الملخّص:
يتعرّض المقال إلى مسألة مهمة وهي ما أسماه الكاتب بالموروث الاجتماعي الذي هو العادات والتقاليد المتوارثة، وقد بيّن أقسامها، ومدى تأثيرها على شخصية الفرد وفكره وجميع جوانبه، ثمَّ تطرّق إلى كيفيّة التعاطي الصحيح مع هذا الموروث، فلا يقبل بشكل مطلق ولا يرفض بشكل مطلق، بل يجب الفحص والتفصيل في ذلك.
قال الله تعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}(البقرة: 170).
المقدمة:
تتطلَّبُ مسألةُ التحديد العملي الصحيح للمصير النهائي للإنسان دراسةَ العديد من الجوانب المؤثِّرة في شخصيته، والتي تقوم باتخاذ القرارات والمواقف وفق ما تتوفَّر عليه من صفات، وما تؤمن به من مبادئ نشأت من تأثير مزيج من تلك العوامل في العادة، وإنَّ من أهمِّ ما ينبغي تسليط الضوء عليه في هذا الجانب، هو عامل المحيط الاجتماعي، والبيئة الثقافية التي ينشأ أو يعيش فيها الإنسان، فربما أمكن القول: بأنَّه -في العادة- يمتلك هذا العامل بالخصوص الرصيد الأكبر في صياغة شخصية الإنسان من حيث الابتداء أولاً (التلقين)، والاستمرار ثانياً (المراقبة)، إلى درجة يكون تأثيرُه فيها خفياً غيرَ محسوس، جراء ما اعتاد عليه الإنسان من رضوخ لسلطة هذا العامل بنحو متعمّق جداً، حتى عاد كأنَّه غير موجود من شدّة اندماجه -في التأثير- مع الحياة!
من هنا تأتي أهمية هذا البحث الذي يحمل عنوان: (الموروث الاجتماعي وتحديات التغيير)، ويمكن بحثُه عبَر ثلاث نقاط:
أولاً: ما هو معنى الموروث الاجتماعي؟
ثانياً: ما هي طبيعة التأثير التي يمتلكها هذا العامل؟
ثالثاً: كيف ينبغي أن نتعامل معه؟
أولاً: معنى الموروث الاجتماعي
المقصود من الموروث الاجتماعي هو: ذلك الكمّ المتراكم الهائل من المفاهيم القيمية، ذات الجذور الفكرية المعينة، التي يتلقّاها الإنسانُ بالتدريج من المجتمع المحيط به، والتي تبدأ من أصول الفكر، منتهيةً إلى أدقِّ التفاصيل السلوكية المسماة بالعادات، وهي مفاهيم عملية متحرّكة، مؤثرة، نامية ببطء، تُتَناقل من جيل إلى جيل، وتشكِّلُ سلطةً مؤثّرة في طباع الفرد والمجتمع على نحوين:
إمَّا على طريقة التّلقين بفرض مقتضياتها، فلا يكون للطرف المتأثر بها إلا الاستجابة إلى حدّ الخدَر.
وإمَّا أن يكون تأثيرها بطريقة المراقبة؛ أي: على نحو الحائل دون تحقيق الرغبات، لوجودها كسلطة مراقبة ذات سطوة ونفوذ، هذا إذا اختار الإنسان أن يقاومها في بعض ما تعطيه من أفكار وقيم، أو في بعض ما تفرضه من سلوكيات..
ويتميَّز هذا الموروث بسعته الشمولية التي تطال جميع المجالات الإنسانية، فيفرض العقيدة، والأخلاق، والسلوك، والطباع، ويعطي سِمَةً بارزة تميِّز الشخصيةَ العامةَ لهذا المجتمع عن ذاك، فيمثِّل بذلك الهوية العامّة له، وهكذا يختلف من مكان لآخر، وفق اختلاف الظروف الزمانية، والمكانية، والبيئية، والثقافية، والعرقية، لكلِّ مجتمع..
ولكي نتعرَّف على حقيقة هذا الموروث الفكري والعملي أكثر فأكثر، لا بدَّ من تركيز الحديث حوله من الناحية التحليلية أولاً، ومن ناحية الشواهد النقلية ثانياً..
أمَّا من الناحية التحليلية: فمن عادة هذا الموروث أنَّه يأتي في صورة مزيج متجانس، يصعبُ عملياً تفكيك عناصره بعضها عن بعض، إلا أنَّه من دون هذا التفكيك، فإنَّنا لن نتمكَّنَ من فهم حقيقته بالشكل المطلوب، والذي يعدُّ مقدمةً مهمَّةً لتحديد نوع تأثيره أولاً، وبيان كيفية التعاطي معه ثانياً، والموروث الاجتماعي عادة ما يكون -في كثير من المجتمعات- مزيجاً من التالي:
1ـ الدين (بمفهومه العام، أي: الدين الحق، والدين الباطل).
2ـ القراءات والأفهام المحمَّلة على الدين، (وهو ما يشمل المذاهب الباطلة).
3ـ خرافات وأساطير، (أي: الأوهام المختلقة لسبب ولآخر).
4ـ طبيعة البيئة الجغرافية، ومنها خواص الجو، والتربة (أي: الجنبة التكوينية).
5ـ مقتضيات السلطات الاجتماعية التي تتوفر في الأب، والأم، والأخ الأكبر، والمعلِّم..
وبذلك كلِّه يتشكَّل ما يُعرف بـ(الأعراف، والتقاليد)، وتصاغ الثقافة العامّة للمجتمع، وهو ما أسميناه بالموروث الاجتماعي.
وأمَّا الشواهدُ النقلية: فإنَّ النصوص الدينية المقدَّسة قد أشارت إلى هذا الموروث بتعابيرها الخاصة بنحو متكثِّر، منها مثلاً:
قوله تعالى على لسان نوحg: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}(نوح: 27)، تلاحظ من خلال هذا النصّ ما ألفتَ إليه نوحg من أنَّ طبيعةَ بيئة الكفر -بما تحمله من ثقافة، وفكر، ونمط في تركيب المعادلات الفكرية، والاستنتاجات التي يصلون إليها- موصلةٌ إلى تفريخ هذا الفكر عبر الأجيال، وهكذا هو الأمر معكوساً، إذ لا يقتصر على بيئة الكفر، فحتى بيئة الإيمان لها هذا الأثر الطبيعي.
عن الأميرg: >لا ينبغي للمرء المسلم أن يؤاخي الفاجر؛ فإنّه يزيّن له فعله، ويحبُّ أن يكون مثله، ولا يعينه على أمر دنياه، ولا أمر معاده، ومدخله إليه ومخرجه من عنده شَين عليه<[1]، تلاحظ أنَّ هذا النصَّ يشير إلى حضور عامل الموروث الاجتماعي من خلال أمرين:
الأول: الجانب التلقيني، أي في تأثير ما يلقيه الفاجر كجزء من الموروث الاجتماعي لمصاحبه، فنهى الحديث عن مثل هذه المصاحبة من أجل ذلك.
الثاني: جانب المراقبة، أي أنَّ المجتمع الإيماني -فيما يتوفَّر عليه من موروث اجتماعي- يرفض هذه المصاحبة لما لها من تأثير على الفرد والمجتمع، وهذا يدلُّ على أنَّ بعض المواريث الاجتماعية لها فضل كبير -في دور المراقبة- في تقويم الأفكار والسلوكيات، وأنَّه ليس كلّ موروث اجتماعي ينبغي أن ينظر إليه بعين الشك، والتوقف كما قد يظنُّ البعض!
عن خيثمة قال: دخلت على أبي جعفرg أودعه، فقال:>يا خثيمة، أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم..، وأن يشهد حيُّهم جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإنَّ لقيا بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا<[2]، في هذا الحديث الشريف حثٌّ على ترسيخ حالة التواصل الاجتماعي بإدامتها ومواصلتها، من أجل تسهيل عملية تناقل الموروث الفكري الصائب، الذي يشكِّلُ الجزء الأهم في صياغة الموروث الاجتماعي..
وعن أبي عبداللهg: >تزاوروا، فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم، وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطِّف بعضكم على بعض<[3]، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنَّ الموروث الاجتماعي الصائب المتناقل بين أفراد المجتمع بحالة التواصل، له أثر كبير في تصحيح النّمط السلوكي بينهم.
وهناك نصوص أخرى، استقصاؤها يطيل الكلام..
النتيجة: تبيَّن من خلال ما سبق التالي:
أولاً: أنَّ الموروث الاجتماعي يعدُّ من العوامل الأساسية في التأثير على الفرد والمجتمع.
ثانياً: أنَّ هذا الموروث يعدُّ حقيقةً مركبةً لا بسيطة، وهذا يفرض نمطاً خاصاً في كيفية علاجه.
ثالثاً: من الموروث الاجتماعي ما يكون سلبياً محضاً، ومنه ما يكون إيجابياً كذلك، ومنه ما يكون مزيجاً من الاثنين، وهي الحالة الغالبة.
ثانياً: طبيعة التأثير
وبعد اتضاح هذه النتائج المهمَّة، نأتي لنسأل: ما هي طبيعة تأثير سلطة هذا الموروث، بغض النظر عن إيجابيته أو سلبيته؟ فالموروث من حيث هو موروث كيف يشقُّ طريقه للتأثير بهذا النحو الواضح في حياة الناس؟! ونسأل عن ذلك من أجل أن نتمكَّن من تحديد الكيفية الصحيحة في مواجهة آثاره السلبية..
الجواب: لكي نفهم كيف يؤثِّر هذا الموروث في الإنسان، لا بدَّ من فهم مصطلح (التقليد)؛ لأنَّ التقليد يُعدُّ بوابةَ تمكين الموروث الاجتماعي من تأثيره الفاعل في شخصية الإنسان، وهذا ما يفسِّر تناول الآيات المباركة مفهومَ التقليد بالذمِّ في الغالب، حين تتكلَّم عن التأثيرات السلبية للموروثات الاجتماعية على حياة المجتمعات السابقة والحالية، ولنتناول هذا المفهوم ذي العلاقة الوطيدة بموضوعنا من خلال التأمُّل في الآية المباركة: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
الآية المباركة هي الآية السبعون بعد المائة من سورة البقرة، وفي مضمونها الكثير من الآيات التي تتكلَّم عن حجة التقليد التي يحتجُّ بها الكثير من المجتمعات لقبول ما ورثوه من عادات، وأفكار، وتقاليد، وتعدُّ هذه الآية من الآيات التي عضد بها علماء الكلام مسألة معروفة عندهم، وهي: عدم جواز التقليد في أمور الاعتقاد، وأصول الفكر، وعدم الجواز هنا عقلي، يحكم به العقل؛ ذلك لأنَّ المقلِّد لغيره في أصول الاعتقاد، لا يمتلك الحجَّة فيما يؤمن به، ولا يمتلك المؤمّن من الأضرار المحتملة التي قد تكون وراء ما يعتقد به..
هذا أمر واضح، ويكاد يكون من المسلمات، ولكن الغريب كما تفيد به الآية، أنَّ التقليد الذي نقول فيه عقلا إنَّه ليس بحجة، وليس مؤمِّناً، يعدُّ هو بنفسه حجة لدى هؤلاء في قبولهم لما تلقّوه عن آبائهم من دون جهد من تمحيص، أو تقييم، أو تقويم!! ولذلك شبَّه اللهُ تعالى هؤلاء المقلِّدين بالبهائم التي تسمع الصوت والنداء، وتحسّ به، ولكنَّها لا تدرك المقصود منه، فهؤلاء من شدّة انغماسهم في التقليد، أصيبوا بسكرة التقليد، فلا يكادون يفقهون حديثا! {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(البقرة: 171)!
والسؤال هنا: كيف يمكن للإنسان أن يعيش هذه الغفلة الكبيرة، بيّنة البطلان؟!
هنا: لا بدَّ من توضيح أمور:
أولاً: إنَّ التبعيّة للآباء أمرٌ طبيعي في العادة، وذلك بلحاظ كبر سنّهم، وسبق وجودهم، ولزوم تجليلهم، وحفظ عنوانهم، ففي العادة: الإنسان يميل إلى تقليد آبائه منذ الصغر، وهو يفتخر بانتمائه إليهم بكلِّ ما حملوه من ثقافة تميُّزهم عن الآخرين، وهذا هو نفس ما أسميناه بتأثير الموروث الاجتماعي في النقطة الأولى، وعلى هذا ندرك أنَّ لهذا الموروث تأثيراً قد يغلب حتى على الأمور واضحة البطلان، وهو ما يبين مدى خطورته.
ثانياً: لا بدَّ من التفريق بين أنواع التقليد، فهل كلُّ تقليد غير صحيح؟ الآية المباركة أرشدت إلى حال الإنسان في تلقّيه للمعارف التي يؤمن بها: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، فإمَّا أن يكون الإنسان صاحبَ اجتهاد ونظر، بحيث يتمكَّنُ من الإدلاء برأي، كونه من أهل التخصُّص الذين يتوفَّرون على أدوات الفهم {يَعْقِلُونَ}، وإمَّا أن يكون مقلِّداً لغيره بحجة {يَهْتَدُونَ}، وإمَّا أن يكون مقلِّداً لغيره بلا حجة (وهم من تكلَّمت عنهم الآية في تقليدهم لآبائهم بغير حجة، وأنَّبَتْهُم ووبختهم كما يفهم من مدلول الهمزة في قوله تعالى: {أَوَلَوْ})، ولا حالة ثالثة لذلك، والتقليد المنبوذ هو الثالث لا غير، وعلى هذا: قد تختلط الأمور لدى الكثيرين من ناحية التطبيق، فيحسب ما هو غير مقبول من التقليد مقبولاً، والعكس كذلك..
وكيفما كان، فإنَّ الإنسان يرى نفسَه أمام موروث يكتسب قيمته من خلال ممارسة من تفرض عليه الأعراف الاجتماعية والدينية احترامهم، كالأب، والصديق، والجد، والأم، وغيرهم، فيميلُ إلى التأثُّر به بالمجاورة كحالة طبيعية جداً، وقد يكونُ هذا الموروث محملا بالحق، أو بالباطل، أو منهما كما في الحالة الأغلب، فيشتبه الأمر على المتلقّي، عن الأميرg: >فلو أنَّ الباطل خَلَصَ من مزاج الحق، لم يخفَ على المرتادين، ولو أنَّ الحق خَلَصَ من لَبس الباطل، لانقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم منا لله الحسنى<[4].
ثالثاً: إنَّ التقليد المذموم يكون مقبولاً تحت وطأة تأثير العواطف والانفعالات البعيدة عن العقل، وهذا ما يفسِّر الحالة السابقة حين نقوم بتحليلها، يقول العلامة الطباطبائي: "الآراء والعقائد التي يتخذها الإنسان: إمَّا نظرية..، وإمَّا عملية..، وأمَّا الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقاً في القسم الأول، والاعتقاد بما لا يعلم كونه خيراً أو شراً، فهو: (اعتقاد خرافي)، والإنسان لمَّا كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء..، فإنّه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء، وجهلاً، إلا أنَّ العواطف النفسانية، والإحساسات الباطنية التي يثيرها الخيال –وعمدتها الخوف والرجاء- ربَّما أوجبت له القول بالخرافة؛ من جهة أنَّ الخيال يصوِّرُ له صوراً يستصحب خوفاً أو رجاء، في حفظها..، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة، أو الراجية، كما أنَّ الإنسان إذا أحلَّ وادياً – وهو وحده بلا أنيس، والليل داج مظلم، والبصر حاسر عن الإدراك – فلا مؤمّن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء ونحوه، فترى أنّ خياله يصور له كلّ شبح يتراءى له غولاً مهيباً يقصده بالإهلاك، أو روحاً من الأرواح..، وربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالاً للدفع شرِّ هذا الموجود الموهوم، ويحثُّ غيره على العمل بها للأمن من شرِّه، فيذهب سنةً خرافية"[5]..
وإلى هنا نخلصُ إلى النتيجة التالية: كيفَ يؤثِّر الموروث الاجتماعي في حياة الإنسان؟
الجواب: استجابةً للعادة، أو: اشتباهاً حين يختلط عليه التقليد السائغ الذي لا مشكلة فيه كونه عن حجة، والتقليد غير السائغ، أو: استساغةً للتقليد المذموم تحت تأثير قوّة الوهم، والخيال..
ومن هنا نفهم مدى خطورة الموضوع، حتى أسمى بعض العلماء ما يمتلكه الموروث الاجتماعي من قوّة التأثير بـ(حكومة القيم الاجتماعية)، وأدرجها بعض آخر تحت المشهورات بمسمَّى الآراء المحمودة، والتأديبات الصلاحية، التي يرى بعضُ الأساطين أنَّها قيمٌ لا واقع لها -على مستوى الذمِّ والمدح- وراء نفس التواضع المجتمعي عليها بين العقلاء!
ثالثاً: كيفية التعاطي
هنا، من الضروري أن نسأل: كيف ينبغي التعاطي مع هذا الموروث؟ هل نرفضه مطلقاً، فنتعامل معه بحساسية وحذر شديدين دائماً؟ أم نقبله مطلقاً، ونحافظ عليه ما دام يشكِّلُ هويتنا المجتمعية التي تميّزنا بها عن غيرنا من المجتمعات؟ أم نحاكمه وفق الحجج العقلية، فنقبل ما كان منه متوافقاً معها، ونرفض ما كان منه ليس كذلك؟
نقول في الجواب: تبيَّن ممَّا سبق أنَّ الموروث الاجتماعي لا يعطي تأثيراً متّسقاً بحيث يكون ذا أثر واحد للجميع، فهو من حيث نفسه: قد يكون إيجابياً، وقد يكون سلبياً، وقد يكون مزيجاً منهما، ولكلِّ واحدة من هذه الحالات حكمها الخاص بها، ومن الظلم الفاحش أن يحاكَم الموروث الاجتماعي مطلقاً بطريقة واحدة، وهذا ما يقع فيه الكثيرون، فالناس في ذلك تنقسم إلى ثلاث اتجاهات:
الأول: من يقبل بكامل الموروث، ويدافع عنه مطلقاً، وهذا من الممكن أن يكون مقبولاً فيما لو كان جميع الموروث إيجابياً، منطقياً، معقولاً، أمَّا إذا لم يكن كذلك مطلقاً، أو في بعض جوانبه، فالدفاع عنه فقط من أجل كونه موروثاً هو نفسه التقليد الأعمى الذي تكلَّمنا عنه سابقاً، وهذا مرفوض بحكم العقل والنقل على حد سواء..
الثاني: من يرفض كامل الموروث، ويحاول القفز عليه، والتأسيس إلى مفاهيم يستبدل بها مفاهيمه، وذلك بحجة التحرُّر، والعقلانية، وغير ذلك، وهذا من الممكن أن يكون مقبولاً إذا كان الموروث بكامله سلبياً، أمَّا إذا كان من النوع الأول، أو الثالث، فهذه الطريقة من التعامل مع الموروث لن تكون مقبولة بطبيعة الحال؛ لأنَّه سيكون من باب رفض الحقّ.
الثالث: من يتعامل مع الموروث بانتقائية، فيقبل ما كان حقاً، ويرفض ما كان باطلاً، وذلك بعد أن يقيم بآليات الفهم الصحيح هذا الموروث، ويجعله على ميزان المحاكمة العقلية والنقلية، وهذا هو المنهج الصحيح في التعاطي مع الموروثات الاجتماعية، فإنَّ منها ما يشكِّلُ تراثاً فكرياً وسلوكياً قيِّماً، ومنها ما يعود إلى الخرافة، ومنها ما يمثَّل دينا حقاً، ومنها ما يعبِّر عن قراءة دينية غير صائبة، ومنها ومنها.
وهذه هي الحالة الأغلب في الموروثات، فهل من الممكن أن ترفض مطلقاً، أو تقبل مطلقاً والحال هذه؟!
أبداً، ما كان منها حقاً قُبِل، وما كان منها باطلاً رُفض، ومن هنا نفهم فلسفة الحكم الشرعي القائل بحرمة التعرُّب بعد الهجرة، فإنَّ هذا الحكم يؤسِّس إلى المحافظة على الموروث الاجتماعي الناشئ في بيئة الإيمان، المتأثِّر من أصولها الفكرية الأصيلة، فمثل هذا الموروث الصائب، ينبغي المحافظة عليه، ولو بتحريم ومنع السفر إلى منطقة أخرى ذات موروث آخر، تتضارب جذوره الفكرية مع الموروث الصائب، ومن هنا نفهم أيضاً حرمة قراءة كتب الضلال إلا في حالات استثنائية مذكورة في الفقه.
تنبيه: وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هناك ما يشكِّل جزءاً من الموروثات الاجتماعية بحيث لا يمكن أن يُصنَّف في نفسه تحت الواجب أو الحرام، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بالعادات التي لا تكون عن أصول دينية أو عقلائية بحتة، بل هي تعدُّ تواضعاً ثقافياً بين أبناء المجتمع الواحد الخاص، فهذه يترك الأمر فيها إلى كلِّ مجتمع وخصوصياته، ففي خصوص هذا النوع من الموروثات، نجد أنَّ الإسلام يقرُّها في الجملة إذا ما أدت مخالفتها إلى ضرب عنوان هام، كضرورة أن يكون الإنسان عزيزاً مثلاً، وفي غير ذلك، فلا نفي ولا إثبات تجاهها، بل ربما أعطى الإسلام إلى الإنسان الحقَّ في التحرّر من هذا النوع من القيود الاجتماعية في ساحته الخاصة على الأقل..
يقول صاحب الأمثل: "يضطر الإنسان في البيئة الاجتماعية إلى تحمّل قيود كثيرة من حيث اللباس، والحركة، ومواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده.. متعب، ويبعث على الضجر؛ إذ أنَّه يرغب في أن يكون حرّاً خلال فترة من الليل والنهار ليستريح بعيداً عن هذه القيود، مع أسرته، وبين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقَّت، ليتخلَّص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمنا إلى حدٍّ كاف، وأمَّا إذا أراد كلُّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، ويسلب منها أمنها، وحرّيتها، وبهذا تتحوَّل إلى بيئة عامة، كالسوق والشارع، ولهذا السبب كانت بين الناس –على مر العصور- أعراف خاصة في هذا المجال، حتى أنَّ جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان، وتعاقب عليه، وحتى في حالات الضرورة القصوى..، ونصَّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلا نادراً، نقرأ في حديث أنَّ الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرسولK وهو مستقبل الباب، فقالK: >لا تستأذن وأنت مستقبل الباب<[6]، وجاء في حديث آخر أنَّ النبيe كان >إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر<[7]"[8]..
ويتبيَّن من خلال هذا الأدب الإسلامي الرفيع أنَّ هناك مساحة للخصوصية الفرديّة التي يتحرَّر بها الإنسان عن القيود الاجتماعية التي لا تشكِّلُ ديناً، فلا يلزم بها في نطاقه الخاص على الأقل..
ومن هنا نخلص في النتيجة العامة إلى أنَّ الموروث الاجتماعي قد يتشكَّل في العادة من ثلاثة أجزاء:
الأول: ما نسمِّيه بالموروث الاجتماعي الديني، والعقلائي.
والثاني: الموروث الاجتماعي الخرافي، الذي لا أصل له غير الوهم.
والثالث: الموروث الاجتماعي التواضعي، العادتي..
وحين نأتي لتقييم الحاصل في هذا الجانب، سوف نجد أنَّ هناك من يرفع من قيمة الموروث الاجتماعي التواضعي مثلاً، ليعطيه قيمة الموروث الاجتماعي الديني، بل هناك من يحاول أن يعطي الموروث الاجتماعي الخرافي قيمة الديني منه! وكثيراً ما يقع الخلط في طريقة التعامل مع كلِّ واحد من هذه العناوين الثلاث، وهو ما يتسبَّب في صياغة نحوٍ خاص من الوعي العام لدى شخصية المجتمع، وبقدر ما يتمكَّن أفراد المجتمع من التمييز بين أنواع الموروثات، يتمكّنون من إيجاد مجتمعات قويّة، لا يصمد أمامها الطغاة والمتنفِّذون والمستغلُّون، والعكس بالعكس..
ومن هنا يمكن القول: إنَّ من يفهم هذه المعادلة الدقيقة في طبيعة التعاطي مع الموروثات الاجتماعية، فإنَّه سيمتلك مفتاح السعادة على المستوى الفردي والاجتماعي، خصوصاً أنَّنا نجد في بعض النّصوص أنَّ الجرأة على التمرُّد على خصوص الموروثات السلبية يعدُّ هو الطريق الأنسب للتأثير على السلطات الرسمية التي تتحكَّم في الواقع الاجتماعي بما تمتلكه من نفوذ، فبقدر ما يمتلك المجتمع من وعي اجتماعي، بقدر ما يمارسه من تصحيح لموروثه الاجتماعي، فيجعله صائباً، قوياً، عقلانياً، فكرياً، دينياً، بقدر ما تحسب السلطة العامة له ألف حساب، عن النبيe: >لتأمرن بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليسلّطن الله عليكم سلطاناً ظالماً، لا يجلّ كبيركم، ولا يرحم صغيركم، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون، وتستغفرون فلا تغفرون<[9].
وأوَّل خطوة ينبغي أن يخطوها الإنسان والمجتمع في هذا الصدد هي خطوة تمييز حقيقة الموروث الذي تلقّاه، والذي يعيش تحت تأثيره، وهذا هو الأمر الذي تمكَّن منه الحرُّ بن يزيد الرياحي بجدارة، فاستنقذه من الظلمات إلى النور في لحظات حرجة جداً.
الحر بن يزيد الرياحي، كان يعيش في بيئة، موروثها الاجتماعي فتح له طريق المجد الدنيوي، بما كان يتحلَّى بهِ من شجاعة، كان الحرُّ وجيهاً في قومه؛ لأنَّ ما فرضَه موروثهم الاجتماعي عليهم يؤسِّسُ إلى تمجيد الحر ولو خرج على ابن بنت رسول الله|! ولكنّه في لحظة استيقاظ، انتفض على ذلك الموروث بكلِّ شجاعة، حين خطى خطوته الأولى في تمييز قيمة هذا الموروث الفارغة، وإنّ موقفه مع الحسين حين تأدَّب معه بعدم ذكر أمِّه الزهراء بسوء، يكشف عن أنَّه كان في صراع حقيقي مع موروثه الاجتماعي، أو أنّ موروثه الاجتماعي كان مزيجاً من الصحيح والفاسد، فتارة تستجيب نفسه لهذا، وأخرى لذاك، إلى أن غلب الجانب النّفسي في تغلّبه على هذا الموروث الفاسد، ففاز بالسعادة الأبديّة الكبرى، بعد أن استنقذه الله بالحسينg.
فنال بذلك مرتبة عظيمة، وما قبل غير الحسين حتى بعد موته، كما يذكر عن الشاه الصفوي إسماعيل الأول أنّه نبش قبر الحر، فظهر له رجل كهيئته لما قتل، على رأسه عصابة منسوبة إلى الحسين×، فلما حلّها انبعث الدم ولم ينقطع إلا بشدها. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الكافي، الكليني، ج2، ص640.
[2] الكافي، الكليني، ج2، ص176.
[3] نفس المصدر، ج2، ص186.
[4] نهج البلاغة، ج1، ص99-100.
[5] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج1، ص421.
[6] مجمع الزوائد، الهيثمي، ج8، ص43.
[7] سنن أبي داود، ج2، ص516.
[8] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج11، ص69-70.
[9] تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج2، ص359.
0 التعليق
ارسال التعليق