن أفشيته صرت أسيره»(32)، وعنه (عليه السلام): «جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السر، ومصادقة الأخيار وجمع الشر في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار»(33)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «سرّك من دمك؛ فلا يجرينّ من غير أوداجك»(34).

عدم استنكاف قول: لا أعلم:

أميرالمؤمنين (عليه السلام): «لا يستحينّ أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم»(35).

عدم الإطالة في الكلام:

«الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل»، الأمير (عليه السلام): «من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار»(36)، وعنه (عليه السلام): «إياك وفضول الكلام؛ فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ويحرّك عليك من أعدائك ما سكن»(37).

عدم التحدث بكل ما يعلم:

عنه (صلَّى الله عليه وآله): «حسبك من الكذب أن تحدث بكل ما سمعت»(38)، الإمام علي (عليه السلام) -من كتاب له إلى الحارث الهمداني-: «ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به، فكفى بذلك كذبا»(39)، رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»(40).

وهنا نسأل ما هي أهم عناصرالإلقاء الناجح؟

لا بد من توفُّر عوامل الجذب، واجتناب أسباب التشتيت؛ لتجتمع عناصر نجاح الأداء أثناء الإلقاء:

لغة الجسد وتناسبها مع الطرح ونسق الكلمات:

- العين: توزيعها على الحضور، وليس بالضرورة النظر إليهم بشكل مقصود.

- اليدين: تحريكها بما يتناسب مع جوّ الكلمات وطبيعتها، فمثلاً تحرّك اليد للأمام (لإشارة عن المستقبل) وللخلف (للإشارة عن الماضي) وهلمّ جرّة...

- الوجه: الابتسامة هي الطابع العام، وتقطّب الوجه عند ذكر العذاب وما ناسب.

- الصوت:

أ- استخدام نبرات وطبقات الصوت المختلفة (الارتفاع والخفض).

ب- سرعة الكلام وبطؤه بحسب نوع المطالب واستقبال المستمع.

ج- التوقّف –لهُنيْئة- قبل الفكرة المهمّة، وبين العبارات والجمل.

5- التشويق: التشويق على طريقة الطرح وطريقة المطروح:

   أ) التشويق في تعدد الأسلوب: وذلك من خلال تنوّع الأسلوب بين (الأسلوب القصصي خصوصاً القصة المثيرة -الأسلوب الاستفهامي- الإنشاءات- الإخبارات أو ما يسمى بالأسلوب السردي).

   ب) التشويق في طريقة المطروح: وذلك عن طريق التنويع في لغة الحديث ليتلطّف جوّ المحاضرة بشكل عام بـ (اللغة الفصحى) وتطعّم بـ (اللّهجة العامية) لقربها من وجدان المستمع، أو من خلال تغيير ضمير الخطاب، فتارة يوجّه للمتكلّم وتارة للمخاطب، وتارة للغائب، وهذا ما نجده حاضراً بشكل متفرّد وبديع في القرآن الكريم حيث حَوَت سورة الفاتحة -على قصرها- الأساليب الثلاثة، وهكذا التنويع بأبيات الشعر والنصوص الشريفة من الآيات والروايات والقصة والفكرة القيمة.

الاستفادة من وسائل الإيضاح الحديثة.

التفاعل مع الموضوع:

خلق كاريزما إلهية: فكما أن الهندام الخارجي مطلوب لخلق ظاهر جذاب ومؤثر في المتلقين فهناك ما هو أهم وهو التوفر على العناصر المعنوية والأخلاقية المؤثرة كالتقوى والإخلاص والورع

أما أسباب تشتيت المتلقي وعدم الانشداد:

العبث: عدم العبث بالأشياء أثناء الإلقاء، فكما يقال: (المكان بالمكين)، فعلى المتكلم أمام محضر الآخرين أن لا يعبث بخاتمه أو النظر المتكرر للساعة، أو الميكرفون أو الالتفات للداخلين والخارجين...إلخ.

الإطالة: فإنّ الإطالة تشتت ذهن المستمع.

الإرباك: فإن الإرباك يؤثر سلباً على الموضوع المطروح، فعلى الملقي أن يكون واثقاً من نفسه أثناء الطرح.

الابتعاد عن الروتينيّة: كأن يقول: (النقطة الأولى، ثم النقطة الثانية...)، فالأفضل أن يعنون تلك النقطة لتكون أكثر جاذبية عند المتلقّي: (النقطة الأولى: ما هي التقوى، هل تتصوّرونها؟ - النقطة الثانية: ما هي آثار التقوى؟ وهكذا...).

1) الهيئة والشكل (للمحاضر أو الخطيب)؛ وهذا يترتّب على أثر طبيعة الموضوع الذي قد أعددته والظرف المكاني والزماني، فقد تختلف الطبيعة والهيئة من مكان لآخر وكذا الزمان. وهنا ننبّه بأنه لا يكون الشّكل والهيئة على حساب المضمون والإعداد الجيّد.

2) الالتفات إلى البُعد الأخلاقي عند الإلقاء؛ وعدم التسفيه بالنفس والآخرين لإيصال فكرة معينة في محضرهم، فالروايات الشريفة قد نهت عن ذلك، كأن يشير إلى نفسه بالسلب أو المعصية مثلاً، فليس من الصحيح أن يوهّن الإنسان نفسه.

وقد يظهر ذلك من خلال النقد السلبي عند الطرح، فإنّ المستمع ينفر ولا يتقبّل ومن تلك الروايات:

عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): «أذلُّ النَّاس من أهان النَّاس»، وعن الصادق (عليه السلام): «مَن أهانَ مُؤمنًا بِشَطْرِ كلمةٍ لقى الله (عزَّ وجلَّ) وبينَ عينيهِ مَكْتُوبٌ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله»، وعنه (عليه السلام): «أذا قال الرجل لأخيه المؤمن أفٍّ؛ خَرَجَ من ولايته»، وعن الباقر (عليه السلام): «عظِّموا أصحابكم ووقّرُهُم ولا يتجهّم بعضكم على بعض»، وفي حديث عن مقاطعة الآخرين أثناء الحديث: «من عارض أخاه في حديثه فكأنّما خدش في وجهه».

3) عدم توجيه الخطاب المباشر وخصوصاً في مقام توجيه السلبيات؛ فعادة الذي يقدّم الخطاب المباشر هم كبار العلماء.

و أما طالب العلم المبتدئ أو من لا يعرفه المستمع فإنّه لا يُحبَّذ أن يوجّه الخطاب للنّاس بشكلٍ مباشر.

وهذا الأسلوب قد استُعمل في القرآن الكريم كثيراً لما له من تأثير على المستمع والمتلقيّ، وقد جاءت الكثير من الآيات المباركة في خاطبها للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلا أن المقصود منها أمّة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، منها: «ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل...»، «ولا تقل لهما أفٍ...».

- مثال تقريبي: الشيخ محسن قراءتي (صاحب تفسير نور) وهو من أكبر خطباء إيران حتى اليوم، وله برنامج يعرض لمدّة (34 سنة)، وقد أراد مرّة أن يعرض موضوعاً عن (الكفن)، إلا أنه تردد في طرحه لأن المشاهد سوف ينفر ويعرض عن الموضوع، ففكّر بطريقة تمهيديّة للعرض وكانت كالتالي: «أن الإنسان منذ ولادته يؤخذ ويلف بقماش «قماط» ثم يكبر فتتغيّر ملابسه بتغيّر العمر، والمكان، والمناسبة، فيرتدي لباس داخل المنزل ولباس للأعياد والمناسبات، ولباس للعمل... وهكذا إلى أن تنتهي حياته فيحتاج للباس أيضاً وهو (الكفن)».

مداخلة لسماحة الشيخ محمد علي خاتم حول نفس المحور:

- (المُلقي المبدع ليس معجزة)؛ وأقدّم هنا تساؤلات لتجيب أنت بنفسك:

- ألم تتحدث مع والدك، والدتك، أخيك، صديقك، أو في أي دائرة ضيّقة؟

كلنا نتكلم ونلقي المواضيع والأحداث أمام الآباء والأمهات والأصدقاء، ومن دون خجل وتردد وبكل دقة، وبما فيه من عناصر التشويق وشدّ الانتباه، فلماذا الخجل؟ والتّردد في الإلقاء؟ فبعينه هذا هو الذي أحتاجه عند الإلقاء أمام الآخرين في المحاضرة أو الخطابة، فأسلوبي أمام الميكرفون وخلف الميكرفون هو هو!!

فلأستخدمْ نبرات صوتي من رَفْعٍ وخَفْضٍ، وتحريك لليد، وسائر ما أمتلكه من حالة طبيعية فيما لو كنت في تلك الدائرة الضيقة التي أبدع فيها.

قد يقول قائل: هناك من الخطباء، المبدعون الذين يتفنّنون في نبرات أصواتهم وتحريكهم لليد ولغة الجسد وما إلى ذلك، فأنّى لي أن أكون واحدًا مثلهم؟!

أقول لك بشكل مختصر: فقط ما عليك إلا المبادرة والإقدام. جرّب نفسك.. اختبر نفسك، فلعلَّ في داخلك خطيبًا وملقيًا مبدعًا.

المحور الثالث: [ما هو الفرق بين المحاضرة والخطابة]؟

وقدّمه: سماحة الشيخ عزيز الخضران:

* وأهم ما جاء في هذا المحور، التّالي:

ورد عن أحد الصادقين (عليهما السلام)، أنه قال لرجل وقد كلمه بكلام كثير فقال: «أيها الرجل تحتقر الكلام وتستصغره، اعلم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لم يبعث رسله حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضة ولكن بعثها بالكلام، وإنما عرّف اللهُ (عزَّ وجلَّ) نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والإعلام».(41)

لقد أصبحت الخطابة الحسينية ضرورة من الضرورات التي لا يستغني عنها المجتمع الشيعي، كما لا يستغني عن المحاضرة، وكلا الأمرين من وظائف طالب العلم الرئيسة، فلا بدّ لكلّ طالب علم من أن يُمرنّ نفسه على أحدهما أو كليهما؛ وإلّا لم يكن له تأثير بالغ في المجتمع، ولا يستطيع أن يوصل رسالة الإسلام إلى الناس بالشكل المطلوب.

وهنا يبرز سؤال مهمٌّ ورئيسي، وهو: ما هو الهدف الرئيسي لطالب العلم الذي يريد أن يشتغل بالخطابة الحسينية ويتخصص في ذلك؟ هل الخطابة هي الهدف بالدرجة الأولى والعلم مدعّم لها، أو أن الهدف هو العلم والخطابة طريق لإيصال علمه إلى الناس؟ وبعبارة أخرى، هل نحتاج إلى خطيب متعلم، أم نحتاج إلى عالم يشتغل بالخطابة؟

لا شك ولا ريب في أننا ندخل الحوزة العلمية لنكون علماء لا لنكون خطباء، والهدف الأول هو العلم، ولكن لكون الخطابة تعد اليوم طريقا مهما لتوعية الناس وكونها مما لا يستغنى عنه في المجتمع، فمن الواجب أن يتصدّى بعض العلماء للخطابة.

ومعرفة هذا الهدف من البداية يؤثّر على سير طالب العلم الدراسي، وللأسف هناك من يجعل الخطابة مهنة بحتة؛ بحيث يتعامل معها معاملة الهاوي لهوايته المفضلة، ولا يدخل الحوزة ويدرس الدروس الدينية إلا مضطراً وخدمة لمهنته الخطابية، وهذا بلا شك يؤثر على كيفية دراسته وجديته فيها.

إذاً نحن هنا نتكلم عن العالم الذي يريد أن يبلِّغ علمه عن طريق الخطابة، لا الخطيب المتعلم، وهذا يعني إعطاء العلم أولوية على الخطابة.

2- متى عليّ أن أسلك طريق الخطابة؟

هذا سؤال يخطر في ذهن الكثيرين، هل من المستحسن أن يبدأ طالب العلم بالاشتغال بالخطابة منذ دخوله الحوزة، أم من المستحسن أن يؤخرها؟

في الجواب نقول: أما الاستقلال بالخطابة بمعنى أن يكون خطيبا كاملا يقرأ في المواسم كشهر رمضان، وشهر المحرم ففي نظري القاصر أنه لا يصلح لطالب العلم المبتدئ ذلك، بل عليه أن يؤخر الخطابة بعض الشيء؛ وذلك لكي يقوّي حصيلته العلمية فتكون ثمرته حينئذ أكبر، هذا أولاً، وثانياً لكي لا يقع في محذور الاشتباهات العقائدية والفقهية وحتى التاريخية ؛ لأنَّ الخطيب من شأنه أن يكثر الكلام، ومن كثر كلامه من دون حصيلة علميَّة فإنّه سيقع في الكثير من الأخطاء والزّلّات، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار»(42).

وأما تعلّم الخطابة والقراءة المختصرة في المجالس، وخصوصا حفظ الأبيات الحسينية، فإنه من المستحسن أن يبدأ مبكراً، فليس ممنوعا على طالب العلم المبتدئ أن يلقي كلمة قصيرة مثلا بين حين وآخر، ويشارك في المناسبات، فهو ليس بأقل من المثقف الذي يشارك في ذلك، بل ليس من المستحسن تأخير ذلك فيكون الأمر عليه شاقا ومحرجا في الكبر.

المشتركات بين المحاضرة والخطابة:

هناك مشتركات وفروقات بين الخطابة الحسينية وبين المحاضرة وكثير منها واضحة، نذكرها بشكل مختصر:

أما المشتركات:

1- فتحتاج كلٌّ من المحاضرة والخطابة إلى مستوى علمي معيّن، تؤهل المحاضر أو الخطيب لطرح المادة العلمية بإحكام، ودون وقوع في الشبهات، وهذا المستوى العلمي يؤثر على ثقة الملقي بنفسه، بل وحتى على مستوى طرحه وأسلوبه.

2- لا يفترق اختيار الموضوع المناسب بين المحاضرة والخطابة، وإنّما يرتبط ذلك بالظرف والحاجة، ونوع المستمع.

3- كلّ من المحاضرة والخطابة يحتاج إلى التحضير المسبق للمادة المطروحة، ولا ينبغي الاعتماد الكلّي على المعلومات العامّة من المخزون الذهني؛ بل لا بدّ من التحضير المسبق لها، وترتيبها، وانتخاب المهم منها.

وأما الفوارق:

1- فإنّ المحاضرة مادة علمية فقط، أمّا الخطابة فينضمّ معها (النّعي) الذي هو مقوم للخطابة الحسينية.

2- في المحاضرة يمكن أن تمسك بورقة ولا يعد ذلك عند العرف عيباً، ولكن على المنبر وفي الخطابة فإنّ العرف لا يتقبّلها؛ ولهذا الفارق تكون الخطابة أصعب من المحاضرة؛ لأنه في الخطابة حفظٌ لحذافير الموضوع من أحاديث وأبيات وشعر، بالإضافة إلى حفظ الأبيات الحسينية، وكذلك ما يسمى في عرف الخطباء بـ(القوريز)؛ فلا بدّ من مناسبة النقطة الأخيرة من الموضوع لمحل المصيبة التي يريد أن يقرأها بحيث لا تكون هناك قفزة غير مبررة من الموضوع إلى المصيبة، وهذا ما يصعّب الأمر على الخطيب، بينما المحاضر يمكنه ختم الموضوع بأي نقطة.

3- تفترق الخطابة عن المحاضرة في أسلوب الطرح، حيث تكون المحاضرة في الغالب هادئة، بعكس الخطابة، وإن كان لا إشكال في استخدام الأسلوب الخطابي في المحاضرة أيضاً حيث قد يقتضي الأمر ذلك في بعض الأحيان، وأما الخطابة فإنه لا يصلح لها الأسلوب الراتب في الكلام، بحيث تكون من بداية الموضوع لنهايته على نسق واحد.

 مداخلة سماحة الشيخ غازي السَّمّاك، وممّا جاء في مداخلته:

ورد عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) قال: «إنّ من الشعر لحكمة وإنّ من البيان لسحرا».

لماذا تأسسّت ليلة الجمعة (في الحسينة)؟ وما هو الغرض منها؟

- هناك عدّة أبعاد:

1- البُعد الاجتماعي وترسيخ العلاقات والتعارف.

2- البُعد العلمي على مستوى الاستفادة والإفادة واكتساب المهارات.

ما هو المهمّ في التفاعل مع هذه الليلة؟

المهمّ: هو توظيف الجانب العملي في النواحي الروحيّة والفكريّة والعاطفيّة والمهاريّة، وذلك لكي يكون هناك فريق عمل متكامل له دور فعّال بعد ذلك في المجتمع، أي بعد جهوزيّته.

-الإلقاء مهارة تكتسب بالممارسة وليس بالقراءة، وهنا أنصح بكتابين مهمين في هذا المجال وقد استفدت منهما في بدايات مجيئي إلى قم المقدسة مع ثلّة من طلبة العلوم، فقد كنّا نجتمع ونتدرّب على الخطابة وكان كلّ واحد منّا يقدّم ملاحظته للآخر وبذلك تطوّرت مهارة الإلقاء عندنا، والكتابان هما:

1- [البيان في فن الخطابة] للشيخ محمد تقي فلسفي (رحمه الله) وهو من أكبر خطباء وعلماء إيران.

2- [فن الخطابة] للكاتب الأمريكي داي كارنجي.

- إذا لم يكن عند طالب العلم (مهارة إلقاء) فإن علمه لا يغني ولا يسمن من جوع إلَّا على المستوى الشخصي؛ فلا بدّ لكلّ طالب علم أن يركّز أمورٍ ثلاثة:

1- البُعد العلمي.

2- اكتساب المهارات.

3- الممارسة والأداء.

أسئلة ومداخلات:

سؤال: هل الطريقة الموجودة للخطابة من كون القارئ للمصيبة والملقي شخصاً واحداً طريقة تعبديّة لا يمكن تغييرها أم يمكن طرح طرق أخرى تتناسب مع أجواء ومرتكزات الإحياء؟

جواب: سماحة الشيخ محمّد باقر الشيخ

إنَّ الطريقة ليست (تعبديّة) كما هو واضح، وإنّما هي عرفيّة قام عليها المجتمع واعتاد عليها.

والمسألة تحتاج إلى تقسيم فيما ينبغي الوقوف عنده وعدم الحاجة إلى تغييره، وما ينبغي الملاحظة فيه:

فهذه العادات على أقسام:

ما لها مناشئ شرعيّة أو عقلائية؛ كعدم تحبيذ تكرار المصيبة والمقتل الشريف؛ والاقتصار على ذكره في يوم العاشر من المحرّم فقط، وهذا أمر جيّد، ينبغي المحافظة عليه.

عندنا أمور ليست مستمدة من مناشئ شرعيّة أو عقلائيّة، وهي على نحوين:

النحو الأول: ما لا يضر إن ترك لحاله، وإن كان ينبغي تضمينه جوانب أخرى كالترتيب الحاصل للّيالي والأيام في موسوم عاشوراء، فإنه أمر ليس ناشئاً من مسلمات لا يمكن تجاوزها ولكن وجوده وبقاءه لا يشكّل عائقاً أمام حركة المنبر، وإن كان الأفضل أن يتمّ تضمين تلك الليالي أسماء بعض الأنصار كذكر عبدالله بن الحسن مع أخيه القاسم، وذكر قبيلة العباس بن علي وإخوته في ذات ليلة العباس، والأنصار في ليلة حبيب وهكذا؛ ليتعرف المستمع على هذه الثلة المختارة من قِبل الله تعالى ويحيى ذكرهم المبارك.

النحو الآخر: وهي الأمور التي تشكّل عائقاً أمام تقدّم حركة المنبر ورسالته، وهذه ينبغي ملاحظتها والتأمّل فيها؛ من أجل إضفاء صبغة جديدة ذات حاجة ملحّة، فما المانع من أن تكون هناك مجالس حسينيّة لم يعتد العرف عليها أو على أسلوبها؟! كأن يأتي محاضر ويقدم موضوعا فيه نفع كبير للناس ثم يأتي خطيب بعده يقرأ المصيبة في نفس المجلس؛ بحيث يمكن الاستفادة من الطاقات الموجودة في البلد بشكل أكبر وأوسع، فربّ شخص يمتلك القدرة على تقديم الموضوع ولا يمتلك القدرة على النعي، وكذلك العكس، وهذه الطريقة تفتح المجال في تطوّر حركة المنبر بشكل واضح من خلال تغذيته بمختلف الطاقات، ولا أعني أن تكون هذه المجالس بديلة عن المجالس المعتادة عرفا وهي أن يأتي الخطيب بالموضوع والخطابة معاً بالكليّة، كما أنني لا أدعو أن تكون هذه المجالس على نحو الإقحام والتغيير الجذري للمجالس المعهودة التي تربينا عليها وما زلنا، وإنما أن تكون هذه الطريقة رديفة بتلك المجالس وبشكل تدريجي -وإن لاقت بعض الصعوبات في بادئ الأمر-، فما الأمور العرفية إلا أنها نتيجة التكرار من المجتمع في دائرة ضيقة في البداية ثم تبدأ بالاتساع، ومن هذا القبيل استهجان العرف للخطيب الذي يلقي الأبيات مكتوبة أو يأتي بالشواهد مكتوبة وغيرها... فإن كلّ هذه العادات مما لا أساس لها وفيها نوع إعاقة لتطور حركة المنبر.

جواب: سماحة الشيخ عزيز الخضران:

صحيح أنّ ما هو موجود من كون المحاضر هو نفس الخطيب ليس أمرا تعبدياً، وإنما تعارف عليه الناس، ومشت عليه سيرة الخطباء، ولكن فيه إيجابية بلحاظ نفس العالم، فالعالم الذي يمتهن الخطابة تكون مواضع التبليغ لديه أكثر من غير الخطيب، فلو اكتفى بالمحاضرة ولم يمتهن الخطابة فليس بالضرورة أن يتوفر معه خطيب أينما أراد، وفتح باب الفصل بين المحاضر والخطيب ليس جيدا إلا في حدود ضيقة.

وفي حالة مشابهة لهذا الأمر، نرى اليوم في بعض المآتم من قرى البلد العزيز يجعل نصف الشهر خطابة والنصف الآخر محاضرة، وبعضهم تخلَّى عن الخطابة أصلاً، فثلاثون ليلة لا يريدون خطيباً!! وهذا ما يحتاج إلى لفت نظر ومعالجة.

سؤال: كيف نوفّق بين أسلوب الطرح وعمق المطالب الملقاة على المستمعين، فقد يمتلك طالب العلم حصيلة علميّة إلّا أنه قد يواجه صعوبة في بيانها إلى الناس بلحاظ حاجة هذه المعلومات إلى عمق لا يستوعبه بعض المستمعين؟

جواب: سماحة الشيخ محمد باقر الشيخ:

ينبغي للعالم ولطالب العلم أن يرتقي بالناس فإنّ هذه وظيفته، فإذا كان بمقدوره أن يطوّع المطالب بأساليب مبسّطة للنّاس فعليه أن لا يفوّت عليهم تلك الفوائد، كما هو حاصل عند جملة من الأساتذة كالشيخ الإيرواني (حفظه الله) فإن لديه قدرة أن يوصل أعمق المعلومات ببيان واضح، وبألفاظ ساحرة، فمن يمتلك هكذا قدرةً من المجحف أن يضيّع تلك المعلومات بحجّة بساطة بعض المستمعين.

نعم لو لم يستطع ذلك ولم يمتلك هذه القدرة على البيان، فحينئذ لا بد من أن يباشر وظيفته في التبليغ بحسب استطاعته ومقدوره، والله يجزي العاملين بأفضل الجزاء إن رأى منه الخلوص والإخلاص.

جواب: سماحة الشيخ عزيز الخضران:

لا منافاة بين عمق ما يحمله العالم من مطالب عميقة، وبين بساطة المستمعين، فإنه يمكنه –حسب خبرته– أن يوصل تلك المطالب على عمقها إلى الإنسان العادي والبسيط، كيف والنبي (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) كانوا أعلم الناس، ومع ذلك أوصلوا تلك العلوم العميقة إلى الناس، فالمسألة تحتاج إلى خبرة وممارسة، ويمكن الاستفادة من الأسلوب القرآني، وأسلوب أهل البيت (عليهم السلام).

سؤال: هل يمكن لطالب العلم المبتدئ أن يبدأ الخطابة مبكراً ويركّز على الجانب الأخلاقي، ولا يدخل في المطالب العقائدية والفقهية، لكي لا يقع في المحذور؟

جواب: سماحة الشيخ عزيز الخضران:

الطالب المبتدئ كالمثقّف فالحال بينهما واحد، فالدخول في سلك الخطابة بشكل موسمي بحيث يقرأ الموسم كاملاً مقتصراً على الجانب الأخلاقي غير صحيح ما دام لا يمتلك المقدار المعتد به من العلم؛ فإنّ الموضوعات الأخلاقيّة لا ينفكّ ارتباطها بجوانب أخرى تاريخيّة وعقائديّة وفقهية... إلخ، نعم إذا حَصَّل بشكل جيِّد؛ كأن يكون قد درس المقدمات بشكل متقن ودرس مقداراً من السطوح -وهو يختلف باختلاف القابليات-، فإنّه يمكنه أن يدخل سلك الخطابة حينئذ، فلذا لا مفرّ من أن يحصَل الطالب على مقدار معتد به من العلم قبل الولوج في سلك التبليغ وسط المجتمع، فإنّ عدم الالتزام بذلك يؤدي إلى آفات كثيرة من حيث يشعر أو لا يشعر.

مداخلة: سماحة الشيخ علي الجفيري:

1- بحسب تجربتي البسيطة التي مررت بها أودّ أن أعلّق على المسألة المرتبطة بالمنبر والخطابة.

يمكن أن نوضّح ذلك في عنوان عام، وهذا العنوان العام يمكن أن يُطبّق تحته جملة مما طرحه الأخوة والأساتذة الأفاضل، مثل: متى يبدأ الخطيب خطابته؟ هل من الممكن الاستفادة من الوسائل الحديثة في خطابته؟ وفي ما يرتبط بمسألة التعبدية أو التقليدية بالنسبة لطريقة المنبر الحسيني في البلد...الخ.

 وهذه الرؤية تحمل رؤية (النسبية أو الإضافية) وهي ترى أن هذه المسائل راجعة إلى الأشخاص أنفسهم بحسب كلّ شخصيّةٍ شخصيّة، وبما تمتلكه من قدرات ومهارات يمكن أن يُؤتى بإجابة مختلفة على حسب الأسئلة المتقدمة.

وباعتقادي القاصر بأنّه لا يمكن أن يعطى كليّة في الموضوع أو الطريقة الأمثل من بين الطُّرق الفلانية، فالمسألة راجعة إذاً إلى المهارات والقدرات وهبة الله (سبحانه وتعالى) إلى تلك الشخصيّة، وقد تختلف بحسب الفوارق الفرديّة كما يعبر عنها علماء التربية والاجتماع، فمن المفترض أن تكون الإجابة حينئذٍ نسبيّة، وهذه النسبيّة التي أتحدّث عنها ليست نسبية مطلقة أو مسلوبة عن وجود أيّ ضابط، فالمقصود من النسبية هنا؛ هي بعد التّحقق من بعض الضوابط الأساسية، ومن جملة تلك الضوابط أن يمتلك الخطيب مقدار من الحصيلة العلميّة، فليس من المقبول بتاتاً أن يبدأ الخطيب خطابته وهو لم يدرس المقدمات، وهذه الرؤية يحملها مجموعة من العلماء وعلى رأسهم سماحة الأب القائد آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)، فليس مجرد امتلاك قدرة على مواجهة الجماهير وحلاوة في الصوت تدفع بالتسرع نحو ارتقاء المنبر.

وللأسف أن ما هو موجود في الساحة -وإن كان الاستقراء ناقصًا – أنّ 60% على الأقل من تلك المنابر تفتقر إلى العلميّة، وليس فقط تفتقر إلى العلميّة بل تُؤسّس وتدعو إلى أفكار مغلوطة تتعارض مع مسلمات عقائديّة أو مسلمات عرفيّة، أو قرآنيّة، أو أخلاقيّة، إلخ، فهذه النتيجة الحاصلة هي أنّ المنبر مفتوح لكلّ من هبَّ ودبّ لعدم وجود ضابطة معيّنة. ولكن مع ذلك أقول أنه لو أتمَّ الطالب (3 سنوات) في الحوزة وأكمل فيها المقدمات باستحكام وابتدأ دخوله في السطوح أو السطوح العليا، فهو قد وصل إلى مستوى من النّضج الذي عَرِفَ فيه صِغَر نفسه أمام العلم الموجود في الحوزة، ومن هنا لن يتجاوز حدوده ويأتي بشيء من جيب الصفحة أو أن لا يُصْدِق المستمع من أجل كسب مصلحةٍ أو شهرةٍ أو ما شابه.

فالضابطة إذاً هي مرتبطة بـ (الجهوزية والتهيؤ).

2- أما بالنسبة للاستعانة والاستفادة من وسائل التقنية الحديثة؛ فهناك عدّة تجارب في الساحة أثبتت قدرتها في التعاطي مع المجتمع مع وجود صعوبات صرّح بها القائمون على هذا العمل، إلا أنّها تبقى تجربة نسبيّة متفاوتة بالنسبة للأشخاص والخطيب أو المحاضر الذي يقدّم للجمهور مادته العلميّة، فهناك من هو مقتدر يستطيع أن ينمّي أسلوب الطرح عن طريق هذه الوسائل، وهناك من ليس له عهد وخبرويّة بها فإن استخدامها بالنسبة إليه لربّما تسبب خللًا في توصيل المعلومة للمستمع فتكون بالنسبة إليه مؤخّرة وناقضة للغرض.

3- أما بالنسبة الى سؤال: هل أن طريقة المنبر والخطابة تعبدية أم لا؟!

فإنه من خلال التجارب قد أثبتت أن هناك تجربة ناجحة إلا أنها تمرُّ بمجموعة من الصعوبات في الباطن وإن كانت في الظاهر تلقى استحسانًا من مجموعة لا بأس بها من الناس.

ولكن في الجملة-للإنصاف- عَبَرَتْ هذه التحديات ووصلت إلى أهدافها، وهنا أيضًا تأتي مسألة (الكريزمة) والشخصية فتستطيع هذه الشخصية التي لها وزنها في المجتمع أن تكسر تلك الحواجز المتعارفة، فلا يعاب عليها كأن تمسك بورقة وتخاطب بها الناس، ولكن لو شُوْهِدَ هذا المنظر من طالب علم لا يحمل هذا النوع من «الكريزمة» فإن النّاس سوف تعيبه، وهذا ما أقصده من أنّ القضيّة قضيّة متفاوتة من شخص لآخر باعتبار أن التحديات والمعطيات والظروف الموضوعيّة بالنسبة إلى كل شخصٍ مختلفة.

فـ (النسبية) ينبغي علينا تحريكها في أرض الواقع حتى لا نظلم أحدًا، ونؤخّره في عطائه، والحمد لله رب العالمين.

مداخلة: سماحة الشيخ علي الكربابادي:

بالنسبة إلى طريقة الخطابة والتعبديّة فيها؟

أميل إلى المحافظة على الطريقة البحرانية في الخطابة بمقدار ما، لماذا؟ لأن هناك مجموعة من الحيثيات لا بد من الموازنة بينها. فهذا الأسلوب من الخطابة البحرانية ما هي الامتيازات التي يتوفر عليها ويميزها عما هو موجود من أنواع الخطابة في خارج البحرين؟

من الامتيازات:

1- دمج الحالة العلمية مع العاطفة.

2- مخاطبة الشريحة الأوسع، والمستمع المتعدد؛ من الصغير إلى الكبير إلى جميع الشرائح المجتمعية بلا استثناء.

أما حينما تتحول الخطابة إلى حالة علمية محاضراتية فإن الشريحة المستهدفة ستكون فئة خاصة من الجامعيين ومن الشباب المثقفين ممن بعد الإعدادية ودون سن المشيب، سيحرم المقدار الأكبر من العجزة والأطفال من هذه البركات العاطفية التي يحتاجها المجتمع أمام عدة تحديات:

التحدي الأخلاقي: فالحالة العاطفية بإمكانها أن تجعل الفكرة والموضوع القيّم مؤثرا، وإلا فإن الآيات القرآنية والروايات والشواهد من دون تحريك على مستوى القلب والشعور لن تؤتي أكلها والثمرة المطلوبة منها.

التحديات في الجانب السياسي

التحديات في الجانب الاجتماعي.. وغيرها

والنتيجة أن تحريك العاطفة يسهم في تفعيل الفكرة العلمية المطروحة.

نعم، يفتح الباب بمقدار معين إلى شريحة خاصة، وهم أصحاب الفضيلة العلمية، فالمجال يفتح لمن هو قادر على التأثير والتغيير بجدارة.

وأمّا بالنسبة إلى الأسلوب الخطابي فأود ذكر بعض الملاحظات:

1- لا بد من أن يَلحظَ المخاطِبُ طبيعةَ الخطاب، وليست الخطابة محصورة في أمرين: إما محاضرة وإما خطابة حسينية. وبسبب التداخل في أنواع الخطابة يحصل لدينا بعض السلبيات المتولدة من عدم التفريق، مثلا: الحديث على المنبر الحسيني أحيانا يكون بأسلوب الخطاب السياسي وهذا من الأخطاء؛ سواء على مستوى الصوت والنبرة، أو على مستوى المفردات والاستعمالات، بل حتى الخطاب السياسي قد تتعدد مواقعه وكيفيته، وهناك خطاب إعلامي، خطاب علمي، جلسة مصغرة، ندوة، وقفة مختصرة.. في الوقفة السياسية حينما يكون الوقت محدودا لا يتاح لك أن تأتي بديباجة، بل تسلم وتدخل في النقاط من دون فصل.

2- من الأخطاء في هذا الجانب أيضا التركيز على الجانب العلمي (المادة) بمعزل عن جانب (الهيئة)، ونحن في مسألة الخطابة نبحث عن ملكة، نعم الجانب العملي هو الأصل لكنه ليس محل بحثنا هنا، بل هو محل بحث طالب العلم بما هو طالب، وبحثنا هنا عن الخطابة بما هي خطابة، وعن ما يصلحها وينميها كملكة. يقول الشيخ جعفر الهادي (حفظه الله): لما كنا في العراق كان الناس يصطفون صفا لشراء أي كتاب جديد لنزار قباني، وكأنهم مصطفون لشراء الخبز، ويقول: خذوا هذه القوالب الشعرية وفرغوها من الدعارة واستفيدوا منها. أقول: كذلك حديثنا في الخطابة لا بد أن لا يغفل الهيئة والقالب.

3- المفردات الخاصة بكل نوع من أنواع الخطابة لا بد من التفريق بينها، فما يستخدم في هذا النوع قد لا يستخدم في غيره.

4- مستوى ارتفاع الصوت كذلك؛ إذا كنت في مكان كبير سيختلف الحال عما لو كنت في مكان صغير، وإذا كان هناك حضور كبير سيختلف الحال عما لو كان الحاضرون قلة، فليس من الصحيح المبالغة في رفع مستوى الصوت إذا كان الحضور قليلا.

في الخطاب الإعلامي قد تفاجئ بأن الخطاب متزامن مع حادث أو ذكرى ذات أهمية عالية، فلا بد حينها من أن يتبدل مستوى الصوت والاسترسال.

5- في الخطاب المنبري نحتاج إلى استخدام المترادفات، ولا يصح التوقف، التوقف يعد سلبية، عليك أن تأتي بمعنى آخر، بمترادفات، بتعليق، أما إذا كانت جلسة علمية فلا بد من حذف المترادفات منها؛ تأتي بكلمة واحدة وتتريث، وتتأمل، فالمهم هو التركيز والدقة.

6- نبرة الحديث: قد تكون هناك بعض النبرات الخاصة بأنواع معينة من الخطابة، فالدرس الحوزوي له نبرة خاصة لا يصح استعمالها في غيره من الخطابة.

7- من المطلوب أن يعيش الخطيب مع الجمهور، أن يكلمهم جدّا وواقعا، لا أن يكون شبيها بالتسميع للمحفوظات، وأضرب لذلك مثالا: السيد حسن نصر الله (حفظه الله) عندما يكون في خطاب تلفزيوني يختلف عما لو كان في خطاب مباشر مع الجماهير، خطابه: (يا أشرف الناس، وأكرم الناس..) يلاحظ فيه أن صوته ارتفع إلى أقصى درجة وقبل الدخول في الخطاب، بل بمجرد السلام على الجمهور كان للحضور واستشعار المخاطبة أثره على نفسية الخطيب، وهذا ما يجعل الخطاب أكثر تأثيرا في الجمهور.

8- لا بد للخطيب من أن يتحلى بالصدق والصراحة مع الجمهور، وأن يقدم ما لديه من بضاعة وبمقدار ما يسعه وقته، ويتجنب الخداع والتعلل بضيق الوقت أو تزاحم الأفكار.

وفي الختام:

نشكر الأستاذة الأفاضل على ما أتحفونا به، من معلومات على الصعيدين النظري والعملي، خصوصاً بعدما ارتأت اللّجنة المنظّمة تكوين مجموعات لممارسة عملية الكتابة والإلقاء، من خلال اختيار عنوان لموضوع معيّن ثم المباشرة العملية مع مشرفٍ من الأساتذة، يبدأ معهم أُوْلَى خطوات مهارتي الكتابة والإلقاء خطوة بخطوة، وملاحظة نقاط الضّعف والقوّة عند كلّ واحد منهم.

سائلين المولى (جلَّ وعلا) أن يوفّق الجميع للعلم النَّافع والعمل الصالح، وأن يجعلهما خالصين لجلال وجهه الكريم، إنّه سميع الدُّعاء قريب مجيب، والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطَّيبين الطَّاهرين.

***

 

* الهوامش:

(1) هذه الندوة أقيمت لطلبة العلوم الدينية بقم المقدسة في حسينية الإمام الرضا (عليه السلام) بتاريخ 23 ربيع الأوّل 1436ه الموافق له 15 يناير 2015م.

(2) الكافي للشيخ الكليني، كتاب العقل والجهل ح15.

(3) الإسراء: 36.

(4) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق باب علة وجوب إتيان الصلاة في خمس مواقيت رقم الحديث 640.

(5) البقرة: 282.

(6) النساء: 63.

(7) نهج الفصاحة.

(8) سفينة البحار، الشيخ عباس القمي: ج1 ص40.

(9) بحار الأنوار: ج75 ص146، رواية 16 باب 56.

(10) مجموعة الورام.

(11) الحديد 23.

(12) غرر الحكم ج2.

(13) ن.م.

(14) الإسراء: 53.

(15) غرر الحكم: ص15 ش91.

(16) م.ن ص775 ش14.

(17) وسائل الشيعة: ج16 ص237، رواية 21531 باب39.

(18) غرر الحكم ص720، ش1491.

(19) النحل: 116.

(20) يونس: 59.

(21) النحل: 117.

(22) الذاريات: 55.

(23) غرر الحكم ص775 ش17.

(24) البحار: ج78 ص374 رواية1 ب 29.

(25) نهج البلاغة: الرسالة 69.

(26) البحار: ج75 ص151 رواية16.

(27) البحار: ج1 ص222 رواية 5 باب 7.

(28) البحار: ج73 ص169 رواية 7 باب 129.

(29) البحار: ج74 ص34 رواية 31 باب 4.

(30) غرر الحكم ص436.

(31) غرر الحكم ص437.

(32) البحار: ج74 ص178 رواية 17.

(33) البحار: 75 ص71 رواية 15 باب 45.

(34) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص232.

(35) نهج البلاغة، حكمة 349.

(36) غرر الحكم ص155.

(37) تنبيه الخواطر: 2 / 122.

(38) نهج البلاغة: الكتاب 69.

(39) كنز العمال: (8207 – 8224).

(40) الكافي، ج8، ص148.

(41) نهج البلاغة، ج4، ص84.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا