المنّة الإلهية في البعثة النبويّة

المنّة الإلهية في البعثة النبويّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلىَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيهِمْ ءَايَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإِن كاَنُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ}.

مقدمة

سنتعرّض في هذا البحث إلى أوصاف العصر الجاهلي، ومعنى المنّة، وأنواع المنن التي أنعم الله بها على المؤمنين، وإلى المقصود من "أنفسهم" في الآية الكريمة.

والبحث هو عبارة عن البحث في بعض الكتب التفسيرية، ففي بعضها اكتفيت بنقل رأي واحد، وفي بعضها الآخر أذكر أكثر من رأي.

تمهيد

لا بد لنا من أن نتعرف على المجتمع الذي بُعث فيه النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) لنعرف التغيير الكبير الذي أحدثته هذه البعثة بحيث اعتبرها الله سبحانه وتعالى منّة على هذه الأمّة، ونذكر بعض الصفات التي كان يتصف بها ذلك المجتمع المتصل ببعثة النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) منقطةً.

وصَف الله تعالى شأنه ذلك المجتمع بـ"الجاهلي" وعبّر عنه بكلمة "الجاهلية" وقد ذكر هذه الكلمة في القرآن الكريم أربع مرات وكانت كلها في موارد ذم لبعض التصرفات التي يقوم بها من نزلت فيهم الآيات وينسب تصرفاتهم إلى الجاهلية، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1).

- ومن صفات المجتمع الجاهلي وأد البنات وما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ}(2) والموؤدة هي البنت التي تدفن حية وكانت العرب تئد البنات خوفاً من لحوق العار بهم من أجلهن.

- وقتل الأولاد بسبب الخوف من عدم تأمين الغذاء والماء. قوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبيراً}(3)، فيبين الله جلّ جلاله أنه هو الرازق للناس وبرز الخطأ الذي يرتكبونه من قتل الأطفال من خشية الجوع  والفاقة.

- ومن الصفات الذميمة في المجتمع الجاهلي وهي أكل مال اليتيم وما يذكره القرآن في هذا الصدد قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتيمَ}(4)، وعدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه-كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث- وتركه صفر الكف بلغ  به الجهد ما بلغ كما تؤيده الآية التالية {وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ}(5).

- وكان من صفاتهم أيضاً عبادة الأصنام وقوله تعالى في هذا المورد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والْعُزَّى ومَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرى}(6) واللات والعزى ومناة أصنام ثلاث كانت معبودة لعرب الجاهلية(7).

- وغيرها من صفات ذلك المجتمع الجاهلي من الأميّة والإغارات على الآخرين لنهب الغذاء والأموال وغيرها كثير ليس محل بحثه هنا.

- وفي وصف فاطمة الزهراء (عليها السلام) ذاك المجتمع الجاهلي في خطبتها التي ألقتها في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله) على من كان حاضراً مطالبةً بحقها إلى أن قالت "وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام وتشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلَّى الله عليه وآله)"(8).

ومن خلال هذا التمهيد تعرفنا بعض الشيء على المجتمع الجاهلي ومدى تخلفه العلمي والأخلاقي.

معنى المنّة:

المنّة كما عرّفها الراغب في مفرداته أنها النعمة الثقيلة(9).

وذكر بأن المنّة على قسمين:

1- أن يكون المنُّ بالفعل، فيقال: مَنّ فلان على فلان: إذا اثقله بالنعمة.

ومثالها في القرآن الكريم {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}(10) أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم (11).

وذكر الراغب في ذلك "وذلك على الحقيقة -المنّ بالفعل- لا يكون إلا لله تعالى".

2- أن تكون المنّة بالقول، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا}(12) وهو مستقبح إلا عند كفران النعمة(13).

ووردت آيات كثيرة تذكر كلمة المنّ في القرآن الكريم فنتعرف على معانيها:

- {وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوى}(14).

هذه الحادثة وقعت لأصحاب التيه فيخاطبهم الله جل ثناؤه، ففي تلك الصحراء كنتم حيارى، ولم يكن عندكم شيء من الطعام المناسب، فأدرككم لطف اللّه، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

وقلنا: إنّه ليس من البعيد أن يكون "المنّ" نوعاً من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء، أو نوعاً من السكريات المولدة للطاقة من نباتات خاصّة كانت تنمو في أطراف تلك الصحراء، والسلوى نوع من الطيور المحلّلة اللحم شبيه بالحمام.

وأورد المفسرون معانٍ متعددة لكلمة المنّ(15).

- {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ}(16).

النعمة التي أنعمها اللّه سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة(17).

- وقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً}(18).

أي: فأسروهم، ويتفرع عليه أنكم إما تمنون عليهم منّاً بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقّونهم وإمّا تفدونهم فداءً بالمال أو بمن لكم عندهم من الأسارى(19).

ونلاحظ من خلال الآية الأولى {وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوى} أنه يذكر مصاديق للمنّة الثقيلة إذ كانوا في التيه التي كانت صحراء قاحلة فبعد أن تابوا واستغفروا الله وبعد أربعين سنة منّ الله عليهم بنوع خاص من الغمام في تلك الصحراء تظللهم -تظهر أهمية الغمام لأهل البادية لتقيهم من وهج الشمس الحارقة- وبالمنّ الذي عبّر عنه صاحب تفسير الأمثل بأنه ليس ببعيد أن يكون من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء، فتكون هذه الآية تذكر بعض المصاديق للمنّة الإلهية لهؤلاء القوم.

ونلاحظ في الآية الثانية {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} أن سليمان (عليه السلام) طلب من الله جلّ ثناؤه أن يعطيه مُلكاً لا ينبغي لأحد من قبله وأن الله تبارك وتعالى استجاب لنبيه وكان لحكم سليمان (عليه السلام) بعض الخصائص التي خصه الله بها وكانت هذه الخصائص بمثابة المنّة على سليمان (عليه السلام) وكانت من هذه الخصائص أنه يوزع عطاء الله بغير حساب.

وغيرها من الآيات التي ذكرت المنّة التي من قبل الله فنرى الجامع هو الثقل في الإنعام.

ما هو معيار النعمة الثقيلة؟

بحسب ما ذكر الراغب في مفرداته أن المنّة هي النعمة الثقيلة، ومعنى النعمة الثقيلة في اللغة هي ما أُنعِم به من رزق ومال وغيره(20) وهذه النعمة التي أنزلها الله على هذه الأقوام كانت فيها نحو زيادة في الإنعام بحيث كانت هذه النعمة ثقيلة، ومميزة عن باقي النعم فما هي المنّة التي هي بعثة النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) وهو الذي خُلق الكون لأجله.

والله سبحانه وتعالى قد أنعم على الأقوام السالفة الذكر بالنعم الثقيلة بحيث نزل الله المنّ والسلوى على أصحاب التيه بعد أربعين عاماً من الأكل الواحد، وهذه النعمة أيضاً أحدثت تغييراً في حياة هؤلاء القوم فعندما استغفروا الله وتابوا فعندها قبل الله توبتهم وأنزل الله عليهم من منّه، والله سبحانه وتعالى ذكر التغيير من جهة في هذه الآية ولعلّه هو الأبرز إذ إن هذه النعمة الثقيلة كانت بعد تيه أربعين عاماً.

وذكر الله تبارك وتعالى في آية المنّ أن الله قد أحدث تغييراً كبيراً في قوم النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) ببعثته الغرّاء.

ما هي الأجواء المحيطة بالآية وسبب نزولها؟

من خلال الآيات السابقة للآية التي نتكلم عنها تذكر بعض حوادث معركة أُحد وكيفية الهزيمة الظاهرية التي حدثت للمسلمين في تلك المعركة وكانت الآيات تعطي أسباب الهزيمة وما ذكره أصحاب التفاسير في هذا المقام:

- ما ذكره صاحب الأمثل في ذلك: هو في الحقيقة إجابة قويّة على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من حديثي العهد بالإسلام بعد "معركة أُحد" وهو:

لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله:

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن اللّه قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي...، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها(21).

- وما ذكره صاحب تفسير في ظلال القرآن: "إنها تجي‏ء ابتداءً تعقيباً على الغنائم والطمع فيها والغلول، والانشغال بهذا الأمر الصغير، الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة، وبدّل النصر هزيمةً، وفعل بالمسلمين الأفاعيل، فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة، والمنّة العظيمة المتمثلة فيها، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها، وأسلاب الأرض كلها، وأعراض الأرض كلها، شيئاً تافهاً زهيداً، لا يذكر ولا يقدر، شيئاً تخجل النفس المؤمنة أن تذكره، بل تستحي أن تفكر فيه فضلا عن أن تنشغل به! وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة.

فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة، وما تمثله من منّة عظيمة، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة، تصغر في ظلّها الآلام والخسائر، وتصغر إلى جنبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنّة، ويتجلّى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمّة المسلمة على الإطلاق"(22).

فما هي النعم التي أنعم الله بها على هذه الأمّة ببعثة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)؟

تذكر هذه الآية المباركة بعض المصاديق بل أبرز المصاديق التي أنعم الله بها على قوم النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) إذ إنه بعث فيهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وسنذكر هذه النعم بشيء من التفصيل تباعاً.

ما هي المنّة -النعمة الثقيلة- التي أنعم الله بها على المؤمنين؟

من خلال الآية -المبدوء بها- نعرف أن المنّة والنعمة الثقيلة هي الوجود المقدّس للنبي بين ظهراني الناس وبالخصوص المسلمين وبالأخص المؤمنين وببعثته الغرّاء كانت النعمة الثقيلة لهم بحيث كان هذا النبي الكريم (صلَّى الله عليه وآله) هو المنّة وهو النعمة التي يجب أن يعرفوها وهو الجوهرة التي بين أيديهم التي يجب أن يحافظوا عليها.

هل توجد نِعم أخرى غير نعمة البعثة المباركة أم لا؟

من خلال تكملة الآية فهي تتكلم حول ظاهر الأمر نِعم أخرى: {يَتْلُواْ عَلَيهِمْ ءَايَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ} وهي بالترتيب:

1- يتلوا عليهم آياته. 2- التزكية. 3- تعليم الكتاب. 4- تعليم الحكمة.

فكل واحدة من هذه النعم لها تأثيرها على تغيير المجتمع الجاهلي الذي كان كما تقول الآية الكريمة أنهم {وَإِن كاَنُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} واللام المتصلة بحرف الجر للتأكيد على أنهم كانوا منغمسين في الضلال وضائعين عن طريق الحق وطريق التكامل والرقي الروحي والمجتمعي ولا يخفى على أحد أن هذه النعم التي ذكرت في الآية الآنفة الذكر بأنها ترفع من مستوى أي مجتمع كان من خلال التزكية بالأخلاق الفاضلة والابتعاد عن الرذائل ومن خلال التعليم الذي يسهم في رفع الحجب عن الناس وتبيان الضلال والتفاهة التي كانوا فيها من عبادة الأوثان وغيرها من الأفعال والتصرفات التي تدل على  أن فاعلها غير عاقل والذي وصفه الله بالضلال -المبين- الواضح.

ولكن السؤال هل هذه النعم كانت على نحو الاستقلال أم لا؟

- عبّر عنها صاحب الأمثل بأنها مهمات:

إن اللّه سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ} أي أنه (صلَّى الله عليه وآله) يقوم بثلاثة أمور في حقّهم:

1- تلاوة آيات اللّه على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.

2- تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

3- تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية(23).

- وعبّر صاحب تفسير في ظلال القرآن بالآثار:

الإشارة إلى آثار هذه المنّة في حياة الأمّة المسلمة {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ * وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}...، وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمّة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدرة اللّه الذي يريد بهذه الأمّة أمراً ضخماً في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول (صلَّى الله عليه وآله) فما ينبغي لأمّة شأنها رفيع إلى هذا المستوى أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، وأن لا تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة(24).

ما المقصود بـ -من أنفسهم- في الآية الكريمة؟

اختلف المفسرون في المقصود بـ"أنفسهم"، فطائفة من المفسرين ذكرت أنه من الآدميين وليس من الملائكة وطائفة أخرى أنه من نفس العرب لأنهم خبروا منه الأمانة والصدق.

وما ذكره الشيخ الطوسي في تفسيرالتبيان كالآتي:

"قيل فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: من أنفسهم ليكون ذلك شرفاً لهم، فيكون ذلك داعياً لهم إلى الإيمان.

الثاني: من أنفسهم، لسهولة تعلم الحكمة عليهم، لأنه بلسانهم.

الثالث: من أنفسهم، ليتيسر عليهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة"(25).

ذكر صاحب تفسير الأمثل في هذا المورد: "{مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أن إحدى مميزات هذا النبي (صلَّى الله عليه وآله) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ احتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام الإنسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة"(26).

وما ذكره صاحب تفسير في ظلال القرآن: "إنها المنّة العظمى أن يبعث اللّه فيهم رسولاً، وأن يكون هذا الرسول "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" إن العناية من اللّه الجليل، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه، هي المنّة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي. المنّة الخالصة التي لا يقابلها شي‏ء من جانب البشر... وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" لم يقل "منهم" فإن للتعبير القرآني "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" ظلالاً عميقة الإيحاء والدلالة، إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس، لا صلة الفرد بالجنس.

فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى، ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على اللّه، فهو منّة على المؤمنين... المنّة مضاعفة، ممثَّلة في إرسال الرسول، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب.

ثم تتجلّى هذه المنّة العلوية في آثارها العملية في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني"(27).

التلاوة {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ} وما المقصود منها؟

معناه يقرأ عليهم –النبي (صلَّى الله عليه وآله)- ما أنزله الله عزّ وجلّ عليه من آيات القرآن

وما قاله صاحب تفسير في ظلال القرآن: "ولو تأمل الإنسان هذه المنّة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة! ولو تأمل أن اللّه الجليل-سبحانه- يتكرم عليه، فيخاطبه بكلماته، يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته وليعرّفه بحقيقة الألوهية وخصائصها، ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو- هو الإنسان- هو العبد الصغير الضئيل- وعن حياته، وعن خوالجه، وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض"(28).

التزكية {ويُزَكِّيهِمْ}:

ذكر الشيخ الطوسي بأن للتزكية ثلاثة أوجه وهي:

أحدها: يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين، فيصيروا بهذه المنزلة الرفيعة في الخلق.

الثاني: يدعوهم إلى ما يكونوا به زاكيين سالكين سبيل المهتدين.

الثالث: قال الفرّاء يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها(29).

وذكر صاحب تفسير في ظلال القرآن: "هو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي"(30).

روايتان:

الرواية الأولى: ما ذكرناه في خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله) والتي تقول فيها: «وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام وتشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلَّى الله عليه وآله)»(31).

الرواية الثانية: ما وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إلى ملك الحبشة، ما قاله كالآتي: «أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنّا على ذلك، حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى اللّه وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللّه، ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام»(32).

التعليم {وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَْ}

ما ذكره المفسرون في هذا الصدد أن الكتاب المقصود به هو القرآن فيعلمهم القرآن ويرشدهم للذي هو فيه خير للمسلمين.

ويذكرون بأن الرسول يعلّمهم الحكمة أيضاً، وهي وضع الأشياء في مواضعها، وقيل: إن المراد بها هنا الفقه، وهذا ما ذكره علماء التفسير في هذا المجال.

ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوضّح كيف كان تعليم النبي (صلَّى الله عليه وآله) ونشاطه في ذلك حيث قال: «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متبع بدواءه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة، لم يستضيؤا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة»(33).

مَن المستفيد من المنّة الإلهية؟

أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي (صلَّى الله عليه وآله) هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين يستفيدون-بالنتيجة والمآل- من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم(34).

ذيل الآية {وَإِن كاَنُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ}

ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفاهيم الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك، وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق.

والعرب الذين كانوا يخاطَبون بهذه الآية كانوا يذكرون-ولا شك- ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان.

كانوا يدركون أن الإسلام-والإسلام وحده- هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمّة فحسب، ولكن ليكونوا-على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن- أمّة تقود البشرية، وترسم لها مُثُلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل(35).

المهدي والبعثة:

وأثناء كتابة هذه الوريقات جاء في ذهني أنّ الإمام المهدي عجّل الله في فرجه الشريف عندما يظهر ستتجلى حقيقة بعثة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) من خلاله وسيعرف قيمة هذه المنّة بانتصار المولى ومن خلال رفع راية الإسلام جعلنا الله من جنوده ومن المنتظرين له حقاً.

 

* الهوامش:

(1) المائدة 50.

(2) التكوير 8.

(3) الإسراء31.

(4) الفجر 17.

(5) الميزان ج20 ص283.

(6) النجم 20.

(7) الميزان ج19 ص38.

(8) الاحتجاج ص136.

(9) الراغب.

(10) القصص 5.

(11) الراغب.

(12) الحجرات 17.

(13) الراغب.

(14) البقرة575.

(15) الأمثل ج1 ص233.

(16) سورة ص 39.

(17) الأمثل ج4 ص512.

(18) سورة محمد 4.

(19) الميزان ج18 ص225.

(20) الوسيط 935.

(21) الأمثل ج2 ص765.

(22) في ظلال القرآن ج1 ص506.

(23) الأمثل ج2 ص767.

(24) في ظلال القرآن ج1 ص506.

(25) التبيان ج3 ص39.

(26) الأمثل ج2 ص765.

(27) في ظلال القرآن ج1ص507.

(28) في ظلال القرآن ج1 ص507.

(29) التبيان ج3 ص39.

(30) في ظلال القرآن.

(31) الاحتجام 136.

(32) الكاشف ج2 ص198.

(33) من خطبة لأمير المؤمنين في الملاحم 105.

(34) في ظلال القرآن ج1 ص507.

(35) في ظلال القرآن ج1 ص511.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا